ج3..عمدة القارئ العلاّمة بدر الدين العيني
فروة الهمداني وعن محمد بن
المثنى عن ابن أبي عدي عن عبد الله بن عون كلاهما عنه به وأخرجه مسلم في البيوع عن
محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع وعن إسحاق بن
إبراهيم عن عيسى بن يونس ثلاثتهم عن زكريا به وعن إسحاق بن إبراهيم عن جرير عن
مطرف وأبي فروة وعن عبد الملك بن شعيب بن الليث عن أبيه عن جده عن خالد بن يزيد
وعن سعيد بن أبي هلال عن عون بن عبد الله بن عتبة وعن قتيبة عن يعقوب بن عبد
الرحمن بن محمد بن عجلان عن عبد الرحمن بن سعيد أربعتهم عنه به وأخرجه أبو داود في
البيوع عن إبراهيم بن موسى عن عيسى بن يونس به وعن أحمد بن يونس عن أبي شهاب
الحناط عن ابن عون به وأخرجه الترمذي في البيوع عن هناد عن وكيع به وعن قتيبة عن
حماد بن زيد عن مجالد عنه نحوه وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي في البيوع عن محمد بن
عبد الأعلى عن خالد بن الحارث وفي الأشربة عن حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع
كلاهما عن ابن عون به وأخرجه ابن ماجه في الفتن عن عمرو بن رافع عن ابن المبارك عن
زكريا به
بيان اللغات قوله الحلال هو ضد الحرام وهو من حل يحل من باب ضرب يضرب وأما حل
بالمكان فهو من باب نصر ينصر ومصدره حل وحلول ومحل والمحل المكان الذي تحل فيه ومن
هذا الباب حللت العقدة أحلها حلا إذا فتحتها ومن الأول حل المحرم يحل حلالا ومن الثاني
حل العذاب يحل أي وجب وأحل الله الشيء جعله حلالا وأحل المحرم من الإحرام مثل حل
وأحللنا دخلنا في شهور الحل وأحلت الشاة إذا نزل اللبن في ضرعها والتحليل ضد
التحريم تقول حللته تحليلا وتحلة وتحللته إذا سألته أن يجعلك في حل من قبله واستحل
الشيء عده حلالا وتحلحل عن مكانه إذا زال قوله بين أي ظاهر من باب يبين بيانا إذا
اتضح وهو على وزن فيعل إما بمعنى بائن أو هو صفة مشبهة قوله والحرام هو ضد الحلال
وكذلك الحرام بكسر الحاء ورجل حرام أي محرم والتحريم ضد التحليل وبابه من حرم
الشيء بالضم حرمة وأما حرمه الشيء يحرمه حرما مثل سرقه سرقا بكسر الراء وحريمة
وحرمانا وأحرمه أيضا إذا منعه وأما حرم الرجل بالكسر يحرم بالفتح إذا قمر وأحرمته
أنا إذا أقمرته ويقال حرمت الصلاة على المرأة بالكسر لغة في حرمت وأحرم دخل في
الشهر الحرام وأحرم أيضا بالحج والعمرة قوله مشتبهات جاء فيه خمس روايات الأولى
متشبهات بضم الميم وسكون الشين المعجمة وفتح التاء المثناة من فوق وكسر الباء
الموحدة على وزن مفتعلات وهي رواية الأصيلي وكذا في رواية ابن ماجه الثانية
مشتبهات بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوق وفتح الشين المشددة وتشديد الباء
الموحدة المكسورة على وزن متفعلات وهي رواية الطبري الثالثة مشبهات بضم الميم وفتح
الشين وفتح الباء الموحدة المشددة على وزن مفعلات وهي رواية السمرقندي ورواية مسلم
الرابعة مثلها غير أن باءها مكسورة على وزن مفعلات على صيغة الفاعل الخامسة مشبهات
بضم الميم وسكون الشين وكسر الباء الموحدة المخففة والكل من اشتبه الأمر إذا لم
يتضح غير أن معنى الأولى المشكلات من الأمور لما فيه من شبه الطرفين المتخالفين
فيشبه مرة هذا ومرة هذا وكذلك معنى الثانية غير أن فيه معنى التكلف ومعنى الثالثة
أنها مشبهات بغيرها مما لم يتيقن فيه حكمها على التعيين ويقال معناها مشبهات
بالحلال ومعنى الرابعة أنها مشبهات أنفسها بالحلال ومعنى الخامسة مثل الرابعة غير
أن الأولى من باب التفعيل والثانية من باب الأفعال قال القاضي في الثلاثة الأول
كلها بمعنى مشكلات ويشتبه يفتعل أي يشكل ومنه أن البقر تشابه علينا ( البقرة 70 )
قوله فمن اتقى أي حذر المشتبهات وهي جمع مشتبهة والاختلاف في لفظها من الرواة
كالتي قبلها ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي فمن اتقى الشبهات بدون الميم وهي جمع
شبهة وهي الالتباس وأصل اتقى أوتقى لأنه من وقى يقي وقاية فقلبت الواو تاء وأدغمت
التاء في التاء قوله استبرأ بالهمزة وقد ذكرنا معناه قوله لعرضه بكسر العين قال
ابن الأنباري قال أبو العباس العرض موضع المدح والذم من الإنسان ذهب أبو العباس
إلى أن القائل إذا ذكر عرض فلان فمعناه أموره التي يرتفع بها أو يسقط بذكرها ومن
جهتها يحمد ويذم فيجوز أن يكون أمورا يوصف هو بها دون أسلافه ويجوز أن تذكر أسلافه
لتلحقه النقيصة بعيبهم ولا يعلم من أهل اللغة خلافه إلا ما قال ابن قتيبة فإنه
أنكر أن يكون العرض الأسلاف وزعم أن عرض الرجل نفسه يقال أكرمت عنه عرضي أي صنت
عنه نفسي و فلان نقي العرض أي بريء من أن يشتم أو يعاب وقيل عرض الرجل
(1/297)
جانبه الذي يصونه في نفسه
وحسبه ويحامي عنه قال عنترة
فإذا شربت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافر لم يكلم
قوله ومن وقع في الشبهات بضم الشين والباء وفيها من اختلاف الرواة ما تقدم قوله
الحمى بكسر الحاء وفتح الميم المخففة وهو موضع حظره الإمام لنفسه ومنع الغير عنه
وقال الجوهري حميته إذا دفعت عنه وهذا شيء حمي أي محظور لا يقرب وقال بعضهم الحمى
المحمي أطلق المصدر على اسم المفعول قلت هذا ليس بمصدر بل هو اسم مصدر ومصدر حمى
يحمي حماية قوله يوشك بكسر الشين أي يقرب قوله أن يوافقه أي يقع فيه قوله محارمه
أي معاصيه التي حرمها كالقتل والسرقة وهو جمع محرم وهو الحرام ومنه يقال هو ذو
محرم منها إذا لم يحل له نكاحها ومحارم الليل مخاوفها التي يحرم على الجبان أن
يسلكها قوله مضغة أي قطعة من اللحم سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها قوله صلحت
بفتح اللام وضمها والفتح أصح وفي ( العباب ) الصلاح ضد الفساد تقول صلح الشيء يصلح
صلوحا مثال دخل يدخل دخولا وقال الفراء حكى أصحابنا أيضا بضم اللام قوله فسد من
فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا فهو فاسد وقال ابن دريد فسد يفسد مثال قعد يقعد لغة
ضعيفة وقوم فسدى كما قاولوا ساقط وسقطي وكذلك فسد بضم السين فسادا فهو فسيد وقال
الليث الفساد ضد الصلاح والمفسدة خلاف المصلحة وفي ( العباب ) الفساد أخذ المال
بغير حق هكذا فسر مسلم البطين قوله تعالى للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
( القصص 83 ) قوله القلب وفي ( العباب ) القلب الفؤاد وقد يعبر به عن العقل وقال
الفراء في قوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ( ق 37 ) أي عقل يقال ما
قلبك معك أي ما عقلك وقيل القلب أخص من الفؤاد وقال الأصمعي وفي البطن الفؤاد وهو
القلب سمي به لتقلبه في الأمور وقيل لأنه خالص ما في البدن إذ خالص كل شيء قلبه
وأصله مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته علي بذاته وقلبت الإناء رددته على
وجهه وقلبت الرجل عن رأيه وعن طريقه إذا صرفته عنه ثم نقل وسمى به هذا العضو
الشريف لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال
( ما سمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل )
وكان مما يدعو به النبي يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وقال القرطبي ثم إن
العرب لما نقلته لهذا العضو التزمت فيه التفخيم في قافه للفرق بينه وبين أصله وقد
قال بعضهم ليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم
وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم
بيان الإعراب قوله الحلال مبتدأ و بين خبره وكذلك الحرام بين مبتدأ وخبر وكذلك
قوله وبينهما مشتبهات ولكن الخبر ههنا مقدم وهو الظرف قوله لا يعلمها كثير من
الناس جملة في محل الرفع على أنها صفة لقوله مشتبهات قوله فمن اتقى كلمة من موصولة
مبتدأ وقوله اتقى الشبهات جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير الذي في اتقى العائد
إلى من والمفعول وهو قوله الشبهات صلة لها وقوله استبرأ خبره و لعرضه يتعلق به
قوله من وقع إلخ كلمة من ههنا يجوز أن تكون شرطية ويجوز أن تكون موصولة فإذا كانت
شرطية فقوله وقع في الشبهات جملة وقعت فعل الشرط والجواب محذوف تقديره ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام وهكذا في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري بإظهار
الجواب وكذا في رواية مسلم من طريق زكريا التي أخرجه منها البخاري وقوله كراع يرعى
حول الحمى جملة مستأنفة وقوله كراع خبر مبتدأ محذوف أي مثله كراع أي مثل راع يرعى
وقوله يرعى جملة من الفعل والفاعل صفة لراع أو المفعول محذوف تقدير كراع يرعى
مواشيه وقوله حول الحمى كلام إضافي نصب على الظرف وقوله يوشك إن يواقعه جملة وقعت
صفة أخرى لراع ويوشك من أفعال المقاربة وهو مثل كاد وعسى في الاستعمال أعني تارة
يستعمل استعمال كاد بأن يرفع الفعل وخبره فعل مضارع بغير أن متأول باسم الفعل نحو
يوشك زيد يجيء أي جائيا نحو كاد زيد يجيء وتارة يستعمل استعمال عسى بأن يكون
فاعلها على نوعين أحدهما أن يكون إسما نحو عسى زيد أن يخرج فزيد فاعل وأن يخرج في
موضع نصب لأنه يمنزلة قارب زيد الخروج والآخر أن يكون مع صلتها في موضع الرفع نحو
عسى أن يخرج زيد فيكون إذ ذاك بمنزلة قرب أن يخرج أي خروجه وكذلك يوشك زيد أن يجىء
ويوشك أن يجيء زيد وفي قوله يوشك
(1/298)
ضمير هو فاعله وقوله إن يواقعه
في موضع نصب لأنه بمنزلة يقارب الراعي المواقعة في الحمى وأعاده الكرماني إلى
الحرام وما قلنا أوجه وأصوب وأما إذا كانت موصولة فتكون مرفوعة بالابتداء وخبرها
هو قوله كراع يرعى ولا يكون فيه حذف والتقدير الذي وقع في الشبهات كراع يرعى أي
مثل راع يرعى مواشيه حول الحمى وقوله يوشك استئناف قوله ألا بفتح الهمزة وتخفيف
اللام وحرف التنبيه فيدل على تحقق ما بعدها وتدخل على الجملتين نحو ألا أنهم هم
السفهاء ( البقرة 13 ) ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ( هود 8 ) وإفادتها التحقيق
من جهة تركيبها من الهمزة و لا وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق
نحو أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ( القيامة 40 ) وقال الزمخشري ولكونها بهذا
المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم نحو ألا
إن أولياء الله ( يونس 62 ) قوله ألا وإن لكل ملك حمى الواو فيه عطف على مقدر
تقديره ألا إن الأمر كما تقدم وإن لكل ملك حمى وقوله حمى نصب لأنه اسم إن وخبرها
هو قوله لكل ملك مقدما قوله ألا وإن حمى الله محارمه هكذا رواية المستملي وفي
رواية غيره ألا إن حمى الله في أرضه محارمه وفي رواية أبي فروة معاصيه بدل محارمه
ولم يذكر الواو ههنا في رواية أبي ذر وفي رواية غيره بالواو ألا وإن حمى الله
محارمه فإن قلت ما وجه ذكر الواو ههنا وتركها وما وجه ذكرها في قوله إلا وإن في
الجسد قلت أما وجه ذكرها في قوله ألا وإن حمى الله فبالنظر إلى وجود التناسب بين
الجملتين من حيث ذكر الحمى فيها وأما وجه تركها فبالنظر إلى بعد المناسبة بين حمى
الملوك وبين حمى الله الذي هو الملك الحق لا ملك حقيقة الإله تعالى وأما وجه ذكرها
في قوله ألا وإن في الجسد فبالنظر إلى وجود المناسبة بين جملتين نظرا إلى أن الأصل
في الاتقاء والوقوع هو ما كان بالقلب لأنه عماد الأمر وملاكه وبه قوامه ونظامه
وعليه تبنى فروعه وبه تتم أصوله قوله مضغة نصب لأنه اسم إن وخبرها هو قوله في
الجسد مقدما وقوله إذا صلحت أي المضغة وهي القلب وكلمة إذا ههنا بمعنى إن لأن
مدخول إذا لا بد أن يكون متحقق الوقوع وههنا الصلاح غير متحقق لاحتمال الفساد
والقرينة على ذلك ذكر المقابل فافهم قوله صلح الجسد جواب إذا وكذلك الكلام في قوله
وإذا فسدت قوله وهي القلب جملة إسمية بالواو وأيضا عطف على مقدر
بيان المعاني أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث وأنه أحد الأحاديث التي عليها
مدار الإسلام قالت جماعة هو ثلث الإسلام وان الاسلام يدور عليه وعلى حديث الاعمال
بالنيات وحديث من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقال أبو داود يدور على أربعة
أحاديث هذه الثلاثة وحديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه قالوا سبب عظم
موقعه انه عليه السلام نبه فيه على صلاح المطعم والمشرب والملبس والمنكح وغيرها
وانه ينبغي أن يكون حلالا وأرشد إلى معرفة الحلال وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه
سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من مواقعة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى ثم بين
أهم الأمور وهو مراعاة القلب وقال ابن العربي يمكن أن ينتزع من هذا الحديث وحده
جميع الأحكام وقال القرطبي لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق
جميع الأعمال بالقلب فمن هنا يمكن أن يرد إليه جميع الاحكام قوله الحلال بين بمعنى
ظاهر بالنظر إلى ما دل على الحل بلا شبهة او على الحرام بلا شبهة وبينهما مشتبهات
أي الوسائط التي يكتنفها دليلان من الطرفين بحيث يقع الاشتباه ويعسر ترجيح دليل
أحد الطرفين إلا عند قليل من العلماء وقال النووي معناه أن الأشياء ثلاثة أقسام
حلال واضح لا يخفى حله كاكل الخبز والفواكه وكالكلام والمشي وغير ذلك وحرام بين
كالخمر والدم والزنا والكذب واشباه ذلك واما المشبهات فمعناه أنها ليست بواضحة
الحل والحرمة ولهذا لا يعرفها كثير من الناس وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو
قياس أو استصحاب وغيره فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن نص ولا إجماع
اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا ألحقه به صار حلالا أو
حراما وقد يكون دليله غير خال عن الاجتهاد فيكون الورع تركه وما لم يظهر للمجتهد
فيه شيء وهو مشتبه فهل يؤخذ بالحل أو الحرمة أو يتوقف فيه ثلاثة مذاهب حكاها
القاضي عياض عن أصحاب الأصول والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المعروف في حكم
الأشياء قبل ورود الشرع وفيه أربعة مذاهب أحدها وهو الأصح انه لا يحكم بتحليل ولا
تحريم ولا إباحة ولا غيرها لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع والثاني
ان الحكم الحل أو الإباحة والثالث المنع
(1/299)
والرابع الوقف وقال المازري
المشتبهات المكروه لا يقال فيه حلال ولا حرام بين وقال غيره فيكون الورع تركه وقال
الخطابي من أمثلة المتشابهات معاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربا فهذا يكره
معاملته وقال القرطبي لا شك أن ثم أمورا جلية التحريم وأمورا جلية التحليل وأمورا
مترددة بين الحل والحرمة وهو الذي تتعارض فيها الأدلة فهي المشتبهات واختلف في
حكمها فقيل حرام لأنها توقع في الحرام وقيل مكروهة والورع تركها وقيل لا يقال فيها
واحد منهما والصواب الثاني لأن الشرع أخرجها من الحرام فهي مرتاب فيها وقال عليه
السلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فهذا هو الورع وقال بعض الناس إنها حلال يتورع
عنها قال القرطبي ليست هذه عبارة صحيحة لأن أقل مراتب الحلال ان يستوي فعله وتركه
فيكون مباحا وما كان كذلك لا يتصور فيه الورع فإنه إن ترجح أحد طرفيه على الآخر
خرج عن ان يكون مباحا وحينئذ إما أن يكون تركه راجحا على فعله وهو المكروه أو فعله
راجحا على تركه وهو المندوب فأما مثل ما تقدم مما يكون دليله غير خال عن الاحتمال
البين كجلد الميتة بعد الدباغ فإنه غير طاهر على المشهور من مذهب مالك فلا يستعمل
في شيء من المائعات لأنها تنجس لا الماء وحده فإنه عنده يدفع النجاسة ما لم يتغير
هذا هو الذي ترجح عنده لكنه كان يتقي الماء في خاصة نفسه وحكي عن أبي حنيفة وسفيان
الثوري رضي الله عنهما أنهم قالا لأن أخر من السماء أهون علي من أن افتي بتحريم
قليل النبيذ وما شربته قط ولا أشربه فعملوا بالترجيح في الفتيا وتورعوا عنه في
أنفسهم وقال بعض المحققين من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام ويضيق
على نفسه يعني به هذا المعنى ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى إمكان اعتبار الشرع ذلك
المرجوح وهذا الالتفات ينشأ من القول بان المصيب واحد وهو مشهور مذهب مالك ومنه
ثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف قلت وكذلك أيضا كان الشافعي رحمه الله يراعي
الخلاف وقد نص على ذلك في مسائل وقد قال أصحابه بمراعاة الخلاف حيث لا تفوت به سنة
في مذهبهم وقد عقب البخاري هذا الباب بما ذكره في كتاب البيوع في باب تفسير
الشبهات قال فيه وقال حسان بن أبي سنان ما رأيت شيئا أهون من الورع دع ما يريبك
إلى ما لا يريبك وأورد فيه حديث المرأة السوداء وأنها أرضعته وزوجته وقول النبي
وكيف وقد قيل وحديث ابن وليدة زمعة وأنه قضى به لعبد بن زمعة أخيه بالفراش ثم قال
لسودة احتجبي منه لما رأى من شبهه فما رآها حتى لقي الله تعالى وحديث عدي بن حاتم
رضي الله عنه وقوله اجد مع كلبي على الصيد كلبا آخر لا أدري أيهما أخذ قال لا تأكل
ثم ذكر حديث التمرة المسقوطة وقول النبي لولا أن تكون صدقة لأكلتها ثم عقبه بما لا
يجتنب فقال باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات وذكر فيه حديث الرجل يجد الشيء
في الصلاة قال لا حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها أن
قوما قالوا يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم
لا فقال النبي سموا عليه وكلوه
قلت فتحصل لنا مما تقدم ذكره أن المشتبهات المذكورة في الحديث التي ينبغي اجتنابها
فيه أقوال احدها أنه الذي تعارضت فيه الأدلة فاشتبهت فمثل هذا يجب فيه الوقف إلى
الترجيح لأن الإقدام على أحد الأمرين من غير رجحان الحكم بغير دليل محرم والثاني
المراد به المكروهات وهو قول الخطابي والمازري وغيرهما ويدخل فيه مواضع اختلاف
العلماء والثالث أنه المباح وقال بعضهم هي حلال يتورع عنها وقد رده القرطبي كما
تقدم وقال فإن قيل هذا يؤدي إلى رفع معلوم من الشرع وهو أن النبي والخلفاء بعده
وأكثر أصحابه كانوا يزهدون في المباح فرفضوا التنعم بطيب الأطعمة ولين اللباس وحسن
المساكن وتلبسوا بضدها من خشونة العيش وهو معلوم منقول من سيرهم قال فالجواب أن
ذلك محمول على موجب شرعي اقتضى ترجيح الترك على الفعل فلم يزهدوا في مباح لأن
حقيقته التساوي بل في أمر مكروه ولكن المكروه تارة يكرهه الشرع من حيث هو وتارة
يكرهه لما يؤدي إليه كالقبلة للصائم فإنها تكره لما يخاف منها من إفساد الصوم
ومسألتنا من هذا القبيل لأنه انكشف لهم من عاقبة ما خافوا على نفوسهم منه مفاسد
أما في الحال من الركون إلى الدنيا وأما في المآل من الحساب عليه والمطالبة بالشكر
وغيره وهذا آخر كلامه قلت وقد اختلف أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى في ترك الطيب
وترك لبس الناعم فقال الشيخ أبو حامد الإسفرائني إن ذلك ليس بطاعة واستدل بقوله
تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا
في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ( الأعراف 32 ) وقال الشيخ ابو الطيب الطبري
إنه طاعة
(1/300)
ودليله ما علم من أمر السلف من
خشونة العيش وقال ابن الصباغ يختلف ذلك بإختلاف أحوال الناس وتفرغهم للعبادة
وقصودهم واشتغالهم بالضيق والسعة وقال الرافعي من أصحابنا هذا هو الصواب وأما ما
يخرج إلى باب الوسوسة من تجويز الأمر البعيد فهذا ليس من المشتبهات المطلوب
اجتنابها وقد ذكر العلماء له أمثلة فقالوا هو ما يقتضيه تجويز أمر بعيد كترك
النكاح من نساء بلد كبير خوفا أن يكون له فيها محرم وترك استعمال ماء في فلاة
لجواز عروض النجاسة أو غسل ثوب مخافة طرؤ نجاسة عليه لم يشاهدها إلى غير ذلك مما
يشبهه فهذا ليس من الورع وقال القرطبي الورع في مثل هذا وسوسة شيطانية إذ ليس فيها
من معنى الشبهة شيء وسبب الوقوع في ذلك عدم العلم بالمقاصد الشرعية قلت من ذلك ما
ذكره الشيخ الإمام عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين فحكى عن قوم أنهما
لا يلبسون ثيابا جددا حتى يغسلوها لما فيها ممن يعاني قصر الثياب ودقها وتجفيفها
وإلقائها وهي رطبة على الأرض النجسة ومباشرتها بما يغلب على الظن نجاسته من غير أن
يغسل بعد ذلك فاشتد نكيره عليهم وقال هذه طريقة الخوارج الحرورية أبلاهم الله
تعالى بالغلق في غير موضع القلق وبالتهاون في موضع الاحتياط وفاعل ذلك معترض على
أفعال النبي والصحابة والتابعين فانهم كانوا يلبسون الثياب الجدد قبل غسلها وحال
الثياب في أعصارهم كحالها في أعصارنا ولو أمر رسول الله بغسلها ما خفي لأنه مما
تعم به البلوى وذكر أيضا أن قوما يغسلون أفواههم إذا أكلوا الخبز خوفا من روث
الثيران عند الدياس فإنها تقيم أياما في المداسة ولا يكاد يخلو طحين عن ذلك قال
الشيخ هذا غلو وخروج عن عادة السلف وما روى أحد من الصحابة والتابعين أنهم رأوا
غسل الفم من ذلك فإن قيل كيف قال النبي عليه الصلاة و السلام في التمرة التي وجدها
في بيته لولا إني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ودخول الصدقة بيت النبي عليه
الصلاة و السلام بعيد لأنها كانت محرمة عليه وأجيب عنه أن ما توقعه النبي عليه
الصلاة و السلام لم يكن بعيدا لانهم كانوا يأتون بالصدقات إلى المسجد وتوقع أن
يكون صبي أو من لا يعقل أدخل التمرة البيت فاتقى ذلك لقربه
قوله لا يعلمها كثير من الناس اي لا يعلم المشتبهات كثير من الناس أراد لا يعلم
حكمها وجاء ذلك مفسرا في رواية الترمذي وهي لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي
أم من الحرام وقال الخطابي معنى مشتبهات أي تشتبه على بعض الناس دون بعض لا أنها
في نفسها مشتبهة على كل الناس لا بيان لها بل العلماء يعرفونها لأن الله تعالى جعل
عليها دلائل يعرفها بها أهل العلم ولهذا قال عليه السلام لا يعلمها كثير من الناس
ولم يقل لا يعلمها كل الناس أو أحد منهم وقال بعض العلماء معرفة حكمها ممكن لكن
للقليل من الناس وهم المجتهدون فالمشتبهات على هذا في حق غيرهم وقد يقع لهم حيث لا
يظهر لهم ترجيح لأحد اللفظين قوله استبرأ أي طلب البراءة في دينه من النقص وعرضه
من الطعن فيه قوله لدينه إشارة إلى ما يتعلق بالله تعالى وقوله وعرضه إشارة الى ما
يتعلق بالناس أو ذاك اشارة إلى ما يتعلق بالشرع وهذا إلى المروءة فان قلت لم قدم
العرض على الدين قلت القصد هو ذكرهما جميعا من غير نظر إلى الترتيب لأن الواو لا
تدل على الترتيب على ما عرف في موضعه وأما تقديم العرض فيمكن أن يكون لأجل تعلقه
بالناس المقتضي لمزيد الاهتمام به قوله ومن وقع في الشبهات قال الخطابي كل شيء
أشبه الحلال من وجه والحرام من وجه فهو شبهة وقال غيره هذا يكون لأحد وجهين أحدهما
إذا عود نفسه عدم التحرر مما يشتبه أثر ذلك في استهانته فوقع في الحرام مع العلم
به والثاني أنه إذا تعاطى الشبهات وقع في الحرام في نفس الأمر وقد قيل بدل الوجه
الثاني إن من أكثر وقوع الشبهات أظلم قلبه عليه لفقدان نور العلم والورع فيقع في
الحرام ولا يشعر به وقال ابن بطال وفيه دليل أن من لم يتق الشبهات المختلف فيها
وانتهك حرمتها فقد أوجد السبيل على عرضه فيما رواه واشهد به قلت حاصل ما ذكر
العلماء ههنا في تفسير الشبهات أربعة أشياء تعارض الادلة واختلاف العلماء وقسم
المكروه والمباح وقد قيل المكروه عقبة بين الحل والحرام فمن استكثر من المكروه
تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه
ويعضد هذا ما رواه ابن حبان من طريق ذكر مسلم أسنادها ولم يسبق لفظها فيها من
الزيادة اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه
ومن ارتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك ان يقع فيه
قوله كراع
(1/301)
يرعى حول الحمى هذا تشبيه حال
من يدخل في الشبهات بحال الراعي الذي يرعى حول المكان المحظور بحيث أنه لا يأمن
الوقوع فيه ووجه الشبه حصول العقاب بعدم الاحتراز في ذلك فكما أن الراعي إذا جره
رعيه حول الحمى إلى وقوعه في الحمى استحق العقاب بسبب ذلك فكذلك من أكثر من
الشبهات وتعرض لمقدماتها وقع في الحرام فاستحق العقاب فان قلت ما يسمى هذا التشبيه
قلت هذا تشبيه ملفوف لأنه تشبيه بالمحسوس الذي لا يخفى حاله شبه المكلف بالراعي
والنفس البهيمة بالأنعام والمشتبهات بما حول الحمى والمحارم بالحمى وتناول
المشتبهات بالرتع حول الحمى فيكون تشبيها ملفوفا باعتبار طرفيه وتمثيلا باعتبار
وجهه قوله ألا وإن لكل ملك حمى هذا مثل ضربه النبي عليه الصلاة و السلام وذلك أن
ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها وتتوعد على من يقربها والخائف من عقوبة
السلطان يبعد بماشيته خوف الوقوع وغير الخائف يقرب منها ويرعى في جوانبها فلا يأمن
من أن يقع فيها من غير اختياره فيعاقب على ذلك ولله تعالى أيضا حمى وهو المعاصي
فمن ارتكب شيئا منها استحق العقوبة ومن قاربه بالدخول في الشبهات يوشك أن يقع فيها
وقد ادعى بعضهم أن هذا المثل من كلام الشعبي وأنه مدرج في الحديث وربما استدل في
ذلك لما وقع لابن الجارود والاسماعيلي من رواية ابن عون عن الشعبى قال ابن عون في
آخر الحديث فلا ادري المثل من النبي عليه السلام او من قول الشعبي وأجيب بأن تردد
ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجا لأن الاثبات قد جزموا باتصاله ورفعه فلا
يقدح شك بعضهم فيه فان قلت قد سقط المثل في رواية بعض الرواة كأبي فروة عن الشعبي
فدل على الإدراج قلت لا نسلم ذلك لأن هذا لا يقدح فيمن اثبت من الحفاظ الاثبات
ويؤيده ما رواه ابن حبان الذي ذكرناه آنفا وقال بعضهم ولعل هذا هو السر في حذف
البخاري قوله وقع في الحرام ليصير ما قبل المثل مرتبطا به فيسلم من دعوى الإدراج
قلت هذا الكلام ليس له معنى أصلا ولا هو دليل على منع دعوى الإدراج وذلك لان قوله
وقع في الحرام لم يحذفه البخاري عمدا وإنما رواه في هذه الطريق هكذا مثل ما سمعه
وقد ثبت ذلك في غير هذه الطريق وكيف يحذف لفظا مرفوعا متفقا عليه لأجل الدلالة على
رفع لفظ قد قيل فيه بالإدراج وقوله ليصير ما قبل المثل مرتبطا به إن أراد به
الارتباط المعنوي فلا يصح لان كلا منهما كلام بذاته مستقل وإن اراد به الارتباط
اللفظي فكذلك لا يصح وهو ظاهر
قوله مضغة أطلقها على القلب إرادة تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد مع أن صلاح
الجسد وفساده تابعان له أو لما كان هو سلطان البدن لما صلح صلح الأعضاء الأخر التي
هي كالرعية وهو بحسب الطب أول نقطة تكون من النطفة ومنه تظهر القوى ومنه تنبعث
الأرواح ومنه ينشأ الإدراك ويبتدىء التعقل فلهذه المعاني خص القلب بذلك واحتج
جماعة بهذا الحديث وبنحو قوله تعالى لهم قلوب لا يعقلون بها ( الحج 46 ) على أن
العقل في القلب لا في الرأس قلت فيه خلاف مشهور فمذهب الشافعية والمتكلمين أنه فى
القلب ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه في الدماغ وحكي الأول عن الفلاسفة
والثاني عن الأطباء واحتج بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل وقال ابن بطال وفي هذا
الحديث أن العقل إنما هو في القلب وما في الرأس منه فإنما هو عن القلب وقال النووي
ليس فيه دلالة على أن العقل في القلب واستدل به أيضا على أن من حلف لا يأكل لحما
فأكل قلبا حنث قلت ولأصحاب الشافعي فيها قولان احدهما يحنث وإليه مال أبو بكر
الصيدلاني المروزي والأصح انه لا يحنث لأنه لا يسمى لحما
40 -
( باب أداء الخمس من الإيمان )
الكلام فيه على أنواع الأول أن لفظ باب مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى ما
بعده والتقدير هذا باب أداء الخمس أي باب في بيان أن أداء الخمس شعبة من شعب
الإيمان ويجوز أن يقطع عن الإضافة فحينئذ أداء الخمس كلام إضافي مبتدأ وقوله من
الايمان خبره الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول
هو الحلال الذي هو المأمور به والحرام الذي هو المنهي عنه فكذلك في هذا الباب
المذكور هو المأمور به والمنهي عنه أما المأمور به فهو الايمان بالله ورسوله وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وإعطاء الخمس وأما المنهي عنه فهو الحنتم
وأخواتها وبهذا الباب ختمت الأبواب التي يذكر فيها شعب الإيمان وأموره الثالث قوله
الخمس بضم الخاء من خمست القوم
(1/302)
اخمسهم بالضم إذا أخذت منهم
خمس أموالهم وأما خمستهم أخمسهم بالكسر فمعناه إذا كنت خامسهم أو كملتهم خمسة
بنفسك وهو المراد من قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه ( الأنفال
41 ) وقد قيل إنه روي هنا بفتح الخاء وهي الخمس من الأعداد وأراد بها قواعد الإسلام
الخمس المذكورة في حديث بني الاسلام على خمس فهذا وإن كان له وجه ولكن فيه بعد لأن
الحج لم يذكر ههنا ولأن غيره من القواعد قد تقدم ذكره وههنا إنما ترجم الباب على
أن أداء خمس الغنيمة من الإيمان فإن قلت ما وجه كونه من الإيمان قلت لما سأل الوفد
عن الأعمال التي إذا عملوها يدخلون بها الجنة فأجيبوا بأشياء من جملتها أداء الخمس
فأداء الخمس من الأعمال التي يدخل بها الجنة وكل عمل يدخل به الجنة فهو من الإيمان
فأداء الخمس من الإيمان فافهم
1 - حدثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة عن أبي جمرة قال كنت اقعد مع ابن عباس
يجلسني على سريره فقال أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي فاقمت معه شهرين ثم قال
إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي قال من القوم أو من الوفد قالوا ربيعة قال مرحبا
بالقوم أو بالوفد غير حزايا ولا ندامى فقالوا يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك
إلا في شهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر فمرنا بأمر فصل نخبر به من
رواءنا وندخل به الجنة وسألوه عن الاشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع أمرهم
بالإيمان بالله وحده قال أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام
رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدباء والنقير
والمزفت وربما قال المقير وقال احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأنه عقد الباب على جزء منه وهو قوله وإن تعطوا من
المغنم خمسا فإن قلت لم عين هذا للترجمة دون غيره من الذي ذكره معه قلت عقد لكل
واحد غيره بابا على ما تقدم ( بيان رجاله ) وهم أربعة الأول أبو الحسن على بن
الجعد بفتح الجيم ابن عبيد الجوهري الهاشمي مولاهم البغدادي سمع الثوري ومالكا
وغيرهما من الاعلام وعنه أحمد والبخاري وأبو داود وآخرون وقال موسى بن داود ما
رأيت احفظ منه وكان أحمد يحض على الكتابة منه وقال يحيى بن معين هو رباني العلم
ثقة فقيل له هذا الذي كان منه أنه كان يتهم بالجهم فقال ثقة صدوق وقيل أن الذي كان
يقول بالجهم ولده الحسن قاضي بغداد وبقي ستين سنة أو سبعين سنة يصوم يوما ويفطر
يوما ولد سنة ست وثلاثون ومائة ومات سنة ثلاثين ومائتين ودفن بمقبرة باب حرب
ببغداد الثاني شعبة بن الحجاج وقد تقدم الثالث أو جمرة بالجيم والراء واسمه نصر بن
عمران بن عصام وقيل عاصم بن واسع الضبعي البصري سمع ابن عباس وابن عمر وغيرهما من
الصحابة رضي الله عنهم وخلقا من التابعين وعنه أيوب وغيره من التابعين وغيرهم كان
مقيما بنيسابور ثم خرج إلى مرو ثم إلى سرخس وبها توفي سنة ثمان وعشرين ومائة وثقته
متفق عليها وقال ابن قتيبة مات بالبصرة وكان أبوه عمران رجلا جليلا قاضي البصرة
واختلف في أنه صحابي لا وليس في الصحيحين من يكنى بهذه الكنية غيره ولا من اسمه
جمرة بل ولا في باقي الكتب الستة أيضا ولا في الموطأ وفي كتاب الحياني أنه وقع في
نسخة أبي ذر عن أبي الهيثم حمزة بالحاء المهملة والزاي وذلك وهم وما عداه أبو حمزة
بالحاء والزاء وقد روى مسلم عن أبي حمزة بالحاء المهملة عن أبي عطاء القصاب بياع
القصب الواسطي حديثا واحدا عن ابن عباس فيه ذكر معاوية وإرسال النبي ابن عباس خلفه
وقال بعض الحفاظ يروي شعبة عن سبعة يروون عن ابن عباس كلهم أبو حمزة بالحاء والزاي
إلا هذا ويعرف هذا من غيره منهم أنه إذا أطلق عن ابن عباس أبو حمزة فهو هذا وإذا
أرادوا غيره ممن هو بالحاء قيدوه بالاسم والنسب
(1/303)
والوصف كابني حمزة القصاب
والضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة من بني ضبيعة بضم أوله مصغر أو هو
بطن من عبد القيس كما جزم الشاطى وفي بكر بن وائل بطن يقال لهم بنو ضبيعة أيضا وقد
وهم من نسب أبا جمرة إليهم من شراح البخاري فقد روى الطبراني وابن منده في ترجمة
نوح بن مخلد جد أبي جمرة أنه قدم على رسول الله فقال له ممن أنت قال من ضبيعة
ربيعة فقال خير ربيعة عبد القيس ثم الحي الذي أنت منهم الرابع عبد الله ابن عباس
رضي الله عنهما
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والأخبار والعنعنة والأخبار في أخبرنا
شعبة وفي كثير من النسخ حدثنا شعبة ومنها أن رجاله ما بين بغدادي وواسطي وبصرى
ومنها أن فيهم من هو من الأفراد وهو أبو جمرة وكذا علي بن الجعد انفرد به البخاري
وأبو داود عن بقية الستة
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري في عشرة مواضع هنا كما ترى وفي
الخمس عن أبي النعمان عن حماد وفي خبر الواحد عن علي بن الجعد عن شعبة وعن إسحق عن
النضر عن شعبة وفي كتاب العلم عن بندار عن غندر عن شعبة وفي الصلاة عن قتيبة عن
عباد بن عباد وفي الزكاة عن حجاج بن المنهال عن حماد وفي الخمس عن أبي النعمان عن
حماد وفي مناقب قريش عن مسدد عن حماد وفي المغازي عن سليمان بن حرب عن حماد وعن
إسحاق عن أبي عامر العقدي عن قرة وفي الأدب عن عمران بن ميسرة عن عبد الوارث عن
أبي التياح وفي التوحيد عن عمرو بن علي عن أبي عاصم عن قرة وأخرجه مسلم في الإيمان
عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي موسى وبندار ثلاثتهم عن عبد ربه وعن عبيد الله بن
معاذ عن أبيه وعن نصر بن علي عن أبيه كلاهما عن قرة به وفيه وفي الاشربة عن خلف
ابن هشام عن حماد بن زيد وعن يحيى بن يحيى عن عباد بن عباد به وأخرجه أبو داود في
الاشربة عن سليمان بن حرب ومحمد ابن عبيد بن حساب كلاهما عن حماد بن زيد به وعن
مسدد عن عباد بن عباد وفي السنة عن أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد عن شعبة وأخرجه
الترمذي في السير عن قتيبة عن عباد بن عباد وعن قتيبة عن حماد بن زيد به مختصرا
وفي الإيمان عن قتيبة عنهما بطوله وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي في العلم عن بندار
به وفي الإيمان عن قتيبة عن عباد بن عباد به وفي الاشربة عن أبي داود الحراني عن
أبي عتاب بن سهل بن حماد عن قرة به وفي الصلاة عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد عن
شعبة به ومعنى حديثهم واحد ولم يذكر البخاري في طرقه قصة الأشج وذكرها مسلم في
الحديث فقال عليه السلام للأشج اشج عبد القيس أن فيك لخصلتين يحبهما الله الأناة
والحلم
( بيان اللغات ) قوله على سريره وفي العباب السرير معروف وجمعه أسرة وسرر قال الله
تعالى ( على سرر متقابلين ) إلا أن بعضهم يستثقل اجتماع الضمتين مع التضعيف فيرد
الأولى منهما إلى الفتح لخفته فيقول سرر وكذلك ما اشبهه من الجمع مثل ذليل وذلك
ونحوه انتهى وقيل أنه مأخوذ من السرر لأنه مجلس السرور قلت السرير أيضا مستقر
الرأس والعنق وقد يعبر بالسرير عن الملك والنعمة وخفض العيش وقال ابن السكيت
السرير موضع بأرض بني كنانة قوله سهما أي نصيبا والجمع سهمان بالضم قوله أن وفد
عبد القيس قال ابن سيده يقال وفد عليه وإليه وفدا ووفودا ووفادة وافادة على البدل
قدم ووافادة وإفادة على البدل قدم واوفده عليه وهم الوفد والوفود فأما الوفد فاسم
جمع وقيل جمع وأما الوفود فجمع وافد وقد أوفده إليه وفي الجامع للقزاز ووفودة
والقوم يفدون وأوفدتهم أنا أيضا وواحد الوفد وافد وفي الصحاح وفد فلان على الأمير
رسولا والجمع وفد وجمع الوافد أوفاد والاسم الوفادة واوفدته أنا إلى الأمير إي
أرسلته وفي المغيث الوفد قوم يجتمعون فيردون البلاد وكذا ذكره الفارسي في مجمع
الغرائب وقال صاحب التحرير والوفد الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم إلى لقى
العظماء والمصير إليهم في المهمات وقال القاضي هم القوم يأتون الملك ركابا ويؤيد
ما ذكره أن ابن عباس فسر قوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا قال ركبانا
وعبد القيس أبو قبيلة وهو ابن افصى بفتح الهمزة وسكون الفاء وبالصاد المهملة
المفتوحة ابن دعمى بضم الدال المهملة وسكون العين المهملة وبياء النسبة ابن جديلة
بفتح الجيم بن
(1/304)
أسد بن ربيعة بن نزار كانوا
ينزلون البحرين وحوالي القطيف والأحساء وما بين هجر إلى الديار المصرية قوله ربيعة
هو ابن نزار بن معد بن عدنان وإنما قالوا ربيعة لأن عبد القيس من أولاده قوله
مرحبا أي صادفت مرحبا أي سعة فاستأنس ولا تستوحش قوله خزايا جمع خزيان من الخزي
وهو الاستحياء من خزى يخزي من باب علم يعلم خزاية أي استحيى فهو خزيان وقوم خزايا وامرأة
خزيا وكذلك خزى يخزي من هذا الباب بمعنى ذل وهان ومصدره خزى وقال ابن السكيت وقع
في بلية وأخزاه الله والمعنى ههنا على هذا يعني غير أذلاء مهانين فافهم قوله ولا
ندامى جمع ندمان بمعنى النادم وقيل جمع نادم قوله في الشهر الحرام المراد به الجنس
فيتناول الأشهر الحرم الأربعة رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ويعرف المحرم دون
رجب وسمى الشهر بالشهر لشهرته وطهوره وبالحرم لحرمه القتال فيه قوله وهذا الحي قال
ابن سيده أنه بطن من بطون العرب وفي المطالع هو اسم لمنزلة القبيلة ثم سميت
القبيلة به وذكر الجواني في الفاضلة أن العرب على طبقات عشر اعلاها الجذم ثم
الجمهور ثم الشعوب واحدها شعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم العشيرة
ثم الفصيلة ثم الرهط وقال الكلبي وأول العرب شعوب ثم قبائل ثم عمائر ثم بطون ثم
أفخاذ ثم فصائل ثم عشاءر وقدم الأزهري العشائر على الفضائل قال وهم الأحياء وقال
ابن دريد الشعب الحي العظيم من الناس قلت الجذم بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة
أصل الشيء والشعب بالفتح ما تشعب من قبائل العرب والعجم والعمارة بكسر العين
وتخفيف الميم وجوز الخليل فتح عينها قال في العباب وهي القبيلة والعشيرة وقيل هي
الحي ينفرد بظعنه قوله مضر بضم الميم وفتح الضاد المعجمة غير منصرف وهو مضر بن
نزار بن معد بن عدنان ويقال لها مضر الحمراء ولأخيه ربيعة الفرس لأنهما لما اقتسما
الميراث أعطى مضر الذهب وربيعة الخيل وكفار مضر كانوا بين ربيعة والمدينة ولا
يمكنهم الوصول إلى المدينة إلا عليهم وكانوا يخافون منهم إلا في الأشهر الحرم
لامتناعهم من القتال فيها قوله بأمر فصل بلفظ الصفة لا بالإضافة والأمر أما واحد
الأمور أي الشأن وأما واحد الأوامر أي القول الطالب للفعل وفصل بفتح الفاء وسكون
الصاد المهملة أما بمعنى الفاصل كالعدل أي يفصل بين الحق والباطل وأما بمعنى
المفصل أي واضح بحيث ينفصل به المراد عن غيره قوله من المغنم أي الغنيمة قال
الجوهري المغنم والغنيمة بمعنى قوله الحنتم بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح
التاء المثناة من فوق قال أبو هريرة هي الجرار الخضر وقال ابن عمر هي الجرار كلها
وقال أنس بن مالك جرار يؤتى بها من مضر مقيرات الأجواف وقالت عائشة جرار حمر
اعناقها في جنوبها يجلب فيها الخمر من مضر وقال ابن أبي ليلى افواهها في جنوبها
يجلب فيها الخمر من الطائف وكانوا ينبذون فيها وقال عطاء هي جرار تعمل من طين ودم
وشعر وفي المحكم الحنتم جرار خضر تضرب إلى الحمرة وفي مجمع الغرائب حمر وقال
الخطابي هي جرة مطلية بما يسد مسام الخزف ولها التأثير في الانتباذ لأنها كالمزفت
وقال أبي حبيب الحنتم الجرو وكل ما كان من فخار أبيض وأخضر وقال المازري قال بعض
أهل العلم ليس كذلك إنما الحنتم ما طلى من الفخار بالحنتم المعمول بالزجاج وغيره
قوله والدباء بضم الدال وتشديد الباء وبالمد وقد يقصر وقد تكسر الدال وهو اليقطين
اليابس أي الوعاء منه وهو القرع وهو جمع والواحدة باءة ومن قصر قال دباة قال عياض
ولم يحك أبو علي والجوهري غير المد قوله والنقير بفتح النون وكسر القاف وجاء
تفسيره في صحيح مسلم أنه جذع ينقرون وسطه وينبذون فيه قوله والمزفت بتشديد الفاء
أي المطلي بالزفت أي القار بالقاف وربما قال ابن عباس المقير بدل المزفت ويقال
الزفت نوع من القار وقال ابن سيده هو شيء أسود يطلى به الإبل والسفن وقال أبو
حنيفة أنه شجر مر والقار يقال له القير بكسر القاف وسكون الياء آخر الحروف قيل هو
نبت يحرق إذا يبس يطلى به السفن وغيرها كما يطلى بالزفت وفي مسند أبي داود
الطيالسي بإسناد حسن عن أبي بكرة قال أما الدباء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون
القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يهدر ثم يموت وأما النقير فإن أهل اليمامة
كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينتبذون الرطب واليسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت وأما
الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها
الزفت
( بيان الإعراب ) قوله كنت اقعد التاء في كنت اسم كان والجملة اعني اقعد في محل
النصب خبره قوله مع ابن عباس أي مصاحبا معه أو هو بمعنى عند أي عند ابن عباس رضي
الله عنهما قوله فيجلسني عطف على قوله اقعد فإن قلت
(1/305)
الاجلاس قبل القعود فكيف جاء بالفاء قلت الاجلاس على السرير بعد القعود وما الدليل على امتناعه قوله اجعل بالنصب بأن المقدرة بعد حتى وسهما منصوب لأنه مفعول اجعل وكلمة من في من مالي بيانية مع دلالته على التبعيض قوله فاقمت معه أي مصاحبا له وإنما قال معه ولم يقل عنده مطابقة لقوله اقم عندي لأجل المبالغة لأن المصاحبة بلغ من العندية قوله شهرين نصب على الظرف والتقدير مدة شهرين قوله من القوم جملة اسمية وكلمة من للاستفهام قوله أو من الوفد شك من الراوي والظاهر أنه شعبة ويحتمل أن يكون أبا جمرة وليس كما قال الكرماني والظاهر أنه من ابن عباس رضي الله عنهما قوله ربيعة خبر مبتدأ محذوف تقديره نحن ربيعة والجملة مقول القوة قوله قال مرحبا أي قال لهم النبي مرحبا وهو اسم وضع موضع الترحيب وانتصابه على المصدرية من رحبت الأرض ترحب من باب كرم يكرم رحبا بضم الراء إذا اتسعت قال سيبويه هو من المصادر النائية عن أفعالها تقديره رحبت وقال غيره هو من المفاعيل المنصوبة بعامل مضمر لازم اضماره تستعمله العرب كثيرا ومعناه صادفت رحبا أي سعة فاستأنس ولا تستوحش وفي العباب والعرب تقول أيضا مرحبك الله ومسهلك ومرحبابك الله ومسهلا وقال العسكري أول من قال مرحبا سيف ذو يزن فإن قلت أنه بالإضافة صار معرفة وشرط الحال أن تكون نكرة قلت شرط تعرفه أن يكون المضاف ضدا للمضاف إليه ونحوه وههنا ليس كذلك ويروى غير بكسر الراء على أنه صفة للقوم فإن قلت أنه نكرة كيف وقعت صفة للمعرفة قلت للمعرف بلا جنس قرب المسافة بينه وبين النكرة فحكمه حكم النكرة إذ لا توقيت فيه ولا تعيين وفي رواية مسلم غير خزايا ولا ندامى باللام في الندامى وفي بعض الروايات غير الخزايا ولا الندامى باللام فيهما وقال النووي وفي رواية البخاري في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جمرة مرحبا بالوفد الذين جاؤا غير خزايا ولا ندامى ووقع في رواية النسائي من طريق قرة فقال مرحبا بالوفد ليس خزايا ولا النادمين وهذا يشهد لمن قال كان الأصل في ولا ندامى نادمين ولكنه اتبع خزايا تحسينا للكلام كما يقال لا دريت ولا تليت والقياس لا تلوت والغدايا والعشايا والقياس بالغدوات فجعل تابعا لما يقارنه وإذا افردت لم يجز إلا الغدوات وكذلك قوله عليه السلام ارجعن مأزورات غير مأجورات ولو افردت لقيل موزورات بالواو لأنه من الوزر ومنه قول الشاعر هناك اخبية ولاج ابوية فجمع الباب على ابوبة اتباعا لاخبية ولو أفرد لم يجز وقال القزاز والجوهري ويقال في نادم ندمان فعلى هذا يكون الجمع على الأصل ولا يكون من باب الاتباع قوله أن نأتيك في محل النصب على المفعولية وأن مصدرية والتقدير أن لا نستطيع الاتيان إليك قوله الحرام بالجر صفة للشهر وفي رواية الأصيلي وكريمة إلا في شهر الحرام وهي رواية مسلم أيضا وهو من إضافة الاسم إلى صفته بحسب الظاهر كمسجد الجامع ونساء المؤمنات ولكنه مؤول تقديره إلا في شهر الأوقات الحرام ومسجد الوقت الجامع وقال بعضهم هذا من إضافة الشيء قلت إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز كما عرف في موضعه وفي رواية قرة أخرجها البخاري في المغازي إلا في أشهر الحرم وتقدير في أشهر الأوقات الحرم والحرم بضمتين جمع حرام وفي رواية حماد بن زيد أخرجها البخاري في المناقب ( غلا في كل شهر حرام قوله وبيننا وبينك الواو فيه للحال وكلمة من في قوله من كفار مضر للبيان ومضر مضاف إليه ولكن جره بالفتح لأن الصرف منع منها للعملية والتأنيث قوله فمرنا جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير المستتر في مر والمفعول وهو نا وأصل مر اؤمر بهمزتين لأنه من أمر يأمر فحذفت الهمزة الأصلية للاستثقال فصار امر فاستغنى عن همزة الوصل فحذفت فبقى مر على وزن عل لأن المحذوف فاء الفعل قوله بأمر فصل كلاهما بالتنوين على الوصفية لا الإضافة قوله نخبر به روى بالرفع وبالجزم أما الرفع فعلى أنه صفة لامر وأما الجزم فعلى أنه جواب الامر قوله من وراءنا كلمة من بفتح الميم موصولة في محل الرفع على الابتداء وقوله وراءنا خبره والجملة في محل النصب على أنها مفعول نخبر والخبر في الحقيقة محذوف تقديره من استقروا وراءنا أي خلفنا والمراد قومهم الذين خلفوهم في بلادهم وقد علم أن نحو خلف ووراء إذا وقع خبرا فإن كان بدلا عن عامله المحذوف نحو زيد خلفك أو وراءك بقي على ما كان عليه من الإعراب وإن لم يكن بدلا نحو ظهرك خلفك ورجلاك أسفلك جاز فيه الوجهان النصب على الظرفية والرفع على الخبرية ثم اعلم أن لفظة وراء من الاضداد لأنه يأتي بمعنى خلف وبمعنى قدام وهي مؤنثة وقال
(1/306)
ابن السكيت يذكر ويؤنث وهو مهموز اللام ذكره الصغاني في باب ما يكون في آخره همزة وذكر الجوهري في باب ما يكون في آخره ياء وهو غلط فكأنه ظن أن همزته ليست بأصلية وليس كذلك بدليل وجودها في تصغيره وقال الكرماني وفي بعض الروايات من ورائنا بكسر الميم قلت قال الشيخ قطب الدين في شرحه ولا خلاف أن قوله نحبر به من وراءنا بفتح الميم والهمزة فإن قلت أن صح ما قاله الكرماني فما تكون من بالكسر قلت إن صحت هذه الرواية يحتمل أن تكون من للغاية بمعنى أو قومهم يكونون غاية لأخبارهم قوله وندخل به الجنة برفع اللام وجزمها عطفا على قوله نخبر الموجه بوجهين وفي بعض الروايات ندخل بدون الواو وكذا وقع في مسلم بلا واو وعلى هذه الرواية يتعين رفعه وهي جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب قوله وسألوه أي النبي عليه الصلاة و السلام عن الاشربة أي عن ظرف الأشربة فالمضاف محذوف والتقدير سألوه عن الاشربة التي تكون في الأواني المختلفة فعلى هذا يكون محذوف الصفة فافهم قوله فأمرهم بأربع الفاء للتعقيب أي بأربع خصال أو بأربع جمل لقوله حدثنا بجمل من الأمر وهي رواية قرة عند البخاري في المغازي وقوله ونهاهم عطف على فأمر قوله أمرهم بالإيمان تفسير لقوله فأمرهم بأربع ولهذا ترك العاطف فإن قلت كيف يكون تفسيرا والمذكور خمس قلت قال النووي عد جماعة الحديث من المشكلات حيث قال أمرهم بأربع والمذكور خمس واختلفوا في الجواب عنه فقال البيضاوي الظاهر أن الأمور الخمسة تفسير للإيمان وهو أحد الأربعة المأمور بها والثلاثة الباقية حذفها الراوي نسيانا واختصارا وقال الطيبي من عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصبا لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له وتوجهه إليه كأن ما سواه مرفوض مطرح فههنا لم يكن الغر ض في إيراد ذكر الشهادتين لأن القوم كانوا مقرين بهما بدليل قولهم الله ورسوله أعلم ولكن كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما وأنهما كافيتان لهم وكان الأمر في أول الإسلام كذلك لم يجعله الراوي من الأوامر وجعل الاعطاء منها لأنه هو الغرض من الكلام لأنهم كانوا أصحاب غزوات مع ما فيه من بيان أن الإيمان غير مقصور على ذكر الشهادتين وقال القرطبي قيل أن أول الأربع المأمور بها أقام الصلاة وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما كما قيل في قوله تعالى واعلموا إنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وهذا نحو كلام الطيبي فإن قلت قوله وأقام الصلاة مرفوع عطفا على قوله شهادة أن لا إله إلا الله وهذا يرد ما قاله الطيبي والقرطبي وأجيب بأنه يجوز أن يقرأ وأقام الصلاة بالجر عطفا على قوله أمرهم بالإيمان والتقدير أمرهم بالإيمان مصدرا به وبشرطه في الشهادتين وأمرهم بأقام الصلاة إلى آخره ويعضد هذا رواية البخاري في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جمرة ولفظه أربع وأربع أقيموا إلى آخره فإن قيل ظاهر ما ترجم به المصنف من أن أداء الخمس من الإيمان يقتضي إدخاله مع الخصال في تفسير الإيمان والتقدير المذكور يخالفه فأجاب ابن رشد بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة فأجيبوا بأشياء من أداء الخمس والأعمال التي يدخل بها الجنة هي أعمال الإيمان فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير ( فإن قلت ) قد قال في رواية حماد بن زيد عن أبي جمرة أمركم بأربع الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وعقدة واحدة أخرجها البخاري في المغازي وأخرج في فرض الخمس وعقد بيده الحجاج بن منهال فدل على أن الشهادة إحدى الأربع وكذا في رواية عباد بن عباد في أوائل المواقيت ولفظه أمركم بأربع ونهاكم عن أربع الإيمان بالله ثم فسرها لهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله الحديث وهذا أيضا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع لأنه أعاد الضمير في قوله ثم فسرها مؤنثا فيعود على الأربع ولو أراد تفسير لأعاده مذكرا قلت أجاب عنه القاضي وابن بطال بأنه عد الأربع التي وعدهم ثم زادهم خامسة وهي أداء الخمس لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر وكانوا أهل جهاد وغنائم قال النووي وهو الصحيح وقال الكرماني ليس الصحيح ذلك ههنا لأن البخاري عقد الباب على أن أداء الخمس من الإيمان فلا بد أن يكون داخلا تحت أجزاء الإيمان كما أن ظاهر العطف يقتضي ذلك بل الصحيح ما قيل أنه لم يجعل الشهادة بالتوحيد وبالرسالة من الأربع لعلمهم بذلك وإنما أمرهم بأربع لم يكن في علمهم أنها دعائم الإيمان قلت لو اطلع الكرماني على رواية حماد بن زيد عن أبي جمرة ورواية عباد لما نفى الصحيح وأثبت غير الصحيح والتعليل الذي علله
(1/307)
هو السؤال الذي أجاب عنه ابن
رشد فإن قلت قد وقع في رواية البخاري في الزكاة وشهادة أن لا إله إلا الله بواو
العطف قلت هذه زيادة شاذة لم يتابع عليها قوله وأن تعطوا عطف على قوله بأربع أي
أمركم بأربع وبأن تعطوا وأن مصدرية والتقدير وبإعطاء الخمس من المغنم قوله ونهاهم
عطف على قوله أمرهم قوله عن الحنتم بدل من قوله عن أربع وما بعده عطف وفيه المضاف
محذوف تقديره ونهاهم عن نبيذ الحنتم والدباء قوله وربما كلمة رب ههنا للتقيل وإذا
زيدت عليها ما فالغالب أن تكفها عن العمل وأن تهيئها للدخول على الجمل الفعلية وأن
يكون الفعل ماضيا لفظا ومعنى فإن قلت ما تقول في قوله تعالى ربما يود الذين كفروا
قلت هو مؤول بالماضي على حد قوله تعالى 0ونفخ في الصور قوله وأخبروا بهن بفتح
الهمزة قوله من ورائكم مفعول ثان لا خبروا ومن بفتح الميم موصولة مبتدأ وقوله
وراءكم خبره والتقدبر أخبروا الذين كانوا وراءكم واستقروا ورواية البخاري بفتح من
كما ذكرنا وكذا رواية مسلم من طريق ابن المثني وغيره ووقع له من طريق ابن أبي شيبة
من ورائكم بكسر الميم والهمزة
( بيان المعاني ) قوله كنت اقعد مع ابن عباس رضي الله عنهما يعني زمن ولايته
البصرة من قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ووقع في رواية البخاري في العلم بيان
السبب في إكرام ابن عباس لأبي جمرة وهو كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس وفي
مسلم كنت بين يدي ابن عباس وبين الناس فقيل أن لفظه يدي زائدة وقيل بينه مراده
مقدرة أبي بينة وبين الناس قوله أترجم من الترجمة وهي التعبير بلغة عن لغة لمن لا
يفهم فقيل كان يتكلم بالفارسية وكان يترجم لابن عباس عمن تكلم بها وقال ابن الصلاح
وعندي أنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه من الناس أما الزحام أو لاختصار
يمنع من فهمه وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بلغة أخرى فقد أطلقوا على قولهم باب
كذا اسم الترجمة لكونه يعبر عما يذكره بعد قال النووي والظاهر أنه يفهمهم عنه
ويفهمه عنهم وقال القاضي فيه جواز الترجمة والعمل بها وجواز المترجم الواحد لأنه
من باب الخبر لا من باب الشهادة على المشهور قلت قال أصحابنا والواحد يكفي للتزكية
والرسالة والترجمة لأنها خبر وليست بشهادة حقيقة ولهذا لا يشترط لفظة الشهادة قوله
أن وفد عبد القيس قال النووي كانوا أربعة عشر راكبا كبيرهم الأشج وسمى منهم صاحب
التحرير وصاحب منهج الراغبين شارحا مسلم ثمانية أنفس الأول رئيسهم وكبيرهم الأشج
واسمه المندر بن عائذ بالذال المعجمة بن المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن
عصر كذا نسبه أبو عمر وقال ابن الكلبي المندر بن عوف بن عمرو بن زياد بن عصر وكان
سيد قومه قلت عصر بفتح المهملتين بن عوف بن عمرو بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن
عمرو بن وديعة بن لكيز بضم اللام وفي آخره زاي معجمة بن افصى بالفاء بن عبد القيس
بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار وإنما قال له النبي الأشج لأثر كان في
وجهه الثاني عمرو بن المرجوم بالجيم واسم المرجوم عامر بن عمرو بن عدي بن عمرو بن
قيس بن شهاب بن زيد بن عبد الله بن زياد بن عصر كان من أشراف العرب وساداتها
الثالث عبيد بن همام بن مالك بن همام الرابع الحارث بن شعيب الخامس مزيدة بن مالك
السادس منقذ بن حبان السابع الحارث بن حبيب العايشي بالمعجمة الثامن صحار بضم
الصاد وتخفيف الحاء وفي آخره راء كلها مهملات وقال صاحب التحرير لم أظفر بعد طول
التتبع لأسماء الباقين قلت الستة الباقية على ما ذكروا هم عتبة بن حروة والجهيم بن
قثم والرسيم العدوى وجويرة الكندي والزارع بن عائد العبدي وقيس بن النعمان وقال
البغوي في معجمة حدثني زياد بن أيوب ثنا إسحاق بن يوسف انبأنا عوف عن أبي القموس
زيد بن علي حديث الوفد الذين وفدوا على رسول الله من عبد القيس وفيه قال النعمان
بن قيس سألناه عن أشياء حتى سألناه عن الشراب فقال لا تشربوا من دباء ولا حنتم ولا
في نقير واشربوا في الحلال الموكي عليه فإن اشتد عليكم فاكسروا بالماء فإن أعياكم
فاهريقوه الحديث فإن قلت روى ابن منده ثم البيهقي من طريق هود العصري عن جده لأنه
مزيدة قال بينما رسول الله يحدث أصحابه إذا قال لهم سيطلع لكم من هذا الوجه ركب هو
خير أهل المشرق فقام عمر رضي الله عنه فلقي ثلاثة عشر راكبا فرحب وقرب من القوم
وقال من القوم قالوا وفد عبد القيس وروى الدولابي
(1/308)
وغيره من طريق أبي خيرة بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها الراء الصباحي بضم الصاد المهملة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف حاء مهملة نسبة إلى الصباح بن لكيز بن افصى بن عبد القيس قال كنت في الوفد الذين اتوا رسول الله وكنا أربعين رجلا فنهانا عن الدباء والنقير الحديث قلت أجاب بعضهم عن الأول بأنه يمكن أن يكون أحد المذكورين غير راكب وعن الثاني بأن الثلاثة عشر كانوا رؤوس الوفد قلت هذا عجيب منه لأنه لم يسلم التنصيص على العدد المذكور فكيف يوفق بينه وبين ثلاثة عشر وأربعين حتى قال وقد وقع في جملة من الأخبار ذكر جماعة من عبد القيس فعد منهم أخا الزارع وابن مطر وابن أخيه وشمرخا السعدي وقال روى حديثه ابن السكن وأنه قدم مع وفد عبد القيس وجذيمة بن عمرو وجارية بالجيم ابن جاب وهمام بن ربيعة وقال ذكرهم ابن شاهين ونوح بن مخلد جد أبي جمرة الصباحي قلت ومن الذين كانوا في الوفد الأعور بن مالك بن عمر ابن عوف بن عامر بن ذبيان بن الديل بن صباح وكان من أشراف عبد القيس وشجعانهم في الجاهلية قال أبو عمرو الشيباني وكان ممن وفد على رسول الله وسلم مع الأشج ذكره الرشاطي ومنهم القائف وإياس ابنا عيسى بن أمية بن ربيعة بن عامر بن دبيان بن الديل بن صباح وكانا من سادات بني صباح ومنهم شريك بن عبد الرحمن والحارث بن عيسى وعبد الله بن قيس والذراع بن عامر وعيسى بن عبد الله كانوا مع الذين وفدوا على رسول الله مع الأشج ذكرهم كلهم أبو عبيدة ومنهم ربيعة بن خراش ذكره المدائني وقال أنه وفد ومنهم محارب بن مرثد وفدوا على رسول الله مع وفد عبد القيس ذكره ابن الكلبي ومنهم عباد بن نوفل بن خداش وابنه عبد الرحمن بن عباد وعبد الرحمن بن حيان وأخوه الحكم بن حيان وعبد الرحمن بن أرقم وفضالة بن سعد وحسان ابن يزيد وعبد الله بن همام وسعد بن عمر وعبد الرحمن بن همام وحكيم بن عامر وأبو عمرو بن شييم كلهم وفدوا على النبي وكانوا من سادات عبد القيس وأشرافها وفرسانها ذكرهم أبو عبيدة فهؤلاء اثنان وعشرون رجلا زيادة على ما ذكره هذا القائل فجملة الجمع تكون خمسة وأربعين نفسا فعلمنا أن التنصيص على عدد معين لم يصح ولهذا لم يخرجه البخاري ومسلم بالعدد المعين وكان سبب قدومهم أن منقذ بن حبان أحد بن غنم بن وديعة كان يتجر إلى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد الهجرة فمر به فنهض منقذ إليه فقال النبي يا منقذ ابن حبان كيف جمع قومك ثم سأله عن أشرافهم يسميهم فأسلم منقذ وتعلم الفاتحة وأقر أثم رحل إلى هجر فكتب النبي إلى جماعة عبد القيس فكتمه ثم اطلعت عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائد وهو الأشج المذكور وكان منقذ يصلي ويقرأ فذكرت لأبيها فتلاقيا فوقع الإسلام في قلبه ثم سار الأشج إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله فقرأ عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم وأجمعوا على المسير إلى رسول الله فسار الوفد فلما دنوا من المدينة قال النبي أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق وفيهم الأشج العصري غير ناكبين ولا مبدلين ولا مرتابين إذا لم يسلم قوم حتى وتروا قال القاضي كان وفودهم عام الفتح قبل خروج النبي إلى مكة قوله قالوا ربيعة فيه التعبير بالبعض عن الكل لأنهم بعض ربيعة ويدل عليه ما جاء في رواية أخرى وهي طريق عباد بن عباد عن أبي جمرة فقالوا أنا هذا الحي من ربيعة أخرجها البخاري في الصلاة والترمذي أيضا والحي منصوب على الاختصاص قوله غير خزايا ولا ندامى معناه لم يكن منكم تأخر الإسلام ولا أصابكم قتال ولا سبي ولا أسر وما أشبهه مما تستحيون منه أو تذلون أو تفضحون بسببه أو تندمون عليه وهذا يدل على أنهم أسلموا قبل وفودهم إلى النبي ويدل عليه أيضا قولهم يا رسول الله ويدل أيضا على تقدم إسلامهم على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة وكانت مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق ولهذا قالوا في رواية شعبة عند البخاري في العلم أنا نأتيك من شقة بعيدة أن أول جمعة جمعت بعد جمعة مسجد رسول الله في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين وهي بضم الجيم وبعد الألف ثاء مثلثة مفتوحة وهي قرية مشهورة
(1/309)
لهم في المطالع جواثي بواو
ومخففة ومنهم من يهمزها وهي مدينة وإنما جمعت بعد رجوع وفدهم إليهم فدل على أنهم
سبقوا جميع المدن إلى الإسلام وجاء في هذا الخبر أن وفد عبد القيس لما وصلوا إلى
المدينة بادروا إلى النبي فقام الأشج فجمع رجالهم وعقل ناقته ولبس ثيابا جددا ثم
أقبل إلى النبي وأجلسه إلى جانبه ثم أن النبي قال لهم تبايعوني على أنفسكم وقومكم
فقال القوم نعم فقال الأشج يا رسول الله إنك لن تزايل الرجل عن شيء أشد عليه من
دينه نبايعك على أنفسنا وترسل معنا من يدعوهم فمن اتبع كان منا ومن أبي قاتلناه
قال صدقت إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والإناة وجاء في مسند أبي يعلى الموصل
أكانا في أم حدثا قال بل قديم قلت الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله
تعالى والأناة بفتح الهمزة مقصورة قال الجوهري الأناة على وزن قناة يقال تأنى في
الأمر أن توقف وانتطر ورجل آن على وزن فاعل أي كثير الأناة وقال القاضي آنيت
ممدودا وأنيت وتأنيت وزاد غيره استأنيت واصل الحلم بالكسر العقل
( بيان استنباط الأحكام ) وهو على وجوه الأول فيه وفادة الرؤساء إلى الأئمة عند الأمور
المهمة الثاني قال ابن التين يستنبط من وقله اجعل لك سهما من مالي على جواز أخذ
الأجرة على التعليم الثالث فيه استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم كما
فعله ابن عباس رضي الله عنهما الرابع فيه استحباب قول مرحبا للزوار الخامس فيه أنه
ينبغي أن يحث الناس على تبليغ العلم السادس فيه الأمر بالشهادتين السابع فيه الأمر
بالصلاة الثامن فيه الأمر بأداء الزكاة التاسع فيه الأمر بصيام شهر رمضان العاشر
فيه وجوب الخمس في الغنيمة قلت أم كثرت وإن لم يكن الإمام في السرية الغازية
الحادي عشر النهي عن الانتباذ في الأواني الأربع وهي أن تجعل في الماء حبا من تمر
أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب لأنه يسرع فيها الاسكار فيصير حراما ولم ينه عن
الانتباذ في أسقية الأدم بل أذن فيها لأنها لرقتها لا يبقى فيها المسكر بل إذا صار
مسكر أشقها غالبا ثم إن هذا النهي كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ ففي صحيح مسلم من
حديث بريدة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في
الأسقية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي
والجمهور وذهبت طائفة إلى أن النهي باق منهم مالك وأحمد وإسحاق حكاه الخطابي عنهم
قال وهو مروى عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وذكر ابن عباس هذا الحديث لما استفتى
دليل على أنه يعتقد النهي ولم يبلغه الناسخ والصواب الجزم بالإباحة لتصريح النسخ
الثاني عشر فيه دليل على عدم كراهة قول رمضان من غير تقييد بالشهر الثالث عشر فيه
أنه لا عيب عل الطالب للعلوم أو المستفتي أن يقول للعالم أوضح لي الجواب ونحو هذه
العبارة الرابع عشر فيه ندب العالم إلى إكرام الفاضل الخامس عشر فيه أن الثناء على
الإنسان في وجهه لا يكره إذا لم يخف فيه بإعجاب ونحوه السادس عشر فيه دليل على أن
الإيمان والإسلام بمعنى واحد لأنه فسر الإسلام فيما مضى بما فسر الإيمان ههنا
السابع عشر فيه أن الأعمال الصالحة إذا قبلت تدخل صاحبها الجنة الثامن عشر أنه
يبدأ بالسؤال عن الأهم التاسع عشر فيه دليل على العذر عند العجز عن توفية الحق
واجبا أو مندوبا قاله ابن أبي جمرة العشرون فيه الاعتماد على أخبار الآحاد كما
ذكرناه
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل أن قوله كنت فعل ماضي وقوله اقعد للحال أو
للاستقبال فما وجه الجمع بينهما أجيب بأن أقعد حكاية عن الحال الماضية فهو ماض
وذكر بلفظ الحال استحضار لتلك الصورة للحاضرين ومنها ما قيل كيف قال أمرهم بأربع
ثم قال أمرهم بالإيمان أجيب بأن الإيمان باعتبار الأجزاء الأربعة صح إطلاق الأربع
عليه ومنها ما قيل لم لم يذكر الحج وهو أيضا من أركان الدين أجيب بأجوبة الأول
إنما ترك ذكره لكونه على التراخي وهذا ليس بجيد لأن كونه على التراخي لا يمنع من
الأمر به وفيه خلاف بين الفقهاء فعند أبي يوسف وجوبه على الفور وهو مذهب مالك أيضا
ومذهب أحمد أنه على التراخي وهو مذهب الشافعي لأن فرض الحج كان بعد الهجرة وأن
النبي كان قادر على الحج في سنة ثمان وفي سنة تسع ولم يحج إلا في عشر وأجيب بأنه
عليه السلام كان عالما بإدراكه فلذلك أخره بخلاف غيره مع ورود الوعيد في تأخيره
بعد الوجوب الثاني إنما تركه لشهرته عندهم وهذا أيضا
(1/310)
ليس بجيد لأنه عند غيرهم أشهر
منه عندهم الثالث إنما تركه لأنه لم يكن لهم سبيل إليه من أجل كفار مضر وهذا أيضا
ليس بجيد لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة ترك الأخبار به ليعمل به عند الإمكان على
أن الدعوى أنهم كانوا إلا سبيل لهم إلى الحج باطلة لأن الحج يقه في الأشهر الحرم
وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها لكن يمكن أن يقال إنما أخبرهم ببعض الأوامر
لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون به الجنة فاقتصر في المناهى عن الانتباذ في
الأوعية لكثرة تعاطيهم لها الرابع وهو المتعمد عليه ما أجاب به القاضي عياض من أن
السبب في كونه لم يذكر الجح لأنه لم يكن فرض لأن قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح
مكة والحج فرض في سنة تسع فإن قلت الأصح أن الحج فرض سنة ست وقدومهم في سنة ثمان
أو عام الفتح كما نقل عنه وقد ذكرناه قلت اعتماد القاضي على أنه فرض في سنة تسع
فإن قلت أخرج البيهقي في السنن الكبير من طريق أبي قلابة عن أبي زيد الهروي عن قرة
في هذا الحديث وفيه ذكر الحج ولفظه وتحجوا البيت الحرام ولم يتعرض لعدد قلت هذه
رواية شاذة وقد أخرجه البخاري ومسلم ومن استخرج عليهما والنسائي وابن خزيمة من
طريق قرة ولم يذكر أحد منهم الحج ومنها ما قيل لم عدل عن لفظ المصدر الصريح في
قوله وأن تعطوا من المغنم إلى ما في معنى المصدر وهي أن مع الفعل أجيب بأنه
للإشعار بمعنى التجدد الذي للفعل لأن سائر الأركان كانت ثابتة قبل ذلك بخلاف إعطاء
الخمس فإن فرضيته كانت متجددة ومنها ما قيل لم خصصت الأوعية المذكورة بالنهى أجيب
بأنه يسرع إليه الاسكار فيها فربما شربه بعد إسكاره من لم يطلع عليه ومنها ما قيل
ما الحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير في قوله بأربع وعن أربع أجيب لأجل تشويق
النفس إلى التفصيل لتسكن إليه ولتحصيل حفظها للسامع حتى إذا نسي شيئا من تفاصيل ما
أجمل طلبته نفسه بالعدد فإذا لم يستوف العدد الذي حفظه علم أنه قد فاته بعض ما سمع
فافهم والله أعلم بالصواب
41 -
( باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرىء ما نوى )
الكلام فيه على وجوه الأول التقدير هذا باب بيان ما جاء وارتفاع الباب على أنه خبر
مبتدأ محذوف وهو مضاف إلى كلمة ما التي هي موصولة وأن مفتوحة في محل الرفع على
أنها فاعل جاء والمعنى ما ورد في الحديث إن الأعمال بالنية أخرجه البخاري ههنا
بهذا اللفظ على ما يأتي الآن وكذلك أخرجه بهذا اللفظ في باب هجرة النبي وقد ذكرنا
في أول الكتاب أنه أخرج هذا الحديث في سبعة مواضع عن سبعة شيوخ وقوله ولكل امرىء
ما نوى من بعض هذا الحديث وقوله والحسبة ليس من لفظ الحديث أصلا لا من هذا الحديث
ولا من غيره وإنما أخذه من لفظة يحتسبها التي في حديث أبي مسعود رضي الله عنه الذي
ذكره في هذا الباب فإن قلت والحسبة عطف على قوله بالنية وداخل في حكمه وقوله ما
جاء يشمل كليهما وكل منهما يؤذن بأنه من لفظ الحديث وليس كذلك قلت لا نسلم أما
المعطوف فلا يلزم أن يكون مشاركا للمعطوف عليه في جميع الأحكام وأما شمول قوله ما
جاء كلا اللفظين فإنه أعم أن يكون باللفظ المروي بعينه أو بلفظ يدل عليه مأخوذ منه
وقوله الحسبة إسم من قوله يحتسبها الذي ورد في حديث أبي مسعود رضي الله عنه فحينئذ
دخلت هذه اللفظة تحت قوله ما جاء فإن قلت سلمنا ذلك ولكن قوله ولكل امرىء ما نوى
من تتمة قوله الأعمال بالنية وقوله والحسبة ليس منه ولا من غيره بهذا اللفظ فكان
ينبغي أن يقول باب ما جاء أن الأعمال بالنية ولكل امرىء ما نوى والحسبة قلت نعم
كان هذا مقتضى الظاهر ولكن لما كان لفظ الحسبة من الاحتساب وهو الإخلاص كان ذكره
عقيب النية أمس من ذكره عقيب قوله ولكل امرىء ما نوى لأن النية إنما تعتبر إذا
كانت بالإخلاص قال الله تعالى مخلصين له الدين وجواب آخر وهو أنه عقد هذا الباب
على ثلاث تراجم الأولى هي أن الأعمال بالنية والثانية هي الحسبة والثالثة هي قول
ولكل امرىء ما نوى ولهذا أخرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث لكل ترجمة حديث فحديث عمر
رضي الله عنه لقوله الأعمال بالنية وحديث أبي مسعود رضي الله تعالى عنه لقوله
والحسبة وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لقوله ولكل امرىء ما نوى فلو أخر لفظ
الحسبة إلى آخر الكلام وذكره عقيب قوله
(1/311)
ولكل امرىء ما نوى كان يفوت
قصده التنبيه على ثلاث تراجم وإنما كان يفهم منه ترجمتان الأولى من قوله الأعمال
بالنية ولكل امرىء ما نوى والثانية من قوله والحسبة فانظر إلى هذه النكات هل ترى
شارحا ذكرها أو حام حولها وكل ذلك بالفيض الإلهي والعناية الرحمانية
الوجه الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو
الأعمال التي يدخل بها العبد الجنة ولا يكون العمل عملا إلا بالنية والإخلاص فلذلك
ذكر هذا الباب عقيب الباب المذكور وأيضا فالبخاري أدخل الإيمان في جملة الأعمال
فيشترط فيها النية وهو اعتقاد القلب بقوله عليه الصلاة و السلام الأعمال بالنية
وقال ابن بطال أراد البخاري الرد على المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقد
القلب ألا يرى إلى تأكيده بقوله فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله إلى آخر الحديث
الوجه الثالث إن الحسبة بكسر الحاء وسكون السين المهملة اسم من الاحتساب والجمع
الحسب يقال احتسبت بكذا أجرا عند الله أي اعتددته أنوي به وجه الله تعالى ومنه
قوله عليه السلام من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وفي حديث
عمر رضي الله عنه يا أيها الناس احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر
عمله وأجر حسبته وقال الجوهري يقال احتسبت بكذا أجرا عند الله والاسم الحسبة
بالكسر وهي الأجر وكذا قال في ( العباب ) الحسبة بالكسر الأجر ويقال إنه يحسن
الحسبة في الأمر إذا كان حسن التدبير له والحسبة أيضا من الحساب مثال العقدة
والركبة وقال ابن دريد احتسبت عليه بكذا أي أنكرته عليه ومنه محتسب البلد واحتسب
فلان ابنا أو بنتا إذا مات وهو كبير فإن مات صغيرا قيل افترطه وقال ابن السكيت
احتسبت فلانا اختبرت ما عنده والنساء يحتسبن ما عند الرجال لهن أي يختبرن وقال
بعضهم المراد بالحسبة طلب الثواب قلت لم يقل أحد من أهل اللغة إن الحسبة طلب
الثواب بل معناها ما ذكرناه من أصحاب اللغات وليس في اللفظ أيضا ما يشعر بمعنى
الطلب وإنما الحسبة هو الثواب على ما فسره الجوهري والثواب هو الأجر على أنه لا
يفسر به في كل موضع ألا ترى إلى حديث عمر رضي الله عنه فإن فيه أجر حسبته ولو فسرت
الحسبة بالأجر في كل المواضع يصير المعنى فيه كتب له أجر عمله وأجر أجره وهذا لا
معنى له وإنما المعنى له أجر عمله وأجر احتساب عمله وهو إخلاصه فيه أو المعنى من
اعتد عمله ناويا كتب له أجر عمله وأجر نيته
فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام
هذا من مقول البخاري لا من تتمة ما جاء والدليل عليه ماصرح به في رواية ابن عساكر
فقال قال أبو عبد الله فدخل فيه الإيمان إلخ والمراد بأبي عبد الله هو البخاري
نفسه فإن قلت ما الفاء في قوله فدخل قلت فاء جواب شرط محذوف تقديره إذا كان
الأعمال بالنية فدخل فيه الإيمان الخ والضمير في فيه يرجع إلى ما تقدم من قوله باب
ما جاء أن الأعمال بالنية الخ والتذكير باعتبار المذكور
ثم اعلم أنه ذكر هنا سبعة أشياء
الأول الإيمان فدخلوا في ذلك على ما ذهب إليه البخاري من أن الإيمان عمل وقد علم
أن معنى الإيمان إما التصديق أو معرفة الله تعالى بأنه واحد لا شريك له وكل ما جاء
من عنده حق فإن كان المراد الأول فلا دخل للنية فيه لأن الشارع قال الأعمال بالنية
والأعمال حركات البدن ولا دخل للقلب فيه وإن كان المراد الثاني فدخول النية فيه
محال لأن معرفة الله تعالى لو توقفت على النية مع أن النية قصد المنوي بالقلب لزم
أن يكون عارفا بالله قبل معرفته وهو محال ولأن المعرفة وكذا الخوف والرجاء متميزة
لله تعالى بصورتها وكذا التسبيح وسائر الأذكار والتلاوة لا يحتاج شيء منها إلى نية
التقرب
الثاني الوضوء فدخوله في ذلك على مذهبه وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وعامة أصحاب
الحديث وعن أبي حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حيي لا يدخل وقالوا ليس
الوضوء عبادة مستقلة وإنما هي وسيلة إلى الصلاة وقال الخصم ونوقضوا بالتيمم فإنه
وسيلة وقد اشترط الحنفية النية فيه قلت هذا التعليل ينتقض بتطهير الثوب والبدن عن
الخبث فإنه طهارة ولم يشترط فيها النية فإن قالوا الوضوء تطهير حكمي ثبت شرعا غير
معقول لأن لا يعقل في المحل نجاسة تزول بالغسل إذ الأعضاء طاهرة حقيقة وحكما إما
حقيقة فظاهر وأما حكما فلأنه لو صلى إنسان وهو حامل محدث جازت الصلاة وإذا ثبت أنه
تعبدي وحكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة كان مثل التيمم حيث جعل
الشارع ما ليس بمطهر حقيقة مطهرا حكما فيشترط فيه النية كالتيمم تحقيقا لمعنى
التعبد إذ
(1/312)
العبادة لا تتأدى بدون النية
بخلاف غسل الخبث فإنه معقول لما فيه من إزالة عين النجاسة عن البدن أو الثوب فلا
يتوقف على النية قلنا الماء مطهر بطبعه لأنه خلق مطهرا قال الله تعالى وأنزلنا من
السماء ماء طهورا ( الفرقان 48 ) كما أنه مزيل للنجاسة ومطهر بطبعه وإذا كان كذلك
تحصل الطهارة باستعماله سواء نوى أو لم ينو كالنار يحصل بها الإحراق وإن لم يقصد
والحدث يعم البدن لأنه غير متجزىء فيسري إلى الجميع ولهذا يوصف به كله فيقال فلان
محدث كسائر الصفات إذ ليس بعض الأعضاء أولى بالسراية من البعض إذ لو خصص بعض
الأعضاء بالحدث لخص موضع خروج النجاسة بذلك لأنه أولى المواضع به لخروج النجاسة
منه لكنه لم يخص فإنه لا يقال مخرجه محدث فإذا لم يخص المخرج بذلك فغيره أولى وإذا
ثبت أن البدن كله موصوف بالحدث كان القياس غسل كله إلا أن الشرع اقتصر على غسل
الأعضاء الأربعة التي هي الأمهات للأعضاء تيسيرا وأسقط غسل الباقي فيما يكثر وقوعه
كالحدث الأصغر دفعا للحرج وفيما عداه وهو الذي لا يكثر وجوده كالحدث الأكبر مثل
الجنابة والحيض والنفاس أقر على الأصل حيث أوجب غسل البدن فيها فثبت بما ذكرنا أن
ما لا يعقل معناه وصف كل البدن بالنجاسة مع كونه طاهرا حقيقة وحكمها دون تخصيص
المخرج وكذا الاقتصار على غسل بعض البدن وهو الأعضاء الأربعة بعد سراية الحدث إلى
جميع البدن غير معقول وكونهما مما لا يعقل لا يوجب تغيير صفة المطهر فبقي الماء
مطهرا كما كان فيطهر مطلقا والنية لو اشترطت إنما تشترط للفعل القائم بالماء وهو
التطهير لا الوصف القائم بالمحل وهو الحدث لأنه ثابت بدون النية وقد بينا أن الماء
فيما يقوم به من صفة التطهير لا يحتاج إلى النية لأنه مطهر طبعا فيكون التطهير به
معقولا فلا يحتاج إلى النية كما لا يحتاج في غسل الخبث بخلاف التراب فإنه غير مطهر
بطبعه لكونه ملوثا بالطبع وإنما صار مطهرا شرعا حال إرادة الصلاة بشرط فقد الماء
فإذا وجدت نية إرادة الصلاة صار مطهرا وبعد إرادة الصلاة وصيرورته مطهرا شرعا
مستغن عن النية كما استغنى الماء عنها بلا فرق بينهما
الثالث الصلاة ولا خلاف أنها لا تجوز إلا بالنية
الرابع الزكاة ففيها تفصيل وهو أن صاحب النصاب الحولي إذا دفع زكاته إلى مستحقيها
لا يجوز له ذلك إلا بنية مقارنة للأداء أو عند عزل ما وجب منها تيسيرا له وأما إذا
كان له دين على فقير فأبرأه عنه سقط زكاته عنه نوى به الزكاة أو لا ولو وهب دينه
من فقير ونوى عنه زكاة دين آخر على رجل آخر أو نوى زكاة عين له لا يصح ولو غلب
الخوارج على بلدة فأخذوا العشر سقط عن أرباب الأموال بخلاف الزكاة فإن للإمام أن
يأخذها ثانيا لأن التقصير ههنا من جهة صاحب المال حيث مر بهم وهناك التقصير في
الإمام حيث قصر فيهم وقالت الشافعي السلطان إذا أخذ الزكاة فإنها تسقط ولو لم ينو
صاحب المال لأن السلطان قائم مقامه قلت كان ينبغي على أصلهم أن لا تسقط إلا بالنية
منه لأن السلطان قائم مقامه في دفعها إلى المستحقين لا في النية ولا حرج في اشتراط
النية عند أخذ السلطان
الخامس الحج ولا خلاف فيه أنه لا يجوز إلا بالنية لأنه داخل في عموم الحديث فإن
قلت قال الشافعي إذا نوى الحج عن غيره ينصرف إلى حج نفسه ويجزيه عن فرضه وقد ترك
العمل بعموم الحديث قلت قالت الشافعية أخرجه الشافعي من عموم الحديث بحديث شبرمة
والعمل بالخاص مقدم لأنه جمع بين الدليلين وحديث شبرمة رواه أبو داود عن إسحاق بن
إسماعيل وهناد بن السري المعنى واحد قال إسحاق أنبأنا عبدة بن سليمان عن ابن أبي
عروبة عن قتادة عن عروة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي سمع رجلا يقول لبيك
عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ له أو قريب له قال حججت عن نفسك قال لا قال حج عن
نفسك ثم حج عن شبرمة رواته كلهم رجال مسلم إلا إسحاق بن إسماعيل شيخ أبي داود وقد
وثقه بعضهم وقال البيهقي هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه وقد أخرجه ابن
ماجه أيضا في ( سننه ) وجاء في رواية البيهقي فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة
وفي رواية له أيضا هذه عنك وحج عن شبرمة وقال فهم من هذا الحديث أنه لا بد من
تقديم فرض نفسه وهو قول ابن عباس والأوزاعي وأحمد وإسحاق واحتجت الحنفية بما رواه
البخاري ومسلم أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج وإنه شيخ
كبير لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك من غير استفسار هل حججت
أم لا وهذا أصح من حديث شبرمة على أن الدارقطني قال الصحيح من الرواية اجعلها في
نفسك ثم حج عن شبرمة قالوا كيف يأمره بذلك والإحرام
(1/313)
وقع عن الأول قلنا يحتمل أنه
كان في ابتداء الإسلام حين لم يكن الإحرام لازما على ما روي عن بعض الصحابة أنه
تحلل في حجة الوداع عن الحج بأفعال العمرة فكان يمكنه فسخ الأول وتقديم حج نفسه
والزيادات التي رواها البيهقي لم تثبت
السادس الصوم ففيه خلاف فمذهب عطاء ومجاهد وزفر أن الصحيح المقيم في رمضان لا
يحتاج إلى نية لأنه لا يصح في رمضان النفل فلا معنى للنية وعند الأئمة الأربعة لا
بد من النية غير أن تعيين الرمضانية ليس بشرط عند الحنفية حتى لو صام رمضان بنية
قضاء أو نذر عليه أو تطوع أنه يجزىء عن فرض رمضان فإن قلت لم قدم الحج على الصوم
قلت بناء على ما ورد عنده في حديث بني الإسلام على خمس وقد تقدم
السابع الأحكام قال الكرماني قوله الأحكام أي بتمامها فيدخل فيه تمام المعاملات
والمناكحات والجراحات إذ يشترط في كلها القصد إليه ولهذا لو سبق لسانه من غير قصد
إلى بعت ورهنت وطلقت ونكحت لم يصح شيء منها قلت كيف يصح أن يقال الأحكام بتمامها
وكثير منها لا يحتاج إلى نية بخلاف بين العلماء فإن قال هذا بناء على مذهبه فمذهبه
ليس كذلك فإن القاضي أبا الطيب نقل عن البويطي عن الشافعي أن من صرح بلفظ الطلاق
والظهار والعتق ولم يكن له نية يلزمه في الحكم وكذلك أداء الدين ورد الودائع
والأذان والتلاوة والأذكار والهداية إلى الطريق وإماطة الأذى عبادات كلها تصح بلا
نية إجماعا وقال بعضهم والأحكام أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى
المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها قلت هذا أيضا مثل ذلك فإن رد
الودائع فيما تقع به فيه المحاكمة مع أن النية ليست بشرط فيه إجماعا وكذلك أداء
الدين فإن قلت مؤدي الدين أو راد الوديعة يقصد براءة الذمة وذلك عبادة قلت نحن لا
ندعي أن النية لا توجد في مثل هذه الأشياء وإنما ندعي عدم اشتراطها ومؤدي الدين
إذا قصد براءة الذمة برئت ذمته وحصل به الثواب وليس لنا فيه نزاع وإذا أدى من غير
نية براءة الذمة هل يقول أحد إن ذمته لا تبرأ
وقال ابن المنير كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلا بل المقصود به طلب الثواب فالنية
شرط فيه وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة وتقاضته الطبيعة فلا يشترط فيه النية إلا لمن
قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب قال وإنما اختلفت العلماء في بعض الصور
لتحقق مناط التفرقة قال وأما ما كان من المعاني المختصة كالخوف والرجاء فهذا لا
يقال فيه باشتراط النية لأنه لا يمكن إلا منويا ومتى فرضت النية مفقودة فيه
استحالت حقيقته فالنية فيها شرط عقلي وكذلك لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل
قلت فيه نظر من وجوه الأول في قوله كل عمل لا يظهر له فائدة فإنه منقوض بتلاوة
القرآن والأذان وسائر الأذكار فإنها أعمال لا تظهر لها فائدة عاجلا بل المقصود
منها طلب الثواب مع أن النية ليست بشرط فيها بلا خلاف الثاني في قوله وكل عمل ظهرت
إلى آخره فإنه منقوض أيضا بالبيع والرهن والطلاق والنكاح بسبق اللسان من غير قصد
فإنه منقوض لم يصح شيء منها على أصلهم لعدم النية الثالث في قوله وأما ما كان من
المعاني المختصة إلى آخره فإنه جعل النية فيه حقيقة تلك المعاني ثم قال فالنية
فيها شرط عقلي وبين الكلامين تناقض الرابع في قوله وكذلك لا تشترط النية للنية
فرارا من التسلسل فإنه بنى عدم اشتراط النية للنية على الفرار من التسلسل وليس
كذلك لأن الشارع شرط النية للأعمال وهي حركات البدن والنية خطرة القلب وليست من
الأعمال ويدل عليه أيضا قوله نية المؤمن خير من عمله فإذا كانت النية عملا يكون
المعنى عمل المؤمن خير من عمله وهذا لا معنى له
وقال الله تعالى قل كل يعمل على شاكلته على نيته
قال الكرماني الظاهر أنه جملة حالية لا عطف وحكاه بعضهم عنه ثم قال أي مع أن الله
قال قلت ليت شعري ما هذه الحال وأين ذو الحال وهل هي مبنية لهيئة الفاعل أو لهيئة
المفعول على أن القواعد النحوية تقتضي أن الفعل الماضي المثبت إنما يقع حالا إذا
كان فيه قد لأن الماضي من حيث إنه منقطع الوجود عن زمان الحال مناف له فلا بد من
قد لتقربه من الحال لأن القريب من الشيء في حكمه فإن قلت لا يلزم أن تكون ظاهرة بل
يجوز أن تكون مضمرة كما في قوله تعالى أو جاءكم حصرت صدورهم ( النساء 90 ) أي قد
حصرت قلت أنكر الكوفيون إضمار قد وقالوا هذا خلاف الأصل أولوا الآية بأوجاءكم
حاصرة صدورهم نعم يمكن أن تجعل الواو هنا للحال لكن بتقدير محذوف وتقدير هذه
الجملة إسمية وهو أن يقال تقديره وكيف لا يدخل الإيمان وأخواته التي ذكرها في قوله
الأعمال بالنية والحال أن الله تعالى قال قل كل يعمل
(1/314)
على شاكلته ( الإسراء 84 )
وقوله لا عطف ليس بسديد لأنه يجوز أن يكون للعطف على محذوف تقديره يدخل فيه
الإيمان الخ لأنه قال الأعمال بالنية وقال تعالى قل كل يعمل على شاكلته ( الإسراء
84 ) وتفسير بعضهم بقوله أي إن الله تعالى يشعر بأن الواو ههنا للمصاحبة وقد تبع
الكرماني بأنها للحال وبينهما تناف على أن الواو بمعنى مع لا تخلو إما أن تكون من
باب المفعول معه أو هي الواو الداخلة على المضارع المنصوب لعطفه على اسم صريح أو
مؤول كقوله ( ولبس عباءة وتقر عيني )
والثاني شرطه أن يتقدم الواو نفي أو طلب ويسمي الكوفيون هذه واو الصرف وليس النصب
بها خلافا لهم ومثاله ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( آل عمران
142 ) وقول الشاعر
( لا تنه عن خلق وتأتي مثله )
والواو هنا ليست من القبيلين المذكورين ويجوز أن تكون الواو ههنا بمعنى لام
التعليل على ما نقل عن المازري أنها تجيء بمعنى لام التعليل فالمعنى على هذا فدخل
فيه الإيمان وأخواته لقوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته ( الإسراء 84 ) قال الليث
الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله والمعنى أن كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل
أخلاقه فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعمة واليأس عند الشدة
والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء ويدل عليه
قوله تعالى فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( الإسراء 84 ) وقال الزجاج على شاكلته
على طريقته ومذهبه ونقل ذلك عن مجاهد أيضا ومن هذا أخذ الزمخشري وقال أي على مذهبه
وطريقته التي تشاكل كل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق
التي تتشعب منه والدليل عليه قوله فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( الإسراء 84 ) أي
أسد مذهبا وطريقة وقوله على نيته تفسير لقوله على شاكلته وحذف منه حرف التفسير
وهذا التفسير روي عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة المزني وقتادة فيما أخرجه عبد بن
حميد والطبري عنهم وفي ( العباب ) وقوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته ( الإسراء 84
) أي على ناحيته وطريقته وقال قتادة أي على جانبه وعلى ما ينوي وقال ابن عرفة أي
على خليقته ومذهبه وطريقته ثم قال في آخر الباب والتركيب يدل معظمه على المماثلة
قال النبي ولكن جهاد ونية
هو قطعة من حديث لابن عباس رضي الله عنهما أوله لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية
وإذا استنفرتم فانفروا أخرجه ههنا معلقا وأخرجه مسندا في الحج والجهاد والجزية أما
في الحج فعن عثمان بن أبي شيبة وفيه وفي الجزية عن علي بن عبد الله كلاهما عن جرير
وأما في الجهاد فعن آدم عن شيبان وعن علي بن عبد الله وعمرو بن علي كلاهما عن يحيى
بن سعيد عن سفيان وأخرجه مسلم في الجهاد عن يحيى بن يحيى وفيه وفي الحج عن إسحاق
بن إبراهيم كلاهما عن جرير وفيهما أيضا عن محمد بن رافع عن يحيى بن آدم وفي نسخة
عن محمد بن رافع وإسحاق عن يحيى بن آدم عن مفضل بن مهلهل وفي الجهاد أيضا عن أبي
بكر وأبي كريب كلاهما عن وكيع عن سفيان وعن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن
إسرائيل وفي نسخة عن شيبان بدل إسرائيل خمستهم عن منصور عنه به وأخرجه أبو داود في
الجهاد والحج عن عثمان به مقطعا وأخرجه الترمذي في السير عن أحمد بن عبدة الضبي عن
زياد بن عبد الله البكائي عن منصور به وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي فيه وفي
البيعة عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن سعيد به وفي الحج عن محمد بن قدامة عن جرير
وعن محمد بن رافع به مختصرا والمعنى أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة
ولكن حصلوه في الجهاد ونية صالحة وفيه الحث على نية الخير مطلقا وإنه يثاب على النية
قوله جهاد مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن طلب الخير جهاد ونية
ونفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة
هذا من معنى حديث أبي مسعود الذي يذكره عن قريب قوله ونفقة الرجل كلام إضافي مبتدأ
وخبره قوله صدقة وقوله يحتسبها حال من الرجل أي حال كونه مريدا بها وجه الله تعالى
وقد فسرنا معنى الاحتساب مستوفى عن قريب وقال الكرماني ذكر هذا تقوية لما ذكره من
قبل قلت لما عقد الباب على ثلاث تراجم ذكر لكل ترجمة ما يطابقها من الكلام بعد
قوله فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام فقوله وقال
تعالى قل كل يعمل على شاكلته ( الإسراء 84 ) لقوله إن الأعمال بالنية وقوله قال
النبي ولكن جهاد ونية لقوله ولكل امرىء ما نوى
(1/315)
وقوله ونفقة الرجل على أهله
يحتسبها صدقة لقوله والحسبة ولذلك ذكر ثلاثة أحاديث فحديث عمر رضي الله عنه لقوله
الأعمال بالنية وحديث أبي مسعود لقوله والحسبة وحديث سعد بن أبي وقاص لقوله ولكل
امرىء ما نوى
54 - حدثنا ( عبد الله بن مسلمة ) قال أخبرنا ( مالك ) عن ( يحيى بن سعيد ) عن (
محمد بن إبراهيم ) عن ( علقمة بن وقاص ) عن ( عمر ) أن رسول الله قال الأعمال
بالنية ولكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه
( الحديث 54 - انظر الحديث رقم1 )
قد مر الكلام فيه مستوفى في أول الكتاب لأنه صدر كتابه بهذا الحديث وكذلك الكلام
في رجاله ومسلمة بفتح الميمين واللام وقال الكرماني فإن قلت لما كان الحديث بتمامه
صحيحا ثابتا عند البخاري لم خرمه في صدر الكتاب مع أن الخرم جوازه مختلف فيه قلت
لأخرم بالجزم لأن المقامات مختلفة فلعل في مقام بيان أن الإيمان من النية واعتقاد
القلب سمع الحديث تماما وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك
القدر الذي روى ثم إن الخرم محتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه ثم إن كان
منه فخرمه ثمة لأن المقصود يتم بذلك المقدار فإن قلت كان المناسب أن يذكر عند
الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده وهو أن النية ينبغي أن تكون لله تعالى ولرسوله قلت لعله
نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس انتهى قلت هذا كله إطناب في الكلام والذي
ينبغي أن يقال إن هذه الزيادة والنقصان في هذا الحديث وأمثاله من اختلاف الرواة
فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم فيه لا من البخاري ولا من شيوخه وإنما البخاري
ذكر كل ما رواه من الأحاديث التي فيها زيادة ونقصان بحسب ما يناسب الباب الذي وضعه
ترجمة له
55 - حدثنا ( حجاج بن منهال ) قال حدثنا ( شعبة ) قال أخبرني ( عدي بن ثابت ) قال
سمعت ( عبد الله بن يزيد ) عن ( أبي مسعود ) عن النبي قال إذا أنفق الرجل على أهله
يحتسبها فهو له صدقة
قد قلنا إن الباب معقود على ثلاث تراجم لكل ترجمة حديث يطابقها وهذا الحديث
للترجمة الثانية وهي قوله والحسبة
بيان رجاله وهم خمسة الأول الحجاج بن منهال بكسر الميم أبو محمد الأنماطي السلمي
مولاهم وغيره سمع شعبة من الأعلام وروى عنه محمد بن يحيى الذهلي وابن وارة والبغوي
وإسماعيل القاضي والبخاري وآخرون اتفق على توثيقه وكان رجلا صالحا وكان سمسارا
يأخذ من كل دينار حبة فجاء خراساني موسر من أصحاب الحديث فاشترى له أنماطا وأعطاه
ثلاثين دينارا فقال خذ هذه سمسرتك قال دنانيرك أهون علي من هذا التراب هات من كل
دينار حبة وأخذ ذلك قال أحمد بن عبد الله هو بصري ثقة مات بالبصرة سنة ست عشرة أو
سبعة عشرة ومائتين قال الشيخ قطب الدين في ( شرحه ) وروى له البخاري وروى مسلم
والترمذي والنسائي وابن ماجه عن رجل عنه وقال النووي في ( شرحه ) روى عنه البخاري
ومسلم وأبو داود وقال المزني في ( تهذيبه ) روى له الستة والصواب أن البخاري
ومسلما وأبا داود رووا عنه والثلاثة البقية رووا له وليس في الكتب الستة حجاج بن
منهال سواه الثاني شعبة بن حجاج وقد مر ذكره غير مرة الثالث عدي بن ثابت الأنصاري
الكوفي سمع جده لأمه عبد الله بن زيد الأنصاري والبراء بن عازب وغيرهما من الصحابة
روى عنه الأعمش وشعبة وغيرهما قال أحمد ثقة وقال أبو حاتم صدوق وكان إمام مسجد
الشيعة بالكوفة وقاضيهم مات سنة ست عشرة ومائة روى له الجماعة الرابع عبد الله بن
يزيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة واسمه عبد الله بن خيثم بن مالك بن أوس
أخي الخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء لطول عنقه ابن عمرو مزيقيا ابن عامر ماء
السماء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن
الأزد الأنصاري الخطمي الصحابي سكن الكوفة وكان أميرا عليها شهد
(1/316)
الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة
وشهد صفين والجمل والنهروان مع علي رضي الله عنه وكان الشعبي كاتبه وكان من أفاضل
الصحابة وقيل إن لأبيه يزيد صحبة روي له عن رسول الله سبعة وعشرون حديثا أخرج
البخاري منها حديثين أحدهما في الاستسقاء موقوف وفي المظالم حديث النهي عن النهبى
والمثلة ومسلم أحدهما وأخرجا له عن البراء وأبي مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم
مات زمن ابن الزبير رضي الله عنهما قال الواقدي وفي الصحابة عبد الله بن زيد جماعة
هذا أحدهم والثاني عبد الله بن يزيد القاري له ذكر في حديث عائشة أنه عليه السلام
سمع قراءته والثالث عبد الله بن يزيد النخعي والرابع عبد الله بن زيد البجلي له
حديث إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه أورده ابن قانع والخامس غلط فيه ابن المبارك في
حديث ابن مربع كانوا على مساجدكم الخامس أبو مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة
بفتح الهمزة وكسر السين وقيل بضمها وقيل يسيرة بضم أوله بن عسيرة بفتح العين وكسر
السين المهملتين ابن عطية بن جدارة بكسر الجيم وقال ابن عبد البر بضم الخاء
المعجمة ابن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي البدري شهد العقبة مع السبعين وكان
أصغرهم وشهد أحدا ثم الجمهور على أنه لم يشهد بدرا وإنما سكنها وقال حمدون بن شهاب
الزهري وابن إسحاق صاحب ( المغازي ) والبخاري في ( صحيحه ) شهدها وكذا الحكم بن
عتبة وقال ابن سعد قال محمد بن عمر وسعد بن إبراهيم وغيرهما لم يشهد بدرا وقال
الحكم وغيره من أهل الكوفة شهدها وأهل المدينة أعلم بذلك روي له عن رسول الله مائة
حديث وحديثان اتفقا منها على تسعة وللبخاري حديث ولمسلم سبعة روى عنه عبد الله بن
يزيد الخطمي وابنه بشير وغيرهما سكن الكوفة ومات بها وقيل بالمدينة قبل الأربعين
قيل سنة إحدى وثلاثين وقيل سنة إحدى أو اثنتين وأربعين روى له الجماعة وفي الصحابة
أبو مسعود هذا وأبو مسعود الغفاري قيل اسمه عبد الله وثالث الظاهر أنه الأول
بيان الأنساب الأنماطي بفتح الهمزة وسكون النون نسبة إلى بيع الأنماط وهو جمع نمط
وهو ضرب من البسط السلمي بضم السين وفتح اللام نسبة إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن
حفصة بن قيس غيلان وهو من شاذ النسب والقياس السليمي وقال الرشاطي السلمي في قيس
غيلان وفي الأزد فالذي في قيس غيلان سليم بن منصور كما ذكرنا والذي في الأزد سليم
بن فهم بن غنم بن دوس الخطمي بفتح الخاء المعحمة وسكون الطاء نسبة إلى خطمة أحد
أجداد عبد الله بن يزيد وقد ذكرنا أن اسمه عبد الله وإنما سمي خطمة لأنه ضرب رجلا
على خطمه أي أنفه وقال الجوهري الخطم من كل طائر منقاره ومن كل دابة مقدم أنفه
وفيه والمخاطم الأنوف واحدها مخطم بكسر الطاء ورجل أخطم طويل الأنف البدري بفتح
الباء الموحدة نسبة إلى بدر وهو الموضع الذي لقي فيه رسول الله المشركين من قريش
فأعز الإسلام وأظهر دينه وهذا الموضع يسمى بدرا باسم الذي احتفر فيه البئر وهو بدر
بن يخلد بن النضر بن كنانة بينه وبين المدينة ثمانية برد وميلان
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والسماع والعنعنة ومنها أن رواته
ما بين بصري وواسطي وكوفي ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي ومنها أنه وقع
للبخاري غالبا خماسيا ولمسلم من جميع طرقه سداسيا
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا عن حجاج بن منهال وفي المغازي
عن مسلم وفي النفقات عن آدم وأخرجه مسلم في الزكاة عن ابن معاذ عن أبيه وعن محمد
بن بشار وأبي بكر بن رافع عن غندر وعن أبي كريب عن وكيع كلهم عن شعبة عن عدي بن
ثابت عن عبد الله بن يزيد عن أبي مسعود به وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي في الزكاة
عن ابن بشار عن غندر وفي عشرة النساء عن إسماعيل بن مسعود عن بشر بن المفضل كلاهما
عن شعبة
بيان اللغات قوله انفقمن إنفاق المال وهو إنفاده وإهلاكه والنفقة اسم وهي من الدراهم
وغيرها ويجمع على نفاق بالكسر نحو ثمرة وثمار وقال الزمخشري انفق الشيء وأنفده
أخوان وعن يعقوب نفق الشيء ونفد واحد وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على
معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت قلت معنى قوله إخوان بينهما الاشتقاق
الأكبر فإن بينهما تناسبا في التركيب وفي المعنى لاشتمال كل منهما على معنى الخروج
والذهاب قوله على أهله وفي ( العباب ) الأهل أهل الرجل وأهل الدار وكذلك الأهلة
والجمع أهلات وأهلون والأهالي زادوا فيه الياء على غير قياس
(1/317)
كما جمعوا ليلا على ليالي وقد
جاء في الشعر ( أهال مثل فرخ وأفراخ )
وأنشد الأخفش
( وبلدة ما الأنس من أهالها ترى بها العوهق من وائالها )
ومنزل أهل به أهله وقال ابن السكيت مكان مأهول فيه أهله ومكان آهل له أهل وقال ابن
عباد يقولون هو أهلة لكل خير بالهاء والفرق بين الأهل والآل أن الآل يستعمل في
الأشراف وفي ( العباب ) آل الرجل أهله وعياله وآله أيضا أتباعه قال تعالى كدأب آل
فرعون ( آل عمران 11 الأنفال 52 و 54 ) وقال ابن عرفة يعني من آل إليه بدين أو
مذهب أو نسب وآل النبي عشيرته وقال أنس رضي الله عنه سئل رسول الله من آل محمد قال
كل تقي قلت هو واوي فلذلك ذكره أهل اللغة في باب أول قوله يحتسبها من الاحتساب وقد
فسرناه عن قريب قوله صدقة وهي ما تصدقت به على الفقراء
بيان الإعراب قوله إذا كلمة فيها معنى الشرط و انفق الرجل جملة من الفعل والفاعل
فعل الشرط قوله على أهله يتعلق بانفق قوله يحتسبها جملة فعلية مضارعية وقعت حالا
من الرجل والمضارع إذا وقع حالا وكان مثبتا لا يجوز فيه الواو على ما عرف قوله فهو
له صدقة جواب الشرط فلذلك دخلت فيها الفاء قوله فهو مبتدأ والجملة أعني قوله له
صدقة خبره فقوله صدقة مبتدأ و له مقدما خبره والضمير أعني هو يرجع إلى الإنفاق
الذي يدل عليه قوله أنفق كما في قوله تعالى اعدلوا هو أقرب للتقوى ( المائدة 8 )
أي العدل أقرب إلى التقوى
بيان المعاني في قوله إذا أنفق حذف المعمول ليفيد التعميم والمعنى إذا أنفق أي
نفقة كانت صغيرة أو كبيرة وفيه ذكر إذا دون إن لأن أصل إن عدم الجزم بوقوع الشرط
واصل إذا الجزم به وغلب لفظ الماضي مع إذا على المستقبل في الاستعمال فإن استعمال
إذا أكرمتني أكرمتك مثلا أكثر من استعمال إذا تكرمني أكرمك لكون الماضي أقرب إلى
القطع بالوقوع من المستقبل نظرا إلى اللفظ لا إلى المعنى فإنه يدل على الاستقبال
لوقوعه في سياق الشرط وفيه التنبيه بالحال لإفادة زيادة تخصيص له فكلما ازداد
الكلام تخصيصا ازداد الحكم بعدا كما أنه كلما ازداد عموما ازداد قربا ومتى كان
احتمال الحكم أبعد كانت الفائدة في إيراده أقوى قوله يحتسبها أي يريد بها وجه الله
والنفقة المطلقة في الأحاديث ترد إلى هذا الحديث وأمثاله المقيد بالنية لحديث
امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وامرأة من الأنصار وسؤالهما اتجزىء الصدقة
عنهما على أزواجهما وأيتامهما فقال رسول الله لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة
وقول أم سلمة رضي الله عنهما هل لي أجر في بني أبي سلمة أنفق عليهم فقال رسول الله
نعم لك أجر ما أنفقت وقال القرطبي في قوله يحتسبها أفاد بمنطوقه أن الأجر في
الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة واجبة أو مباحة وأفاد بمفهومه أن من لم يقصد القربة
لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من الواجبة لأنها معقولة المعنى
بيان البيان فيه إطلاق النفقة على الصدقة مجازا إذ لو كانت الصدقة حقيقية كانت
تحرم على الرجل أن ينفق على زوجته الهاشمية ووجود الإجماع على جواز الإنفاق على
الزوجات الهاشميات وغيرها قام قرينة صارفة عن إرادة الحقيقة والعلاقة بين الموضوع
له وبين المعنى المجازي ترتب الثواب عليهما وتشابههما فيه فإن قلت كيف يتشابهان وهذا
الإنفاق واجب والصدقة في العرف لا تطلق إلا على غير الواجب اللهم إلا أن تقيد
بالفرض ونحوه قلت التشبيه في أصل الثواب لا في كميته ولا كيفيته فإن قلت شرط
البيانيون في التشبيه أن يكون المشبه به أقوى وههنا بالعكس لأن الواجب أقوى في
تحصيل الثواب من النفل قلت هذا هو التشابه لا التشبيه والتشبيه لا يشترط فيه ذلك
وتحقيق هذا الكلام أنه إذا أريد مجرد الجمع بين الشيئين في أمر وأنهما متساويان في
جهة التشبيه كعمامتين متساويتين في اللون فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه
ليكون كل واحد من الطرفين مشبها ومشبها به احترازا من ترجيح أحد المتساويين من جهة
التشبيه على الآخر لأن في التشبيه ترجيحا وفي التشابه تساويا ويجوز التشبيه أيضا
في موضع التشابه لكن إذا وقع التشبيه في باب التشابه صح فيه العكس بخلافه فيما
عداه وكان حكم المشبه به على خلاف ما ذكر من أن حقه أن يكون أعرف بجهة التشبيه من
المشبه وأقوى حالا كتشبيه غرة الفرس بالصبح وعكسه فيقال بدا الصبح كغرة الفرس وبدت
غرة الفرس كالصبح متى أريد بوجه الشبه ظهور منير في سواد أكثر منه مظلم
(1/318)
أو حصول بياض فإنه متى كان
المراد بوجه الشبه هذا كان من باب التشابه وينعكس التشبيه لعدم اختصاص وجه الشبه
حينئذ بشيء من الطرفين بخلاف ما لو لم يكن وجه الشبه ذلك كالمبالغة في الضياء فإنه
لا يكون من باب التشابه ولا مما ينعكس في التشبيه قوله على أهله خاص بالولد
والزوجة لأنه إذا كان الإنفاق في الأمر الواجب كالصدقة فلا شك أن يكون آكد ويلزم
منه كونه صدقة في غير الواجب بالطريق الأولى
56 - حدثنا ( الحكم بن نافع ) قال أخبرنا ( شعيب ) عن ( الزهري ) قال حدثني ( عامر
بن سعد ) عن ( سعد بن أبي وقاص ) أنه أخبره أن رسول الله قال إنك لن تنفق نفقة
تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك
هذا الحديث للترجمة الثالثة كما ذكرنا وهذا الإسناد بعينه قد ذكر في باب إذا لم
يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل
والحكم بفتح الكاف هو أبو اليمان الحمصي والزهري هو محمد بن مسلم
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره هذا الحديث قطعة من حديث طويل مشهور أخرجه البخاري
ههنا كما ترى وفي المغازي عن محمد بن يونس وفي الدعوات عن موسى بن إسماعيل وفي
الهجرة عن يحيى بن قزعة ثلاثتهم عن إبراهيم بن سعد وفي الجنائز عن عبد الله بن
يوسف عن مالك وفي الطب عن موسى بن إسماعيل عن عبد العزيز بن أبي سلمة وفي الفرائض
عن أبي اليمان عن شعيب أيضا وعن الحميدي عن سفيان خمستهم عنه به وأخرجه مسلم في
الوصايا عن يحيى بن يحيى عن إبراهيم بن سعد به وعن قتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة
كلاهما عن سفيان به وعن أبي الطاهر بن السرح وحرملة بن يحيى كلاهما عنه به وأخرجه
أبو داود في الوصايا أيضا عن عثمان بن أبي شيبة عن سفيان به وأخرجه الترمذي فيه
أيضا عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن سفيان به وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي فيه عن
عمرو بن عثمان بن سفيان عن سفيان به وفي عشرة النساء عن إسحاق بن إبراهيم وفي
اليوم والليلة عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك ببعضه وأخرجه ابن ماجه في
الوصايا عن هشام بن عمار والحسين بن الحسن المروزي وسهل بن أبي سهل بن سهل الرازي
ثلاثتهم عن سفيان به
بيان الإعراب قوله إنك إن حرف من الحروف المشبهة بالفعل فالكاف إسمها و لن تنفق
خبرها وكلمة لن حرف نصب ونفي واستقبال وفيه ثلاثة مذاهب الأول إنه حرف مقتضب برأسه
وهذا مذهب الجمهور والثاني وهو مذهب الفراء أن أصله لا فابدلت النون من الألف فصار
لن والثالث وهو مذهب الخليل والكسائي أن أصله لا إن فحذفت الهمزة تخفيفا والألف
لالتقاء الساكنين وقال الزمخشري إنه يفيد توكيد النفي قاله في ( الكشاف ) وقال في
( انموذجه ) يفيد تأييد النفي ورد بأنه دعوى بلا دليل وقالوا لو كانت للتأبيد لم
يقيد منفيها باليوم في لن أكلم اليوم إنسيا ( مريم 26 ) ولكان ذكر الأبد في ولن
يتمنوه أبدا ( البقرة 95 ) تكرارا والأصل عدمه قوله تنفق منصوب بها وقوله نفقة نصب
على أنه مفعول مطلق قوله تبتغي جملة من الفعل والفاعل وقعت حالا من الضمير الذي في
لن تنفق والباء في بها إما للمقابلة كما في قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم
تعملون ( النحل 32 ) وإما للسببية كما في قوله لن يدخل أحدكم الجنة بعمله وإما
للظرفية بمعنى فيها وإنما قلنا هكذا لأن تبتغي متعد يقال ابتغيت الشيء وتبغيته إذا
طلبته من بغيت الشيء طلبته قوله وجه الله كلام إضافي مفعول تبتغي قوله إلا أجرت
بضم الهمزة على صيغة المجهول والمستثنى محذوف لأن الفعل لا يقع استثناء والتقدير
لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا نفقة أجرت بها ويكون قوله أجرت بها صفة
للمستثنى والمعنى على هذا لأن النفقة المأجور فيها هي التي تكون ابتغاء لوجه الله
تعالى لأنها لو لم تكن لوجه الله تعالى لما كانت مأجورا فيها وقال الكرماني
التقدير إلا في حالة أجرت بها ثم فسر ذلك بقوله أي لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه
الله تعالى في حال من الأحوال إلا وأنت في حال مأجوريتك عليها قلت لو قدر هكذا لن
تنفق نفقة لوجه الله تعالى إلا حال كونك مأجورا عليها كان أحسن على ما لا يخفى فإن
قلت الاستثناء متصل أو منقطع قلت متصل لأن المستثنى من جنس المستثنى منه قوله بها
الباء إما للسببية وإما
(1/319)
للمقابلة وإما بمعنى على ولهذا
في بعض النسخ عليها بدل بها والباء تجيء بمعنى على كما في قوله تعالى من إن تأمنه
بقنطار ( آل عمران 75 ) قوله حتى قال الكرماني هي العاطفة لا الجارة وما بعدها
منصوب المحل وبعضهم تبعه على هذا قلت حتى هذه ابتدائية أعني حرف تبتدأه بعده الجمل
أي تستأنف فتدخل على الجملة الإسمية والجملة الفعلية وذلك لأن حتى العاطفة لها
شروط منها أنها لا تعطف الجمل لأن شرط معطوفها أن يكون جزأ مما قبلها أو جزء منه
ولا يتأتي ذلك إلا في المفردات على أن العطف بحتى قليل وأهل الكوفة ينكرونه البتة
وما بعد حتى ههنا جملة لأن قوله ما موصولة مبتدأ وخبره محذوف وكذا العائد إلى
الموصول تقديره حتى الذي تجعل في فم امرأتك فأنت مأجور فيه ووجه آخر يمنع من كون
حتى عاطفة هو أن المعطوف غير المعطوف عليه فإذا جعلت حتى عاطفة لا يستفاد أن ما
يجعل في فم امرأته مأجور فيه فإن قلت قال الكرماني يستفاد ذلك من حيث إن قيد
المعطوف عليه قيد في المعطوف قلت القيد في المعطوف عليه هو الابتغاء لوجه الله
تعالى والآجر ليس بقيد فيه لأنه أصل الكلام والمقصود في المعطوف حصول الأجر
بالانفاق المقيد بالابتغاء فافهم
بيان المعاني فيه تمثيل باللقمة مبالغة في حصول الأجر لأن الأجر إذا ثبت في لقمة
زوجة غير مضطرة ثبت فيمن أطعم المحتاج كسرة أو رغيفا بالطريق الأولى وقال النووي
هذا بيان لقاعدة مهمة وهي أن ما أريد به وجه الله تعالى ثبت فيه الأجر وإن حصل
لفاعله في ضمنه حظ نفس من لذة أو غيرها فلهذا مثل بوضع اللقمة في فم الزوجة ومعلوم
أنه غالبا يكون بحظ النفس والشهوة واستمالة قلبها فإذا كان الذي هو من حظوظ النفس
بالمحل المذكور من ثبوت الأجر فيه وكونه طاعة وعملا أخرويا إذا أريد به وجه الله
تعالى فكيف الظن بغيره مما يراد به وجه الله تعالى وهو مباعد للحظوظ النفسانية
قوله تبتغي بها وجه الله أي ذاته عز و جل المعنى أنه لا يطلب غير الله تعالى وقال
الكرماني الوجه والجهة بمعنى يقال هذا وجه الرائي أي هو الرائي نفسه قلت هذا كلام
الجوهري فإن أراد بذكره أن الوجه ههنا بمعنى الجهة فلا وجه له وإن أراد أنه من
قبيل هذا وجه الرائي فلا وجه له أيضا لأنه يقتضي أن تكون لفظة وجه زائدة وحمل
الكلام على الفائدة أولى وقال الكرماني هنا أيضا فإن قلت مفهومه أن الآتي بالواجب
إذا كان مرائيا فيه لا يؤجر عليه قلت هو حق نعم يسقط عنه العقاب لكن لا يحصل له
الثواب قلت حكمه بسقوط العقاب مطلقا غير صحيح بل الصحيح التفصيل فيه وهو أن العقاب
الذي يترتب على ترك الواجب يسقط لأنه أتى بعين الواجب ولكنه كان مأمورا أن يأتي
بما عليه بالإخلاص وترك الرياء فينبغي أن يعاقب على ترك الإخلاص لأنه مأمور به
وتارك المأمور به يعاقب قوله في فم امرأتك وفي رواية الكشميهني في في امرأتك وهو
رواية الأكثرين وقال القاضي عياض حذف الميم أصوب وبالميم لغة قليلة قلت لأن أصل فم
فوه على وزن فعل بدليل قولهم أفواه وهو جمع ما كان على فعل ساكن العين معتلا
كقولهم ثوب واثواب وحوض وأحواض فإذا أفردت عوضت من واوها ميم لتثبت ولا تعوض في
حال الإضافة إلا شاذا وإعرابه في الميم مع فتح الفاء في الأحوال الثلاث تقول هذا
فم ورأيت فما وانتفعت بفم ومنهم من يكسر الفاء على كل حال ومنهم من يرفع على كل
حال ومنهم من يعربه من مكانين فإن قلت لم خص المرأة بالذكر قلت لأن عود منفعتها
إلى المنفق فإنها تؤتر في حسن بدنها ولباسها والزوجة من أحظ حظوظه الدنيوية وملاذه
والغالب من الناس النفقة على الزوجة لحصول شهوته وقضاء وطره بخلاف الأبوين فإنها
ربما تخرج بكلفة ومشقة فأخبر أنه إذا قصد باللقمة التي يضعها في فم الزوجة وجه
الله تعالى وجعل له الأجر مع الداعية فمع غير الداعية وتكلف المشقة أولى
42 -
( باب قول النبي الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم وقوله تعالى إذا نصحوا لله ورسوله )
الكلام فيه على وجوه الأول إن باب قول النبي كلام إضافي مرفوع على أنه خبر مبتدأ
محذوف تقديره هذا باب قول النبي عليه الصلاة و السلام وقوله الدين مبتدأ و النصيحة
خبره وهذا التركيب
(1/320)
يفيد القصر والحصر لأن المبتدأ
والخبر إذا كانا معرفتين يستفاد ذلك منهما فإن قلت ما محل هذه الجملة قلت النصب
لأنه مقول القول واللام في لله صلة لأن الفصيح أن يقال نصح له فإن قلت لم ترك
اللام في عامتهم قلت لأنهم كالاتباع للأئمة لا استقلال لهم وإعادة اللام تدل على
الاستقلال قوله وقوله تعالى بالجر عطف على قوله قول النبي
الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول أن الأعمال
بالنيات وأنها لا تقبل إلا إذا كانت ابتغاء لوجه الله تعالى مع ترك الرياء والعلم
على هذا الوجه من جملة النصيحة لله تعالى ومن جملة النصيحة لرسوله أيضا حيث أتى
بعمله على وفق ما أمر به الرسول عليه السلام مجتنبا عما نهاه عنه ثم إن البخاري
رحمه الله تعالى ختم كتاب الإيمان بهذا الحديث لأنه حديث عظيم جليل حفيل عليه مدار
الإسلام كما قيل إنه أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام فيكون هذا ربع
الإسلام ومنهم من قال يمكن أن يستخرج منه الدليل على جميع الأحكام
الثالث أنه ذكر هذا الحديث معلقا ولم يخرجه مسندا في هذا الكتاب لأن راوي الحديث
تميم الداري وأشهر طرقه فيه سهيل بن أبي صالح وليس من شرطه لأنه لم يخرج له في
صحيحه وقد أخرج له مسلم والأربعة وروى عنه مالك ويحيى الأنصاري والثوري وابن عيينة
وحماد بن سلمة وخلق كثير والأربعة وقال البخاري سمعت عليا يعني ابن المديني يقول
كان سهيل بن أبي صالح مات له أخ فوجد عليه فنسي كثيرا من الأحاديث وقال يحيى بن
معين لا يحتج به وقال أبو حاتم يكتب حديثه وقال ابن عدي وهو عندي ثبت لا بأس به
مقبول الأخبار وقد روى عنه الأئمة وقال الحاكم وقد روى مالك في شيوخه من أهل
المدينة الناقد لهم ثم قال في أحاديثه بالعراق إنه نسي الكثير منها وساء حفظه في
آخر عمره وقد أكثر مسلم عنه في إخراجه في الشواهد مقرونا في أكثر رواته يحافظ لا
يدافع فيسلم بذلك من نسبته إلى سوء الحفظ ولكن لما لم يكن عند البخاري من شرطه لم
يأت فيه بصيغة الجزم ولا في معرض الإستدلال بل أدخله في التبويب فقال باب قول
النبي كذا فلم يترك ذكره لأنه عنده من الواهي بل ليفهم أنه اطلع عليه أن فيه علة
منعته من إسناده وله من ذلك في كتابة كثير يقف عليه من له تمييز والله أعلم
الرابع أن هذا الحديث أخرجه مسلم حدثنا محمد بن عباد المكي ثنا سفيان عن سهيل عن
عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري أن النبي عليه الصلاة و السلام قال الدين
النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسله ولأئمة المسلمين وعامتهم وليس لتميم
الداري في صحيح مسلم غيره أخرجه في باب الإيمان وأخرجه أبو داود أيضا في الأدب عن
أحمد بن يونس عن زهير عن سهيل به وأخرجه النسائي في البيعة عن يعقوب بن إبراهيم عن
عبد الرحمن عن سفيان الثوري به وعن محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة به وأخرجه
إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب ( السياسة ) تأليفه حدثنا عبد الجبار
بن العلاء المكي حدثنا ابن عيينة عن سهيل سمعت عطاء بن يزيد حدثنا تميم قال قال
رسول الله الدين النصيحة الدين النصيحة فقال رجل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه
ولنبيه ولأئمة المؤمنين وعامتهم
الخامس أن حديث النصيحة روي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وهو وهم من سهيل أو ممن
روى عنه قال البخاري في ( تاريخه ) لا يصح إلا عن تميم ولهذا الاختلاف لم يخرجه في
( صحيحه ) وللحديث طرق دون هذه في القوة فمنها ما أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس
ومنها ما أخرجه البزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
السادس قوله الدين النصيحة فيه حذف تقديره عماد الدين وقوامه النصيحة كما يقال
الحج عرفة أي عماد الحج وقوامه وقوف عرفة والتقدير معظم أركان الدين النصيحة كما
يقال الحج عرفة أي معظم أركان الحج وقوف عرفة وأصل النصيحة مأخوذ من نصح الرجل
ثوبه إذا خاطه بالمنصح وهي الإبرة والمعنى أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم
المنصحة ومنه التوبة النصوح كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه وقال المازري
النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع شبه تخليص القول من الغش بتخليص
العسل من الخلط وفي ( المحكم ) النصح نقيض الغش نصح له ونصحه ينصح نصحا أو نصوحا
ونصاحة وفي ( الجامع ) النصح بذل المودة والاجتهاد في المشورة وفي كتاب ابن طريف
نصح قلب الإنسان خلص من الغش وفي ( الصحاح ) هو باللام أفصح وفي ( الغريبين )
نصحته قال أبو زيد أي صدقته وقال الخطابي النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ
للمنصوح له ويقال هو من وجيز الأسماء ومختصر
(1/321)
الكلام وليس في كلام العرب
كلمة مفردة تستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة كما قالوا في الفلاح ليس في
كلام العرب كلمة مفردة تستوفى بها العبارة عن معنى ما جمعت من خير الدنيا والآخرة
أما النصيحة لله تعالى فمعناها يرجع إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه وترك الإلحاد
في صفاته ووصفه بصفات الجلال والكمال وتنزيهه تعالى عن النقائص والقيام بطاعته
واجتناب معصيته وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه والاعتراف بنعمته وشكره عليها
والإخلاص في جميع الأمور قال وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه
فإنه تعالى غني عن نصح الناصح وعن العالمين وأما النصيحة لكتابة سبحانه وتعالى
فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيهه بأنه لا يشبهه شيء من كلام الخلق ولا يقدر
على مثله أحد من المخلوقات ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وإقامة حروفه في التلاوة
والتصديق بما فيه وتفهم علومه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والبحث عن ناسخه
ومنسوخه وعمومه وخصوصه وسائر وجوهه ونشر علومه والدعاء إليه وأما النصيحة لرسوله
عليه الصلاة و السلام فتصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به وطاعته في
أوامره ونواهيه ونصرته حيا وميتا وإعظام حقه وإحياء سنته والتلطف في تعلمها
وتعليمها والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة أهل بيته وأصحابه وأما النصيحة
للأئمة فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم برفق وترك الخروج عليهم بالسيف
ونحوه والصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم هذا على المشهور من أن
المراد من الأئمة أصحاب الحكومة كالخلفاء والولاة وقد يؤول بعلماء الدين ونصيحتهم
قبول ما رووه وتقليدهم في الأحكام وإحسان الظن بهم وأما نصيحة العامة فإرشادهم
لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وكف الأذى عنهم وتعليم ما جهلوا وإعانتهم على البر
والتقوى وستر عوراتهم والشفقة عليهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير
السابع في الحديث فوائد منها ما قيل إن الدين يطلق على العمل لكونه سمى النصيحة دينا
ومنها إن النصيحة فرض على الكفاية لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل
نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه فإن خشي فهو في سعة فيجب على من علم
بالمبيع عيبا أن يبينه بائعا كان أو أجنبيا ويجب على الوكيل والشريك والخازن النصح
ومنها أن النصيحة كما هي فرض للمذكورين فكذلك هي فرض لنفسه بأن ينصحها بامتثال
الأوامر واجتناب المناهي
الثامن قوله تعالى إذا نصحوا لله ورسوله ( التوبة 91 ) في سورة براءة وأول الآية
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا
لله ورسوله ( التوبة 91 ) الآية أكد الحديث المذكور بهذه الآية والمراد بالضعفاء
الزمنى والهرمى والذين لا يجدون الفقراء والنصح لله ورسوله الإيمان بهما وطاعتهما
في السر والعلن
57 - حدثنا ( مسدد ) قال حدثنا ( يحيى ) عن ( إسماعيل ) قال حدثني ( قيس بن أبي
حازم ) عن ( جرير بن عبد الله ) قال بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء
الزكاة والنصح لكل مسلم
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن المذكور فيه والنصح لكل مسلم وفي الترجمة لعامة
المسلمين ومراد البخاري من الترجمة وقوع الدين على العمل فإنه سمى النصيحة دينا
وقال ابن بطال مقصوده الرد على من زعم أن الإسلام القول دون العمل وهو ظاهر العكس
لأنه لما بايعه على الإسلام شرط عليه والنصح لكل مسلم فلو دخل في الإسلام لما
استأنف له بيعة
بيان رجالهوهم خمسة الأول مسدد بن مسرهد تقدم الثاني يحيى بن سعيد القطان تقدم
الثالث إسماعيل بن أبي خالد البجلي التابعي تقدم الرابع قيس بن أبي حازم بالحاء
المهملة والزاي المعجمة واسمه عبد عوف ويقال عوف بن عبد الحارث بن الحارث بن عوف
الأحمسي البجلي الكوفي التابعي المخضرم أدرك الجاهلية وجاء ليبايع النبي فقبض وهو
في الطريق ووالده صحابي سمع خلقا من الصحابة منهم العشرة المشهود لهم بالجنة وليس
في التابعين من يروي عنهم غيره وقيل لم يسمع من عبد الرحمن بن عوف وعنه جماعة من
التابعين وجلالته متفق عليها وهو أجود الناس إسنادا كما قاله أبو داود ومن طرف
أحواله أنه روى عن جماعة من الصحابة لم يرو عنهم غيره منهم أبوه ودكين بن سعيد
والصنابح بن الأعسر ومرداس الأسلمي رضي الله تعالى عنهم مات سنة أربع وقيل سبع
وثمانين وقيل سنة ثمان
(1/322)
وتسعين روى له الجماعة الخامس
جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نضر بن ثعلبة البجلي الأحمسي أبو عبد الله
أبو عمر نزل الكوفة ثم تحول إلى قرقيسيا وبها توفي سنة إحدى وخمسين وقيل غير ذلك
له مائة حديث اتفقا منها على ثمانية وانفرد البخاري بحديث ومسلم بستة كذا في ( شرح
قطب الدين ) وفي ( شرح النووي ) له مائتا حديث انفرد البخاري بحديث وقيل بستة ولعل
صوابه ومسلم بستة بدل وقيل بستة وقال الكرماني في ( شرحه ) لجرير عن رسول الله
مائة حديث ذكر البخاري منها تسعة وهذا غلط صريح وكان قدومه على رسول الله سنة عشر
في رمضان فبايعه وأسلم وقيل أسلم قبل وفاة النبي بأربعين يوما وكان يصلي إلى سنام
البعير كانت صنمه ذراعا واعتزل الفتنة وكان يدعى يوسف هذه الأمة لحسنه روى عنه
بنوه عبد الله والمنذر وإبراهيم وابن ابنه أبو زرعة هرم روى له الجماعة وروى
الطبراني في ترجمته أن غلامه اشترى له فرسا بثلاثمائة فلما رآه جاء إلى صاحبه فقال
إن فرسك خير من ثلثمائة فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة وقال بايعت رسول الله
على النصح لكل مسلم وليس في الصحابة جرير بن عبد الله البجلي إلا هذا ومنهم جرير
بن عبد الله الحميري فقط وقيل ابن عبد الحميد ومنهم جرير بن الأرقط وجرير بن أوس
الطائي وقيل جريم وأبو جرير يروي حديثا عن ابن أبي ليلى عنه
بيان الأنساب البجلي في كهلان بفتح الجيم ينسب إلى بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة بن
مالك وهو مذحج كانت عند أنمار بن أراش بن الغوث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان
فولده منها وهم عبقر والغوث وجهينة ينسبون إليها منهم جرير بن عبد الله المذكور
قال الرشاطي جرير بن عبد الله بن جابر وهو الشليل بن مالك بن نضر بن ثعلبة بن جشم
بن عريف بن خزيمة بن علي بن مالك بن سعد بن نذير بن قسر وهو مالك بن عبقر وهو ولد
بجيلة ذكره أبو عمرو ورفع نسبه غير أنه قال في خزيمة جزيمة وفي علي عدي وكلاهما
وهم وتصحيف وكما ذكرناهما ذكره ابن الكلبي وابن حبيب وغيرهما وقال ابن دريد اشتقاق
البجيلة من الغلظ يقال ثوب بجيل أي غليظ و رجل بجال أيضا إذا كان غليظا سمينا وكل
شيء عظمته وغلظته فقد بجلته الأحمسي بالحاء المهملة في بجيلة أحمس بن الغوث والغوث
هذا ابن لبجيلة كما ذكرنا من حمس الرجل إذا شجع وأيضا هاج وغضب وهو حمس وأحمس كرجل
وأرجل وفي ربيعة أيضا أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار منهم المتلمس الشاعر وهو
جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوقن بن حرب بن وهب بن جلى بن أحمس بن
ضبيعة
بيان لطائف أسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وبصيغة الإفراد والعنعنة ولا
يخفى الفرق بين الصيغتين ومنها أن رواته كلهم كوفيون ما خلا مسددا ومنها إن ثلاثة
منهم وهم إسماعيل وقيس وجرير مكنون بأبي عبد الله ومنها أن هؤلاء الثلاثة كلهم
بجليون ومنها أن الأثنين منهم إسماعيل وقيس تابعيان
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا كما ترى وأخرجه أيضا في الصلاة
عن أبي موسى عن يحيى وفي الزكاة عن محمد بن عبد الله عن أبيه وفي البيوع عن علي عن
سفيان وفي الشروط عن مسدد أيضا عن يحيى وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر بن أبي
شيبة عن عبد الله بن نمير وأبي أسامة عن يحيى به وأخرجه الترمذي في البيعة عن محمد
بن بشار عن يحيى به
بيان اللغات والإعراب قوله بايعت من المبايعة وهو عقد العهد وهو فعل وفاعل و رسول
الله كلام إضافي مفعوله قوله على إقام الصلاة أصله إقامة الصلاة وإنما جاز حذف
التاء لأن المضاف إليه عوض عنها قد مر تفسير إقامة الصلاة قوله وإيتاء الزكاة أي
إعطائها قوله والنصح بالجر عطف على المجرور قبله
بيان المعاني قوله بايعت رسول الله كانت مبايعته عليه السلام لأصحابه في أوقات
بحسب الحاجة إليها من تحديد عهد أو توكيد أمر فلذا اختلفت ألفاظها كما سيأتي
وأخرجا من رواية الشعبي عن جرير رضي الله عنه قال بايعت رسول الله على السمع
والطاعة فلقتني فيما استطعت والنصح لكل مسلم ورواه ابن حبان من طريق أبي زرعة بن
عمرو بن جرير عن جده وزاد فيه فكان جرير إذا اشترى وباع يقول لصاحبه إعلم أن ما
أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه فاختر قوله فيما استطعت روي بضم التاء وفتحها
قاله قطب الدين في ( شرحه ) ثم قال فعلى الرفع يحتاج جرير
(1/323)
ينطق بها أي قل فيما استطعت
وهو موافق لقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ( البقرة 233 ) والمقصود من
هذه اللفظة التنبيه على أن المراد فيما استطعت من الأمور المبايع عليها هو ما يطاق
كما هو المشترط في أصل التكليف وفي قوله لقنني دلالة على كمال شفقة النبي وقال الخطابي
جعل رسول الله النصيحة للمسلمين شرطا في الذي يبايع عليه كالصلاة والزكاة فلذلك
تراه قرنها بهما فإن قلت لم اقتصر عليهما ولم يذكر الصوم وغيره قلت قال القاضي
عياض لدخول ذلك في السمع والطاعة يعني المذكور في الرواية الأخرى التي ذكرناها
الآن وقال غيره إنما اقتصر عليهما لأنهما أهم أركان الدين وأظهرها وهما العبادات
البدنية والمالية
58 - حدثنا ( أبو النعمان ) قال حدثنا ( أبو عوانة ) عن ( زياد بن علاقة ) قال
سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة قام فحمد الله وأثنى عليه
وقال عليكم بإتقاء الله وحده لا شريك له والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير فإنما
يأتيكم الآن ثم قال استعفوا لاميركم فإنه كان يحب العفو ثم قال أما بعد فإني أتيت
النبي قلت أبايعك على الإسلام فشرط علي والنصح لكل مسلم فبايعته على هذا ورب هذا
المسجد إني لناصح لكم ثم استغفر ونزل
هذا الحديث يدل على بعض الترجمة المستلزم للبعض الآخر إذ النصح لأخيه المسلم لكونه
مسلما إنما هو فرع الإيمان بالله ورسوله
بيان رجاله وهم أربعة الأول أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي البصري المعروف
بعارم بمهملتين وهو لقب رديء لأن العارم الشرير المفسد يقال عرم يعرم عرامة بالفتح
وصبي عارم أي شرير بين العرام بالضم وكان رحمه الله بعيدا منه لكن لزمه هذا اللقب
فاشتهر به سمع ابن المبارك وخلائق وروى عنه البخاري وغيره من الأعلام قال أبو حاتم
إذا حدثك عارم فاختم عليه وقال عبد الرحمن سمعت أبي يقول اختلط أبو النعمان في آخر
عمره وزال عقله فمن سمع منه قبل الاختلاط فسماعه صحيح وكتب عنه قبل الاختلاط سنة
أربع عشرة ومائتين وروى عنه مسلم بواسطة والأربعة كذلك مات سنة أربع وعشرين
ومائتين بالبصرة الثاني أبو عوانة بالفتح واسمه الوضاح اليشكري وقد تقدم الثالث
زياد بن علاقة بكسر العين المهملة وبالقاف ابن مالك الثعلبي بالثاء المثلثة الكوفي
أبو مالك سمع جريرا وعمه قطبة بن مالك وغيرهما من الصحابة وغيرهم وعنه جماعات من
التابعين منهم الأعمش وكان يخضب بالسواد قال يحيى بن معين ثقة مات سنة خمس وعشرين
ومائة الرابع جرير رضي الله عنه
بيان الأنساب السدوسي بفتح السين الأولى نسبة إلى سدوس اسم قبيلة وقال الرشاطي
السدوسي في بكر بن وائل وفي تميم فالذي في بكر بن وائل سدوس بن شيبان بن ذهل بن
ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل منهم من الصحابة قطبة بن قتادة والذي
في تميم سدوس بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة وأعلم أن كل سدوسي في
العرب بفتح السين إلا سدوس بن أصمع بن أبي بن عبيد بن ربيعة بن نصر بن سعد بن
نبهان بن طي وقال ابن دريد السدوس الطيلسان الثعلبي بالثاء المثلثة في غطفان ثعلبة
بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان وفي أسد بن خزيمة ثعلبة بن دودان بن أسد
بن خزيمة
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رواته ما بين
كوفي وبصري وواسطي ومنها أنه من رباعيات البخاري
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا كما ترى وأخرجه في الشروط عن
أبي نعيم عن الثوري وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر بن شيبة وزهير بن حرب ومحمد
بن عبد الله بن نمير ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة عن الثوري به وأخرجه النسائي في
البيعة وفي السير عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقبري عن سفيان بن عيينة وفي
الشروط عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد عن شعبة عنه نحوه
(1/324)
بيان اللغات قوله والوقار بفتح
الواو الرزانة والسكينة السكون وقال الجوهري السكينة الوداع والوقار قوله استعفوا
من الاستعفاء وهو طلب العفو والمعنى اطلبوا له العفو من الله كذا هو في أكثر
الروايات بالعين المهملة والواو في آخره وفي رواية ابن عساكر استغفروا بغين معجمة
وراء من الاستغفار وهي رواية الأصيلي في ( المستخرج )
بيان الإعراب قوله سمعت جملة من الفعل والفاعل وجرير بن عبد الله مفعوله وفيه
تقدير لا يصح الكلام إلا به لأن جريرا ذات والمسموع هو الصوت والحروف وهو سمعت قول
جرير بن عبد الله أو نحوه فلما حذف هذا وقع ما بعده تفسيرا له وهو قوله يقول ويوم
نصب على الظرفية أضيف إلى الجملة أعني قوله مات المغيرة بن شعبة قوله قام جملة
استئنافية لا محل لها من الإعراب قوله فحمد الله عطف عليه أي عقيب قيامه حمد الله
تعالى قوله عليكم اسم من أسماء الأفعال معناه الزموا اتقاء الله قوله وحده نصب على
الحالية وإن كان معرفة لأنه مؤول إما بأنه في معنى واحدا وإما بأنه مصدر وحد يحد
وحدا نحو وعد يعد وعدا قوله لا شريك له جملة تؤكد معنى وحده قوله والوقار بالجر
عطف على باتقاء الله أي وعليكم بالوقار والسكون قوله حتى يأتيكم أمير كلمة حتى هذه
للغاية و يأتيكم منصوب بأن المقدرة بعد حتى فإن قلت هذا يقتضي أن لا يكون بعد
إتيان الأمير الاتقاء والوقار والسكون لأن حكم ما بعد حتى التي للغاية خلاف ما قبل
قلت قال الكرماني لا نسلم أن حكمه خلاف ما قبله سلمنا لكنه غاية للأمر بالاتقاء لا
للأمور الثلاثة أو غاية للوقار والسكون لا للاتقاء أو غاية للثلاثة وبعد الغاية
يعني عند إتيان الأمير يلزم ذلك بالطريق الأولى وهذا مبني على قاعدة أصولية وهي إن
شرط اعتبار مفهوم المخالفة فقدان مفهوم الموافقة وإذا اجتمعا يقدم المفهوم الموافق
على المخالف قلت مفهوم الموافقة ما كان حكم المسكوت عنه موافقا لحكم المنطوق به
كمفهوم تحريم الضرب للوالدين من تنصيص تحريم التأفيف لهما ومفهوم المخالفة ما كان
حكم المسكوت عنه مخالفا لحكم المنطوق كفهم نفي الزكاة عن العلوفة بتنصيصه على وجوب
الزكاة في الغنم السائمة قوله فإنما يأتيكم أي الأمير وكلمة إنما من أداة الحصر
قوله الآن نصب على الظرف قوله فإنه الفاء فيه للتعليل وقوله كان يحب العفو جملة في
محل الرفع على أنها خبر إن قوله أما بعد كلمة أما فيها معنى الشرط فلذلك كانت
الفاء لازمة لها و بعد من الظروف الزمانية وكثيرا ما يحذف منه المضاف إليه ويبنى
على الضم ويسمى غاية وههنا قد حذف فلذلك بني على الضم والأصل أما بعد الحمد لله
والثناء عليه أو التقدير أما بعد كلامي هذا فإني أتيت قوله قلت جملة من الفعل
والفاعل بدل من قوله أتيت فلذلك ترك العاطف حيث لم يقل وقلت أو هي استئناف وقوله
فشرط على بتشديد الياء في على على الصحيح من الروايات والمفعول محذوف تقديره فشرط
على الإسلام قوله والنصح بالجر لأنه عطف على الإسلام أي وعلى النصح لكل مسلم ويجوز
فيه النصب عطفا على مفعول شرط مقدر تقديره وشرط النصح لكل مسلم قوله على هذا إشارة
إلى المذكور من الإسلام والنصح كليهما قوله ورب هذا المسجد الواو فيه للقسم وأشار
به إلى مسجد الكوفة قوله إني لناصح جواب القسم وأكده بأن واللام والجملة الإسمية
قوله ونزل أي عن المنبر أو معناه قعد لأنه في مقابلة قام فافهم
بيان المعاني قوله يوم مات المغيرة كانت وفاته سنة خمسين من الهجرة وكان واليا على
الكوفة في خلافة معاوية واستناب عند موته ابنه عرفة وقيل استناب جريرا المذكور
ولهذا خطب الخطبة المذكورة قوله فحمد الله أي اثنى عليه بالجميل وأثنى عليه أي
ذكره بالخير ويحتمل أن يراد بالحمد وصفه متحليا بالكمالات وبالثناء وصفه متخليا عن
النقائص فالأول إشارة إلى الصفات الوجودية والثاني إلى الصفات العدمية أي
التنزيهات قوله حتى يأتيكم أمير أي بدل هذا الأمير الذي مات وهو المغيرة فإن قلت
لم نصحهم بالحلم والسكون قلت لأن الغالب أن وفاة الأمراء تؤدي إلى الفتنة
والاضطراب بين الناس والهرج والمرج وأما ذكره الاتقاء فلأنه ملاك الأمر ورأس كل
خير وأشار به إلى ما يتعلق بمصالح الدين وبالوقار والسكينة إلى ما يتعلق بمصالح
الدنيا وقوله فإنما يأتيكم الآن إما أن يراد به حقيقته فيكون ذلك الأمير جريرا
بنفسه لما روى أن المغيرة استخلف جريرا على الكوفة عند موته على ما ذكرنا أو يريد
به المدة القريبة من
(1/325)
الآن فيكون ذلك الأمير زيادا إذ ولاه معاوية بعد وفاة المغيرة الكوفة قوله استعفوا أي اسألوا الله تعالى لأميركم العفو فإنه كان يحب العفو عن ذنوب الناس إذ يعامل بالشخص كما هو يعامل بالناس وفي المثل السائر كما تدين تدان وقيل كما تكيل تكال وقال ابن بطال جعل الوسيلة إلى عفو الله بالدعاء بأغلب خلال الخير عليه وما كان يحبه في حياته وكذلك يجزى كل أحد يوم القيامة بأحسن أخلاقه وأعماله قوله ورب هذا المسجد يشعر بأن خطبته كانت في المسجد الحرام ويجوز أن تكون إشارة إلى جهة المسجد ويدل عليه رواية الطبراني بلفظ ورب الكعبة ذكر ذلك للتنبيه على شرف المقسم به ليكون أدعى للقبول قوله إني لنا صح فيه إشارة إلى أنه وفي بما بايع النبي وأن كلامه صادق خالص عن الأغراض الفاسدة فإن قلت النصح للكافر يصح بأن يدعى إلى الإسلام ويشار عليه بالصواب إذا استشار فلم قيده بقوله لكل مسلم وبقوله لكم قلت هذا التقييد من حيث الأغلب فقط فافهم
(1/326)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
للعلامة بدر الدين العيني
الجزء الثاني
ملتقى أهل الحديث
3 -
( كتاب العلم )
الكلام فيه على أنواع
الأول أن لفظ كتاب مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى العلم والتقدير هذا كتاب
العلم أي في بيان ما يتعلق به وليس هو في بيان ماهية العلم لأن النظر في الماهيات
وحقائق الأشياء ليس من فن الكتاب
الثاني أنه قدم هذا الكتاب على سائر الكتب التي بعده لأن مدار تلك الكتب كلها على
العلم وإنما لم يقدم على كتاب الإيمان لأن الإيمان أول واجب على المكلف أو لأنه
أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها وكيف لا وهو مبدأ كل خير علما وعملا ومنشأ كل
كمال دقا وجلا فإن قلت فلم قدم كتاب الوحي عليه قلت لتوقف معرفة الإيمان وجميع ما
يتعلق بالدين عليه أو لأنه أول خير نزل من السماء إلى هذه الأمة وقد أشبعنا الكلام
في كتاب الإيمان فليعاود هناك
الثالث أن العلم في اللغة مصدر علمت وأعلم علما قال الجوهري علمت الشيء أعلمه علما
عرفته بالكسر فهذا كما ترى لم يفرق بين العلم والمعرفة والفرق بينهما ظاهر لأن
المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات ولهذا لا يجوز أن يقال الله عارف كما
يقال عالم وقال ابن سيده العلم نقيض الجهل علم علما وعلم هو نفسه ورجل عالم وعليم
من قوم علماء وعلام وعلامة من قوم علامين والعلام والعلامة النسابة ويقال إذا بولغ
في وصف الشخص بالعلم يقال له علامة وعلمه العلم وأعلمه إياه فتعلمه وفرق سيبويه
بينهما فقال علمت كأدبت وأعلمت كأديت وقال أبو عبيد عبد الرحمان عالمني فلان
فعلمته أعلمه بالضم وكذلك كل ما كان من هذا الباب بالكسر في يفعل فإنه في باب
المغالبة يرفع إلى الضم كضاربته فضربته أضربه وعلم بالشيء شعر وقال يعقوب إذا قيل
لك اعلم كذا قلت قد علمت وإذا قيل تعلم لم تقل قد تعلمت وفي المخصص علمته الأمر
وأعلمته إياه فعلمه وتعلمه وقال أبو علي سمي العلم علما لأنه من العلامة وهي
الدلالة والإشارة ومما هو ضرب من العلم قولهم اليقين ولا ينعكس فنقول كل يقين علم
وليس كل علم يقينا وذلك أن اليقين علم يحصل بعد استكمال استدلال ونظر لغموض فيه
والعلم النظر والتصفح ومن العلم الدراية وهي ضرب منه مخصوص ثم العلماء اختلفوا في
حد العلم فقال بعضهم لا يحد وهؤلاء اختلفوا في سبب عدم تحديده فقال إمام الحرمين
والغزالي لعسر تحديده وإنما تعريفه بالقسمة والمثال وقال بعضهم ومنهم الإمام فخر
الدين لأنه ضروري إذ لو لم يكن ضروريا لزم الدور واللازم باطل فالملزوم مثله بيان
الملازمة أنه لو لم يكن ضروريا لكان نظريا إذ لا واسطة ولو كان نظريا لزم الدور
ينتج أنه لو لم يكن ضروريا لزم الدور وإنما قلنا إنه لو كان نظريا لزم الدور لأنه
لو كان نظريا لعلم بغير العلم لامتناع اكتسابه من نفسه وغير العلم لا يعلم إلا
بالعلم فليزم معرفة العلم بغير العلم الذي لا يعلم إلا بالعلم فيلزم الدور وهو
محال لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه واستلزامه امتناع تصور العلم المتصور وقال
الآخرون إنه يحد ولهم فيه أقوال وأصح الحدود أنه صفة من صفات النفس توجب تمييزا لا
يحتمل النقيض في الأمور المعنوية فقوله صفة جنس لتناوله لجميع صفات النفس وقوله
توجب تمييزا احتراز عما لم يوجب تمييزا كالحياة وقوله لا يحتمل النقيض احتراز عن
مثال الظن وقوله في الأمور المعنوية يخرج إدراك الحواس لأن إدراكها في الأمور
الظاهرة المحسوسة
(2/2)
1 -
( باب فضل العلم )
كذا وقع في بعض النسخ مصدرا بالبسملة بعدها باب فضل العلم وفي بعضها لا يوجد ذلك
كله بل الموجود هكذا كتاب العلم وقول الله تعالى الخ وفي بعضها البسملة مقدمة على
لفظ كتاب العلم هكذا بسم الله الرحمان الرحيم كتاب العلم وهي رواية أبي ذر والأول
رواية الأصيلي وكريمة وغيرهما اعني أن روايتهما أن البسملة بين الكتاب والباب
وقول الله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما
تعملون خبير ( المجادلة11 ) وقوله عز و جل رب زدني علما ( طه114 )
اكتفى البخاري في بيان فضل العلم بذكر الآيتين الكريمتين لأن القرآن من أقوى الحجج
القاطعة والاستدلال به في باب الإثبات والنفي أقوى من الاستدلال بغيره ونقل
الكرماني عن بعض الشاميين أن البخاري بوب الأبواب وذكر التراجم وكان يلحق بالتدريج
إليها الأحاديث المناسبة لها فلم يتفق له أن يلحق إلى هذا الباب ونحوه شيئا منها
إما لأنه لم يثبت عنده حديث يناسبه بشرطه وإما لأمر آخر ونقل أيضا عن بعض أهل
العراق أنه ترجم له ولم يذكر شيئا فيه قصدا منه ليعلم أنه لم يثبت في ذلك الباب
شيء عنده قلت هذا كله كلام غير سديد لا طائل تحته والأحاديث والآثار الصحيحة كثيرة
في هذا الباب ولم يكن البخاري عاجزا عن إيراد حديث صحيح على شرطه أو أثر صحيح من
الصحابة أو التابعين مع كثرة نقله واتساع روايته ولئن سلمنا أنه لم يثبت عنده ما
يناسب هذا الباب فكان ينبغي أن لا يذكر هذا الباب فإن قلت ذكره للإعلام بأنه لم
يثبت فيه شيء عنده كما قاله بعض أهل العراق قلت ترك الباب في مثل هذا يدل على
الإعلام بذلك فلا فائدة في ذكره حينئذ ثم قال الكرماني فإن قلت فما تقول فيما
يترجم بعد هذا بباب فضل العلم وينقل فيه حديثا يدل على فضل العلم قلت المقصود بذلك
الفضل غير هذا الفضل إذ ذاك بمعنى الفضيلة أي الزيادة في العلم وهذا بمعنى كثرة
الثواب عليه قلت هذا فرق عجيب لأن الزيادة في العلم تستلزم كثرة الثواب عليه فلا
فرق بينهما في الحقيقة والتحقيق في هذا الموضع أن لفظ باب العلم لا يخلو إما أن
يكون مذكورا ههنا وبعد باب رفع العلم وظهور الجهل على ما عليه بعض النسخ أو يكون
مذكورا هناك فقط فإن كان الأول فهو تكرار في الترجمة بحسب الظاهر وإن كان الثاني
فلا يحتاج إلى الاعتذارات المذكورة مع أن الأصح من النسخ هو الثاني وإنما المذكور
ههنا كتاب العلم وقول الله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات الآية ( المجادلة 11 ) ولئن صح وجود باب فضل العلم في الموضعين فنقول ليس
بتكرار لأن المراد من باب فضل العلم هنا التنبيه على فضيلة العلماء بدليل الآيتين
المذكورتين فإنهما في فضيلة العلماء والمراد من باب فضل العلم هناك التنبيه على
فضيلة العلم فلا تكرار حينئذ فإن قلت كان ينبغي أن يقول باب فضل العلماء قلت بيان
فضل العلم يستلزم بيان فضل العلماء لأن العلم صفة قائمة بالعالم فذكر بيان فضل
الصفة يستلزم بيان فضل من هي قائمة به على أنا نقول إن لم يكن المراد من هذا الباب
بيان فضل العلماء لا يطابق ذكر الآيتين المذكورتين الترجمة ولهذا قال الشيخ قطب
الدين رحمه الله في ( شرحه ) بعد الآيتين ش جاء في الآثار أن درجات العلماء تتلو
درجات الأنبياء والعلماء ورثة الأنبياء ورثوا العلم وبينوه للأمة وحموه من تحريف
الجاهلين وروى ابن وهب عن مالك قال سمعت زيد بن أسلم يقول في قوله تعالى نرفع
درجات من نشاء ( الأنعام 83 ) قال بالعلم وقال ابن مسعود في قوله تعالى يرفع الله
الذين آمنوا منكم ( المجادلة 11 ) مدح الله العلماء في هذه الآية والمعنى يرفع
الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا فقط ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم
إذا فعلوا ما أمروا به وقيل يرفعهم في الثواب والكرامة وقيل يرفعهم في الفضل في
الدنيا والمنزلة وقيل يرفع الله درجات العلماء في الآخرة على المؤمنين الذين لم
يؤتوا العلم وقيل في قوله تعالى وقل رب زدني علما ( طه 114 ) أي بالقرآن وكان كلما
نزل شيء من القرآن ازداد به النبي عليه السلام علما وقيل ما أمر الله رسوله بزيادة
الطلب في شيء إلا في العلم وقد طلب موسى عليه السلام الزيادة فقال هل أتبعك على أن
تعلمني مما علمت رشدا ( الكهف 66 ) وكان ذلك لما سئل أي الناس أعلم فقال أنا أعلم
فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه وقوله درجات منصوب بقوله يرفع فإن قلت قوله
وقول الله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم ( المجادلة 11 ) ما حظه من الإعراب
قلت الذي يقتضيه أحوال
(2/3)
التركيب أن يكون مجرورا عطفا
على المضاف إليه في قوله باب فضل العلم على تقدير وجود الباب أو على العلم في قوله
كتاب العلم على تقدير عدم وجوده وقال بعضهم ضبطناه في الأصول بالرفع على الاستئناف
قلت إن أراد بالاستئناف الجواب على السؤال فذا لا يصح لأنه ليس في الكلام ما يقتضي
هذا وإن أراد الابتداء الكلام فذا أيضا لا يصح لأنه على تقدير الرفع لا يتأتى
الكلام لأن قوله وقول الله ليس بكلام فإذا رفع لا يخلو إما أن يكون رفعه بالفاعلية
أو بالابتداء وكل منهما لا يصح أما الأول فظاهر وأما الثاني فلعدم الخبر فإن قلت
الخبر محذوف قلت حذف الخبر لا يخلو إما أن يكون جوازا أو وجوبا فالأول فيما إذا
قامت قرينة وهي وقوعه في جواب الاستفهام عن المخبر به أو بعد إذا المفاجأة أو يكون
الخبر قبل قول وليس شيء من ذلك ههنا والثاني إذا التزم في موضعه غيره وليس هذا
أيضا كذلك فتعين بطلان دعوى الرفع
2 -
( باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل )
الكلام فيه على وجهين الأول أن باب مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى قوله من
سئل ومن موصولة قوله سئل على صيغة المجهول جملة من الفعل والمفعول النائب عن
الفاعل وقعت صلة لها وقوله علما نصب لأنه مفعول ثان وقوله وهو مشتغل في حديثه جملة
وقعت حالا عن الضمير الذي في سئل وذكر قوله فأتم بالفاء وقوله ثم أجاب بكلمة ثم
لأن إتمام الحديث حصل عقيب الاشتغال به والجواب بعد الفراغ منه الثاني وجه
المناسبة بين البابين على تقدير وجود الباب السابق في بعض النسخ من حيث إن الباب
الأول وإن كان المذكور فيه فضل العلم ولكن المراد التنبيه على فضل العلماء كما
حققنا الكلام فيه هناك وهذا الباب فيه حال العالم المسؤول منه عن مسألة معضلة ولا
يسأل عن المسائل المعضلات إلا العلماء الفضلاء العاملون الداخلون في قوله تعالى
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( المجادلة 11 ) وأما على
تقدير عدم الباب السابق في النسخ فالابتداء بهذا الباب الإشارة إلى ما قيل من أن
العلم سؤال وجواب والسؤال نصف العلم فتميز هذا الباب عن بقية الأبواب التي تضمنها
كتاب العلم فاستحق بذلك التصدير على بقية الأبواب فافهم
59 - حدثنا ( محمد بن سنان ) قال حدثنا ( فليح ) ( ح ) وحدثني ( إبراهيم بن المنذر
) قال حدثنا ( محمد بن فليح ) قال حدثني أبي قال حدثني ( هلال بن علي ) عن ( عطاء
بن يسار ) عن ( أبي هريرة ) قال بينما النبي في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال
متى الساعة فمضى رسول الله يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم
بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال أين اراه السائل عن الساعة قال ها أنا يا رسول
الله قال فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها قال إذا وسد الأمر إلى
غير أهله فانتظر الساعة
( الحديث 59 - طرفه في 6496 )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم ثمانية الأول محمد بن سنان بكسر السين المهملة وبالنونين أبو بكر
الباهلي العوقي البصري روى عنه البخاري وأبو داود وأبو حاتم الرازي قال يحيى بن
معين ثقة مأمون وروى أبو داود والنسائي وابن ماجة عن رجل عنه توفي سنة ثلاث وعشرين
ومائتين الثاني فليح بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء
مهملة ابن سليمان بن أبي المغيرة وهو حنين ابن أخي عبيد بن حنين وكان اسمه عبد
الملك ولقبه فليح واشتهر بلقبه الخزاعي المدني وكنيته أبو يحيى روى عن نافع وعدة
وروى عنه عبد الله بن وهب ويحيى الوحاظي وابن أعين وشريح بن النعمان وآخرون قال يحيى
بن معين هو ضعيف ما أقربه من ابن أبي أويس وفي رواية عنه ليس بقوي ولا يحتج به
وقال أبو حاتم ليس بالقوي وقال النسائي أيضا ليس بالقوي وقال ابن عدي هو عندي لا
بأس به وقد اعتمده البخاري في صحيحه وقد روى عنه زيد بن أبي أنيسة روى له البخاري
ومسلم وأبو داود والترمذي وقال الحاكم واجتماع البخاري ومسلم عليه في إخراجهما عنه
في الأصول يؤكد أمره ويسكن القلب فيه إلى تعديل توفي سنة ثمان وستين ومائة الثالث
إبراهيم بن المنذر بن عبد الله ابن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام
بن خويلد
(2/4)
القرشي الحزامي المدني أبو
إسحاق روى عنه أبو حاتم وأبو زرعة وابن ماجه وغيرهم وروى البخاري عنه وروى أيضا عن
محمد بن غالب عنه وروى النسائي عن رجل عنه وروى له الترمذي قال النسائي ليس به بأس
مات سنة ست وقيل خمس وثلاثين ومائتين بالمدينة الرابع محمد بن فليح المذكور روى عن
هشام بن عروة وغيره روى عنه هارون بن موسى الفروي وغيره لينه ابن معين وقال أبو
حاتم ما به بأس ليس بذلك القوي مات سنة سبع وتسعين ومائة روى له البخاري والنسائي
وابن ماجه الخامس أبو فليح المذكور السادس هلال بن علي ويقال له هلال بن أبي
ميمونة ويقال له هلال ابن أبي هلال ويقال له هلال بن أسامة نسبته إلى جده وقد يظن
أربعة والكل واحد قال مالك هلال بن أبي أسامة تابعه على ذلك أسامة بن زيد الليثي
وقال هو الفهري القرشي المدني وهو من صغار التابعين وشيخه في هذا الحديث من
أوساطهم سمع أنسا وغيره وقال أبو حاتم يكتب حديثه وهو شيخ قال الواقدي مات في آخر
خلافة هشام وروى له الجماعة السابع عطاء بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث وقد تقدم
ذكره الثامن أبو هريرة وقد تقدم ذكره أيضا
بيان الأنساب الباهلي بالباء الموحدة نسبة إلى باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة ابن
مالك بن كذا ومالك هو جماع مذحج العوقي بفتح العين المهملة والواو وبالقاف نسبة
إلى العوقة وهم حي من عبد القيس ولم يكن محمد بن سنان من العوقة وإنما نزل فيهم
كان لهم محلة بالبصرة فنزل عندهم فنسب إلى العوقة الخزاعي بضم الخاء وبالزاي
المعجمتين نسبة إلى خزاعة وهو عمرو بن ربيعة وقال الرشاطي الخزاعي في الأزد وفي
قضاعة فالذي في الأزد ينسب إلى خزاعة وهو عمرو بن ربيعة وفي قضاعة بطن وهو خزاعة
بن مالك بن عدي الحزامي بكسر الحاء المهملة وبالزاي المعجمة نسبة إلى حزام أحد
الأجداد وقال الرشاطي الحزامي في أسد قريش وفي فزارة فالذي في قريش حزام بن خويلد
بن أسد والذي في فزارة حزام بن سعد بن عدي بن فزارة الفهري بكسر الفاء نسبة إلى
فهر بن مالك بن النضر بن كنانة
بيان لطائف إسناده منها إن فيه التحديث بصيغة الجمع والتحديث بصيغة الإفراد وهو
قوله حدثني إبراهيم بن المنذر وفي بعض النسخ حدثنا والفرق بينهما ظاهر وهو أن
الشيخ إذا حدث له وهو السامع وحده يقول حدثني وإذا حدث ومعه غيره يقول حدثنا وفيه
العنعنة أيضا ومنها أن هذا إسنادان أحدهما عن محمد بن سنان عن فليح عن هلال عن
عطاء عن أبي هريرة والآخر عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه عن هلال
إلى آخره وهذا أنزل من الأول بواحد ومنها أن رجال الإسناد الآخير كلهم مدنيون
ومنها أن في غالب النسخ قبل قوله وحدثني إبراهيم بن المنذر صورة ( ح ) وهي حاء
مهملة مفردة قيل إنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناد إلى آخر ويقول القارىء إذا
انتهى إليها حا ويستمر في قراءة ما بعدها وقيل إنها من حال بين الشيئين إذا حجز
لكونها حالة بين الإسنادين وأنه لا يلفظ عند الإنتهاء إليها بشيء وقيل إنها رمز
إلى قوله الحديث وأهل المغرب إذا وصلوا إليها يقولون الحديث وقد كتب جماعة عن حفاظ
عراق العجم موضعها صح فيشعر بأنها رمز صحيح وحسن هنا كتابة صح لئلا يتوهم أنه سقط
متن الإسناد الأول وهي كثيرة في ( صحيح مسلم ) قليلة في البخاري
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري ههنا كما ترى وأخرجه أيضا في
الرقاق مختصرا عن محمد بن سنان عن فليح بن سلمان عن هلال بن علي به ولم يخرجه من
أصحاب الستة غيره
بيان اللغات قوله أعرابي هو الذي يسكن البادية وهو منسوب إلى الأعراب ساكني
البادية من العرب الذي لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة والعرب اسم
لهذا الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه سواء أقام بالبادية أو المدن
والنسبة إليه عربي وليس الأعراب جمعا لعرب ولم يعرف اسم هذا الأعرابي قوله الساعة
قال الأزهري الساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة وسميت بذلك لأنها تفجأ الناس في
ساعة فيموت الخلق كلهم بصيحة واحدة وفي ( العباب ) الساعة القيامة قلت أصله سوعة
قلبت الواو الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها قوله وسد من وسدته الشيء فتوسده إذا
جعله تحت رأسه والمعنى إذا فوض الأمر وأسند وفي ( المطالع ) إذا وسد الأمر إلى غير
أهله كذا لكافة الرواة أي أسند وجعل إليهم وقلدوه وعند القابسي أسد وقال الذي احفظ
وسد وقال هما بمعنى قال القاضي هو كما قال وقد قالوا وساد وأساد واشتقاقها واحد
والواو هنا بعد الألف ولعلها صورة الهمزة والوساد ما يتوسد إليه للنوم يقال اساد
وإسادة ووسادة وفي ( العباب ) الوساد والوسادة
(2/5)
والوسدة المخدة والجمع وسد
ووسائد وسدته كذا أي جعلته له وسادة وتوسد الشيء جعله تحت رأسه وقال بعضهم قوله
وسد أي جعل له غير أهله وسادا قلت ليس معناه كذا بل المعنى إذا وضعت وسادة الأمر
لغير أهلها والمراد من الأمر جنس الأمر الذي يتعلق بالدين فإذا وضعت وسادته لغير
أهلها تهان وتحقر على ما نبينه عن قريب قوله فانتظر أمر من الإنتظار
بيان الإعراب قوله بينما أصله بين فزيدت عليه ما وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة قوله
النبي مبتدأ وقوله يحدث القوم جملة من الفعل والفاعل والمفعول خبره ويحدث يقتضي
مفعولين وأحد المفعولين ههنا محذوف لدلالة السياق عليه والقوم هم الرجال دون
النساء وقد تدخل النساء فيه على سبيل التبع لأن قوم كل نبي رجال ونساء جمعه أقوام
وجمع الجمع أقاوم وقوله في مجلس حال قوله جاءه أعرابي جملة من الفعل والفاعل وهو
أعرابي والمفعول وهو الضمير المنصوب في جاءه العائد إلى النبي وهو جواب بينما وهو
العامل في بينما وقال الأصمعي الأفصح في جوابه أن لا يكون بإذ وإذا وقال غيره
بالعكس والصواب معه لورود الحديث هكذا وقيل بينما ظرف يتضمن معنى الشرط فلذلك
اقتضى جوابا وفيه نظر قوله متى الساعة مبتدأ وخبر وكلمة متى ههنا للاستفهام قوله
يحدث أي يحدث القوم وفي بعض الروايات بحديثه بحرف الجر وفي رواية المستملي والحموي
يحدثه بزيادة الهاء وليست في رواية الباقين والضمير المنصوب فيه لا يعود على
الأعرابي وإنما التقدير يحدث القوم الحديث الذي كان فيه فإن قلت ما محل يحدث من
الإعراب قلت محلها النصب على الحال من الضمير الذي في مضى قوله فقال بعض القوم من
ههنا إلى قوله لم يسمع جملة معترضة فإن قلت هل يجوز الاعتراض بالفاء قلت نعم جائز
قوله سمع أي بالنبي قوله ما قال أي الأعرابي وما موصولة وقال جملة صلته والعائد
محذوف أي ما قاله والجملة مفعول سمع ويجوز أن تكون ما مصدرية أي سمع قوله وكذلك
الكلام في قوله فكره ما قال قوله بل لم يسمع قال الكرماني علام عطف بل لم يسمع إذ
لا يصح أن يعطف على ما تقدم إذ الإضراب إنما يكون عن كلام نفسه بل لا يصح عطف أصلا
على كلام غير العاطف قلت لا نسلم امتناع صحة العطف والإضراب بين كلام متكلمين وما
الدليل عليه سلمنا لكن يكون الكل من كلام البعض الأول كأنه قال البعض الآخر للبعض
الأول قل بل لم يسمع أو كلام البعض الآخر بأن يقدر لفظ سمع قبله كأنه قال سمع بل
لم يسمع قلت هذا كله تعسف نشأ من عدم الوقوف على أسرار العربية فنقول التحقيق
هاهنا أن كلمة بل حرف إضراب فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما الإبطال وإما
الانتقال عن غرض إلى غرض وإن تلاها مفرد فهي عاطفة وههنا تلاها جملة أعني قوله لم
يسمع فكان الإضراب بمعنى الإبطال قوله حتى إذا قضى يتعلق بقوله فمضى يحدث لا بقوله
لم يسمع قوله قال أين أراه السائل أي قال النبي وقوله أراه بضم الهمزة معناه أظن
وهو شك من محمد بن فليح ورواه الحسن بن سفيان وغيره عن عثمان بن أبي شيبة عن يونس
عن محمد بن فليح من غير شك ولفظه قال أين السائل فإن قلت السائل مرفوع بماذا قلت
مرفوع على ابتداء وخبره قوله أين مقدما وأين سؤال عن المكان بنيت لتضمنها حرف
الاستفهام وقول بعضهم السائل بالرفع على الحكاية خطأ بل هو رفع على الابتداء كما
قلنا وقوله أراه جملة معترضة بين المبتدأ والخبر والمعنى أظن أنه قال أين السائل
قوله قال أي الأعرابي ها حرف التنبية وفي ( العباب ) هاء بالمد تكون تنبيها بمعنى
جوابا وقال الجوهري ها قد تكون جواب النداء تمد وتقصر وأيضا ها مقصورة للتقريب إذا
قيل لك أين أنت تقول ها أناذا قوله أنا مبتدأ وخبره محذوف أي أنا سائل وإنما ترك
العاطف عند قال في الموضعين السؤال والجواب لأن المقام كان مقام المقاولة والراوي
يحكي ذلك كأنه لما قال الأعرابي ذلك سأل سائل ماذا قال النبي في جوابه وبالعكس
قوله فإذا ضيعت الأمانة كلمة إذا تضمن معنى الشرط ولهذا جاء جوابها بالفاء وهو قوله
فانتظر الساعة قوله قال كيف إضاعتها أي قال الأعرابي كيف إضاعة الأمانة وفي بعض
النسخ فقال بالفاء وما بعده من قال في الموضعين بلا فاء ووجهه أن السؤال عن كيفية
الإضاعة متفرع على ما قبله فلهذا عقبه بالفاء بخلاف اختيه قوله قال إذا وسد الأمر
إلى غير أهله جواب لقوله كيف إضاعتها فإن قلت السؤال إنما هو عن كيفية الإضاعة
لقوله كيف والجواب هو بالزمان لا بيان الكيفية فما وجهه قلت متضمن للجواب إذ يلزم
منه بيان
(2/6)
أن كيفيتها هي بالتوسد المذكور
قوله فانتظر الساعة الفاء فيه للتفريع أو جواب شرط محذوف يعني إذا كان الأمر كذلك
فانتظر الساعة وليست هي جواب إذا التي في قوله إذا وسد الأمر إلى غير أهله لأنها
لا تتضمن ههنا معنى الشرط فإن قلت كان ينبغي أن يقال لغير أهله قلت إنما قال إلى
غير أهله ليدل على معنى تضمين الإسناد
بيان المعاني قوله متى الساعة أي متى يكون قيام الساعة قوله فكره ما قال أي فكره
رسول الله ما قاله الأعرابي ولهذا لم يلتفت إلى الجواب فلذلك حصل للصحابة رضي الله
عنهم التردد منهم من قال سمع فكره ومنهم من قال لم يسمع وذلك لأنه كان يكره السؤال
عن هذه المسألة بخصوصها قوله أين السائل عن الساعة أي عن زمان الساعة قوله إذا وسد
الأمر المراد به جنس الأمور التي تتعلق بالدين كالخلافة والقضاء والإفتاء ونحو ذلك
ويقال أي بولاية غير أهل الذين والأمانات ومن يعينهم على الظلم والفجور وعند ذلك
تكون الأئمة قد ضيعوا الأمانة التي فرض الله عليهم حتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين
وهذا إنما يكون إذا غلب الجهل وضعف أهل الحق عن القيام به فإن قلت تأخر الجواب عن
السؤال ههنا وهل يجوز تأخيره فيما يتعلق بالدين قلت الجواب من وجهين الأول بطريق
المنع فنقول لا نسلم استحقاق الجواب ههنا لأن المسألة ليست مما يجب تعلمها بل هي
مما لا يكون العلم بها إلا لله تعالى والثاني بطريق التسليم فنقوله سلمنا ذلك
ولكنه يحتمل أن يكون عليه السلام مشتغلا في ذلك الوقت بما كان أهم من جواب هذا
السائل ويحتمل أنه أخره انتظارا للوحي أو أراد أن يتم حديثه لئلا يختلط على
السامعين ويحتمل أن يكون في ذلك الوقت في جواب سؤال سائل آخر متقدم فكان أحق بتمام
الجواب
بيان استنباط الأحكام وهو على وجوه الأول فيه وجوب تعليم السائل لقوله أين السائل
ثم إخباره عن الذي سأل عنه الثاني فيه أن من آداب المتعلم أن لا يسأل العالم ما
دام مشتغلا بحديث أو غيره لأن من حق القوم الذين بدأ بحديثهم أن لا يقطعه عنهم حتى
يتمه الثالث فيه الرفق بالمتعلم وإن جفا في سؤاله أو جهل لأنه عليه الصلاة و
السلام لم يوبخه على سؤاله قبل إكمال حديثه الرابع فيه مراجعة العالم عند عدم فهم
السائل لقوله كيف إضاعتها الخامس فيه جواز اتساع العالم في الجواب أنه ينبغي منه
إذا كان ذلك لمعنى أو لمصلحة السادس فيه التنبيه على تقديم الأسبق في السؤال لأنا
قلنا إنه يحتمل أن يكون تأخير الرسول الجواب لكونه مشغولا بجواب سؤال سائل آخر
فنبه بذلك أنه يجب على القاضي والمفتي والمدرس تقديم الأسبق لاستحقاقه بالسبق
3 -
( باب من رفع صوته بالعلم )
أي هذا باب من رفع صوته فالباب خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى من وهي موصولة ورفع صوته
جملة صلتها فإن قلت كيف يتصور رفع الصوت بالعلم والعلم صفة معنوية قلت هذا من باب
إطلاق اسم المدلول على الدال والتقدير من رفع صوته بكلام يدل على العلم فإن قلت ما
وجه المناسبة بين البابين قلت من حيث إن المذكور في الباب السابق سؤال السائل عن
العلم والعالم قد يحتاج إلى رفع الصوت في الجواب لأجل غفلة السائل ونحوها لا سيما
إذا كان سؤاله وقت اشتغال العالم لغيره وهذا الباب يناسب ذاك الباب من هذه الحيثية
60 - حدثنا ( أبو النعمان عارم بن الفضل ) قال حدثنا ( أبو عوانة ) عن ( أبي بشر )
عن ( يوسف بن ماهك ) عن ( عبد الله بن عمرو ) قال تخلف عنا النبي في سفرة سافرناها
فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته
ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وهي في قوله فنادى بأعلى صوته وهو رفع الصوت
(2/7)
بيان رجاله وهم خمسة الأول أبو
النعمان محمد بن الفضل السدوسي وقد تقدم الثاني أبو عوانة بفتح العين المهملة
الوضاح اليشكري وقد تقدم الثالث أبو بشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة
جعفر بن إياس اليشكري المعروف بابن أبي وحشية والواسطي وقيل البصري قال أحمد ويحيى
وأبو حاتم ثقة وقال ابن سعد ثقة كثير الحديث مات سنة أربع وعشرين ومائة روى له
الجماعة الرابع يوسف بن ماهك ابن بهزاد بكسر الباء الموحدة وقيل بضمها أيضا والأول
أصح وبالزاي المعجمة الفارسي المكي نزلها سمع ابن عمر وابن عمرو وعائشة وغيرها
وسمع أباه ماهك قال يحيى ثقة توفي سنة ثلاث عشرة ومائة روى له الجماعة ويوسف فيه
ستة أوجه وقد ذكرناها وماهك بفتح الهاء غير منصرف لأنه اسم اعجمي علم وفي رواية
الأصيلي منصرف وقال بعضهم فكأنه لحظ فيه الوصف ولم يبين ماذا الوصف وقد أخذ هذا من
كلام الكرماني فإنه قال فإن قلت العجمة والعلمية فيه عقب قول الأصيلي إنه منصرف
قلت شرط العجمة مفقود وهو العلمية في العجمية لأن ماهك معناه القمير فهو إلى الوصف
أقرب قلت كل منهما لم يحقق كلامه والتحقيق فيه أن من يمنعه الصرف يلاحظ فيه
العلمية والعجمة أما العلمية فظاهر وأما العجمة فإن ماهك بالفارسية تصغير ماه وهو
القمر بالعربي وقاعدتهم أنهم إذا صغروا الاسم أدخلوا في آخره الكاف وأما من يصرفه
فإنه يلاحظ فيه معنى الصفة لأن التصغير من الصفات والصفة لا تجامع العلمية لإن
بينهما تضادا فحينئذ يبقى الاسم بعلة واحدة فلا يمنع من الصرف ولو جوز الكسر في
الهاء يكون عربيا صرفا فلا يمنع من الصرف أصلا لأنه حينئذ يكون اسم فاعل من مهكت
الشيء أمهكه مهكا إذا بالغت في سحقه قاله ابن دريد وفي ( العباب ) مهكت الشيء إذا
ملسته أو يكون من مهكة الشباب بالضم وهو امتلاؤه وارتواؤه ونماؤه وذكر الصغاني هذه
المادة ثم قال عقيبها ويوسف بن ماهك من التابعين الثقات ويمكن أن يقال إنه عربي مع
كون الهاء مفتوحة بأن يكون علما منقولا من ماهك وهو فعل ماض من المماهكة وهو الجهد
في الجماع من الزوجين فعلى هذا لا يجوز صرفه أصلا للعلمية ووزن الفعل وقال الدارقطني
ماهك اسم أمه والأكثر على أنه اسم أبيه واسم أمه مسيكة وعن علي بن المديني أن يوسف
بن ماهك ويوسف بن ماهان واحد قلت فعلى قول الدارقطني يمنع من الصرف أصلا للعلمية
والتأنيث فافهم الخامس عبد الله بن عمرو ابن العاص وقد تقدم
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بصري
وواسطي ومكي ومنها أن في رواية كريمة عن المستملي حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل
واقتصر غيره على أبي النعمان
بيان تعدد موضعه ومن اخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا عن أبي النعمان وفي العلم أيضا
عن مسدد وفيه وقد ارهقتنا الصلاة صلاة العصر وفي الطهارة عن موسى ابن إسماعيل وفيه
فأدركنا وقد ارهقتنا العصر واخرجه مسلم في الطهارة عن شيبان بن فروخ وأبي كامل
الجحدري عن أبي عوانة واخرجه النسائي في العلم عن ابي داود الحراني عن أبي الوليد
عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن المبارك عن أبى عوانة عن أبي بشر عنه واخرجه
الطحاوي عن أحمد بن داود المكي عن سهل بن بكار عن أبي عوانة به
بيان اللغات قوله تخلف أي تأخر خلفنا قوله فادركنا أي لحق بنا قوله وقد ارهقتنا
الصلاة أي غشيتنا الصلاة أي حملتنا الصلاة على أدائها وقيل قد أعجلتنا لضيق وقتها
وقال القاضي ومنه المراهق بالفتح في الحج ويقال بالكسر وهو الذي أعجله ضيق الوقت
أن يطوف وفي ( الموعب ) قال أبو زيد رهقتنا الصلاة بالكسر رهوقا حانت وأرهقنا عن
الصلاة إرهاقا أخرناها عن وقتها وقال صاحب ( العين ) استأخرنا عنها حتى يدنو وقت
الأخرى ورهقت الشيء رهقا أي دنوت منه وفي ( المحكم ) ارهقنا الليل دنا منا ورهقتنا
الصلاة رهقا حانت وفي رهقتنا الصلاة غشيتنا وفي ( الاشتقاق ) للرماني أصل الرهق
الغشيان وكذ قاله الزجاج وقال أبو النصر رهقني دنا مني وقال ابن الأعرابي رهقته
وأرهقته بمعنى دنوت منه وقال الجوهري رهقه بالكسر ويرهقه رهقا أي غشيه قال الله
تعالى ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ( يونس 26 ) وقال أبو زيد أرهقه عسرا إذا كلفه
إياه يقال لا ترهقني لا ارهقك أي لا تعسرني لا أعسرك وقيل في قوله تعالى ولا
ترهقني من أمري عسرا ( الكهف 73 ) أي لا تلحق بي من قولهم رهقه الشيء إذا غشيه وقيل
لا تعجلني ويجيء على قوله أبي زيد لا تكلفني قوله ويل يقابل ويح
(2/8)
ويقال لمن وقع فيما لا يستحقه
ترحما عليه وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ويل واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال
لماعت من حره وقيل ويل صديد أهل النار قلت ويل من المصادر التي لا أفعال لها وهي
كلمة عذاب وهلاك قوله للاعقاب جمع عقب مثال كبد وهو المستأخر الذي يمسك مؤخر شراك
النعل وقال أبو حاتم عقب وعقب مثال كبد وصفر وهي مؤنثة ولم يكسروا العين كما في
كبد وكتف وقال النضر بن شميل العقب يكون في المتن والساقين مختلط باللحم يمشق منه
مشقا ويهذب وينقى من اللحم ويسوى منه الوتر وأما العصب فالعلياء الغليظ ولا خير
فيه وقال الليث العقب مؤخر القدم فهو من العصب لا من العقب وقال الأصمعي العقب ما
أصاب الأرض مؤخر الرجل إلى موضع الشراك وفي ( المخصص ) عرش القدم أصول سلامياتها
المنتشرة القريبة من الأصابع وعقبها مؤخرها الذي يفصل عن مؤخر القدم وهو موقع
الشراك من خلفها
بيان الإعراب قوله تخلف فعل وفاعله النبي قوله في سفرة في محل النصب على الحال
قوله سافرناها جملة في محل الجر على أنها صفة لسفرة والضمير المنصوب فيه وقع
مفعولا مطلقا أي سافرنا تلك السفرة وذلك نحو قولهم زيدا أظنه منطلق أي زيد ينطلق
أظن الظن أو ظنا قوله فادركنا بفتح الكاف جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير
المرفوع فيه والمفعول وهو قوله نا قوله وقد ارهقتنا الصلاة جملة وقعت حالا قال
عياض روي برفع الصلاة على أنها الفاعل وروي ارهقنا الصلاة بالنصب على أنها مفعول أي
أخرنا الصلاة قلت روي في وجه الرفع وجهان أيضا أحدهما أرهقتنا بتأنيث الفعل بالنظر
إلى لفظ الصلاة والآخر أرهقنا بدون التاء لأن تأنيث الصلاة غير حقيقي قوله ونحن
نتوضأ جملة إسمية وقعت حالا قوله فجعلنا هو من أفعال المقاربة ويستعمل استعمال كاد
وهو أنه يرفع الاسم وخبره فعل مضارع بغير أن متأول باسم الفاعل نحو كاد زيد يخرج
أي خارجا وإنما ترك أن مع كاد وأثبت مع عسى لأن كاد أبلغ في تقريب الشيء من الحال
ألا ترى أنك إذا قلت كادت الشمس تغرب كان المعنى قرب غروبها جدا وعسى أذهب في
الدلالة على الاستقبال ألا ترى تقول عسى الله أن يدخلني الجنة وإن لم يكن هذا شديد
القرب من الحال فلما كان الأمر على ذا حذف علم الاستقبال مع كاد وأثبت مع عسى وقد
شبهه بعسى من قال
( قد كان من طول البلاء أن يمصحا )
ثم قوله نا في فجعلنا اسم جعل وقوله نمسح خبره قوله ويل مرفوع على الابتداء
والمخصص كونه مصدرا في معنى الدعاء كما في سلام عليكم وخبره قوله للاعقاب قوله من
النار كلمة من للبيان كما في قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان ( الحج 30 ) ويجوز أن
تكون بمعنى في كما في قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ( الجمعة 9 ) أي
في يوم الجمعة قوله مرتين تثنية مرة وتجمع على مرات وانتصاب كلها على الظرفية قوله
أو ثلاثا شك من عبد الله بن عمرو
بيان المعاني قوله تخلف عنا النبي عليه السلام في سفرة هذه السفرة قد جاءت مبينة
في بعض طرق روايات مسلم رجعنا مع رسول الله من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا في
الطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها
الماء فقال النبي عليه السلام ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء قوله وقد
ارهقتنا الصلاة وهي صلاة العصر على ما جاء في رواية مسلم مصرحة وكذا في رواية
البخاري من طريق مسدد على ما ذكرنا قوله ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا قال
القاضي عياض معناه نغسل كما هو المراد في الآية بدليل تباين الروايات وليس معناه
ما أشار إليه بعضهم أنه دليل على أنهم كانوا يمسحون فنهاهم النبي عن ذلك وأمرهم
بالغسل وقالوا أيضا لو كان غسلا لأمرهم بالإعادة لما صلوا وهذا لا حجة فيه لقائله
لأنه عليه السلام قد أعلمهم بأنهم مستوجبون النار على فعلهم بقوله ويل للأعقاب من
النار وهذا لا يكون إلا في الواجب وقد أمرهم بالغسل بقوله اسبغوا الوضوء ولم يأت
أنهم صلوا بهذا الوضوء ولا أنها كانت عادتهم قبل فيلزم أمرهم بالإعادة وقال
الطحاوي ما ملخصه أنهم كانوا يمسحون عليها مثل مسح الرأس ثم إن رسول الله منعهم عن
ذلك وأمرهم بالغسل فهذا يدل على انتساخ ما كانوا يفعلونه من المسح وفيه نظر لأن
قوله نمسح على أرجلنا يحتمل أن يكون معناه نغسل غسلا خفيفا مبقعا حتى يرى كأنه مسح
والدليل عليه ما في الرواية الآخرى رأى قوما توضؤا وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئا
فهذا يدل على أنهم كانوا يغسلون ولكن غسلا قريبا من المسح فلذلك قال لهم أسبغوا
الوضوء وأيضا إنما يكون الوعيد على ترك الفرض ولو لم يكن الغسل في الأول
(2/9)
فرضا عندهم لما توجه الوعيد
لأن المسح لو كان هو المشمول فيما بينهم كان يأمرهم بتركه وانتقالهم إلى الغسل
بدون الوعيد ولأجل ذلك قال القاضي عياض معناه نغسل كما ذكرناه آنفا والصواب أن
يقال إن أمر رسول الله بإسباغ الوضوء ووعيده وإنكاره عليهم في ذلك الغسل يدل على
أن وظيفة الرجلين هو الغسل الوافي لا الغسل المشابه بالمسح كغسل هؤلاء وقول عياض
وقد أمرهم بالغسل بقوله اسبغوا الوضوء غير مسلم لأن الأمر بالإسباغ أمر بتكميل
الغسل والأمر بالغسل فهم من الوعيد لأنه لا يكون إلا في ترك واجب فلما فهم ذلك من
الوعيد أكده بقوله اسبغوا الوضوء ولهذا ترك العاطف فوقع هذا تأكيدا عاما يشمل
الرجلين وغيرهما من أعضاء الوضوء لأنه لم يقل اسبغوا الرجلين بل قال اسبغوا الوضوء
والوضوء هو غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس ومطلوبية الإسباغ غير مختصة بالرجلين
فكما أنه مطلوب فيهما فكذلك مطلوب في غيرهما فإن قلت لم ذكر الإسباغ عاما والوعيد
خاصا قلت لأنهم ما قصروا إلا في وظيفة الرجلين فلذلك ذكر لفظ الأعقاب فيكون الوعيد
في مقابلة ذلك التقصير الخاص
بيان استنباط الأحكام الأول فيه دليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء لأن المسح لو
كان كافيا لما أوعد من ترك غسل العقب بالنار وسيأتي الكلام فيه في بابه مستوفى
الثاني فيه وجوب تعميم الأعضاء بالمطهر وإن ترك البعض منها غير مجزىء الثالث تعليم
الجاهل وإرشاده الرابع أن الجسد يعذب وهو مذهب أهل السنة الخامس جواز رفع الصوت في
المناظرة بالعلم السادس أن العالم ينكر ما يرى من التضييع للفرائض والسنن ويغلظ
القول في ذلك ويرفع صوته للإنكار السابع تكرار المسألة تأكيدا لها ومبالغة في
وجوبها وسيأتي ذكره في باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم
الأسئلة والاجوبة منها ما قيل إن الرجل له رجلان وليس له أرجل فالقياس أن يقال على
رجلينا أجيب بأن الجمع إذا قوبل بالجمع يفيد التوزيع فتوزع الأرجل على الرجال
ومنها ما قيل فعلى هذا يكون لكل رجل رجل أجيب بأن جنس الرجل يتناول الواحد
والإثنين والعقل يعين المقصود سيما فيما هو محسوس ومنها ما قيل إن المسح على ظهر
القدم لا على الرجل كلها أجيب بأنه أطلق الرجل وأريد البعض أي ظهر القدم ولقرينة
العرف الشرعي إذ المعهود مسح ذلك وهذا فيه نظر لأنهم ما كانوا يمسحون مثل مسح
الرأس وإنماا كانوا يغسلون ولكن غسلا خفيفا فلذلك أطلقوا عليه المسح وقد حققناه عن
قريب ومنها ما قيل لم خص الأعقاب بالعذاب أجيب لأنها العضو التي لم تغسل وفي (
الغريبين ) وفي الحديث ويل للعقب من النار أي لصاحب العقب المقصر عن غسلها كما قال
واسأل القرية ( يوسف 82 ) أي أهل القرية وقيل إن العقب يخص بالمؤلم من العقاب إذا
قصر في غسلها وفي ( المنتهى في اللغة ) وفي الحديث ويل للأعقاب من النار أراد
التغليظ في إسباغ الوضوء وهو التكميل والإتمام والسبوغ الشمول ومنها ما قيل ما
الألف واللام في الأعقاب أجيب بأنها للعهد أي للأعقاب التي رآها كذلك لم تمسها
الماء أو يكون المراد الأعقاب التي صفتها هذه لا كل الأعقاب ومنها ما قيل إن اللام
للاختصاص النافع إذ المشهور أن اللام تستعمل في الخير وعلى في الشر نحو لها ما
كسبت وعليها ما اكتسبت ( البقرة 286 ) وأجيب بأنها للاختصاص ههنا نحو وإن اسأتم
فلها ( الإسراء 7 ) ونحو ولهم عذاب أليم ( البقرة 10 174 آل عمران 77 91 177 188
المائدة 36 التوبة 61 79 إبراهيم 22 النحل 63 104 117 الشورى 21 242 الحشر 15
التغابن 5 ) قلت وقد تستعمل اللام في موضع على وقالوا إن اللام في وإن اسأتم فلها
( الإسراء 7 ) بمعنى عليها ومنها ما قيل كيف أخرت الصحابة رضي الله عنهم الصلاة عن
الوقت الفاضل أجيب بأنهم إنما أخروها عنه طمعا أن يصلوها مع النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم لفضل الصلاة معه فلما خافوا الفوات استعجلوا فانكر عليهم النبي عليه
الصلاة و السلام ومنها ما قيل روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال ويل للأعقاب من النار وكذلك
حديث مسلم عن عبد الله بن عمرو الذي مضى ذكره عن قريب وفيه فانتهينا إليهم
وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال عليه الصلاة و السلام ويل للأعقاب من النار
وهذان الحديثان تصريح بأن الوعيد وقع على عدم استيعاب الرجل بالماء وحديث البخاري
يدل على أن المسح لا يجزىء عن الغسل في الرجل وأجيب بأنه ترد الأحاديث إلى معنى
واحد ويكون معنى قوله لم يمسها الماء أي بالغسل وإن مسها بالمسح فيكون الوعيد وقع
على
(2/10)
الاقتصار على المسح دون الغسل
قلت هذا الجواب يؤيد ما قاله الطحاوي الذي ذكرناه عن قريب وهو لا يخلو عن نظر
والله أعلم
4 -
( باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا )
أي هذا باب في بيان قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا هل فيه فرق أم الكل واحد
والمراد بالمحدث اللغوي وهو الذي يحدث غيره لا الاصطلاحي وهو الذي يشتغل بالحديث
النبوي فإن قلت ما وجه ذكر هذا الباب في كتاب العلم وما وجه المناسبة بينه وبين
الباب الذي قبله قلت أما ذكره مطلقا فللتنبيه على أنه بنى كتابه على المسندات
المروية عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأما ذكره في كتاب العلم فظاهر
لأنه من جملة ما يحتاج إليه المحدث في معرفة الفرق بين الألفاظ المذكورة لغة
واصطلاحا وأما وجه المناسبة بين البابين فهو من حيث إن المذكور في الباب السابق
رفع العالم صوته بالعلم ليتعلم الحاضرون ذلك ويعلمون غيرهم بالرواية عنه فعند
الرواية والنقل عنه لا بد من ذكر لفظة من الألفاظ المذكورة فحينئذ ظهر الاحتياج
إلى معرفتها لغة واصطلاحا ومن حيث الفرق بينها وعدمه وفي بعض النسخ أخبرنا وحدثنا
وأنبأنا
وقال لنا الحميدي كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبانا وسمعت واحدا
الحميدي بضم الحاء هو أبو بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي المكي أحد مشايخ
البخاري وقد مر ذكره وتصدير الباب بقوله تنبيه على أنه اختار هذا القول في عدم
الفرق بين هذه الألفاظ الأربعة نقل هذا عن شيخه الحميدي والحميدي أيضا نقل ذلك عن
شيخه سفيان بن عينية وهو أيضا قد ذكر وفي بعض النسخ وقال لنا الحميدي وهي رواية
كريمة والأصيلي وكذا ذكر أبو نعيم في ( المستخرج ) وليس في رواية كريمة وانبأنا
والكل في رواية أبي ذر ثم اعلم أن قوله قال الحميدي لا يدل جزما على أنه سمعه منه
فيحتمل الواسطة وهو أحط مرتبة من حدثنا ونحوه سواء كان بزيادة لنا أو لم يكن لأنه
يقال على سبيل المذاكرة بخلاف نحو حدثنا فإنه يقال على سبيل النقل والتحمل وقال
جعفر بن حمدان النيسابوري كلما قال البخاري فيه قال لي فلان فهو عرض ومناولة وقال
القاضي عياض لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه حدثنا
وأخبرنا وانبأنا وسمعته يقول وقال لنا فلان وذكر لنا فلان وإليه مال الطحاوي وصحح
هذا المذهب ابن الحاجب ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة وهو مذهب
جماعة من المحدثين منهم الزهري ويحيى القطان وقيل إنه قول معظم الحجازيين
والكوفيين فلذلك اختاره البخاري بنقله عن الحميدي عن سفيان بن عيينة وقال آخرون
بالمنع في القراءة على الشيخ إلا مقيدا مثل حدثنا فلان قراءة عليه وأخبرنا قراءة
عليه وهو مذهب المتكلمين وقال آخرون بالمنع في حدثنا وبالجواز في أخبرنا وهو مذهب
الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق ونقل عن أكثر المحدثين منهم
ابن جريج والأوزاعي والنسائي وابن وهب وقيل إن عبد الله ابن وهب أول من أحدث هذا
الفرق بمصر وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث والأحسن أن يقال فيه إنه اصطلاح
منهم أرادوا به التمييز بين النوعين وخصصوا قراءة الشيخ بحدثنا لقوة إشعاره بالنطق
والمشافهة وأحدث المتأخرون تفصيلا آخر وهو أنه متى سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد
فقال حدثني أو أخبرني أو سمعت ومتى سمع مع غيره جمع فقال حدثنا أو أخبرنا ومتى قرأ
بنفسه على الشيخ أفرد فقال أخبرني وخصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ
من يخبره وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم لأن هذا اصطلاح ولا منازعة فيه وقال
بعضهم التحديث والإخبار والإنباء سواء وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى
اللغة قلت لا نسلم ذلك لأن الحديث هو القول والخبر من الخبر بضم الخاء وسكون الباء
وهو العلم بالشيء من خبرت الشيء أخبره خبرا وخبرة ومن أين خبرت هذا أي علمته وإنما
استواء هذه الألفاظ بالنسبة إلى الاصطلاح وكل ما جاء من لفظ الخبر وما يشتق منه في
القرآن والحديث وغيرهما فمعناه الأصلي هو العلم فافهم
(2/11)
وقال ابن مسعود حدثنا رسول الله
وهو الصادق المصدوق وقال شقيق عن عبد الله سمعت النبي كلمة وقال حذيفة حدثنا رسول
حديثين
هذه ثلاث تعاليق أوردها تنبيها على أن الصحابي تارة كان يقول حدثنا وتارة كان يقول
سمعت فدل ذلك على أنه لا فرق بينهما التعليق الأول الذي رواه عبد الله بن مسعود
طرف من الحديث المشهور أوصله البخاري في كتاب القدر وسيجيء الكلام عليه هناك إن
شاء الله تعالى الثاني رواه أبو وائل شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود أوصله البخاري
في كتاب الجنائز الثالث رواه حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه أوصله البخاري في كتاب
الرقاق وسيأتي إن شاء الله تعالى واسم اليمان حسل بكسر الحاء وسكون السين المهملة
ويقال حسيل بالتصغير ابن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بالجيم المكسورة ابن
الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض بفتح الموحدة وغين وضاد معجمتين ابن ريث
بفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره ثاء مثلثة بن غطفان بن سعد بن قيس بن
غيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان العبسي حليف بني عبد الأشهل من الأنصار
قالوا واليمان لقب حسل وقال الكلبي وابن سعد هو لقب جروة وإنما لقب اليمان لأن
جروة أصاب دما في قومه فهرب إلى المدينة فخالف بني عبد الأشهل من الأنصار فسماه قومه
اليمان لأنه حالف اليمانية أسلم هو وأبوه وشهدا أحدا وقتل أبوه يومئذ قتله
المسلمون خطأ فوهب لهم دمه وأسلمت أم حذيفة وهاجرت وأرادا أن يشهدا بدرا
فاستحلفهما المشركون أن لا يشهدا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فحلفا لهم ثم
سألا النبي عليه السلام فقال النبي عليه السلام نفي لهم بعهدهم ونستعين بالله
عليهم وكان صاحب سر النبي في المنافقين يعلمهم وحده وسأله عمر رضي الله عنه هل في
عمالهم أحد منهم قال نعم واحد قال من هو قال لا أذكره فعزله عمر رضي الله تعالى
عنه كأنما دل عليه وكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا مات ميت فإن حضر الصلاة عليه
حذيفة صلى عليه عمر رضي الله عنه وإلا فلا وحديثه ليلة الأحزاب مشهور فيه معجزات
وكان فتح همدان والري والدينور على يده ولاه عمر رضي الله عنه المدائن وكان كثير
السؤال لرسول الله عن الفتن والشر ليجتنبهما ومناقبه كثيرة روي له عن رسول الله عشرون
حديثا قاله الكرماني في شرحه وقال الشيخ قطب الدين في شرحه أخرجا له اثني عشر
حديثا اتفقا عليها وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بسبعة عشر قلت فهذا يدل على سقط
عدد من الكرماني إما منه وإما من النساخ توفي حذيفة بالمدائن سنة ست وثلاثين بعد
قتل عثمان رضي الله عنه بأربعين ليلة روى له الجماعة
وقال أبو العالية عن ابن عباس عن النبي فيما يروي عن ربه وقال أنس عن النبي يرويه
عن ربه عز و جل وقال أبو هريرة عن النبي يرويه عن ربكم عز و جل
هذه ثلاث تعاليق أخرى أوردها تنبيها على حكم العنعنة وأن حكمها الوصل عند ثبوت
اللقى وفيه تنبيه آخر وهو أن رواية النبي عليه الصلاة و السلام إنما هي عن ربه
سواء صرح بذلك الصحابي أم لا والدليل عليه أن ابن عباس رضي الله عنهما روى عنه
حديثه المذكور في موضع آخر ولم يذكر فيه عن ربه لا يقال ذكر العنعنة لا تعلق له
بالترجمة وكذا ذكر الرواية لأنا نقول لفظ الرواية شامل لجميع الأقسام المذكورة
وكذا لفظ العنعنة لاحتماله كلا من هذه الألفاظ الثلاثة وهذه التعاليق وصلها
البخاري في كتاب التوحيد وهؤلاء الصحابة قد ذكروا فيما مضى وأما أبو العالية فقد
قال الشيخ قطب الدين في شرحه هو البراء بالراء المشددة واسمه زياد بن فيروز البصري
القرشي مولاهم وقيل اسمه أذينة وقيل كلثوم وقيل زياد بن أذينة سمع ابن عباس وابن
عمر وابن الزبير وغيرهم قال أبو زرعة ثقة توفي سنة تسعين روى له البخاري ومسلم
وإنما قيل له البراء لأنه كان يبري النبل ومثله أبو معشر البراء واسمه يوسف وكان
يبري النبل وقيل يبري العود ومن عداهما البراء مخفف وكله ممدود وقال الكرماني أبو
العالية بالمهملة والتحتانية والظاهر أنه رفيع
(2/12)
بضم الراء وفتح الفاء ابن
مهران الرياحي أعتقته امرأة من بني رياح أدرك الجاهلية وأسلم بعد موت رسول الله
بسنتين مات سنة تسعين ورياح بالمثناة التحتانية حي من بني تميم وقال بعضهم أبو
العالية المذكور ههنا هو الرياحي وهو رفيع بضم الراء ومن زعم أنه البراء بالراء
المثقلة فقد وهم فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي دونه قلت كل واحد من أبي
العالية البراء وأبي العالية رفيع من الرواة عن ابن عباس وترجيح أحدهما على الآخر
في رواية هذا الحديث عن ابن عباس يحتاج إلى دليل وقوله فإن الحديث المذكور معروف
برواية الرياحي دونه يحتاج إلى نقل عن أحد ممن يعتمد عليه
61 - حدثنا ( قتيبة ) حدثنا ( إسماعيل بن جعفر ) عن ( عبد الله بن دينار ) عن (
ابن عمر ) قال قال رسول الله إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم
فحدثوني ما هي فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله ووقع في نفسي أنها النخلة
فاستحييت ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله قال هي النخلة
مطابقة الحديث للترجمة في قوله ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله وفي قوله
فحدثوني ما هي فإن قلت الترجمة بثلاثة ألفاظ وهي التحديث والإخبار والإنباء وليس
في الحديث إلا لفظ التحديث قلت ألفاظ الحديث مختلفة فإذا جمعت طرقه يوجد ذلك كله
ففي رواية عبد الله بن دينار المذكورة ههنا لفظ حدثوني ما هي وفي رواية نافع عنه
في التفسير عند البخاري أيضا اخبروني وفي رواية الإسماعيلي عن نافع عنه انبؤني
فاشتمل الحديث المذكور على هذا الألفاظ الثلاثة التي هي الترجمة
بيان رجاله وهم خمسة والكل ذكروا
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في كتاب العلم هذا في ثلاثة مواضع
عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن ابن دينار عن ابن عمر وعن خالد بن مخلد عن سليمان
عن ابن دينار به وعن علي عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعن إسماعيل عن مالك
عن ابن دينار به وفيه فقالوا يا رسول الله أخبرنا بها واخرجه في البيوع في باب بيع
الجمار وأكله عن أبي عوانة عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن عمر وفي الأطعمة عن عمر بن
حفص عن أبيه عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر وعن أبي نعيم عن محمد ابن طلحة عن زبيد
عن مجاهد عن ابن عمر ولفظ حديث عمر بن حفص بينا نحن عند النبي عليه الصلاة و
السلام جلوس إذ أتي بجمار نخلة فقال عليه الصلاة و السلام إن من الشجر لما بركته
كبركة المسلم فظننت أنه يعني النخلة فأردت أن أقول هي النخلة يا رسول الله ثم
التفت فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم فسكت فقال النبي هي النخلة وفي أول بعض طرقه
كنت عند النبي وهو يأكل الجمار وأخرجه في الأدب في باب لا يستحي من الحق عن آدم عن
شعبة عن محارب عن أبن عمر قال رسول الله عليه الصلاة و السلام مثل المؤمن كمثل
شجرة خضراء لا يسقط ورقها ولا يتحات فقال القوم هي شجرة كذا فأردت أن أقول هي
النخلة وأنا غلام شاب فاستحييت فقال هي النخلة وعن شعبة عن خبيب عن حفص عن ابن عمر
مثله وزاد فحدثت به عمر فقال لو كنت قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا وأخرجه مسلم
في تلو كتاب التوبة عن محمد بن عبيد عن حماد عن أيوب عن أبي الجليل وعن أبي بكر
وابن أبي عمر عن سفيان عن أبي نجيح وعن أبي نمير عن أبيه عن سيف بن سليمان وقال
ابن أبي سليمان كلهم عن مجاهد به وعن قتيبة وأبي أيوب وابن حجر عن إسماعيل بن جعفر
عن ابن دينار عن ابن عمر به وفي بعضها قال ابن عمر فألقى الله تعالى في روعي أنها
النخلة الحديث
بيان اللغات قوله من الشجر قال الصغاني في ( العباب ) الشجر والشجرة ما كان على
ساق من نبات الأرض وقال الدينوري من العرب من يقول شجرة وشجرة فيكسر الشين وبفتح
الجيم وهي لغة لبني سليم وأرض شجراء كثيرة الأشجار ولا يقال واد شجر وواحد الشجراء
شجرة ولم يأت على هذا المثال إلا أحرف يسيرة وهي شجرة وشجراء وقصبة وقصباء وطرفة
وطرفاء وحلفة وحلفاء وقال سيبوبه الشجراء واحد وجمع وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء
وقال الزمخشري
(2/13)
الشجرة بكسر الشين والشيرة
بكسر الشين والياء وعن أبي عمرو أنه كرهها وقال يقرأ بها برابر مكة وسودانها قوله
البوادي جمع بادية وهي خلاف الحاضرة والبدو مثل البادية والنسبة إليهما بدوي وعن
أبي زيد بداوي وأصلها باء ودال وواو من البدو وهو الظهور وهو ظاهر في معنى البادية
وفي بعض الروايات البواد بحذف الياء وهي لغة قوله النخلة واحدة النخل وفي ( العباب
) النخل والنخيل بمعنى واحد الواحدة نخلة
بيان الإعراب قوله شجرة نصب لأنه اسم إن وخبرها قوله من الشجرة وكلمة من للتبعيض
ويجوز أن يكون المعنى من جنس الشجرة قوله لا يسقط ورقها جملة من الفعل والفاعل في
محل النصب على أنها صفة لشجرة قوله وأنها بالكسر عطف على إن الأولى قوله ما هي
مبتدأ وخبر والجملة سدت حسد المفعولين لفعل الحديث قوله إنها النحلة بفتح أن لأنها
فاعل وقع والنخلة مرفوع لأنها خبر ان قوله حدثنا ما هي مبتدأ وهي خبره والجملة سدت
مسد المفعولين أيضا وقوله هي النخلة مبتدأ وخبر وقعت مقول القول
بيان المعاني قوله إن من الشجر شجرة مخرج على خلاف مقتضى الظاهر لأن المخاطبين فيه
كانوا مستشرفين كاستشراف الطالب المتردد فلذلك حسن تأكيده بأن وصوغه بالجملة
الإسمية قوله لا يسقط ورقها صفة سلبية تبين أن موصوفها مختص بها دون غيره قوله
وإنها مثل المسلم كذلك مخرج على خلاف مقتضى الظاهر كما ذكرنا قوله فوقع الناس في
شجر البوادي أي ذهبت أفكارهم إلى شجر البوادي وذهلوا عن النخلة فجعل كل منهم
يفسرها بنوع من الأنواع يقال وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها قوله قال عبد
الله أي عبد الله به عمر رضي الله عنهما قوله فاستحييت زاد في رواية مجاهد في باب
الفهم في العلم فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم وله في الأطعمة فإذا
أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم وفي رواية نافع ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن
أتكلم وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار عند البخاري في باب الحياء في العلم
قال عبد الله فحدثت أبي بما وقع ( نفسي ) فقال لأن كنت قلتها أحب إلي من أن يكون
لي كذا وكذا زاد ابن حبان في ( صحيحه ) احسبه قال حمر النعم
بيان البيان قوله مثل المسلم بفتح الميم والثاء معا في رواية الأصيلي وكريمة وفي
رواية أبي ذر مثل بكسر الميم وسكون الثاء قال الجوهري مثل كلمة تسوية يقال هذا
مثله ومثيله كما يقال شبهه وشبيهه بمعنى وقال الزمخشري المثل في أصل كلامهم بمعنى
المثل يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه
بمورده مثل ولم يضربوا مثلا ولا رأوه أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول والقبول إلا
قولا فيه غرابة من بعض الوجوه قلت لضرب المثل شأن في إبراز خبيئات المعاني ورفع
الاستار عن الحقائق فإن الأمثال تري المخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض
المتيقن والغائب كأنه مشاهد ولا يضرب مثل إلا قول فيه غرابة فإن قلت ما المورد وما
المضرب قلت المورد الصورة التي ورد فيها ذلك القول والمضرب هي الصورة التي شبهت
بها ثم اعلم أن المثل له مفهوم لغوي وهو النظير ومفهوم عرفي وهو القول السائر
ومعنى مجازي وهو الحال الغريبة واستعير المثل هنا كاستعارة الأسد للمقدام للحال
العجيبية أو الصفة الغريبة كأنه قيل حال المسلم العجيب الشأن كحال النخلة أو صفة
المسلم الغريبة كصفة النخلة فالمسلم هو المشبه والنخلة هو المشبه بها وأما وجه
الشبه فقد اختلفوا فيه فقال بعضهم هو كثرة خيرها ودوام ظلها وطيب ثمرها ووجودها
على الدوام فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس وبعد أن ييبس يتخذ
منها منافع كثيرة من خشبها وورقها وأغصانها فيستعمل جذوعا وحطبا وعصيا ومحاضر
وحصرا وحبالا وأواني وغير ذلك مما ينتفع به من أجزائها ثم آخرها نواها ينتفع به
علفا للإبل وغيره ثم جمال نباتها وحسن ثمرتها وهي كلها منافع وخير وجمال وكذلك
المؤمن خير كله من كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه ومواظبته على صلاته وصيامه وذكره
والصدقة وسائر الطاعات هذا هو الصحيح في وجه الشبه وقال بعضهم وجه التشبيه أن
النخلة إذا قطعت رأسها ماتت بخلاف باقي الشجر وقال بعضهم لأنها لا تحمل حتى تلقح
وقال بعضهم لأنها تموت إذا مزقت أو فسد ما هو كالقلب لها وقال بعضهم لأن لطلعها
رائحة المني وقال بعضهم لأنها تعشق كالإنسان وهذه الأقوال كلها ضعيفة من حيث إن
التشبيه إنما وقع بالمسلم وهذه المعاني تشمل المسلم والكافر قوله حدثنا صورة أمر
ولكن المراد منه الطلب والسؤال وقد علم أن الأمر إذا كان
(2/14)
بالعلو والاستعلاء يكون حقيقة
في بابه وإذا كان لمساويه يكون التماسا وإذا كان لأعلى منه يكون طلبا وسؤالا فافهم
بيان استنباط الأحكام الأول فيه استحباب إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليختبر
أفهامهم ويرغبهم في الفكر الثاني فيه توقير الكبار وترك التكلم عندهم وقد بوب عليه
البخاري بابا كما سيأتي إن شاء الله تعالى الثالث فيه استحباب الحياء ما لم يؤد
إلى تفويت مصلحة ولهذا تمنى عمر رضي الله عنه أن يكون ابنه لم يسكت الرابع فيه
جواز اللغز مع بيانه فإن قلت روى أبو داود من حديث معاوية عن النبي أنه نهى عن
الأغلوطات قال الأوزاعي أحد رواته هي صعاب المسائل قلت هو محمول على ما إذا أخرج
على سبيل تعنيت المسؤول أو تعجيزه أو تخجيله ونحو ذلك الخامس فيه جواز ضرب الأمثال
والأشباه لزيادة الأفهام وتصوير المعاني في الذهن وتحديد الفكر والنظر في حكم
الحادثة السادس فيه تلويح إلى أن التشبيه لا عموم له ولا يلزم أن يكون المشبه مثل
المشبه به في جميع الوجوه السابع فيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه
من هو دونه لأن العلم منح إلهية ومواهب رحمانية وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
الثامن فيه دلالة على فضيلة النخل قال المفسرون ضرب الله مثلا كلمة طيبة ( إبراهيم
24 ) لا إلاه إلا الله كشجرة طيبة ( إبراهيم 24 ) هي النخلة أصلها ثابت ( إبراهيم
24 ) في الأرض وفرعها في السماء ( إبراهيم 24 ) أي رأسها تؤتي أكلها كل ( إبراهيم
25 ) وقت شبه الله الإيمان بالنخلة لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في
منبتها وشبه ارتفاع عمله إلى السماء بارتفاع فروع النخلة وما يكتسبه المؤمن من
بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وزمان بما ينال من ثمر النخلة في أوقات السنة كلها
من الرطب والتمر وقد ورد ذلك صريحا فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة عن نافع
عن ابن عمر قال قرأ رسول الله فذكر هذه الآية فقال أتدرون ما هي قال ابن عمر لم
يخف علي أنها النخلة فمنعني أن أتكلم لمكان سني فقال رسول الله عليه السلام هي
النخلة وروى ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن عبد
الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال من يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن
أصلها ثابت وفرعها في السماء ( إبراهيم 24 ) فذكر الحديث وروى البزار أيضا من طريق
سفيان بن حسين عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله مثل المؤمن مثل
النخلة فما أتاك منها نفعك هكذا أورده مختصرا وإسناده صحيح وقال قال البزار لم يرو
هذا الحديث عن النبي عليه السلام بهذا السياق إلا ابن عمر وحده ولما ذكره الترمذي
قال وفي الباب عن أبي هريرة قلت أخرجه عبد بن حميد في تفسيره بلفظ مثل المؤمن مثل
النخلة وروى الترمذي أيضا والنسائي وابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي
قرأ مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ( إبراهيم24 ) قال هي النخلة تفرد برفعه حماد بن
سلمة وقال الكرماني قيل إن النخلة خلقت من بقية طينة آدم عليه السلام فهي كالعمة
للأناسي قلت روي فيه حديث مرفوع ولكنه لم يثبت
5 -
( باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم )
62 - حدثنا ( خالد بن مخلد ) حدثنا ( سليمان ) حدثنا ( عبد الله بن دينار ) عن (
ابن عمر ) عن النبي قال إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم حدثوني
ما هي قال فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله فوقع في نفسي أنها النخلة ثم
قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله قال هي النخلة
أي هذا باب في بيان إلقاء الإمام المسألة على أصحابه ليختبر أي ليمتحن من الاختبار
وهو الامتحان وكلمة من في العلم بيانية والمناسبة بين البابين ظاهرة فإن الحديث
فيهما واحد عن صحابي واحد غير أن الاختلاف في الترجمة فلذلك أعاد الحديث
وأما التفاوت في نفس متن الحديث فشيء يسير وهو وجود الفاء في فحدثوني في الباب
الأول وههنا بلا فاء على أن في بعض النسخ كلاهما بالفاء فإن قلت ما الفرق بين الذي
بالفاء وبين الذي بغيرها قلت الأصل عدم الفاء لعدم الجهة الجامعة بين الجملتين
المقتضية للعطف أما الأول فهو الفاء التي وقعت جوابا لشرط محذوف تقديره إن
عرفتموها فحدثوني فإن قلت إذا كانت إعادة الحديث لأجل استفادة الترجمة التي عقد
الباب لها منه فما الفائدة في تغيير رجال
(2/15)
الإسناد قلت قال الكرماني
المقامات مختلفة فرواية قتيبة للبخاري إنما كانت في مقام بيان معنى التحديث ورواية
خالد في مقام بيان طرح المسألة فلهذا ذكر البخاري في كل موضع شيخه الذي روى الحديث
له لذلك الأمر الذي روى لأجله مع ما فيه من التأكيد وغيره قلت فيه قائدة أخرى وهو
التنبيه على تعدد مشايخه واتساع روايته حتى إنه ربما أخرج حديثا واحدا من شيوخ
كثيرة
ثم خالد بن مخلد بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة أبو الهيثم القطواني بفتح القاف
والطاء البجلي مولاهم الكوفي وقطوان موضع بالكوفة روى عن مالك وسليمان بن بلال
وغيرهما روى عنه إسحاق بن راهويه وابنا أبي شيبة ومحمد ابن بندار والبخاري عن ابن
كرامة عنه قال أحمد بن حنبل وأبو حاتم له أحاديث مناكير وقال يحيى بن معين ما به
بأس وقال أبو حاتم يكتب حديثه وقال ابن عدي هو من المكثرين في محدثي الكوفة وهو عندي
إن شاء الله لا بأس به وروى البقية غير أبي داود عن رجل عنه مات في المحرم سنة
ثلاث عشرة ومائتين وسليمان هذا هو ابن بلال أبو محمد ويقال أبو أيوب التيمي القرشي
المدني مولى عبد الله بن أبي عتيق واسمه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق
كان بربريا جميلا حسن الهيئة عاقلا مفتيا ولي خراج المدينة وتوفي بها سنة اثنتين
وسبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد وقال أحمد لا بأس به ثقة وعن يحيى بن معين ثقة
صالح روى له الجماعة
6 -
( باب القراءة والعرض على المحدث )
أي هذا باب في بيان حكم القراءة والعرض على المحدث قوله على المحدث يتعلق بالقراءة
والعرض كليهما فهو من باب تنازع العاملين على معمول واحد
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو قراءة الشيخ
والمذكور في هذا الباب هو القراءة على الشيخ والسماع عليه وهذه مناسبة قوية وقال
الشيخ قطب الدين لما ذكر البخاري في الباب الأول قراءة الشيخ وهو قوله باب قول
المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا عقب بهذا الباب فذكر القراءة على الشيخ والسماع عليه
فقال باب القراءة والعرض على المحدث وكان من حقه أن يقدم هذا الباب على باب قول
المحدث حدثنا وأنبأنا لأن قول المحدث حدثنا وأنبأنا فرع عن تحمله هل كان بالقراءة
أو بالعرض أو يقول باب قراءة الشيخ ثم يقول باب القراءة على المحدث قلت كلامه مشعر
ببيان المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبل الباب السابق على هذا الباب وهو باب
قول المحدث حدثنا وأخبرنا وحق المناسبة هو الذي يكون بين البابين المتواليين كما
ذكرناه الآن وقوله وكان من حقه إلخ ليس كذلك بل الذي رتبه هو الحق لأنا قد قلنا إن
المذكور في الباب السابق هو قراءة الشيخ وفي هذا الباب القراءة على الشيخ وقراءة
الشيخ أقوى والأقوى يستحق التقديم فإن قلت ما مقصود البخاري من وضع هذا الباب
المترجم بالترجمة المذكورة قلت أراد به الرد على طائفة لا يعتدون إلا بما يسمع من
ألفاظ المشايخ دون ما يقرأ له عليهم ولهذا قال عقيب الباب ورأى الحسن والثوري
ومالك القراءة جائزة إلخ
فإن قلت ما الفرق بين مفهومي القراءة والعرض قلت المفهوم من كلام الكرماني أن
بينهما مساواة لأنه قال المراد بالعرض هو عرض القراءة بقرينة ما يذكر بعد الترجمة
ثم قال فإن قلت فعلى هذا التقدير لا يصح عطف العرض على القراءة لأنه نفسها قلت
العرض تفسير القراءة ومثله يسمى بالعطف التفسيري وقال بعضهم إنما غاير بينهما
بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض ومن
غيره ولا يقع العرض إلا بالقراءة لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه
معه أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة قلت هذا كلام مخبط لأنه تارة جعل
القراءة أعم من العرض وتارة جعلها مساوية له لأن قوله لأن الطالب إذا قرأ كان أعم
من العرض ومن غيره مشعر بأن بين القراءة والعرض عموما وخصوصا مطلقا لاستلزام صدق
أحدهما صدق الآخر كالإنسان والحيوان وقوله ولا يقع العرض إلا بالقراءة مشعر بأن
بينهما مساواة لأنهما متلازمان في الصدق كالإنسان والناطق والتحقيق في هذا الموضع
أن العرض بالمعنى الأخص مساو للقراءة وبالمعنى الأعم يكون بينهما عموم وخصوص مطلق
لاستلزام صدق أحدهما صدق الآخر والمستلزم أخص مطلقا واللازم أعم فالقراءة بمنزلة
الإنسان والعرض
(2/16)
بمنزلة الحيوان وإنما قلنا إن
العرض له معنيان لأنه لا يخلو إما أن يكون بقراءة أو لا فالأول يسمى عرض قراءة
والثاني عرض مناولة وهو أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب فيعرضه عليه فيتأمل الشيخ
وهو عارف متيقظ ثم يعيده إليه ويقول له وقفت على ما فيه وهو حديثي عن فلان فأجزت
روايته عني ونحوه
ورأى الحسن والثوري ومالك القراءة جائزة
أي رأى الحسن البصري وسفيان الثوري والإمام مالك القراءة على المحدث جائزة في صحة
النقل عنه فذكر عنهم أولا معلقا ثم أسند عنهم على ما يأتي عن قريب إن شاء الله
تعالى وهذا كلام مستأنف غير داخل في الترجمة وجوز الكرماني أن يكون داخلا في
الترجمة بتأويل الفعل الماضي بالمصدر أي باب القراءة ورأى الحسن البصري وهذا بعيد
واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام بن ثعلبة قال للنبي الله أمرك أن
نصلي الصلوات قال نعم قال فهاذه قراءة على النبي أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه
أراد بالبعض هذا شيخه الحميدي فإنه احتج في جواز القراءة على المحدث في صحة النقل
عنه بحديث ضمام بن ثعلبة فإنه قدم على النبي عليه الصلاة و السلام وسأله عن
الإسلام ثم رجع إلى قومه فأخبرهم به فاسلموا وقوله آلله أمرك بهمزة الاستفهام في
لفظة آلله وارتفاعه بالابتداء وقوله أمرك جملة خبره قوله أن نصلي الصلاة أي بأن
نصلي والباء مقدرة فيه ونصلي إما بتاء الخطاب أو بنون الجمع المصدرة على ما يأتي
بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى قوله قال نعم أي قال النبي نعم الله أمرنا بأن
نصلي قوله فهذه قراءة أي قال البعض الذي احتج في القراءة على العالم بحديث ضمام
هذه قراءة على النبي وقال الكرماني أي قال البعض المحتج وهو الحسن والثوري ونحوهما
وليس كذلك فإن المراد بالبعض هو الحميدي كما ذكرنا فإن قلت يحتمل أن يكون هذا
المحتج بعض المذكورين أعني الحسن والثوري ومالكا قلت لا يمنع من ذلك ولكن حق
العبارة على هذا أن يقال قال البعض المحتج من هؤلاء المذكورين لا كما يقوله الكرماني
قوله قراءة على النبي هكذا هو في غالب النسخ بإظهار كلمة على التي للاستعلاء وفي
بعضها قراءة النبي فإن صحت تكون الإضافة فيه للمفعول ويقدر على فيه قوله فأجازوه
أي قبلوا منه وليس المراد الإجازة المصطلحة بين أهل الحديث والضمير المرفوع فيه
يرجع إلى قوم ضمام وجوز الكرماني أن يرجع الضمير إلى النبي عليه الصلاة و السلام
وصحابته وهذا بعيد سيما من حيث المرجع لا يقال إجازة قومه لا حجة فيه لأنهم كفرة
لأنا نقول المراد الإجازة بعد الإسلام أو كان فيهم مسلمون يومئذ فإن قلت قوله أخبر
قومه بذلك ليس في الحديث الذي ساقه البخاري فكيف يحتج به قلت إن لم يقع في هذا
الطريق فقد وقع في طريق آخر ذكره أحمد وغيره من طريق ابن إسحاق قال حدثني محمد بن
الوليد عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة
فذكر الحديث بطوله وفي آخره إن ضماما قال لقومه عندما رجع إليهم إن الله قد بعث
رسولا وأنزل الله عليه كتابا وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه قال
فوالله ما أمسى في ذلك اليوم وفي حاضرته رجل ولا امرأة إلا مسلما
واحتج مالك بالصك يقرأ على القوم فيقولون أشهدنا فلان ويقرأ ذلك قراءة عليهم ويقرأ
على المقرىء فيقول القارىء أقرأني فلان
أراد بالصك المكتوب الذي يكتب فيه إقرار المقر قال الجوهري الصك الكتاب وهو فارسي
معرب والجمع صكاك وصكوك وفي ( العباب ) وهو بالفارسية صك والجمع أصك وصكاك وصكوك
وليلة الصك ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان لأنه يكتب فيها من صكاك الأوراق
قوله يقرأ بضم الياء فيه وكذلك في ويقرأ الثاني
(2/17)
قوله فلان منون وفي بعضها بعد
فلان وإنما ذلك قراءة عليهم وقال ابن بطال وهذه حجة قاطعة لأن الإشهاد أقوى حالات
الإخبار وأما قياس مالك قراءة الحديث على قراءة القرآن فرواه الخطيب في الكتابة من
طريق ابن وهب قال سمعت مالكا وسئل عن الكتب التي تعرض عليه أيقول الرجل حدثني قال
نعم كذلك القرآن أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول أقرأني فلان فكذلك إذا قرىء على
العالم صح أن يروى عنه وروى الحاكم في علوم الحديث عن طريق مطرف قال صحبت مالكا
سبع عشرة سنة فما رأيت قرأ ( المؤطأ ) على أحد يقرأون عليه قال وسمعته يأبى أشد
الإباء على من يقول لا يجزيه إلا السماع من لفظ الشيخ ويقول كيف لا يجزيك هذا في
الحديث ويجزيك في القرآن والقرآن أعظم
حدثنا محمد بن سلام حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن عوف عن الحسن قال لا بأس
بالقراءة على العالم
هذا إسناده فيما ذكره عن الحسن أولا معلقا عن محمد بن سلام بتخفيف اللام على الأصح
البيكندي عن محمد بن الحسن بن عمران المزني قاضي واسط أخرج له البخاري هذا الأثر
هنا خاصة وثقه ابن معين وقال أبو زرعة وأبو حاتم وأحمد ليس به بأس توفي سنة تسع
وثمانين ومائة وهو يروي عن عوف بن أبي جميلة المعروف بالأعرابي عن الحسن البصري
وروى الخطيب هذا الأثر بأتم سياقا منه من طريق أحمد بن حنبل عن محمد بن الحسن
الواسطي عن عوف الأعرابي أن رجلا سأل الحسن فقال يا أبا سعيد منزلي بعيد والاختلاف
يشق علي فإن لم تكن ترى بأسا قرأت عليك قال ما أبالي قرأت عليك أو قرأت علي قال
فاقول حدثني الحسن قال نعم قل حدثني الحسن قوله لا بأس أي في صحة النقل عن المحدث
بالقراءة على العالم أي الشيخ وقوله على العالم ليس خبرا لقوله لا بأس بل هو متعلق
بالقراءة
حدثنا عبيد الله بن موسى عن سفيان قال إذا قرىء على المحدث فلا بأس أن تقول حدثني
قال وسمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان القراءة على العالم وقراءته سواء
هذا إسناده فيما ذكره عن سفيان الثوري ومالك بن أنس أولا معلقا عن عبيد الله بن
موسى بن باذام العبسي بالمهملتين عن سفيان الثوري قوله فلا بأس أي على القارىء أن
يقول حدثني كما جاز أن يقول أخبرني فهو مشعر بأن لا تفاوت عنده بين حدثني وأخبرني
وبين أن يقرأ على الشيخ أو يقرأه الشيخ عليه قوله قال أي البخاري وسمعت أبا عاصم
وهو الضحاك بن مخلد بفتح الميم ابن الضحاك بن مسلم ابن رافع بن الأسود بن عمرو بن
والان بن ثعلبة بن شيبان البصري المشهور بالنبيل بفتح النون وكسر الباء الموحدة
وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره لام لقب به لأنه قدم الفيل البصرة فذهب الناس
ينظرون إليه فقال له ابن جرير مالك لا تنظر فقال لا أجد منك عوضا فقال أنت نبيل أو
لقب به لكبر أنفه أو لأنه كان يلزم زفر رحمه الله تعالى وكان حسن الحال في كسوته
وكان أبو عاصم آخر رث الحال ملازما له فجاء النبيل يوما إلى بابه فقال الخادم لزفر
أبو عاصم بالباب فقال له أيهما فقال ذلك النبيل وقيل لقبه المهدي مات في ذي الحجة
سنة اثنتي عشرة ومائتين عن تسعين سنة وستة أشهر وهذا الذي نقله أبو عاصم عن مالك
وسفيان هو مذهبه أيضا فيما حكاه الرامهرمزي عنه ثم اختلفوا بعد ذلك في مساواتهما
للسماع من لفظة الشيخ في الرتبة أو دونه أو فوقه على ثلاثة أقوال الأول أنه أرجح
من قراءة الشيخ وسماعه قاله أبو حنيفة وابن أبي ذئب ومالك في رواية وآخرون واستحب
مالك القراءة على العالم وذكر الدارقطني في ( كتاب الرواة ) عن مالك أنه كان يذهب
إلى أنها أثبت من قراءة العالم الثاني عكسه أن قراءة الشيخ بنفسه أرجح من القراءة
عليه وهذا ما عليه الجمهور وقيل إنه مذهب جمهور أهل المشرق الثالث أنهما سواء وهو
قول ابن أبي الزناد وجماعة حكاه عنهم ابن سعد وقيل إنه مذهب معظم علماء الحجاز
والكوفة وهو مذهب مالك وأتباعه من علماء المدينة ومذهب البخاري وغيرهم
(2/18)
63 - حدثنا ( عبد الله بن يوسف
) قال حدثنا ( الليث ) عن ( سعيد ) هو ( المقبري ) عن ( شريك بن عبد الله بن أبي
نمر ) أنه سمع ( أنس بن مالك ) يقول بينما نحن جلوس مع النبي في المسجد دخل رجل
على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم أيكم محمد والنبي متكىء بين ظهرانيهم
فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكيء فقال له الرجل ابن عبد المطلب فقال له النبي قد
أجبتك فقال الرجل للنبي إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك فقال
سل عما بدا لك فقال أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم فقال اللهم
نعم قال أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم
نعم قال أنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة قال اللهم نعم قال
أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال
النبي اللهم نعم فقال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام
بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر
لما ذكر احتجاج بعضهم في القراءة على العالم لحديث ضمام بن ثعلبة أخرجه ههنا
بتمامه
بيان رجاله وهم خمسة الأول عبد الله بن يوسف التنيسي وقدمر الثاني الليث بن سعد
المصري وقد مر الثالث سعيد بن أبي سعيد المقبري وقد مر الرابع شريك بن عبد الله بن
أبي نمر بفتح النون وكسر الميم القرشي أبو عبد الله المدني القرشي وقال الواقدي
الليثي وقال غيره الكناني وجده أبو نمر شهد أحدا مع المشركين ثم هداه الله إلى
الإسلام سمع أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار
وغيرهم روى عنه مالك وسعيد المقبري وإسماعيل بن جعفر وسليمان بن بلال وغيرهم وقال
ابن سعد كان ثقة كثير الحديث وقال يحيى بن معين ليس به بأس وقال ابن عدي شريك رجل
مشهور من أهل الحديث حدث عنه الثقات وحديثه إذا روى عنه ثقة فلا بأس به إلا أن
يروي عنه ضعيف روى له الجماعة إلا الترمذي توفي سنة أربعين ومائة الخامس أنس بن
مالك وقد مر
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رواته ما بين
تنيسي ومصري ومدني ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي
فإن قلت هذا الحديث فيه اختلاف من وجهين أحدهما أن النسائي رواه من طريق يعقوب ابن
إبراهيم بن سعد عن الليث قال حدثني محمد بن عجلان وغيره عن سعيد والثاني أخرجه
النسائي أيضا والبغوي من طريق الحارث بن عمر عن عبد الله العمري عن سعيد عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه وأخرج ابن منده من طريق الضحاك بن عثمان عن سعيد المقبري
عن أبي هريرة قلت أما الأول فإنه يمكن أن يكون الليث قد سمع من سعيد بواسطة ثم
لقيه فحدث به ويؤيد ذلك رواية الإسماعيلي من طريق يونس بن محمد عن الليث حدثني
سعيد وكذا رواية ابن منده من طريق ابن وهب عن الليث وأما الثاني فلأن الليث أثبتهم
في سعيد
بيان من أخرجه غيره أخرجه أبو داود في الصلاة عن عيسى بن حماد عن الليث نحوه
والنسائي في الصوم عن عيسى بن حماد به وعن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد عن
عمه يعقوب بن إبراهيم عن الليث حدثني ابن عجلان وغيره من أصحابنا عن سعيد المقبري
وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن عيسى بن حماد به
بيان اللغات قوله على جمل وهو زوج الناقة وتسكين الميم فيه لغة ومنه قراءة أبي
السماك حتى يلج الجمل ( الأعراف 40 ) بسكون الميم والجمع جمال وجمالة وجمالات
وجمائل وأجمال قوله فأناخه يقال أنخت الجمل أبركته ويقال أيضا أناخ الجمل نفسه أي
برك وقال ابن الأعرابي لا يقال أناخ ولا ناخ قوله ثم عقله بفتح العين المهملة
والقاف قال الجوهري عقلت البعير
(2/19)
أعقله عقلا وهو أن يثني وظيفه
مع ذراعه ليشدهما جميعا في وسط الذراع والوظيف هو مستدق الساق والذراع من الإبل
والحبل الذي يشد به هو العقال والجمع عقل قوله متكىء مهموز يقال اتكأ على الشيء
فهو متكىء والموضع متكأ كله مهموز الآخر وتوكأت على العصا وكل من استوى على وطاء
فهو متكأ وهذا المعنى هو المراد في الحديث قوله بين ظهرانيهم بفتح الظاء والنون
وفي ( الفائق ) يقال أقام فلان بين ظهراني قومه وبين ظهرانيهم أي بينهم وأقحم لفظ
الظهر ليدل على أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار بهم أي منهم والإستناد إليهم
وكان معنى التثنية فيه أن ظهرا منهم قدامه وآخر وراءه فهو مكتوف من جانبيه ثم كثر
استعماله في الإقامة بين القوم مطلقا وإن لم يكن مكتوفا وأما زيادة الألف والنون
بعد التثنية فإنما هي للتأكيد كما تزاد في النسبة نحو نفساني في النسبة إلى النفس
ونحوه قوله فلا تجد علي بكسر الجيم أي لا تغضب يقال وجد عليه موجدة في الغضب ووجد
مطلوبه وجودا ووجد ضالته وجدانا ووجد في الحزن وجدا ووجد في المال جدة أي استغنى
هذا الذي ذكره الشراح وهي خمسة مصادر وقال بعضهم ومادة وجد متحدة الماضي والمضارع
مختلفة المصادر بحسب اختلاف المعاني قلت لا نسلم ذلك بل يقال وجد مطلوبه يجده بكسر
الجيم ويجده بالضم وهي لغة عامرية ووجد بكسر الجيم لغة قاله في ( العباب ) وكذلك
يقال وجد عليه في الغضب يجد بكسر الجيم ويجد بضمها موجدة ووجدانا أيضا حكاها بعضهم
وأنشد الفراء في نوادره لصخر الغي يرثي ابنه تليدا
( وقالت لن ترى أبدا تليدا
بعينك آخر العمر الجديد )
( كلانا رد صاحبه بيأس
وإثبات ووجدان شديد )
وكذا يقال وجد في المال وجدا ووجدا ووجدا وجدة أربع مصادر وقرأ الأعرج ونافع ويحيى
بن يعمر وسعيد بن جبير وابن أبي عبلة وطاووس وأبو حيوة وأبو البر هشيم من وجدكم
بفتح الواو وقرأ أبو الحسن روح بن عبد المؤمن من وجدكم بالكسر والباقون من وجدكم
بالضم قوله عما بدا أي ظهر من البدو قوله انشدك بفتح الهمزة وسكون النون وضم الشين
المعجمة ومعناه اسألك بالله وقال الجوهري نشدت فلانا أنشده نشدا إذا قلت له نشدتك
الله أي سألتك بالله كأنك ذكرته إياه فتنشد أي تذكر وقال البغوي في ( شرح السنة )
أصله من النشيد وهو رفع الصوت والمعنى سألتك رافعا صوتي وفي ( العباب ) نشدت فلانا
أنشده نشدا ونشدت الضالة أنشدها نشدا ونشدة ونشدانا طلبتها قوله هذه الصدقة أراد
به الزكاة
بيان التصريف قوله جلوس جمع جالس كركوع جمع راكع قوله فأناخه أصله فأنوخه قلبت
الواو ألفا بعد نقل حركتها إلى ما قبلها قوله والنبي متكىء اسم فاعل من اتكأ يتكىء
أصله موتكأ قلبت الواو تاء وأدغمت التاء في التاء وكذلك أصل اتكأ ويتكىء يوتكىء
لأن مادته واو وكاف وهمزة ومنه يقال رجل تكاة أصله وكأة مثل تؤدة إذا كان كثير الاتكاء
والإتكاء أيضا ما يتكؤ عليه وهي المتكأ قال الله تعالى وأعتدت لهن متكأ ( يوسف 31
) قال الأخفش هو في معنى مجلس قوله فمشدد اسم فاعل من شدد تشديدا والمسألة بفتح
الميم مصدر ميمي يقال سألته الشيء وسألته عن الشيء سؤالا ومسألة وقد تخفف الهمزة
فيقال سأل يسأل وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير سأل سائل ( المعارج 1 ) بتخفيف
الهمزة قوله سل أمر من سأل يسأل وأصله اسأل على وزن إفعل فنقلت حركة الهمزة إلى
السين فحذفت للتخفيف واستغنى عن همزة الوصل فحذفت فصار سل على وزن قل لأن الساقط
هو عين الفعل قوله فلا تجد على أصله فلا توجد لأنه من وجد عليه قوله بدا فعل ماض
تقول بدا الأمر بدوا مثل قعد قعودا أي ظهر وأبديته أظهرته
بيان الإعراب قوله بينما أصله بين زيدت عليه ما وهو من الظروف الزمانية اللازمة
الإضافة إلى الجملة وبين وبينما يتضمنان بمعنى المجازات ولا بد لهما من جواب
والعامل فيهما الجواب إذا كان مجردا من كلمة المفاجأة وإلا فمعنى المفاجأة قوله
نحن مبتدأ و جلوس خبره قوله في المسجد اللام فيه للعهد أي مسجد رسول الله قوله دخل
رجل هو جواب بينما وفي رواية الأصيلي إذ دخل رجل وقد مر غير مرة أن الأصمعي لا
يستفصح إذ وإذا في جواب بين وبينما قوله على جمل في محل الرفع على أنه صفة الرجل
قوله فأناخه عطف على قوله دخل قوله
(2/20)
أيكم كلام إضافي مبتدأ ومحمد
خبره وأي ههنا للاستفهام قوله والنبي متكىء جملة اسمية وقعت حالا قوله هذا الرجل
مبتدأ وخبر مقول القول والأبيض بالرفع صفة للرجل وكذلك المتكىء قوله فقال له أي
فقال الرجل للنبي عليه الصلاة و السلام قوله ابن عبد المطلب بفتح النون لأنه منادى
مضاف وأصله يا ابن عبد المطلب فحذف حرف النداء وفي رواية الكشميهني يا ابن عبد
المطلب باثبات حرف النداء قوله فقال له الرجل أي الرجل المذكور في قوله دخل رجل
على جمل قولهإني سائلك جملة إسمية مؤكدة بأن مقول القول قوله فمشدد عطف على سائلك
قوله فلا تجد نهي كما ذكرناه قوله فقال سل أي فقال الرسول عليه الصلاة و السلام
للرجل سل قوله بربك أي بحق ربك الباء للقسم قوله آلله بالمد في المواضع كلها لأنها
همزتان الأولى همزة الاستفهام والثانية همزة لفظة الله وهو مرفوع بالابتداء وأرسلك
خبره قوله اللهم نعم قال الكرماني اللهم أصله يا الله فحذف حرف النداء وجعل الميم
بدلا منه والجواب هو نعم وذكر لفظ اللهم للتبرك وكأنه استشهد بالله في ذلك تأكيدا
لصدقه قلت اللهم تستعمل على ثلاثة أنحاء الأول للنداء المحض وهو ظاهر والثاني
للإيذان بندرة المستثنى كما يقال اللهم إلا أن يكون كذا والثالث البدل على تيقن
المجيب في الجواب المقترن هو به كقولك لمن قال أزيد قائم اللهم نعم أو اللهم لا
كأنه يناديه تعالى مستشهدا على ما قاله من الجواب قوله أنشدك جملة من الفعل والفاعل
والباء في بالله للقسم قوله أن تصلي بتاء الخطاب ووقع عند الأصيلي بالنون قوله
الصلوات الخمس هكذا بجمع الصلوات عند الأكثرين ووقع في رواية الكشميهني والسرخسي
الصلاة بالإفراد فإن قلت على هذا كيف توصف الصلاة بالخمس وهي مفردة قلت هي للجنس
فيحتمل التعدد وقال القاضي عياض أن نصلي بالنون أوجه ويؤيده رواية ثابت عن أنس
بلفظ إن علينا خمس صلوات ليومنا وليلتنا قوله أن تصوم بتاء المخاطبة وعند الأصيلي
بالنون قوله هذا الشهر أي شهر رمضان من السنة أي من كل سنة إذ اللام للعهد
والإشارة فيه لنوع هذا الشهر لا لشخص ذلك الشهر بعينه قوله أن تأخذ هذه الصدقة
بتاء المخاطب وكذلك تقسمها وأن مصدرية وأصلها بأن تأخذ أي تأخذ الصدقة قوله
فتقسمها بالنصب عطف على قوله أن تأخذها قوله بما جئت أي بالذي جئت به قوله وأنا
مبتدأ ورسول خبره مضاف إلى من بفتح الميم وهي موصولة وكلمة من في قوله من قومي
للبيان
بيان المعاني قوله فأناخه في المسجد فيه حذف والتقدير فأناخه في رحبة المسجد
ونحوها وإنما قلنا هكذا لتتفق هذه الرواية بالروايات الأخرى فإن في رواية أبي نعيم
أقبل على بعير له حتى أتى المسجد فأناخه ثم عقله فدخل المسجد وفي رواية أحمد
والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما ولفظها فاناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم
دخل قوله هذا الرجل الأبيض المراد به البياض النير الزاهر وأما ما ورد في صفته أنه
ليس بأبيض ولا آدم فالمراد به البياض الصرف كلون الجص كريه المنظر فإنه لون البرص
ويقال المراد بالأبيض وهو الأبيض المشرب بحمرة يدل عليه ما جاء في رواية الحارث بن
عمير فقال أيكما ابن عبد المطلب فقالوا هو الأمغر المرتفق قال الليث الأمغر الذي
في وجهه حمرة مع بياض صاف وقال غيره الأمغر الأحمر الشعر والجلد على لون المغرة
وقال ابن فارس الأمغر من الخيل الأشقر قلت مادته ميم وغين معجمة وراء مهملة قوله
اجبتك ومعناه سمعتك وقال الكرماني فإن قلت متى أجاب حتى أخبر عنه قلت أجبت بمعنى
سمعت أو المراد منه إنشاء الإجابة وإنما أجابه عليه السلام بهذه العبارة لأنه أخل
بما يجب من رعاية غاية التعظيم والأدب بإدخال الجمل في المسجد وخطابه بأيكم محمد وبابن
عبد المطلب انتهى قلت لا يخلو ضمام إما أنه قدم مسلما وإما غير مسلم فإن كان الأول
فإنه يحمل ما صدر منه من هذه الأشياء على أنه لم يكن في ذلك الوقت وقف على أمور
الشرع ولا على النهي وهو قوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا
( النور 63 ) على أنه كانت فيه بقية من جفاء الأعراب وجهلهم وإن كان الثاني فلا
يحتاج إلى الاعتذار عنه واختلفوا هل كان مسلما عند قدومه أم لا فقال جماعة إنه كان
أسلم قبل وفوده حتى زعمت طائفة منهم أن البخاري فهم إسلام ضمام قبل قدومه وأنه جاء
يعرض على النبي عليه السلام ولهذا بوب عليه باب القراءة والعرض على المحدث ولقوله
آخر الحديث آمنت بما جئت به وأنا
(2/21)
رسول من ورائي من قومي وإن هذا
إخبار وهو اختيار البخاري ورجحه القاضي عياض وقال جماعة أخرى لم يكن مسلما وقت
قدومه وإنما كان إسلامه بعده لأنه جاء مستثبتا والدليل عليه ما في حديث ابن عباس
رواه ابن إسحاق وغيره وفيه أن بني سعد بن بكر بعثوا ضمام بن ثعلبة الحديث وفي آخره
حتى إذا فرغ قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأجابوا عن قوله
آمنت بأنه انشاء وابتداء إيمان لا إخبار بإيمان تقدم منه وكذلك قوله وأنا رسول من
ورائي ورجحة القرطبي لقوله في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره فإن رسولك زعم قال
والزعم القول الذي لا يوثق به قاله ابن السكيت وغيره وقال بعضهم فيه نظر لأن الزعم
يطلق على القول المحقق أيضا كما نقله أبو عمر الزاهد في شرح فصيح شيخه ثعلب قلت
أصل وضعه كما قاله ابن السكيت واستعماله في القول المحقق مجاز يحتاج إلى قرينة
وأجابوا أيضا عن قولهم إن البخاري فهم إسلام ضمام قبل قدومه بأنه لا يلزم من تبويب
البخاري ما ذكروه لأن العرض على المحدث هو القراءة عليه أعم من أن يكون تقدمت له
أو أبتدأ الآن على الشيخ بقراءة شيء لم يتقدم قراءته ولا نظره وقالوا قد بوب أبو
داود عليه باب المشرك يدخل المسجد وهو أيضا يدل على أنه لم يكن مسلما قبل قدومه
وقد مال الكرماني إلى مقالة الأولين حيث قال فإن قلت من أين عرف حقيقية كلام
الرسول عليه السلام وصدق رسالته إذ لا معجزة فيما جرى من هذه القصة وهذا الإيمان
لا يفيد إلا تأكيدا وتقريرا قلت الرجل كان مؤمنا عارفا بنبوته عالما بمعجزاته قبل
الوفود ولهذا ما سأل إلا عن تعميم الرسالة إلى جميع الناس وعن شرائع الإسلام قلت
عكسه القرطبي فاستدل به على إيمان المقلد بالرسول ولو لم تظهر له معجزة وكذا أشار
إليه ابن الصلاح قوله وانا ضمام ابن ثعلبة بكسر الضاد المعجمة وثعلبة بالثاء
المثلثة المفتوحة والباء الموحدة أخو بني سعد بن بكر السعدي قدم على النبي عليه
السلام بعثه إليه بنو سعد فسأله عن الإسلام ثم رجع إليهم فأخبرهم به فاسلموا وقال
ابن عباس ما سمعنا بوافد قط أفضل من ضمام ابن ثعلبة قال ابن إسحاق وكان قدوم ضمام
هذا سنة تسع وهو قول أبي عبيدة والطبري وغيرهما وقال الواقدي كان سنة خمس وهو قول
محمد بن حبيب وفيه نظر من وجوه الأول أن في رواية مسلم أن ذلك كان حين نزل النهي
في القرآن عن سؤال الرسول عليه السلام وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر الثاني
أن إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية ومعظمه بعد
فتح مكة شرفها الله الثالث أن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن قومه أطاعوه
ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم ولم يدخل بنو سعد بن بكر بن هوازن في الإسلام
إلا بعد وقعة حنين وكانت في شوال سنة ثمان قوله اخو بني بن سعد بن بكر بن هوازن
وهم أخوال رسول الله عليه الصلاة و السلام وفي العرب سعود قبائل شتى منها سعد تميم
وسعد هذيل وسعد قيس وسعد بكر هذا وفي المثل بكل واد بنو سعد
بيان استنباط الأحكام وهو على وجوه الأول قال ابن الصلاح فيه دلالة لصحة ما ذهب
إليه العلماء من أن العوام المقلدين مؤمنون وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقادهم الحق
جزما من غير شك وتزلزل خلافا للمعتزلة وذلك أنه عليه الصلاة و السلام قرر ضماما
على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه بمجرد إخباره إياه بذلك ولم ينكره عليه
ولا قال له يجب عليك معرفة ذلك بالنظر إلى معجزاتي والاستدلال بالأدلة القطعية
الثاني قال ابن بطال فيه قبول خبر الواحد لأن قومه لم يقولوا له لا نقبل خبرك عن
النبي حتى يأتينا من طريق آخر الثالث قال أيضا فيه جواز إدخال البعير في المسجد
وهو دليل على طهارة أبوال الإبل وأرواثها إذ لا يؤمن ذلك منه مدة كونه في المسجد
قلت هذا احتمال لا يحكم به في باب الطهارة على أنا قد بينا أن المراد من قوله في
المسجد في الحديث في رحبة المسجد ونحوها الرابع فيه جواز تسمية الأدنى للأعلى دون
أن يكنيه إلا أنه نسخ في حق الرسول عليه السلام بقوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول
بينكم كدعاء بعضكم بعضا ( النور 63 ) الخامس فيه جواز الاتكاء بين الناس في
المجالس السادس فيه ما كان للنبي عليه السلام من ترك التكبر لقوله ظهرانيهم السابع
فيه جواز تعريف الرجل بصفة من البياض والحمرة والطول والقصر ونحو ذلك الثامن فيه
الاستحلاف على الخبر لعلم اليقين وفي مسلم فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه
الجبال آلله أرسلك قال نعم التاسع فيه التعريف
(2/22)
بالشخص فإنه قال ايكم محمد
وقال ابن عبد المطلب العاشر فيه النسبة إلى الأجداد فإنه قال ابن عبد المطلب وجاء
في ( صحيح مسلم ) يا محمد الحادي عشر استنبط منه الحاكم طلب الإسناد العالي ولو
كان الراوي ثقة إذ البدوي لم يقنعه خبر الرسول عن النبي حتى رحل بنفسه وسمع ما
بلغه الرسول عنه قيل إنما يتم ما ذكره إذا كان ضمام قد بلغه ذلك أولا قلت قد جاء
ذلك مصرحا به في رواية مسلم الثاني عشر فيه تقديم الإنسان بين يدي حديثه مقدمة
يعتذر فيها ليحسن موقع حديثه عند المحدث وهو من حسن التوصل وإليه الإشارة بقوله
إني سائلك فمشدد عليك
الأسئلة الاجوبة منها ما قيل قال على فقرائنا وأصناف المصرف ثمانية لا تنحصر على
الفقراء وأجيب بأن ذكرهم باعتبار أنهم الأغلب من سائر الأصناف أو لأنه في مقابلة
ذكر الأغنياء ومنها ما قيل لم لم يذكر الحج أجيب بأنه كان قبل فرضية الحج أو لأنه
لم يكن من أهل الاستطاعة له قاله الكرماني قلت لم يذكر الحج في رواية شريك بن عبد
الله بن أبي نمر عن أنس وقد ذكره مسلم وغيره في رواية ثابت عن أنس وهو في حديث أبي
هريرة وابن عباس أيضا وما قاله الكرماني هو منقول عن ابن التين والحامل لهم على
ذلك ما روي عن الواقدي من أن قدوم ضمام كان سنة خمس وقد بينا فساده ومنها ماقيل لم
لم يخاطب بالنبوة ولا بالرسالة وقد قال الله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم
كدعاء بعضكم بعضا ( النور 63 ) وأجيب بأوجه الأول أنه لم يكن آمن بعد الثاني أنه
باق على جفاء الجاهلية لكنه لم ينكر عليه ولا رد عليه الثالث لعله كان قبل النهي
عن مخاطبته عليه السلام بذلك الرابع لعله لم يبلغه وقد مر الكلام فيه عن قريب
ويقال إنما قال ابن عبد المطلب لأنه لما دخل على النبي قال أيكم ابن عبد المطلب
فقال له النبي عليه السلام أنا ابن عبد المطلب فقال ابن عبد المطلب على ما رواه
أبو داود في ( سننه ) من طريق ابن عباس أنه قال ايكم ابن عبد المطلب فقال النبي
عليه السلام انا ابن عبد المطلب فقال يابن عبد المطلب وساق الحديث ومنها ما قيل إن
النبي كان يكره الانتساب إلى الكفار فكيف قال في هذا الحديث انا ابن عبد المطلب
وأجيب بأنه أراد به ههنا تطابق الجواب السؤال لأن ضماما خاطبه بقوله ايكم ابن عبد
المطلب فأجاب عليه السلام بقوله أنا ابن عبد المطلب فإن قلت كيف كان يكره ذلك وقد
قال عليه السلام يوم حنين أنا ابن عبد المطلب قلت لم يذكره إلا للإشارة إلى رؤيا
رآها عبد المطلب مشهورة كانت إحدى دلائل نبوته فذكرهم بها وبخروج الأمر على الصدق
ومنها ما قيل ما فائدة الإيمان المذكورة وأجيب بأنها جرت للتأكيد وتقرير الأمر لا لافتقار
إليها كما أقسم الله تعالى على أشياء كثيرة كقوله قل أي وربي إنه لحق قل بلى وربي
لتبعثن فورب السماء والأرض إنه لحق ومنها ما قيل هل النجدي السائل في حديث طلحة بن
عبيد الله المذكور فيما مضى هو ضمام بن ثعلبة أو غيره أجيب بأن جماعة قد قالوا إنه
هو إياه والنجدي هو ضمام بن ثعلبة ومال إلى هذا ابن عبد البر والقاضي عياض وغيرهما
وقال القرطبي يبعد أن يكونا واحدا لتباين ألفاظ حديثيهما ومساقهما
رواه موسى وعلي بن عبد الحميد عن سليمان عن ثابت عن أنس عن النبي بهذا
أي روى الحديث المذكور موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري التبوذكي وهو شيخ البخاري
وقد مر ذكره وهو يروي هذا الحديث عن سليمان بن المغيرة أبي سعيد القيسي البصري عن
ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأخرجه أبو عوانة في ( صحيحه ) موصولا
بهذا الطريق وكذا ابن منده في الإيمان فإن قلت لم علقه البخاري ولم يخرجه موصولا
قلت قال الكرماني يحتمل أن يكون البخاري يروي عن شيخه موسى بالواسطة فيكون تعليقا
وفائدة ذكره الاستشهاد وتقوية ما تقدم وقال بعضهم إنما علقه البخاري لأنه لم يحتج
بشيخه سليمان بن المغيرة يعني شيخ موسى بن إسماعيل الذي هو شيخ البخاري قلت كيف
يقول لم يحتج به وقد روى له حديثا واحدا عن ابن أبي اياس عن سليمان بن المغيرة عن
حميد بن هلال عن أبي صالح السمان قال رأيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه في يوم
جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس الحديث ذكره في باب يرد المصلي من بين يديه وقال
أحمد بن حنبل فيه ثبت ثبت ثقة ثقة وقال ابن سعد ثقة ثبت وقال
(2/23)
شعبة سيد أهل البصرة وقال أبو
داود الطيالسي كان من خيار الناس سمع الحسن وابن سيرين وثابت البناني روى عنه
الثوري وشعبة وتوفي سنة خمس وستين ومائة روى له الجماعة قوله وعلي بن عبد الحميد
عطف على موسى وروى الحديث المذكور أيضا علي بن عبد الحميد عن سليمان بن المغيرة عن
ثابت عن أنس رضي الله عنه وأخرجه الترمذي موصولا من طريقه وأخرجه الدارمي عن علي
بن عبد الحميد الخ وهو علي بن عبد الحميد بن مصعب أبو الحسين المعني بفتح الميم
وسكون العين المهملة وكسر النون بعدها ياء النسبة نسبة إلى معن بن مالك بن فهم بن
غنم بن دوس قال الرشاطي المعني في الأزد وفي طي وفي ربيعة فالذي في أزد معن بن
مالك والذي في طي معن بن عتود بن غسان بن سلامان بن نفل بن عمرو بن الغوث بن طي
والذي في ربيعة معن بن زائدة بن عبدالله بن زائدة بن مطر بن شريك وروى عنه أبو
زرعة وأبو حاتم وقالا هو ثقة وقال ابن عساكر روى عنه البخاري تعليقا وتوفي سنة
اثنتين وعشرين ومائتين قلت ليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق وأما ثابت
البناني فهو ابن أسلم أبو حامد البناني البصري العابد سمع ابن الزبير وابن عمر
وأنسا وغيرهم من الصحابة والتابعين روى عنه خلق كثير وقال أحمد ويحيى وأبو حاتم
ثقة ولا خلاف فيه توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة روى له الجماعة والبناني بضم الباء
الموحدة وبالنونين نسبة إلى بنانة بطن من قريش وقال الزبير بن بكار كانت بنانة أمة
لسعد بن لؤي حضنت بنيه فنسبوا إليها وقال الخطيب بنانة هم بنو سعد بن غلب وأم سعد
بنانة قوله بهذا أشار إلى معنى الحديث المذكور لأن اللفظ مختلف فافهم
7 -
( باب ما يذكر في المناولة )
أي هذا باب في بيان ما يذكر في المناولة وهي في اللغة من ناولته الشيء فتناوله من
النوال وهو العطاء وفي اصطلاح المحدثين هي على نوعين احدهما المقرونة بالإجازة كما
أن يرفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه مثلا ويقول هذا سماعي وأجزت لك روايته عني
وهذه حالة السماع عند مالك والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري فيجوز إطلاق حدثنا
وأخبرنا فيها والصحيح أنه منحط عن درجته وعليه أكثر الأئمة والآخر المناولة المجردة
عن الإجازة بأن يناوله أصل السماع كما تقدم ولا يقول له أجزت لك الرواية عني وهذه
لا تجوز الرواية بها على الصحيح ومراد البخاري من الباب القسم الأول فإن قلت ما
وجه المناسبة بين البابين قلت من حيث إن المذكور في الباب السابق وفي الباب الذي
قبله وفي هذا الباب وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور والأبواب الثلاثة أنواع شيء
واحد ولا توجد مناسبة أقوى من هذا
وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان
وكتاب بالجر عطف على قوله في المناولة والتقدير وما يذكر في كتاب أهل العلم وقال
الكرماني ولفظ الكتاب يحتمل عطفه على المناولة وعلى ما يذكر قلت الفرق بينهما أن
لفظ الكتاب يكون مجرورا في الأول بحرف الجر وفي الثاني بالإضافة والكتاب هنا مصدر
وكلمة إلى التي للغاية تتعلق به وقوله إلى البلدان فيه حذف أي إلى أهل البلدان وهو
جمع بلد وهذا على سبيل المثال دون القيد لأن الحكم عام بالنسبة إلى أهل القرى
والصحارى وغيرهما ثم اعلم أن المكاتبة هي أن يكتب الشيخ إلى الطالب شيئا من حديثه
وهي أيضا نوعان إحداهما المقرونة بالإجازة والأخرى المتجردة عنها والأولى في الصحة
والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة وأما الثانية فالصحيح المشهور فيها أنها
تجوز الرواية بها بأن يقول كتب إلي فلان قال حدثنا بكذا وقال بعضهم يجوز حدثنا
واخبرنا فيها وقد سوى البخاري الكتابة المقرونة بالإجازة بالمناولة ورجح قوم
المناولة عليها لحصول المشافهة بها بالإذن دون المكاتبة وقد جوز جماعة من القدماء
الأخبار فيهما والأول ما عليه المحققون من اشتراط بيان ذلك
وقال أنس نسخ عثمان المصاحف فبعث بها إلى الآفاق
أنس هو ابن مالك الصحابي خادم رسول الله وعثمان هو ابن عفان أحد الخلفاء الراشدين
رضي الله عنهم والمصاحف بفتح الميم جمع مصحف ويجوز في ميمه الحركات الثلاث عن ثعلب
قال الفتح لغة صحيحة فصيحة وقال الفراء قد استثقلت العرب الضمة في حروف وكسروا
ميمها وأصلها الضم من ذلك مصحف ومخدع ومطرف ومغزل
(2/24)
ومجسد لأنها مأخوذة في المعنى
من أصحفت أي جمعت فيه الصحف وأطرف أي جعل في طرفيه علما وأجسد أي ألصق بالجسد
وكذلك المغزل إنما هو أدير وفتل وقال أبو زيد تميم تقول بكسر الميم وقيس تقول
بضمها ثم قلنا إن المصحف ما جمعت فيه الصحف والصحف بضمتين جمع صحيفة والصحيفة
الكتاب قال الله تعالى صحف إبراهيم وموسى ( الأعلى 19 ) يعني الكتب التي أنزلت
عليهما وأصل التركيب يدل على انبساط في الشيء وسعة ثم هذا الذي ذكره البخاري من
قوله قال أنس نسخ عثمان المصاحف قطعة من حديث لأنس رضي الله عنه ذكره البخاري في
فضائل القرآن عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي الله عنه وكان يغازي
أهل الشام في فتح أرمينية وفيه ففزع حذيفة من اختلافهم في القراءة فقال لعثمان رضي
الله عنه أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل
عثمان إلى حفصة رضي الله عنها أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها
إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن
العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم فنسخوها في المصاحف وفيه حتى
إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما
نسخوا وفي غير البخاري أن عثمان رضي الله عنه بعث مصحفا إلى الشام ومصحفا إلى
الحجاز ومصحفا إلى اليمن ومصحفا إلى البحرين وأبقى عنده مصحفا ليجتمع الناس على
قراءة ما يعلم ويتيقن وقال أبو عمرو الداني أكثر العلماء على أن عثمان كتب أربع
نسخ فبعث إحداهن إلى البصرة وأخرى إلى الكوفة وأخرى إلى الشام وحبس عنده أخرى وقال
أبو حاتم السجستاني كتب سبعة فبعث إلى مكة واحدا وإلى الشام آخر وإلى اليمن آخر
وإلى البحرين آخر وإلى البصرة آخر وإلى الكوفة آخر ودلالة هذا على تجويز الرواية
بالمكاتبة ظاهرة فإن عثمان رضي الله عنه أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف
ومخالفة ما عداها والمستفاد من بعثه المصاحف إنما هو قبول إسناد صورة المكتوب بها
لا أصل ثبوت القرآن فإنه متواتر
ورأى عبد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزا
أي عبد الله بن عمر بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمان القرشي العدوي
المدني ويحيى بن سعيد الأنصاري المدني ومالك بن أنس المدني أما عبد الله ابن عمر
هذا فإنه روي عنه أنه قال كنت أرى الزهري يأتيه الرجل بكتاب لم يقرأه عليه ولم
يقرأ عليه فيقول أرويه عنك فيقول نعم وقال ما أخذنا نحن ولا مالك عن الزهري إلا
عرضا وأما يحيى ومالك فإن الأثر عنهما بذلك أخرجه الحاكم في ( علوم الحديث ) من
طريق إسماعيل بن أبي أويس قال سمعت خالي مالك بن أنس يقول قال يحيى بن سعيد الأنصاري
لما أراد الخروج إلى العراق التقط لي مائة حديث من حديث ابن شهاب حتى أرويها عنك
قال مالك فكتبتها ثم بعثتها إليه وقال بعضهم عبد الله بن عمر هذا كنت أظنه العمري
المدني ثم ظهر لي من قرينة تقديمه في الذكر على يحيى بن سعيد أنه ليس إياه لأن
يحيى بن سعيد أكبر منه سنا وقدرا فتتبعته فلم أجده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب
صريحا ولكن وجدت في ( كتاب الوصية ) لابن القاسم بن منده من طريق البخاري بسند له
صحيح إلى أبي عبد الله الحبلي بضم المهملة والموحدة أنه أتى عبد الله بكتاب فيه
أحاديث فقال انظر في هذا الكتاب فما عرفت منه أتركه وما لم تعرفه امحه وعبد الله
يحتمل أن يكون هو ابن عمر بن الخطاب فأن الحبلي سمع منه ويحتمل أن يكون ابن عمرو
بن العاص فإن الحبلي مشهور بالرواية منه قلت فيه نظر من وجوه الأول أن تقديم عبد
الله بن عمر المذكور على يحيى بن سعيد لا يستلزم أن يكون هو العمري المدني المذكور
فمن ادعى ذلك فعليه بيان الملازمة الثاني أن قول الحبلي إنه أتى عبد الله لا يدل
بحسب الاصطلاح إلا على عبد الله بن مسعود فإنه إذا أطلق عبد الله غير منسوب يفهم
منه عبد الله بن مسعود إن كان مذكورا بين الصحابة وعبد الله بن المبارك إن كان
فيما بعدهم الثالث أنه إن أراد من قوله ويحتمل أن يكون هو عبد الله بن عمرو بن
العاص أن يكون المراد من قول البخاري من عبد الله بن عمر عبد الله بن عمرو بن
العاص فذاك غير صحيح لأنه لم يثبت في نسخة من نسخ البخاري إلا عبد الله بن عمر
بدون الواو والذي يظهر لي أن عبد الله بن عمر هذا هو العمري المدني كما
(2/25)
جزم به الكرماني مع الاحتمال
القوي أنه عبد الله بن عمر بن الخاطب رضي الله عنهما ولا يلزم من عدم وجدان هذا
القائل مع تتبعه عن عبد الله بن عمر في ذلك شيئا صريحا أن لا يكون عنه رواية في
هذا الباب وأن لا يكون هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قوله ذلك
جائزا إشارة إلى كل واحد من المناولة والكتابة باعتبار المذكور وقد وردت الإشارة
بذلك إلى المثنى كما في قوله تعالى عوان بين ذلك ( البقرة 68 )
ثم اعلم أن البخاري رحمه الله بوب على أعلى الإجازة ونبه على جنس الإجازة بذكر
نوعين منها فهذه ثمانية أوجه لأصول الرواية وقد تقدمت الثلاثة الأول في البابين
الأولين وأما الرابع فالمناولة المقرونة بالإجازة وصورتها أن يقول الشيخ هذه
روايتي أو حديثي عن فلان فاروه عني أو أجزت لك روايته عني ثم يملكه الكتاب أو يقول
خذه وانسخه وقابل به ثم رده إلي أو نحوه أو يأتي إليه بكتاب فيتأمله الشيخ العارف
المتيقظ ويعيده إليه فيقول له وقفت على ما فيه وهو روايته فاروه عني أو أجزت لك
ذلك وهذا كالسماع بالقوة عند جماعة حكاه الحاكم عنهم منهم الزهري وربيعة ويحيى
الأنصاري ومجاهد وابن الزبير وابن عيينة في جماعة من المكيين و علقمة وإبراهيم
وقتادة وأبو العالية وابن وهب وابن القاسم وأشهب وغيرهم وروى الخطيب بإسناده إلى
عبد الله العمري أنه قال دفع إلي ابن شهاب صحيفة فقال إنسخ ما فيها وحدث به عني
قلت أو يجوز ذلك قال نعم ألم تر إلى الرجل يشهد على الوصية ولا يفتحها فيجوز ذلك
ويؤخذ به قال أبو عمر وابن الصلاح والصحيح أنها منحطة عن السماع والقراءة وهو قول
الثوري والأوزاعي وابن المبارك وأبي حنيفة والشافعي والبويطي والمزني صاحبيه وأحمد
وإسحاق ويحيى بن يحيى ومنه أن يناول الشيخ الطالب سماعه ويخبره به ثم يمسكه الشيخ
وهذه دونه لكنه يجوز الرواية بها إذا وجد الكتاب أو ما قوبل به كما يعتبر في
الإجازة المجردة في معين الخامس المناولة المجردة مثل أن يناوله مقتصرا على قوله
هذا سماعي ولا يقول إروه عني أو أجزت لك روايته ونحوه قال ابن الصلاح لا يجوز
الرواية بها على الصحيح وقد أجاز بها الرواية جماعة السادس الكتابة المقرونة مثل
أن يكتب مسموعه لغائب أو حاضر بخطه أو بأمره ويقول أجزت لك ما كتبت إليك ونحوه وهي
مثل المناولة في الصحة والقوة السابع الكتابة المجردة أجازها الأكثرون منهم أيوب
ومنصور والليث وأصحاب الأصول وغيرهم وعدوه من الموصول لإشعاره بمعنى الإجازة وقال
السمعاني هي أقوى من الإجازة واكتفوا فيها بمعرفة الخط والصحيح أنه يقول في
الرواية بها كتب إلي فلان أو أخبرني كتابة ونحوه ولا يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا فيه
وأجازهما الليث ومنصور وغيرهم الثامن الإجازة وأقواها أن يجيز معينا لمعين كأجزتك
البخاري وما اشتمل عليه فهرسته والصحيح جواز الرواية والعمل وقال الباجي لا خلاف
في جواز الرواية والعمل بالإجازة وادعى الإجماع في ذلك وإنما الخلاف في العمل وقال
ابن الصلاح وغيره والصحيح ثبوت الخلاف وجواز الرواية بها إحدى الروايتين عن
الشافعي وهو قول جماعة وقال شعبة لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة وعن عبد الرحمن بن
القاسم قال سألت مالكا عن الإجازة فقال لا أرى ذلك وإنما يريد أحدهم أن يقيم
المقام اليسير ويحمل العلم الكثير وقال الخطيب قد ثبت عن مالك أنه كان يصحح
الرواية والإجازة بها ويحمل هذا القول من مالك على كراهة أن يجيز العلم لمن ليس من
أهله ولا خدمه ومنها أن يجيز غير معين بوصف العموم كأجزت المسلمين وأهل زماني ففيه
خلاف المتأخرين
واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي حيث كتب لأمير السرية كتابا وقال لا
تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر
النبي
المراد من بعض أهل الحجاز هو الحميدي شيخ البخاري فإنه احتج في المناولة أي في صحة
المناولة بحديث النبي والكلام فيه على أنواع الأول أن هذا الحديث لم يذكره البخاري
في كتابه موصولا وله طريقان أحدهما مرسل ذكره ابن إسحاق في المغازي عن زيد بن بن
رومان وأبو اليمان في نسخته عن شعيب عن الزهري به كلاهما عن عروة بن الزبير والآخر
موصول أخرجه الطبراني من حديث البجلي بإسناد حسن وله شاهد من حديث ابن عباس رواه
(2/26)
الطبراني في تفسيره الثاني وجه
الاستدلال به أنه جاز له الإخبار عن النبي بما فيه وإن كان النبي عليه السلام لم
يقرأه ولا هو قرأ عليه فلولا أنه حجة لم يجب قبوله ففيه المناولة ومعنى الكتابة
ويقال فيه نظر لأن الحجة إنما وجبت به لعدم توهم التبديل والتغيير فيه لعدالة
الصحابة بخلاف من بعدهم حكاه البيهقي قلت شرط قيام الحجة بالكتابة أن يكون الكتاب مختوما
وحامله مؤتمنا والمكتوب إليه يعرف الشيخ إلى غير ذلك من الشروط لتوهم التغيير
الثالث قوله أهل الحجاز هي بلاد سميت به لأنها حجزت بين نجد والغور وقال الشافعي
هو مكة والمدينة ويمامة ومخاليفها أي قراها كخيبر للمدينة والطائف لمكة شرفها الله
تعالى قوله امير السرية اسمه عبد الله بن جحش الأسدي أخو زينب أم المؤمنين وقال
الشيخ قطب الدين عبد الله بن جحش ابن رباب أخو أبي أحمد وزينب زوج النبي وأم حبيبة
وحمنة أخوهم عبيد الله تنصر بأرض الحبشة وعبد الله وأبو أحمد كانا من المهاجرين
الأولين وعبد الله يقال له المجدع شهد بدرا وقتل يوم أحد بعد أن قطع أنفه وأذنه
وقال محمد بن إسحاق كانت هذه السرية أول سرية غنم فيها المسلمون وكانت في رجب من
السنة الثانية قبل بدر الكبرى بعثه النبي ومعه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له
كتابا وأمره أن لا ينظر حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمر به ولا يستكره
من أصحابه أحدا فلما سار يومين فتحه فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتى تنزل
نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا أخبارهم وفيه وقتلوا عمرو بن
الحضرمي في أول يوم من رجب واستأسروا اثنين فأنكر عليهم النبي وقال ما أمرتكم
بقتال في الشهر الحرام وقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام فأنزل الله تعالى
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ( البقرة 217 ) فهذه أول غنيمة
وأول أسير وأول قتيل قتله المسلمون انتهى والسرية بتشديد الياء آخر الحروف قطعة من
الجيش
64 - حدثنا ( إسماعيل بن عبد الله ) قال حدثني ( إبراهيم بن سعد ) عن ( صالح ) عن
( ابن شهاب ) عن ( عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ) أن ( عبدالله بن عباس
) أخبره أن رسول الله بعث بكتابه رجلا وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيم
البحرين إلى كسرى فلما قرأه مزقه فحسبت أن ابن المسيب قال فدعا عليهم رسول الله أن
يمزقوا كل ممزق
مطابقة الحديث لجزئي الترجمة ظاهرة أما للجزء الأول فمن حيث إن النبي عليه الصلاة
و السلام ناول الكتاب لرسوله وأمر أن يخبر عظيم البحرين أن هذا الكتاب كتاب رسول
الله عليه الصلاة و السلام وإن لم يكن سمع ما فيه ولا قرأه وأما للجزء الثاني فمن
حيث إنه عليه الصلاة و السلام كتب كتابا وبعثه إلى عظيم البحرين ليبعثه إلى كسرى
ولا شك أنه كتاب من سيدي ذوي العلوم إلى بعض البلدان
بيان رجاله وهم ستة الأول إسماعيل بن عبد الله وهو ابن أبي أويس المدني الثاني
إبراهيم بن سعد سبط عبد الرحمن بن عوف الثالث صالح بن كيسان الغفاري المدني الرابع
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الخامس عبيد الله بن عبد الله بتصغير الابن وتكبير
الأب أحد الفقهاء السبعة السادس عبد الله بن عباس والكل قد مر ذكرهم
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والإخبار ومنها
أن رواته كلهم مدنيون ومنها أن فيه رواية التابعي عن التابعي
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن إسحاق ابن
إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح وفي خبر الواحد عن يحيى بن بكير عن ليث عن يونس
وفي الجهاد عن عبد الله بن يوسف عن الليث عن عقيل ثلاثتهم عن الزهري وأخرجه
النسائي أيضا في السير عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب عن يونس وفي العلم عن
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم قاضي دمشق عن سليمان بن داود الهاشمي عن إبراهيم بن
سعد عن صالح بن كيسان وابن أخي الزهري كلاهما عن الزهري به وهذا الحديث من أفراد
البخاري عن مسلم
بيان الإعراب قوله بكتابه رجلا أي بعث رجلا ملتبسا بكتابه مصاحبا له وانتصاب رجلا
على المفعولية قوله
(2/27)
وأمره عطف على بعث قوله أن
يدفعه أي بأن يدفعه و أن مصدرية أي بدفعه قوله فدفعه معطوف على مقدر أي فذهب إلى
عظيم البحرين فدفعه إليه ثم بعثه العظيم إلى كسرى فدفعه إليه ومثل هذه الفاء تسمى
فاء الفصيحة قوله مزقه جواب لما قوله إن ابن المسيب في محل النصب على أنه أحد
مفعولي حسبت قوله قال جملة في محل النصب على أنها مفعول ثان لحسبت قوله فدعا معطوف
على محذوف تقديره لما مزقه وبلغ النبي ذلك غضب فدعا والمحذوف هو مقول القول قوله
أن يمزقوا أي بأن يمزقوا و أن مصدرية أي بالتمزيق قوله كل ممزق كلام إضافي منصوب
على النيابة عن المصدر كما في قوله ( يظنان كل الظن أن لا تلاقيا )
والممزق بفتح الزاي مصدر على وزن اسم المفعول بمعنى التمزيق
بيان المعاني قوله رجلا هو عبد الله بن حذافة السهمي وقد سماه البخاري في المغازي
وحذافة بضم الحاء المهملة وبالذال المعجمة وبعد الألف فاء ابن قيس بن عدي بن سعد
بفتح السين وسكون العين ابن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي أخو خنيس بن حذافة
زوج حفصة أصابته جراحة بأحد فمات منها وخلف عليها بعده رسول الله وعبد الله هو
الذي قال يا رسول الله من أبي قال أبوك حذافة أسلم قديما وكان من المهاجرين
الأولين وكانت فيه دعابة وقيل إنه شهد بدرا ولم يذكره الزهري ولا موسى بن عقبة ولا
ابن إسحاق في البدريين وأسره الروم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فأرادوه على
الكفر وله في ذلك قصة طويلة وآخرها أنه قال له ملكهم قبل رأسي أطلقك قال لا قال له
وأطلق من معك من أسرى المسلمين فقبل رأسه فأطلق معه ثمانين أسيرا من المسلمين فكان
الصحابة يقولون له قبلت رأس علج فيقول اطلق الله بتلك القبلة ثمانين أسيرا من
المسلمين توفي عبد الله في خلافة عثمان رضي الله عنه قوله عظيم البحرين هو المنذر
بن ساوي بالسين المهملة وفتح الواو والبحرين بلد بين البصرة وعمان هكذا يقال
بالياء وفي ( العباب ) قال الحذاق يقال هذه البحران وانتهينا إلى البحرين وقال
الأزهري إنما ثنوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر
بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ قال وقدرت البحيرة بثلاثة أميال في مثلها ولا
يغيض ماؤها راكد زعاق والنسبة إلى البحرين بحراني وقال أبو محمد اليزيدي سألني
المهدي وسأل الكسائي عن النسبة إلى البحرين وإلى حصنين لم قالوا بحراني وحصني فقال
الكسائي كرهوا أن يقولوا حصناني لاجتماع النونين وقلت إنما كرهوا أن يقولوا بحري
فيشبه النسبة إلى البحر قلت قد صالح النبي أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن
الحضرمي وبعث أبا عبيدة فأتى بجزيتها وقد ذكرنا أن النبي بعث العلاء بن الحضرمي
إلى المنذر بن ساوي العبدي ملك البحرين فصدق واسلم فإن قلت لم لم يقل إلى ملك
البحرين وقال عظيم البحرين قلت لأنه لا ملك ولا سلطنة للكفار إذ الكل لرسول الله
ولمن ولاه قوله إلى كسرى بفتح الكاف وكسرها وقال ابن الجواليقي الكسر أفصح وهو فارسي
معرب خسرو وقال الجوهري وجمعه أكاسرة على غير قياس لأن قياسه كسرون بفتح الراء وقد
ذكرنا في قصة هرقل أن كسرى لقب لكل من ملك الفرس كما أن قيصر لقب لكل من ملك الروم
والذي مزق الكتاب من الأكاسرة هو برويز بن هرمز بن أنوشروان ولما مزق الكتاب قال
رسول الله مزق ملكه وقال إذا مات كسرى فلا كسرى بعده قال الواقدي فسلط على كسرى
ابنه شرويه وقتله سنة سبع فتمزق ملكه كل ممزق وزال من جميع الأرض واضمحل بدعوة
النبي وكان أنو شروان هو الذي ملك النعمان بن المنذر على العرب وهو الذي قصده سيف
بن ذي يزن يستنصره على الحبشة فبعث معه قائدا من قواده فنفوا السودان وكان ملكه
سبعا وأربعين سنة وسبعة أشهر وقال ابن سعد لما مزق كسرى كتاب رسول الله بعث إلى
باذان عامله في اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز
فليأتياني بخبره فبعث باذان قهرمانه ورجلا آخر وكتب معهما كتابا فقدما المدينة
فدفعا كتاب باذان إلى النبي عليه الصلاة و السلام فتبسم النبي ودعاهما إلى الإسلام
وفرائصهما ترعد وقال لهما أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه كسرى في هذه الليلة لسبع
ساعات مضت منها وهي ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع وأن الله سلط
عليه ابنه شرويه فقتله وقال ابن هشام لما مات وهرز الذي كان باليمن على جيش الفرس
أمر كسرى ابنه يعني ابن وهرز ثم عزله وولى باذان فلم يزل عليها حتى بعث الله النبي
قال فبلغني عن الزهري أنه قال كتب كسرى إلى
(2/28)
باذان إنه بلغني أن رجلا من
قريش يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه فبعث باذان
بكتابه إلى رسول الله فكتب إليه رسول الله إن الله وعدني بقتل كسرى في يوم كذا
وكذا من شهر كذا وكذا فلما أتى باذان الكتاب قال إن كان نبيا سيكون ما قال فقتل
الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله قال الزهري فلما بلغ باذان بعث بإسلامه
وإسلام من معه من الفرس قوله فحسبت القائل هو ابن شهاب الزهري راوي الحديث أي قال
الزهري ظننت أن سعيد بن المسيب قال إلى آخره
بيان استنباط الأحكام الأول فيه جواز الكتابة بالعلم إلى البلدان الثاني فيه جواز
الدعاء على الكفار إذا أساؤوا الأدب وأهانوا الدين الثالث فيه أن الرجل الواحد
يجزىء في حمل كتاب الحاكم إلى الحاكم وليس من شرطه أن يحمله شاهدان كما تصنع
القضاة اليوم قاله ابن بطال قلت إنما حملوا على شاهدين لما دخل على الناس من
الفساد فاحتيط لتحصين الدماء والفروج والأموال بشاهدين
65 - حدثنا ( محمد بن مقاتل أبو الحسن ) أخبرنا ( عبد الله ) قال أخبرنا ( شعبة )
عن ( قتادة ) عن ( أنس بن مالك ) قال كتب النبي كتابا أو أراد أن يكتب فقيل له
إنهم لا يقرأن كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من فضة نقشه محمد رسول الله كأني أنظر
إلى بياضه في يده فقلت لقتادة من قال نقشه محمد رسول الله قال أنس
هذا يطابق الجزء الأخير للترجمة وهو ظاهر
بيان رجاله وهم خمسة الأول أبو الحسن محمد بن مقاتل بصيغة الفاعل من المقاتلة
بالقاف وبالمثناة من فوق المروزي شيخ البخاري انفرد به عن الأئمة الخمسة روى عن
ابن المبارك ووكيع وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن عبد
الرحمان النسائي قال الخطيب كان ثقة وقال أبو حاتم صدوق توفي آخر سنة ست وعشرين
ومائتين الثاني عبد الله بن المبارك وقد تقدم ذكره الثالث شعبة بن الحجاج الرابع
قتادة بن دعامة السدوسي الخامس أنس بن مالك رضي الله عنه وقد تقدموا
بيان لطائف إسناده ومنها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن رواته ما بين
مروزي وواسطي وبصري ومنها أن رواته أئمة أجلاء
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن علي بن الجعد وفي
اللباس عن آدم وفي الأحكام عن بندار عن غندر وأخرجه مسلم في اللباس عن أبي موسى
وبندار كلاهما عن غندر وأخرجه النسائي في الزينة وفي السير وفي العلم وفي التفسير
عن حميد بن مسعدة عن بشر بن المفضل خمستهم عنه به
بيان اللغات قوله مختوما من ختمت الشيء ختما فهو مختوم ومختم شدد للمبالغة وختم
الله له بالخير وختمت القرآن بلغت آخره واختتمت الشيء نقيض افتتحت قوله خاتما فيه
لغات المشهور منها أربعة فتح التاء وكسرها وخاتام وخيتام والجمع الخواتم وتختمت
إذا لبسته والختام الذي يختم به قوله نقشه من نقشت الشيء فهو منقوش وقال ابن دريد
النقش نقشك الشيء بلونين أو ألوان كائنا ما كان والنقاش الذي ينقشه والنقاشة حرفته
بيان الإعراب قوله كتابا مفعول كتب وهو مفعول به لأن الكتاب هنا اسم غير مصدر قوله
أن يكتب جملة في محل النصب لأنها مفعول أراد وأن مصدرية أي الكتابة قوله إلا
مختوما نصب على الاستثناء لأنه من كلام غير موجب قوله خاتما مفعول إتخذ وكلمة من
في من فضة بيانية قوله نقشه كلام إضافي مرفوع بالابتداء وقوله محمد رسول الله جملة
إسمية من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ فإن قلت الجملة إذا وقعت خبرا لا بد لها من
عائد قلت إذا كان الخبر عين المبتدأ لا حاجة إليه قال الكرماني وهي وإن كانت جملة
ولكنها في تقدير المفرد تقديره نقشه هذه الكلمات قلت هذه الكلمات أيضا جملة لأنها
مبتدأ وخبر قوله كأني أصل كأن للتشبيه لكنها ههنا للتحقيق ذكره الكوفيون والزجاج
ومع هذا لا يخلو عن معنى التشبيه قوله أنظر إلى بياضه جملة في محل الرفع على أنها
خبر كأن قوله في يده حال إما من البياض أو من المضاف إليه أي كأني انظر إلى بياض
الخاتم حال كون الخاتم في يد رسول الله فإن قلت الخاتم ليس في اليد بل في
(2/29)
الاصبع قلت هذا من قبيل إطلاق
الكل وارادة الجزء فإن قلت الإصبع في خاتم لا الخاتم في الإصبع قلت هو من باب
القلب نحو عرضت الناقة على الحوض قوله من قال جملة إسمية ومن إستفهامية لا وقوله
نقشه محمد رسول الله مقول القول قوله قال أنس جملة من الفعل والفاعل ومقول القول
محذوف أي قال أنس نقشه محمد رسول الله
بيان المعاني قوله كتابا أي إلى العجم أو إلى الروم فقد جاء الروايتان صريحتين
بهما في كتاب اللباس قوله أو أراد أن يكتب شك من الراوي وقيل هو أنس قوله إنهم أي
إن الروم والعجم ولا يقال إنه إضمار قبل الذكر لقيام القرينة وهي قوله لا يقرأون
الكتاب إلا مختوما وكانوا لا يقرأون إلا مختوما خوفا من كشف أسرارهم وإشعارا بأن
الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن يكون مما لا يطلع عليها غيرهم وعن أنس إن ختم
كتاب السلطان والقضاة سنة متبعة وقد قال بعضهم هو سنة لفعل النبي عليه الصلاة و
السلام وقد قيل في قوله تعالي إني ألقي إلي كتاب كريم ( النمل 29 ) إنها إنما قالت
ذلك لأنه كان مختوما وفي ذلك أيضا مخالقة الناس بأخلاقهم واستئلاف العدو بما لا
يضر وقد جاء في بعض طرقه عن أنس رضي الله عنه لما أراد النبي عليه الصلاة و السلام
أن يكتب إلى الروم وفي بعضها إلى الرهط أو الناس من الأعاجم وفي مسلم أراد أن يكتب
إلى كسرى وقيصر والنجاشي فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما وذكر الحديث فإن
قلت ما كان رسول الله عليه الصلاة و السلام يكتب فكيف قال كتب النبي عليه الصلاة و
السلام باسناد الكتابة إليه قلت قد نقل أنه عليه الصلاة و السلام كتب بيده وسيجيء
إن شاء الله في كتاب الجهاد وإن ثبت أنه لم يكتب أصلا يكون الإسناد فيه مجازيا نحو
كتب الأمير كتابا أي كتبه الكاتب بأمره والقرينة للمجاز العرف لأن العرف أن الأمير
لا يكتب الكتاب بنفسه قوله فقلت القائل هو شعبة
بيان استنباط الأحكام وهو على وجوه الأول فيه جواز الكتابة بالعلم إلى البلدان
الثاني جواز الكتابة إلى الكفار الثالث فيه ختم الكتاب للسلطان والقضاة والحكام
الرابع فيه جواز استعمال الفضة للرجال عند التختم وقال عياض أجمع العلماء على جواز
اتخاذ الخواتم من الورق وهي الفضة للرجال إلا ما روي عن بعض أهل الشام من كراهة
لبسه إلا لذي سلطان وهو شاذ مردود وأجمعوا على تحريم خاتم الذهب على الرجال إلا ما
روي عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم إباحته وروي عن بعضهم كراهته قال النووي هذان
النقلان باطلان وحكى الخطابي أنه يكره للنساء التختم بالفضة لأنه من زي الرجال ورد
عليه ذلك قال النووي الصواب أنه لا يكره لها ذلك وقول الخطابي ضعيف أو باطل لا أصل
له
وقال الشيخ قطب الدين في هذا الحديث فوائد منها نسخ جواز لبس خاتم الذهب بعد أن
كان عليه الصلاة و السلام لبسه ولا يعارض ذلك ما جاء في ( الصحيحين ) من رواية
الزهري محمد بن مسلم عن أنس أنه رأى في يد رسول الله عليه الصلاة و السلام خاتما
من ورق يوما واحدا ثم إن الناس اصطنعوا الخاتم من ورق فلبسوها فطرح رسول الله عليه
الصلاة و السلام خاتمه فطرح الناس خواتيمهم رواه يونس وإبراهيم بن سعد وزياد وزاده
أبو داود وابن مسافر فهؤلاء خمسة من رواة الزهري الثقات يقولون عنه من ورق وقال
القاضي عياض اجمع أهل الحديث أن هذا وهم من ابن شهاب من خاتم الذهب إلى خاتم الورق
والمعروف من رواية أنس من غير طريق ابن شهاب اتخاذ النبي خاتم فضة وأنه لم يطرحه
وإنما طرح خاتم الذهب وقال المهلب وغيره وقد يمكن أن يتأول لابن شهاب ما ينفي عنه
الوهم وإن كان الوهم أظهر باحتمال أن النبي عليه الصلاة و السلام لما عزم على طرح
خاتم الذهب اصطنع خاتم الفضة بدليل أنه لا يستغني عن الختم به على الكتب إلى
البلدان وأجوبة العمال وغيرهما فلما لبس خاتم الفضة أراه الناس في ذلك اليوم
ليعلمهم إباحته وأن يصطنعوا مثله ثم طرح خاتم الذهب وأعلمهم تحريمه فطرح الناس
خواتيم الذهب الخامس فيه جواز نقش الخاتم ونقش اسم صاحب الخاتم ونقش اسم الله
تعالى فيه بل فيه كونه مندوبا وهو قول مالك وابن المسيب وغيرهما وكرهه ابن سيرين
وأما نهيه عليه الصلاة و السلام أن ينقش أحد على نقش خاتمه فلأنه إنما نقش فيه ذلك
ليختم به كتبه إلى الملوك فلو نقش على نقشه لدخلت المفسدة وحصل الخلل
(2/30)
8 -
( باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها )
الكلام فيه على نوعين الأول أن التقدير هذا باب في بيان شأن من قعد إلى آخره وهو
مرفوع على الخبرية مضاف إلى من وهي موصولة و قعد جملة الفعل والفاعل صلتها و حيث
ظرف للمكان منصوب على الظرفية محلا وبني على الضم تشبيها بالغايات ومن العرب من
يعربه قوله المجلس مرفوع بقوله ينتهي قوله ومن رأى عطف على من قعد والفرجة بضم
الفاء وفتحها لغتان وهي الخلل بين الشيئين قاله النووي وقال النحاس الفرجة بالفتح
في الأمر والفرجة بالضم فيما يرى من الحائط ونحوه وفي ( العباب ) الفرجة بالكسر
والفرجة بالضم لغتان في فرجة الهم وقال أيضا الفرجة يعني بالفتح التفصي من الهم
وقال الأزهري الفرجة الراحة من الغم وذكر فيها فتح الفاء وضمها وكسرها وقد فرج له
في الحلقة والصف ونحو ذلك بفتح العين يفرج بضمها ولم يذكر الجوهري في الفرجة بين
الشيئين غير الضم وفي التفصي من الهم غير الفتح وأنشد عليه
( ربما تكره النفوس من الأم
ر له فرجة كحل العقال )
والحلقة هنا بإسكان اللام وحكى الجوهري فتحها والأول أشهر وفي ( العباب ) الحلقة
بالتسكين الدروع وكذلك حلقة الباب وحلقة القوم والجمع الحلق على غير قياس وقال
الأصمعي الجمع الحلق مثال بدرة وبدر وقصعة وقصع ونهى رسول الله عليه الصلاة و
السلام عن الحلق قبل الصلاة يعني صلاة الجمعة نهاهم عن التحليق والاجتماع على
مذاكرة العلم قبل الصلاة وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء حلقة في الواحد بالتحريك
والجمع حلق وحلقات وقال ثعلب كلهم يجيز ذلك على ضعف وقال الفراء في نوادره الحلقة
بكسر اللام لغة للحارث بن كعب في الحلقة والحلقة وقال ابن السكيت سمعت أبا عمرو
الشيباني يقول ليس في كلام العرب حلقة بالتحريك إلا في قولهم هؤلاء حلقة للذين يحلقون
الشعر جمع حالق الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن الباب الأول فيه ذكر
المناولة وهي تكون في مجلس العلم وهذا الباب في بيان شأن من يأتي إلى المجلس كيف
يقعد والمراد منه مجلس العلم وقال بعضهم مناسبة هذا الباب لكتاب العلم من جهة أن
المراد بالحلقة حلقة العلم فيدخل في آداب الطالب من هذا الوجه قلت هذا القائل أخذ
هذا من كلام الكرماني ومع هذا فليس هذا بيان وجه المناسبة بين البابين وإنما هو
بيان وجه مناسبة إدخال هذا الباب في كتاب العلم وليس القوة إلا في بيان وجوه
المناسبة بين الأبواب المذكورة في كتب هذا الكتاب وقال الشيخ قطب الدين هذا الباب
حقه أن يأتي عقب باب من رفع صوته بالعلم أو عقب باب طرح المسألة لأن كليهما من
آداب العالم وهذا الباب من آداب المتعلم وما بعد هذا الباب يناسب الباب الذي قبله
وهو قوله باب قول النبي رب مبلغ أوعى من سامع لأن فيه معنى التحمل عن غير العارف
وغير الفقيه قلت الذي ذكرناه أنسب لأن الباب السابق في بيان مناولة العالم في مجلس
علمه وهذا الباب في بيان أدب من يحضر هذا المجلس كما ذكرنا
66 - حدثنا ( إسماعيل ) قال حدثني ( مالك ) عن ( إسحاق بن عبد الله أبي طلحة ) أن
( أبا مرة ) مولى ( عقيل بن أبي طالب ) أخبره عن ( أبي واقد الليثي ) أن رسول الله
بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله
وذهب واحد قال فوقفا على رسول الله فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها
وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله قال ألا أخبركم
عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا
الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه
( الحديث 66 - طرفه في 474 )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الترجمة فيمن قعد حيث ينتهي به المجلس وفيمن رأى
فرجة في الحلقة فجلس فيها
(2/31)
والحديث مشتمل على ذكر الحلقة
والفرجة وعلى من جلس حيث ينتهي به المجلس ولأجل هذا قال في الحلقة ولم يقل ومن رأى
فرجة في المجلس ليطابق ما في الباب من ذكر الحلقة وإنما قال في الأول بلفظ المجلس
للإشعار بأن حكمهما واحد ههنا
بيان رجاله وهم خمسة الأول إسماعيل بن أويس الثاني مالك بن أنس الإمام الثالث
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهيل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجاري
ابن أخي أنس لأمه كان يسكن دار جده بالمدينة وهو تابعي سمع أباه وعمه لأمه أنس بن
مالك وغيرهما واتفقوا على توثيقه وهو أشهر أخوته وأكثرهم حديثا وهم عبد الله
ويعقوب وإسماعيل وعمر بنو عبد الله وكان مالك لا يقدم على إسحاق في الحديث أحدا
توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة روى له الجماعة الرابع أبو مرة بضم الميم وتشديد
الراء اسمه يزيد مولى عقيل بن أبي طالب وقيل مولى أخيه علي رضي الله عنه وقيل مولى
اختهما أم هانىء روى عن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي الدرداء وأبي واقد روى له
الجماعة قال ابن ميمونة كان شيخا قديما الخامس أبو واقد بالقاف المكسورة وبالدال
المهملة وهو مشهور بكنيته واختلف في اسمه فقال ابن الكلبي اسمه الحارث بن عوف وقال
الواقدي الحارث بن مالك وقال غيرهما عوف بن الحارث قال أبو عمرو الأول أصح ابن
أسيد بن جابر بن عويرة بن عبد مناة ابن شجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن
علي بن كنانة بن خزيمة وقال أبو عمرو قال بعضهم شهد بدرا ولم يذكره موسى بن عقبة
ولا ابن إسحاق في البدريين وذكر بعضهم أنه كان قديم الإسلام ويقال أسلم يوم الفتح
وأخبر عن نفسه أنه شهد حنينا قال وكنت حديث عهد بكفر وهذا يدل على تأخر إسلامه
وشهد بعد النبي اليرموك ثم جاور بمكة سنة وتوفي بها ودفن بمقبرة المهاجرين روى عن
النبي أربعة وعشرين حديثا اتفقا على حديث وهو هذا وزاد مسلم حديثا آخر وهو ما كان
يقرأ به النبي في الأضحى وقيل إنه ولد في العام الذي ولد فيه ابن عباس قال المقدسي
وفي هذا وشهوده بدرا نظر وتوفي سنة ثمان وستين وهو ابن خمس وسبعين سنة روى له
الجماعة وفي الصحابة من يكنى بهذه الكنية ثلاثة هذا أحدهم وثانيهم أبو واقد مولى
رسول الله روى عنه أبو عمر زاذان وثالثهم أبو واقد النميري روى عنه نافع بن سرجس
والليثي بالياء آخر الحروف والتاء المثلثة نسبة إلى ليث بن بكر المذكور
بيان لطائف إسناده منها أن في إسناده التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والاخبار
ومنها أن رجاله مدنيون ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي ومنها أنه ليس للبخاري
عن أبي واقد غير هذا الحديث لم يروه عنه إلا أبو مرة ولم يرو عن أبي مرة إلا ابن
إسحاق وقد صرح النسائي في روايته بالتحديث من طريق يحيى بن أبي كثير عن إسحاق فقال
عن أبي مرة إن أبا واقد حدثه
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله ابن
يوسف عن مالك وأخرجه مسلم في الاستئذان عن قتيبة عن مالك به وعن أحمد بن المنذر عن
عبد الصمد بن عبد الوارث عن حرب بن شداد وعن إسحاق بن منصور عن حبان بن هلال عن
أبان بن يزيد كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن إسحاق بن عبد الله به وأخرجه الترمذي
في الاستئذان عن إسحاق بن موسى الأنصاري عن معن بن مالك وقال حسن صحيح وأخرجه
النسائي في العلم عن قتيبة به وعن الحارث بن مسكين عن أبي القاسم عن مالك به وعن
علي بن سعيد بن جرير عن عبد الصمد بن عبد الوارث به
بيان اللغات قوله نفر بالتحريك قال الجوهري عدة رجال من الثلاثة إلى العشرة وفي (
العباب ) النفر والنفير عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة وجمع النفر أنفار وانفرة
ونفراء وقال الأصمعي نفر الرجل رهطه فإن قلت فعلى هذا التقدير أقل ما يفهم منه
ههنا تسعة رجال لأن أقل النفر ثلاثة لكنه ليس كذلك إذ لم يكن المقبلون إلا رجالا
ثلاثة قلت معناه ثلاثة هي نفر كأن النفر هو بيان للثلاثة أو المراد من النفر معناه
العرفي إذ هو بحسب العرف يطلق على الرجل فكأنه قال ثلاثة رجال فإن قلت مميز
الثلاثة لا بد أن يكون جمعا والنفر ليس بجمع قلت النفر إسم جمع في وقوعه تمييزا
كالجمع نحو قوله تعالى تسعة رهط ( النمل 48 ) وقال الزمخشري إنما جاء تمييز التسعة
بالرهط لأنه في معنى الجماعة
(2/32)
فكأنه قيل تسعة أنفس والفرق
بين الرهط والنفر أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة أو من السبعة إلى العشرة والنفر
من الثلاثة إلى التسعة ولا يخفى مخالفته لما في ( الصحاح ) قوله فأدبر من الإدبار
وهو التولي قوله فأوى إلى الله بالهمزة المقصورة وقوله فآواه الله بالهمزة
الممدودة ويقال بالمقصورة أيضا وقال القرطبي الرواية الصحيحة قصر الأول ومد الثاني
وهو المشهور في اللغة وفي القرآن إذ أوى الفتية إلى الكهف ( الكهف 10 ) بالقصر
وآويناهما إلى ربوة ( المؤمنون 50 ) بالمد وقال القاضي حكى بعضهم فيهما اللغتين
القصر والمد والمشهور الفرق وفي ( المطالع ) قوله فأوى إلى الله مقصور الألف فآواه
الله ممدود الألف هذا هو الأشهر فيما رويناه وقد جاء المد في كل واحدة منهما
والقصر في كل واحدة منهما لكن المد في المتعدي أشهر والقصر في اللازم أشهر ومعنى
آواه الله جعل الله له فيه مكانا وفسحة لما انضم إليه أعني مجلس النبي عليه الصلاة
و السلام وقيل قربه إلى موضع نبيه عليه الصلاة و السلام وقيل يؤويه إلى ظل عرشه وقال
الجوهري أوى فلان إلى منزله يأوي أويا على فعول وآويته إيواء وأويته إذا انزلته بك
فعلت وأفعلت بمعنى
بيان الإعراب قوله بينما قد مر غير مرة أن بينما أصله بين زيدت فيه لفظة ما وهو من
الظروف التي لزمت إضافتها إلى الجملة وفي بعض النسخ بينا بغير لفظة ما وأصل بينا
أيضا بين فاشبعت فتحة النون بالألف والعامل فيه معنى المفاجأة المستفادة من لفظة
إذ أقبل وقد قلنا إن الأصمعي لا يستفصح مجيء إذا وإذ في جواب بين قوله هو مبتدأ و
جالس خبره وقوله في المسجد حال كذا قوله والناس معه جملة حالية قوله إذ أقبل جواب
بينما وقوله ثلاثة نفر فاعل أقبل قوله وذهب واحد جملة فعلية عطف على قوله فأقبل
اثنان قوله فوقفا عطف على قوله أقبل اثنان قوله فأما كلمة اما للتفصيل و أحدهم
مرفوع بالابتداء وخبره فرأى فرجة وإنما دخلت الفاء لتضمن اما معنى الشرط وإنما
أخرت إلى الخبر كراهة أن يوالى بين حرفي الشرط والجزاء لفظا قوله فجلس فيها عطف
على قوله فرأى والكلام في إعراب وأما الآخر فجلس خلفهم كالكلام في الأول وخلفهم
نصب على الظرفية وكذا الكلام في أدبر قوله ذاهبا حال قوله قال ألا جواب لما وألا
حرف التنبيه سواء فيه ما كان المخاطب به مفردا أو مثنى أو مجموعا ويحتمل أن تكون
الهمزة للاستفهام و لا للنفي قوله أما أحدهم الكلام في إعرابه وفي إعراب أما
الثانية والثالثة مثل الكلام في إعراب أما أحدهما فرأى فرجة
بيان المعاني قوله إذ أقبل ثلاثة نفر اعلم أن ههنا إقبالين أحدهما إقبالهم أولا من
الطريق أقبلوا ودخلوا المسجد مارين يدل عليه حديث أنس رضي الله عنه فإذا ثلاثة نفر
يمرون والآخر إقبال الاثنين منهم حين رأوا مجلس النبي وأما الثالث فإنه استمر
ذاهبا وبهذا التقدير سقط سؤال من قال كيف قال أولا أقبل ثلاثة ثم قال فأقبل اثنان
والحال لا يخلو من أن يكون المقبل اثنين أو ثلاثة قوله فوقفا زاد في رواية (
الموطأ ) فلما وقفا سلما وكذا عند الترمذي والنسائي ولم يذكر البخاري ههنا ولا في
الصلاة السلام وكذا لم يقع في رواية مسلم ومعنى قوله فوقفا على رسول الله وقفا على
مجلس رسول الله أو معناه أشرفا عليه ومنه وقفته على ذنبه أي أطلعته عليه وقال بعضهم
على بمعنى عند قلت لم تجىء على بمعنى عند فمن ادعى ذلك فعليه البيان من كلام العرب
قوله وأما الآخر بفتح الخاء بمعنى وأما الثاني لأن الآخر بالفتح أحد الشيئين وهو
اسم أفعل والأنثى أخرى إلا أن فيه معنى الصفة لأن أفعل من كذا لا يكون إلا في
الصفة وأما الآخر بكسر الخاء فهو بعد الأول وهو صفة يقال جاء آخرا أي أخيرا
وتقديره فاعل والأنثى آخرة والجمع أواخر قوله فلما فرغ رسول الله أي عما كان
مشتغلا به من الخطبة وتعليم العلم أو الذكر ونحوه قوله أما أحدهم فيه حذف تقديره
قالوا أخبرنا فقال أما أحدهم فاوى إلى الله أي لجأ إلى الله وقال القاضي معناه دخل
مجلس ذكر الله قوله فآواه الله من باب المشاكلة والمقابلة كما في قوله تعالى
ومكروا ومكر الله ( آل عمران 54 ) فسمى مجازاته باسم فعله بطريق المجاز وذلك لأن
الإيواء هو الإنزال عندك وهو لا يتصور في حق الله تعالى فيكون مجازا عن لازمه وهو
إرادة إيصال الخير ونحوه فيكون من ذكر الملزوم وإرادة اللازم ويقال معناه فآواه
الله إلى جنته قوله وأما الآخر فاستحيى أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياء من
النبي عليه الصلاة و السلام والحاضرين قاله القاضي عياض
(2/33)
ويقال معناه استحيى من الذهاب
عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث ويؤيد هذا المعنى ما جاء في رواية الحاكم الثاني
فلبث ثم جاء فجلس قوله فاستحيى منه أي جازاه بمثل فعله بأن رحمه ولم يعاقبه وهذا
أيضا من باب المشاكلة وذلك لأن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يذم
به وهذا محال على الله تعالى فيكون مجازا عن ترك العقاب للاستحياء فيكون هذا أيضا
من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم قوله وأما الآخر فاعرض أي عن مجلس رسول الله
عليه الصلاة و السلام ولم يلتفت إليه بل ولى مدبرا قوله فاعرض الله عنه أي جازاه
بأن سخط عليه وهذا أيضا من باب المشاكلة وذلك لأن الإعراض هو الالتفات إلى جهة
أخرى وذلك لا يليق في حق الله تعالى فيكون مجازا عن السخط والغضب المجاز عن إرادة
الانتقام والقاعدة في مثل هذه الإطلاقات التي لا يمكن حملها على ظواهرها أن يراد
به غاياتها ولوازمها والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي اللزوم والقرينة
الصارفة عن إرادة الحقيقة هو العقل إذا لا يتصور العقل صدور هذه الأشياء من الله
تعالى فإن قلت هذه الألفاظ الثلاثة إخبار أو دعاء قلت يحتمل المعنيين في لفظة
الإيواء والإعراض ولكن ما وقع في رواية أنس وأما الآخر فاستغنى فاستغنى الله عنه
يؤيد معنى الإخبار وقال الكرماني ويحتمل أن يكون من باب التشبيه أي يفعل الله
تعالى كما يفعل المؤوي والمستحي والمعرض وقال الزمخشري في قوله تعالى إن الله لا
يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ( آل عمران 54 ) فإن قلت كيف جاز وصف
القديم بالاستحياء قلت هو جار على سبيل التمثيل ومثل تركه يترك من يترك شيئا حياء
منه
ثم اعلم أن قوله فاعرض الله محمول على من ذهب معرضا لا لعذر قال القاضي عياض من
أعرض عن نبيه عليه الصلاة و السلام وزهد منه فليس بمؤمن وإن كان هذا مؤمنا وذهب
لحاجة دنياوية أو ضرورية فإعراض الله عنه ترك رحمته وعفوه فلا يثبت له حسنة ولا
يمحو عنه سيئة قلت وإن كان ذاك منافقا كان النبي اطلع على أمره فلذلك قال فاعرض
الله عنه
بيان استنباط الاحكام وهو على وجوه الأول فيه أن من جلس إلى حلقة علم أنه في كنف
الله تعالى وفي ايوائه وهو ممن تضع له الملائكة اجنحتها وقال ابن بطال وكذلك يجب على
العالم أن يؤوي المتعلم لقوله فآواه الله الثاني أن فيه أن من قصد العالم ومجالسته
فاستحيى ممن قصده فإن الله يستحيي منه فلا يعذبه الثالث فيه أن من أعرض عن مجالسة
العالم فإن الله يعرض عنه ومن أعرض الله عنه فقد تعرض لسخطه الرابع استحباب التحلق
للعلم والذكر في المسجد الخامس فيه استحباب القرب من الكبير في الحلقة ليسمع كلامه
السادس فيه استحباب الثناء على من فعل جميلا السابع فيه أن الإنسان إذا فعل قبيحا
أو مذموما وباح به جاز أن ينسب إليه الثامن فيه أن من حسن الأدب أن يجلس المرء حيث
انتهى مجلسه ولا يقيم أحدا وقد روي ذلك في الحديث أيضا التاسع فيه ابتداء العالم
جلساءه بالعلم قبل أن يسأل عنه العاشر فيه أن من سبق إلى موضع في مجلس كان هو أحق
به لتعلق حقه به في الجلوس الحادي عشر فيه سد خلل الحلقة كما ورد الترغيب في سد
خلل الصفوف في الصلاة الثاني عشر فيه جواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ أحدا فإن
خشي استحب أن يجلس حيث ينتهي الثالث عشر فيه الثناء على من زاحم في طلب الخير
9 -
( باب قول النبي رب مبلغ أوعى من سامع )
الكلام فيه على وجوه الأول التقدير هذا باب في بيان قوله النبي رب مبلغ اوعى من
سامع والباب مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى ما بعده الثاني وجه المناسبة
بين البابين من حيث إن المذكور في هذا الباب حال المبلغ بفتح اللام ومن جملة
المذكور في الباب السابق الجالس في الحلقة وهو أيضا من جملة المبلغين لأن حلقة
النبي كانت مشتملة على العلوم والأمر بتعلمها والتبليغ إلى الغائبين وقال الشيخ
قطب الدين أراد البخاري بهذا التبويب الاستدلال على جواز الحمل على من ليس بفقيه
من الشيوخ الذين لا علم عندهم ولا فقه إذا ضبط ما يحدث به قلت هذا بيان وجه وضع
هذا الباب وليس فيه تعرض إلى وجه المناسبة بين هذا الباب وبين الباب الذي قبله ولم
أر أحدا من الشراح
(2/34)
تعرض لهذا الذي ذكرناه الثالث
قال الكرماني وهذا الحديث رواه معلقا وهو إما بمعنى الحديث الذي ذكره بعده
بالإسناد فهو من باب نقل الحديث بالمعنى وإما أنه ثبت عنده بهذا اللفظ من طريق آخر
وقال الشيخ قطب الدين وقد جاءت لفظة الترجمة في الترمذي من رواية عبد الرحمان بن
عبد الله بن مسعود عن أبيه قال سمعت النبي يقول نضر الله أمرأ سمع منا شيئا فبلغه
كما سمع فرب مبلغ اوعى من سامع قال الترمذي حديث حسن صحيح قلت كل منهما قد أبعد
وتعسف والذي ينبغي أن يقال هو إن هذا حديث معلق أورد البخاري معناه في هذا الباب
وأما لفظه فهو موصول عنده في باب الخطبة بمنى من كتاب الحج أخرجه من طريق قرة بن
خالد عن محمد بن سيرين قال أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة ورجل آخر أفضل في نفسي
من عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي بكرة قال خطبنا رسول الله يوم
النحر قال أتدرون أي يوم هذا وفي آخره هذا اللفظ وقد أخرج الترمذي في ( جامعه )
وابن حباب والحاكم في ( صحيحيهما ) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت
رسول الله يقول نصر الله أمرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها إلى من لم يسمعها
فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه قال الترمذي حسن وقال
الحاكم صحيح على شرط الشيخين قوله نضر بالتشديد أكثر من التخفيف أي حسن ويقال نضر
الله وجهه ونضر بالضم والكسر حكاهما الجوهري قلت وجاء نضر بالفتح أيضا حكاه أبو
عبيد والمصدر نضارة ونضرة أيضا وهو الحسن والرونق فإن قلت كيف قال الترمذي لحديث
ابن مسعود وهو حديث حسن صحيح وقد تكلم الناس في سماع عبد الرحمان عن أبيه فقالوا
كان صغيرا وقال يحيى بن معين عبد الرحمن وأبو عبيدة ابنا عبد الله ابن مسعود لم
يسمعا من أبيهما وقال أحمد مات عبد الله ولعبد الرحمن ابنه ست سنين أو نحوها قلت
كأنه لم يعبأ بما قيل في عدم سماع عبد الرحمن من أبيه لصغره وقال الشيخ قطب الدين
لم يخرج البخاري لأبي عبيدة شيئا وأخرج هو ومسلم لعبد الرحمن عن مسروق فلما كان
الحديث ليس من شرطه جعله في الترجمة قلت هذا بناء على تعسفه فيما ذكرناه والذي
جعله في الترجمة قد ذكره في كتاب الحج على ما ذكرنا الرابع قوله رب هو للتقليل
لكنه كثر في الاستعمال للتكثير بحيث غلب حتى صارت كأنها حقيقة فيه وهي حرف خلافا
للكوفيين في دعوى إسميته وقالوا قد أخبر عنه الشاعر في قوله
( ورب قتل عار )
وأجيب بأن عار خبر لمبتدأ محذوف والجملة صفة للمجرور أو خبر للمجرور إذ هو في موضع
مبتدأ وينفرد رب بوجوب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إن كان ظاهرا وإفراده وتذكيره
وتمييزه بما يطابق المعنى إن كان ضميرا وغلبة حذف معداها ومضيه ووجوب كون فعلها
ماضيا لفظا أو معنى وقال الكرماني وفيها لغات عشر ثم عدها قلت فيها ست عشرة لغة ضم
الراء وفتحها وكلاهما مع التشديد والتخفيف والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث الساكنة
أو المتحركة أو مع التجرد منها فهذه اثنتي عشرة والضم والفتح مع إسكان الباء وضم
الحرفين مع التشديد ومع التخفيف قوله مبلغ بفتح اللام أي مبلغ إليه فحذف الجار
والمجرور كما يقال المشترك ويراد به المشترك فيه قوله أوعى أفعل التفضيل من الوعي
وهو الحفظ فإن قلت كيف إعراب هذا الكلام قلت إعرابه على مذهب الكوفيين أن رب مبلغ
كلام إضافي مبتدأ وقوله أوعى من سامع خبره والمعنى رب مبلغ إليه عني أفهم وأضبط
لما أقول من سامع مني ولا بد من هذا القيد لأن المقصود ذلك وقد صرح بذلك ابن منده
في روايته من طريق هودة عن ابن عون ولفظه فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى
لما أقول من بعض من شهد وأما على مذهب البصريين فإن قوله مبلغ وإن كان مجرورا
بالإضافة ولكنه مرفوع على الابتداء محلا وقوله أوعى صفة له والخبر محذوف وتقديره
يكون أو يوجد أو نحوهما وقال النحاة في نحو رب رجل صالح عندي محل مجرورها رفع على
الابتدائية وفي نحو رب رجل لقيته نصب على المفعولية وفي نحو رب رجل صالح لقيته رفع
أو نصب كما في قولك هذا لقيته
67 - حدثنا ( مسدد ) قال حدثنا ( بشر ) قال حدثنا ( ابن عون ) عن ( ابن سيرين ) عن
( عبد الرحمن بن أبي بكرة ) عن أبيه ذكر النبي قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه
(2/35)
أو بزمامه قال أي يوم هذا
فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال أليس يوم النحر قلنا بلى قال فأي شهر هذا
فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس بذى الحجة قلنا بلى قال فإن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا
ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه
مطابقة الحديث للترجمة من حيث المعنى كما ذكرناه
بيان رجاله وهم ستة الأول مسدد بن مسرهد الثاني بشر بكسر الباء الموحدة وسكون
الشين المعجمة ابن المفضل بن لاحق الرقاشي أبو إسماعيل البصري سمع ابن المنكدر
وعبد الله بن عون وغيرهما روى عنه أحمد وقال إليه المنتهى في التثبت بالبصرة قال
أبو زرعة وأبو حاتم ثقة وقال محمد بن سعد كان ثقة كثير الحديث عثمانيا توفي سنة ست
وثمانين ومائة وقال إنه كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة يصوم يوما ويفطر يوما روى
له الجماعة الثالث عبد الله بن عون بن أرطبان البصري وأرطبان مولى عبد الله بن
مغفل الصحابي رأى أنس بن مالك ولم يثبت له منه سماع وسمع القاسم بن محمد والحسن
ومحمد بن سيرين وغيرهم روى عنه شعبة والثوري وابن المبارك وآخرون وعن خارجة قال
صحبت ابن عون أربعا وعشرين سنة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة وقال أبو
حاتم هو ثقة وقال عمرو بن علي ولد سنة ست وستين ومات وهو ابن خمس وثمانين ويقال
توفي سنة إحدى وخمسين ومائة روى له الجماعة الرابع محمد بن سيرين الخامس عبد
الرحمن بن أبي بكرة نفيع بن الحارث أبو عمر الثقفي البصري أخو عبيد الله ومسلم
ووراد وهو أول مولود ولد في الإسلام بالبصرة سنة أربع عشرة سمع أباه وعليا وغيرهما
أخرج له البخاري هنا وفي غير موضع عن ابن سيرين وعبد الملك بن عمير وخالد الحذاء
وعنه عن أبيه قال ابن معين توفي سنة تسع وتسعين روى له الجماعة السادس أبوه أبو
بكرة واسمه نفيع بضم النون وفتح الفاء ابن الحارث وقد تقدم
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم بصريون ومنها
أن في رواته ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم عبد الله ابن عون وابن سيرين
وعبد الرحمن بن أبي بكرة
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الفتن عن مسدد عن يحيى بن
سعيد عن قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ورجل آخر أفضل في
نفسي من عبد الرحمن كلاهما عن أبي بكرة وزاد في آخره قال عبد الرحمن حدثتني أمي عن
أبي بكرة أنه قال لو دخلوا علي ما نهشت لهم بقصبة وفي الحج عن عبد الله بن محمد
علي أبي عامر العقدي عن قرة بن خالد بإسناده نحوه وسمى الرجل حميد بن عبد الرحمن
ولم يذكر حديث عبد الرحمن عن أمه وفي التفسير وفي بدء الخلق عن أبي موسى وفي
الأضاحي عن محمد بن سلام كلاهما عن عبد الوهاب الثقفي وفي العلم والتفسير أيضا عن
عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي عن حماد بن زيد كلاهما عن أيوب وأخرجه مسلم في
الديات عن أبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن حبيب ابن عربي كلاهما عن عبد الوهاب
الثقفي به وعن نصر بن علي عن يزيد بن زريع وعن أبي موسى عن حماد بن مسعدة كلاهما
عن ابن عون به وزاد في آخره ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما إلى جريعة من الغنم
فقسمها بيننا وعن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد نحوه ولم يذكر حديث عبد الرحمن عن
أمه وعن محمد ابن عمرو بن جبلة وأحمد بن الحسن بن خراش كلاهما عن أبي عامر العقدي
نحوه وسمى حميد بن عبد الرحمان وأخرجه النسائي في الحج عن إسماعيل بن مسعود بن بشر
بن المفضل نحوه وعن يحيى بن مسعدة عن يزيد بن زريع نحوه وفيه وفي العلم عن أبي
قدامة السرخسي عن أبي عامر العقدي نحوه وذكر حميد بن عبد الرحمن وعن سليمان بن
مسلم عن النضر بن شميل عن أبي عون واخرجه البخاري من حديث ابن عباس وابن عمر رضي
الله عنهم بنحوه وله طرق تأتي إن شاء الله تعالى وذكره ابن منده في ( مستخرجه ) من
حديث سبعة عشر صحابيا
بيان اللغات قوله على بعيره البعير الجمل الباذل وقيل الجذع وقد يكون للأنثى وحكي
عن بعض العرب شربت من لبن بعيري وصرعتني بعيري وفي ( الجامع ) البعير بمنزلة
الإنسان يجمع المذكر والمؤنث من الناس إذا
(2/36)
رأيت جملا على البعد قلت هذا
بعير فإذا استثبته قلت جمل أو ناقة ويجمع على أبعرة وأباعر وأباعير وبعر وبعران
وفي ( العباب ) يقال للجمل بعير وللناقة بعير وبنو تميم يقولون بعير وشعير بكسر
الباء والشين والفتح هو الصحيح وإنما يقال له بعير إذا جذع والجمع أبعرة في أدنى
العدد وأباعر في الكثير وأباعير وبعران هذه عن الفراء قوله أمسك إنسان بخطامه أي
تمسك به ومسكت به مثل أمسكت به قال الله تعالى والذين يمسكون بالكتاب ( الأعراف
170 ) أي يتمسكون به وقرأ البصريون ولا تمسكوا بعصم الكوافر ( الممتحنه 10 )
بالتشديد والخطام بكسر الخاء الزمام الذي يشد فيه البرة بضم الباء وفتح الراء حلقة
من صفر تجعل في لحم أنف البعير وقال الأصمعي تجعل في إحدى جانبي المنخرين قوله بذي
الحجة بكسر الحاء وفتحها والكسر افصح ويجمع على ذوات الحجة وذي القعدة بكسر القاف
ويجمع على ذوات العقدة قوله وأعراضكم جمع عرض بكسر العين وهو موضع المدح والذم من
الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه وقيل العرض الحسب وقيل الخلق وقيل النفس وقد
مر تحقيق الكلام فيه قوله الشاهد أي الحاضر من شهد إذا حضر قوله أوعى أي أحفظ من
الوعي وهو الحفظ والفهم
بيان الإعراب قوله ذكر النبي بنصب النبي لأنه مفعول ذكر والضمير في ذكر يرجع إلى
الراوي المعنى عن أبي بكرة أنه كان يحدثهم فذكر النبي عليه الصلاة و السلام فقال
قعد على بعيره ووقع في رواية ابن عساكر عن أبي بكرة أن النبي عليه الصلاة و السلام
قعد وفي رواية النسائي عن أبي بكرة قال وذكر النبي عليه الصلاة و السلام فالواو
واو الحال ويجوز أن تكون واو العطف على أن يكون المعطوف عليه محذوفا فافهم قوله
قعد على بعيره جملة وقعت مقول قال المقدر قوله وأمسك يجوز أن تكون الواو فيه للحال
وقد علم أن الماضي إذا وقع حالا تجوز فيه الواو وتركها ولكن لا بد من قد ظاهرة أو
مقدرة ويجوز أن تكون للعطف على قعد قوله أي يوم هذا جملة وقعت مقول القول قوله فسكتنا
عطف على قال قوله حتى للغاية بمعنى إلى قوله أنه بفتح الهمزة في محل النصب على
المفعولية قوله سيسميه السين فيه تفيد توكيد النسبة وقال الزمخشري في قوله تعالى
أولئك سيرحمهم الله ( التوبة 71 ) السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد
الوعد كما تؤكد الوعيد إذا قلت سأنتقم منك قوله أليس يوم النحر الهمزة فيه ليست
للاستفهام الحقيقي وإنما هي تفيد نفي ما بعدهاوما بعدها ههنا منفي فتكون إثباتا
لأن نفي النفي إثبات فيكون المعنى هو يوم النحر كما في قوله تعالى أليس الله بكاف
عبده ( الزمر 39 ) أي الله كاف عبده وكذلك قوله ألم نشرح لك صدرك ( الإنشراح 1 )
فمعناه شرحنا صدرك ولهذا عطف عليه قوله ووضعنا ( الإنشراح 2 ) قوله فقلنا عطف على
قوله قال قوله بلى مقول القول أقيم مقام الجملة التي هي مقول القول وهي حرف يختص
بالنفي ويفيد إبطاله سواء كان مجردا نحو زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي
( التغابن 7 ) أو مقرونا بالاستفهام حقيقيا كان نحو أليس زيد بقائم فتقول بلى أو
توبيخا نحو أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ( الزخرف 80 ) أيحسب الإنسان
أن لن نجمع عظامه بلى ( القيامة 3 ) أو تقريرا نحو ألم يأتكم نذير قالوا بلى (
الملك 8 - 9 ) ألست بربكم قالوا بلى ( الأعراف 172 ) أجروا النفي مع التقدير مجرى
النفي المجرد في رده ببلى ولذلك قال ابن عباس لو قالوا نعم كفروا لأن نعم تصديق
للخبر بنفي أو إيجاب ولذلك قالت جماعة من الفقهاء لو قال أليس لي عليك ألف فقال
بلى لزمته ولو قال نعم لم تلزمه وقال آخرون تلزمه فيهما وجروا في ذلك على مقتضى
العرف لا اللغة قوله حرام خبر إن قوله ليبلغ بكسر الغين لأنه أمر ولكنه لما وصل
بما بعده حرك بالكسر لأن الأصل في الساكن إذا حرك أن يحرك بالكسر قوله عسى أن يبلغ
في محل الرفع على أنه خبر إن وقد علم أن لعسى استعمالان أحدهما أن يكون فاعله إسما
نحو عسى زيد أن يخرج فزيد مرفوع بالفاعلية و أن يخرج في موضع نصب لأنه بمنزلة قارب
زيد الخروج والآخر أن تكون أن مع صلتها في موضع الرفع نحو عسى أن يخرج زيد فيكون
إذ ذاك بمنزلة قرب أن يخرج أي خروجه وما في الحديث من هذا القبيل قوله منه صلة
لأفعل التفضيل أعني قوله أوعى فإن قلت صلته كالمضاف إليه فكيف جاز الفصل بينهما
بلفظة له قلت جاز لأن في الظرف سعة كما جاز الفصل بين المضاف والمضاف إليه به قال
( فرشني بخير لأكونن ومدحتي
كناحت يوما صخرة بعسيل )
فإن قوله يوما فصل بين ناحت الذي هو مضاف وبين صخرة الذي هو مضاف إليه وقوله فرشني
أمر من راش
(2/37)
يريش يقال رشت فلانا إذا أصلحت
حاله والعسيل بفتح العين المهملة وكسر السين المهملة مكنسة العطار الذي يجمع به
العطر
بيان المعاني قوله قعد على بعيره وذلك كان بمنى في يوم النحر في حجة الوداع قوله
وأمسك إنسان بخطامه قيل هذا الممسك كان بلالا رضي الله تعالى عنه واستدل عليه بما
رواه النسائي من طريق أم الحصين قالت حججت فرأيت بلالا يقود بخطام راحلة النبي
ويقال كان الممسك عمرو بن خارجة فإنه وقع في السنن من حديثه قال كنت آخذ بزمام
ناقة النبي فذكر الخطبة قيل هو أولى أن يفسر به المبهم لأنه أخبر عن نفسه أنه كان
ممسكا بزمام ناقته عليه الصلاة و السلام ويقال كان الممسك هو أبا بكرة الراوي لما
روى الإسماعيلي عن الحسين عن سفيان عن حبان عن ابن المبارك عن أبي عون بسنده إلى
أبي بكرة قال خطب رسول الله عليه الصلاة و السلام على راحلته يوم النحر وأمسكت إما
قال بخطامها أو بزمامها قوله أي يوم هذا ليس في رواية المستملي والأصيلي والحموي
السؤال عن الشهر والجواب الذي قبله ولفظهما أي يوم هذا فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه
سوى اسمه قال أليس بذي الحجة وفي رواية الكشميهني وكريمة بالسؤال عن الشهر والجواب
الذي قبله وهي أيضا كذلك في مسلم وغيره وكذا وقع في مسلم وغيره السؤال عن البلد
فهذه ثلاثة اسئلة عن اليوم والشهر والبلد وهي ثابتة عند البخاري في الأضاحي من
رواية أيوب وفي الحج أيضا من رواية قرة كلاهما عن ابن سيرين وذكر في أول حديثه
خطبنا رسول الله عليه الصلاة و السلام يوم النحر فقال أتدرون أي يوم هذا قلنا الله
ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه وذكر قوله الله ورسوله أعلم في
الجواب عن الأسئلة الثلاثة وكذلك أورده من رواية ابن عمر وجاء من رواية ابن عباس
رضي الله عنهما خطبنا رسول الله عليه الصلاة و السلام يوم النحر فقال أيها الناس
أي يوم هذا قالوا هذا يوم حرام قال فأي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فأي شهر هذا
قالوا شهر حرام فإن قلت حديث ابن عباس يشعر بأنهم أجابوه بقولهم هذا يوم حرام وبلد
حرام وشهر حرام وهو مخالف للمذكور هنا من حديث أبي بكرة ومن حديث ابن عمر أيضا
أنهم سكتوا حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه الجواب أنه يحتمل أن تكون الخطبة متعددة
فأجاب في الثانية من علم في الأولى ولم يجب من لم يعلم فنقل كل من الرواة ما سمع
ويقال إن حديث أبي بكرة من رواية مسدد وقع ناقصا مخروما لنسيان وقع من بعض الرواة
قوله فإن دماءكم فيه حذف تقديره سفك دمائكم وكذا في أموالكم التقدير أخذ أموالكم
وكذا في أعراضكم التقدير سلب أعراضكم قوله ليبلغ الشاهد أي الحاضر في المجلس
الغائب عنه والمراد منه إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام فافهم
بيان استنباط الأحكام هو على وجوه الأول فيه أن العالم يجب عليه تبليغ العلم لمن
لم يبلغه وتبيينه لمن لا يفهمه وهو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على العلماء
ليبيننه للناس ولا يكتمونه ( آل عمران 187 ) الثاني فيه أنه يأتي في آخر الزمان من
يكون له من الفهم في العلم من ليس لمن تقدمه وأن ذلك يكون في الأقل لأن رب موضوعة
للتقليل و عسى موضعها الإطماع وليست لتحقيق الشيء الثالث فيه أن حامل الحديث يجوز
أن يؤخذ عنه وإن كان جاهلا بمعناه وهو مأخوذ من تبليغه محسوب في زمرة أهل العلم
الرابع فيه أن ما كان حراما يجب على العالم أن يؤكد حرمته ويغلظ عليه بأبلغ ما
يوجد كما فعل النبي عليه الصلاة و السلام في المتشابهات الخامس فيه جواز القعود
على ظهر الدواب إذا احتيج إلى ذلك لا للأشر والبطر والنهي في قوله عليه السلام لا
تتخذوا ظهور الدواب مجالس مخصوص بغير الحاجة السادس فيه الخطبة على موضع عال ليكون
أبلغ في سماعها للناس ورؤيتهم إياه السابع فيه مساواة المال والدم والعرض في
الحرمة الثامن فيه تشبيه الدماء والأموال والأعراض باليوم وبالشهر وبالبلد في
الحرمة دليل على استحباب ضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير قياسا قاله النووي
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل لم شبه الدماء والأموال والأعراض في الحرمة باليوم
والشهر والبلد في غير هذه الرواية أجيب بأنهم كانوا لا يرون استباحة هذه الأشياء
وانتهاك حرمتها بحال وكان تحريمها ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم بخلاف الدماء
والأموال والأعراض فإنهم في الجاهلية كانوا يستبيحونها وقال بعضهم أعلمهم الشارع
بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم فلا يرد كون
المشبه به أخفض رتبة من المشبه لأن الخطاب إنما وقع
(2/38)
بالنسبة لما اعتاده المخاطبون
قبل تقرير الشرع قلت لا نسلم أن الشارع قال حرمة هذه الأشياء أعظم من حرمة تلك
الأشياء حتى يرد السؤال بكون المشبه به أخفض رتبة من المشبه وإنما الشارع شبه حرمة
تلك بحرمة هذه لما ذكرنا من وجه التشبيه من غير تعرض إلى غير ذلك ومنها ما قيل لم
سأل عليه السلام عن هذه الأشياء الثلاثة وسكت بعد كل سؤال منها أجيب لاستحضار
فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليعلموا عظمة ما يخبرهم عنه ولذلك قال بعد هذا فإن
دماكم إلى آخره مبالغة في تحريم الأشياء المذكورة ومنها ما قيل لم كان جوابهم عن
كل سؤال بقولهم الله ورسوله أعلم على ما ثبت في الرواية الأخرى للبخاري وغيره أجيب
إنما كان ذلك لحسن أدبهم لأنهم كانوا يعلمون أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من
الجواب وأنه ليس مراد مطلق الإخبار بما يعرفونه ولهذا قال في رواية الباب حتى ظننا
أنه سيسميه سوى اسمه وفيه إشارة إلى تفويض الأمور بالكلية إلى الشارع والانعزال
عما ألفوه من المتعارف المشهور ومنها ما قيل لم أمسك الممسك بخطام ناقته أجيب لصونه
البعير عن الاضطراب والتشويش على راكبه
10 -
( باب العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله ( محمد19 )
فبدأ بالعلم )
أي هذا باب في بيان أن العلم قبل القول والعمل أراد أن الشيء يعلم أولا ثم يقال
ويعمل به فالعلم مقدم عليهما بالذات وكذا مقدم عليهما بالشرف لأنه عمل القلب وهو
أشرف أعضاء البدن وقال ابن بطال العمل لا يكون إلا مقصودا يعني متقدما وذلك المعنى
هو علم ما وعد الله عليه بالثواب وقال ابن المنير أراد أن العلم شرط في صحة القول
والعمل فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما لأنه مصحح النية المصححة للعمل فنبه
البخاري على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم إن العلم لا يفيد إلا بالعمل
تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه قوله فبدأ بالعلم أي بدأ الله تعالى بالعلم أولا
حيث قال فاعلم أنه لا إله إلا الله ( محمد 19 ) ثم قال واستغفر لذنبك ( محمد 19 )
الاستغفار إشارة إلى القول والعمل والخطاب وإن كان للنبي فهو متناول لأمته وقال
الزجاج هو متعلق بمحذوف المعنى قد بينا وقلنا ما يدل على أن الله تعالى واحد فاعلم
ذلك والنبي عليه الصلاة و السلام قد علم ذلك ولكنه خطاب يدخل الناس مع النبي فيه
كقوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن ( الطلاق 1 ) والمعنى من علم
فليقم على ذلك العلم كقوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم ( الفاتحة 6 ) أي ثبتنا
وقيل يتعلق بما قبله والمعنى إذا جاءتهم الساعة فاعلم أن لا ملك ولا حكم لأحد إلا
لله ويبطل ما عداه وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال ألم تسمع قوله تعالى حين
بدأ به فقال فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ( محمد 19 ) فأمره بالعمل
بعد العلم ويعلم من الآية أن التوحيد مما يجب العلم به ولا يجوز فيه تقليد وقال
الأكثرون يكفي الاعتقاد الجازم وإن لم يعرف الأدلة وهذا هو المعروف من سيرة السلف
ومذهب أكثر المتكلمين أن إيمان المقلد في أصول الدين غير صحيح وقال محيي السنة يجب
على كل مكلف معرفة علم الأصول ولا يسع فيه التقليد لظهور دلائله فإن قلت ما وجه
المناسبة بين البابين قلت من حيث إن المذكور في الباب الأول هو حال المبلغ والسامع
والمبلغ بكسر اللام والمبلغ بفتحها لا يقدران على التعليم والتعلم إلا بالعلم وهذا
الباب في بيان العلم قبل القول والعمل
وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر
يجوز في أن الكسر والفتح أما الفتح فبالعطف على ما قبله وأما الكسر فعلى سبيل الحكاية
أو على تقدير باب هذه الجملة وهذا من حديث مطول أخرجه الترمذي عن محمود بن خداش عن
محمد بن يزيد الواسطي عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير عن أبي الدرداء رضي
الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال من سلك طريقا يطلب فيه علما
سهل الله له طريقا إلى الجنة وأن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم وأن
العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم
على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء وأن
الأنبياء عليهم السلام لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ
بحظ وافر ثم قال كذا حدثنا محمود وإنما يروى هذا
(2/39)
الحديث عن عاصم عن داود بن
جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء وهذا أصح من حديث محمود ولا يعرف هذا الحديث
إلا من حديث عاصم وليس إسناده عندي بمتصل وفي ( علل ) الدارقطني رواه الأوزاعي عن
كثير بن قيس عن يزيد بن سمرة عن أبي الدرداء قال وليس بمحفوظ وقال ابن عبد البر لم
يقمه الأوزاعي وقد خلط فيه وقال حمزة رواه الأوزاعي عن عبد السلام بن سليم عن يزيد
بن سمرة وغيره من أهل العلم عن كثير بن قيس قال أبو عمر وعاصم بن رجاء هذا ثقة
مشهور وقال الدارقطني عاصم بن رجاء ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء ولا يثبت قال
داود بن جميل مجهول وقال البزار داود بن جميل وكثير بن قيس لا يعلمان في غير هذا
الحديث ولا نعلم روى عن كثير غير داود والوليد بن مرة ولا نعلم روى عن داود عن غير
عاصم قال ابن القطان اضطرب فيه عاصم فعنه في ذلك ثلاثة أقوال أحدها قول عبد الله
بن داود عن عاصم بن داود عن كثير بن قيس الثاني قول أبي نعيم عن عاصم عمن حدثه عن
كثير الثالث قول محمد بن يزيد الواسطي عن عاصم عن كثير لم يذكر بينهما أحد
والمتحصل من حال هذا الخبر هو الجهل بحال راويين من رواته والاضطراب فيه ممن لم
يثبت عدالته انتهى وقد مر من عند الترمذي أن محمد بن يزيد روى عن محمود بن خداش
فسماه قيس بن كثير فصار اضطرابا رابعا والخامس قال في ( التهذيب ) داود بن جميل
وقال بعضهم الوليد بن جميل وفي ( جامع بيان العلم ) لابن عبد البر من رواية ابن
عباس عن عاصم عن جميل بن قيس ثم قال قال حمزة بن محمد كذا قال ابن عياش في هذا
الخبر جميل بن قيس وقال محمد بن يزيد وغيره عن عاصم عن كثير بن قيس قال والقلب إلى
ما قاله محمد بن يزيد أميل وهذا اضطراب سادس وسابع ذكره الدارقطني وقد تقدم وثامن
ذكره ابن قانع في كتاب الصحابة وزعم أن كثير بن قيس صحابي وأنه هو الراوي عن النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هذا الحديث وتبع ابن القانع ابن الأثير على هذا
وقول ابن القطان لا يعلم كثير في غير هذا الحديث يرده قول أبي عمر روى عن أبي
الدرداء وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومع ذلك فقد قال أبو عمر قال
حمزة وهو حديث حسن غريب والتزم الحاكم صحته وكذلك ابن حبان رواه عن محمد بن إسحاق
الثقفي ثنا عبد الأعلى بن حماد قال ثنا عبد الله بن داود فذكره مطولا ولما ذكر في
( كتاب الضعفاء ) تأليفه حديث جابر بن عبد الله قال رسول الله أكرموا العلماء
فإنهم ورثة الأنبياء قال فيه الضحاك به حمزة ولا يجوز الاحتجاج به وقد روي العلماء
ورثة الأنبياء بأسانيد صالحة ورواه أبو عمر من حديث الوليد بن مسلم عن خالد بن
يزيد عن عثمان بن أيمن عن أبي الدرداء رضي الله عنه ولما ذكر الخطيب في ( تاريخه )
حديث نافع عن مولاه ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال حملة العلم
في الدنيا خلفاء الأنبياء وفي الآخرة من الشهداء قال هذا حديث منكر لم نكتبه إلا
بهذا السند وهو غير ثابت وإنما سمى العلماء ورثة الأنبياء لقوله تعالى ثم أورثنا
الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ( فاطر 32 ) قوله ورثوا العلم بفتح الواو وتشديد
الراء من التوريث ويجوز بفتح الواو وكسر الراء المخففة والضمير المرفوع فيه يرجع
إلى الأنبياء في قراءة التشديد وإلى العلماء في قراءة التخفيف وأعاد بعضهم الضمير
إلى العلماء في الوجهين وليس بصحيح ويجوز ضم الواو وتشديد الراء المكسورة أيضا
فعلى هذا يرجع الضمير أيضا إلى العلماء قوله من أخذه أي من أخذ العلم من ميراث
النبوة أخذ بحظ أي بنصيب وافر كثير كامل فإن قلت لم لم يفصح البخاري بكون هذا
حديثا قلت للعلل التي ذكرناها ولذا لا يعد أيضا من تعاليقه ولكن إيراده في الترجمة
يشعر بأن له أصلا وشاهده في القرآن
ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة
هذا أخرجه مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وهو حديث طويل أوله من
نفس عن مؤمن كربة الحديث وأخرجه الترمذي أيضا وقال حديث حسن فإن قلت هذا حديث صحيح
ولذا أخرجه مسلم فكيف اقتصر الترمذي على قوله حسن ولم يقل حسن صحيح قلت لأنه يقال
إن الأعمش دلس فيه فقال حدثت عن أبي صالح ولكن في رواية مسلم عن أبي أسامة عن
الأعمش حدثنا أبو صالح فانتفت تهمة تدليسه وأخرجه ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) عن
أبي الأحوص عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا قوله
يطلب جملة وقعت حالا والضمير في به رجع إلى المسلك الذي يدل عليه قوله سلك كما في
قوله تعالى أعدلوا هو أقرب للتقوى ( المائدة 8 ) قوله علما إنما نكره ليتناول
(2/40)
أنواع العلوم الدينية وليندرج
فيه القليل والكثير قوله سهل الله له أي في الآخرة أو المراد منه وفقه الله
للأعمال الصالحة فيوصله بها إلى الجنة أو سهل عليه ما يزيد به علمه لأنه أيضا من
طرق الجنة بل أقربها
وقال جل ذكره إنما يخشى الله من عباده العلماء ( فاطر 28 )
هذا في المعنى عطف على قوله لقول الله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله ( محمد 19
) المعنى إنما يخاف الله من عباده العلماء أي من علم قدرته وسلطانه وهم العلماء
قاله ابن عباس وقال الزمخشري المراد العلماء الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده وما
يجوز عليه وما لا يجوز فعظموه وقدروه وخشوه حق خشيته ومن ازداد به علما ازداد منه
خوفا ومن كان عالما به كان آمنا وفي الحديث أعلمكم بالله أشدكم له خشية وقال رجل
للشعبي افتني أيها العالم فقال العالم من خشي الله وقيل نزلت في أبي بكر الصديق
رضي الله عنه وقد ظهر عليه الخشية حتى عرفت انتهى وقرىء إنما يخشى الله برفع لفظة
الله ونصب العلماء وهو قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة رضي الله عنهما ووجه
هذه القراءة أن الخشية فيها تكون استعارة والمعنى إنما يجلهم ويعظمهم ومن لوازم
الخشية التعظيم فيكون هذا من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم وفي أيام اشتغالي على
الإمام العلامة أبي الروح شرف الدين عيسى السر ماري في علمي التفسير والمعاني
والبيان تغمده الله برحمته حضر شخص من أهل العلم وقت الدرس وسأله عن هذه الآية
فقال خشية الله تعالى مقصورة على العلماء بقضية الكلام وقد ذكر الله تعالى في آية
أخرى أن الجنة لمن خشي وهو قوله تعالى ذلك لمن خشي ربه ( البينة 8 ) فليزم من ذلك
أن لا تكون الجنة إلا للعلماء خاصة فسكت جميع من كان هناك من الفضلاء الأذكياء
الذين كان كل منهم يزعم أنه المفلق في العلمين المذكورين فأجاب الشيخ رحمه الله إن
المراد من العلماء الموحدون وإن الجنة ليست إلا للموحدين الذين يخشون الله تعالى
فإن قلت ما وجه إدخال هذه الآية في الترجمة قلت هو ظاهر وذلك أن الباب في العلم
والآية في مدح العلماء ولم يستحقوا هذا المدح إلا بالعلم
وقال وما يعقلها إلا العالمون ( العنكبوت 43 )
أي وما يعقل الأمثال المضروبة إلا العلماء الذين يعقلون عن الله وروى جابر رضي
الله عنه أن النبي لما تلا هذه الآية فقال العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته
واجتنب سخطه ووجه إدخالها في الترجمة ما ذكرناه في الآية السابقة
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ( الملك 10 )
هذا حكاية عن قول الكفار حين دخولهم النار أي لو كنا نسمع الإنذار سماع طالبين
للحق أو نعقله عقل متأملين وإنما حذف مفعول نعقل لأنه جعل كالفعل اللازم والمعنى
لو كنا من أهل العلم لما كنا من أهل النار وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار
التكليف على أدلة السمع والعقل وقال الزجاج معناه لو كنا نسمع سمع من يعي أو نعقل
عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا إن لكل شيء
دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر ما يعقل يعبد ربه ولقد ندم الفجار يوم القيامة
فقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ( الملك 10 ) روى أنس رضي الله
عنه مرفوعا إن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر وإنما يرتفع العباد غدا في
الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم فإن قلت ما وجه إدخال هذه الآية في
الترجمة قلت وجهه أن المراد من العقل العلم ههنا فإن الكفار تمنوا أن لو كان لهم
العلم لما دخلوا النار
وقال هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( الزمر9 )
أراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الديانة كأنه جعل من لا يعمل غير عالم وفيه
ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم يفتنون بالدنيا ووجه دخولها في الترجمة هو أن
الله تعالى نفى المساواة بين العلم والجاهل ويقتضي نفي المساواة أيضا بين العالم
والجاهل وفيه مدح للعلم وذم للجهل
وقال النبي من يرد الله به خيرا يفقهه
(2/41)
ذكره معلقا وقد علم أن ما كان
من هذا فهو عنده في حكم المتصل لإيراده له بصيغة الجزم مع أنه ذكره موصولا بعد هذا
ببابين كما سيأتي إن شاء الله تعالى من حديث معاوية رضي الله عنه قوله يفقهه أي
يفهمه إذ الفقه في اللغة الفهم قال تعالى يفقهوا قولي ( طه 28 ) أي يفهموا قولي من
فقه يفقه من باب علم يعلم ثم خص به علم الشريعة والعالم به يسمى فقيها وجاء فقه
بالضم فقاهة وهكذا رواية الأكثرين يفقه وفي رواية المستملي بالهاء المشددة
المكسورة بعدها ميم وأخرجه ابن أبي عاصم بهذا اللفظ في كتاب العلم من طريق ابن عمر
عن عمر رضي الله عنه مرفوعا بإسناد حسن
وإنما العلم بالتعلم
قال الكرماني يحتمل أن يكون هذا من كلام البخاري قلت هذا حديث مرفوع أورده ابن أبي
عاصم والطبراني من حديث معاوية رضي الله عنه بلفظ يا أيها الناس تعلموا إنما العلم
بالتعلم والفقه بالتفقه ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين إسناده حسن والمبهم
الذي فيه اعتضد بمجيئه من وجه آخر ورواه الخطيب في كتاب ( الفقيه والمتفقه ) من
حديث مكحول عن معاوية ولم يسمع منه قال النبي عليه الصلاة و السلام يا أيها الناس
إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود رضي الله
تعالى عنه موقوفا بالتعلم بفتح العين وتشديد اللام وفي بعض النسخ بالتعليم أي ليس
العلم المعتد إلا المأخوذ عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على سبيل التعلم
والتعليم فيفهم منه أن العلم لا يطلق إلا على علم الشريعة ولهذا لو أوصى رجل
للعلماء لا ينصرف إلا على أصحاب الحديث والتفسير والفقه
وقال أبو ذر لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة
سمعتها من النبي قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها
هذا التعليق رواه الدارمي موصولا في ( مسنده ) من طريق الأوزاعي حدثني مرثد بن أبي
مرثد عن أبيه قال أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس عليه
يستفتونه فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال ألم تنه عن الفتيا فرفع رأسه إليه فقال أرقيب
أنت علي لو وضعتم فذكر مثله ورواه أحمد بن منيع عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي
عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن مرثد بن أبي مرثد عن أبيه قال جلست إلى أبي ذر
الغفاري رضي الله عنه إذ وقف عليه رجل فقال ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا فقال
أبو ذر والله لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى حلقه على أن أترك كلمة سمعتها
من رسول الله لأنفذتها قبل أن يكون ذلك قلت كان سبب ذلك أن أبا ذر كان بالشام
واختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ( التوبة 24 )
فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب خاصة وقال أبو ذر نزلت فينا وفيهم فكتب معاوية إلى
عثمان رضي الله عنه فأرسل إلى أبي ذر فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر عن
المدينة فسكن الربذة بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة إلى أن مات وقد
ذكرناه واسمه جند بن جنادة قوله الصمصامة قال الجوهري الصمصام والصمصامة السيف
الصارم الذي لا ينثني وأشار بقوله هذه إلى القفا والقفا يذكر ويؤنث وهو مقصور مؤخر
العنق قوله أنفذ بضم الهمزة والذال المعجمة أي ظننت أني أقدر على إنفاذ كلمة أي
تبليغها وقوله قبل أن تجيزوا بضم التاء المثناة من فوق وكسر الجيم وبعد الياء زاي
معجمة أي قبل أن يقطعوا علي أراد به قبل أن يقطعوا رأسي وقال الصغاني والتركيب يدل
على قطع الشيء قلت ومنه قوله ( حتى أجاز الوادي )
أي قطعه
( فأكون أول من يجيز )
أي أول من يقطع مسافة الصراط وقال الكرماني وتجيزوا أي الصمصامة علي أي على قفاي
قلت هو من أجاز الشيء إذا انفذه و الصمصامة مفعوله وكلمة على ليست صلة لأجل التعدي
وحاصل المعنى أنه يبلغ ما يحمله في كل حال ولا ينثني عن ذلك ولو عرض عليه القتل أو
وضع على قفاه السيف وفيه دليل على أن أبا ذر رضي الله عنه كان لا يرى بطاعة الإمام
إذا نهاه عن الفتيا لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي بالتبليغ عنه ولعله
أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علما يعلمه فإن قلت لو لامتناع الثاني لامتناع الأول
على المشهور فمعناه انتفى الإنفاذ لانتفاء الوضع وليس المعنى عليه قلت هو مثل لو
لم يخف الله لم يعصه يعني يكون الحكم ثابتا على تقدير النقيض بالطريق الأولى
فالمراد أن الإنفاذ حاصل على تقدير الوضع وعلى تقدير عدم الوضع حصوله أولى أو إن
لو ههنا لمجرد الشرط يعني حكمها حكم إن من
(2/42)
غير ملاحظة الامتناع وفيه من
الفقه أنه يجوز للعالم أن يأخذ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالشدة ويتحمل
الأذى ويحتسب رجاء ثواب الله تعالى ويباح له أن يسكت إذا خاف الأذى كما قال أبو
هريرة رضي الله عنه لو حدثتكم بكل ما سمعت من رسول الله لقطع هذا البلعوم وعنه لو
حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر وقال الحسن صدق وكأنه أراد ما يتعلق
بالفتن مما لا يتعلق بذكره مصلحة شرعية
وقال ابن عباس كونوا ربانيين حلماء فقهاء
هذا التعليق رواه الخطيب في كتاب ( الفقيه والمتفقه ) بسند صحيح عن أبي بكر الحربي
ثنا أبو محمد حاجب ابن أحمد الطوسي ثنا عبد الرحيم بن حبيب ثنا الفضيل ابن عياض عن
عطاء عن سعيد بن جبير عنه ورواه ابن أبي عاصم في كتاب ( العلم ) عن المقدمي ثنا
أبو داود عن معاذ عن سماك عن عكرمة عنه وقد فسر ابن عباس الرباني بأنه الحكيم
الفقيه ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم الحربي في غريبه عنه بإسناد صحيح
والرباني منسوب إلى الرب وأصله الربي فزيدت فيه الألف والنون للتأكيد والمبالغة في
النسبة وقال أبو المعاني في كتابه ( المنتهى ) في اللغة الرباني المتأله العارف
بالله تعالى وربيت القوم سستهم أي كنت فوقهم وقال أبو نصر هو من الربوبية وعن ابن
الأعرابي لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالما معلما ويقال هو العالي الدرجة في
العلم وقال الإسماعيلي الرباني منسوب إلى الرب كأنه الذي يقصد ما أمره الرب وفي
كتاب ( الفقيه ) للخطيب عن مجاهد الربانيون الفقهاء وهم فوق الأحبار وقال نفطويه
قال أحمد بن يحيى إنما قيل للعلماء ربانيون لأنهم يربون العلم أي يقومون به وفي
كتاب ( الفقه ) عنه إذا كان الرجل عالما عاملا معلما قيل له هذا رباني فإن خرم
خصلة منها لم يقل له رباني وعند الطبري عن ابن زيد الربيون الأتباع والربانيون
الولاة والربيون الرعية وعن الأزهري هم أرباب العلم الذين يعلمون ما يعلمون وقال
أبو عبيد سمعت رجلا عالما بالكتب يقول الربانيون العلماء بالحلال والحرام وفي (
الجامع ) للقزاز الربي والجمع ربيون هم العباد الذين يصحبون الأنبياء عليهم السلام
ويصبرون معهم وهم الربانيون نسبوا إلى عبادة الرب سبحانه وتعالى وقيل هم العلماء
الصبر وقيل ليس ربيون بلغة العرب إنما هي سريانية أو عبرانية وحكي عن بعض اللغويين
أن العرب لا تعرف الرباني وقال إنما فسره الفقهاء قال القزاز وأنا أرى أن يكون
عربيا قوله حكماء جمع حكيم والحكمة صحة القول والعقد والفعل ويقال الحكمة الفقه في
الدين وقيل الحكمة معرفة الأشياء على ما هي عليه والفقهاء جمع فقيه والفقه الفهم
لغة وفي الاصطلاح العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية وفي بعض
النسخ حلماء جمع حليم باللام والحلم هو الطمأنينة عند الغضب وفي بعضها علماء وهو
من باب ذكر الخاص بعد العام والظاهر أن حكماء وفقهاء تفسير للربانيين
ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره
هذا حكاية البخاري عن قول بعضهم وهو من التربية أي الذي يربي الناس بجزئيات العلم
قبل كلياته أو بفروعه قبل أصوله أو بمقدماته قبل مقاصده فإن قلت هذا كله هو
الترجمة فأين ما هذه ترجمته قلت إما أنه أراد أن يلحق الأحاديث المناسبة إليها فلم
يتفق له وإما أنه للإشعار بأنه لم يثبت عنده بشرطه ما يناسبها وإما أنه اكتفى بما
ذكره تعليقا لأن المقصود من الباب بيان فضيلة العلم ويعلم ذلك من المذكور آية
وحديثا وإجماعا سكوتيا من الصحابة رضي الله عنهم بحيث انتهى إلى حد علم الضرورة
فلم يحتج إلى الزيادة أو لسبب آخر والله أعلم
11 -
( باب ما كان النبي يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا )
الكلام فيه على أنواع الأول إن التقدير هذا باب في بيان ما كان النبي عليه السلام
يتخول الصحابة رضي الله عنهم بالموعظة وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو مضاف
إلى ما بعده من الجملة وكلمة ما مصدرية تقديره باب كون النبي عليه السلام يتخولهم
الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو العلم
والمذكور في هذا الباب هو التخول بالعلم الثالث قوله يتخولهم بالخاء المعجمة وفي
آخره اللام معناه يتعهدهم وهو من التخول وهو التعهد
(2/43)
يعني كان يتعهدهم ويراعي
الأوقات في وعظهم ويتحرى منها ما كان مظنة القبول ولا يفعله كل يوم لئلا يسأم
والخائل القائم المتعهد للحال ذكره الخطابي والآن يأتي مزيد الكلام فيه إن شاء
الله تعالى قوله بالموعظة قال الصغاني الوعظ والعظة والموعظة مصادر قولك وعظته
أعظه والوعظ هو النصح والتذكير بالعواقب وعطف العلم على الموعظة من باب عطف العام
على الخاص عكس وملائكته وجبريل وذكره الموعظة لكونها مذكورة في الحديث وأما العلم
فإنما ذكره استنباطا قوله كي لا ينفروا أي لئلا يملوا عنه ويتباعدوا منه يقال نفر
ينفر من باب ضرب يضرب ونفر ينفر من باب نصر ينصر نفورا بالضم ونفار بالفتح والنفور
أيضا جمع نافر كشاهد وشهود ويقال في الدابة نفار بكسر النون وهو اسم مثل الحران
والتركيب يدل على تجاف وتباعد
68 - حدثنا ( محمد بن يوسف ) قال أخبرنا ( سفيان ) عن ( الأعمش ) عن ( أبي وائل )
عن ( ابن مسعود ) قال كان النبي يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا
مطابقة الحديث لإحدى الترجمتين وهي قولهبالموعظة ظاهرة والباب مترجم بترجمتين
إحداهما قوله بالموعظة والأخرى قوله كي لا ينفروا فأورد فيه حديثين كل منهما يطابق
واحدة منهما
بيان رجاله وهم خسمة الأول محمد بن يوسف قال الشيخ قطب الدين في ( شرحه ) هو محمد
بن يوسف بن واقد الفريابي أبو عبد الله الضبي مولاهم سكن قيسارية من ساحل الشام
أدرك الأعمش وروى عنه وعن السفيانين وغيرهم وروى عنه أحمد بن حنبل ومحمد الذهلي
ومحمد بن مسلم ابن وارة وغيرهم وروى عنه البخاري في مواضع كثيرة وروى في كتاب
الصداق عن إسحاق غير منسوب عنه وروى بقية الجماعة عن رجل عنه قال أحمد كان رجلا
صالحا وقال النسائي وأبو حاتم ثقة وقال البخاري كان من أفضل أهل زمانه مات في ربيع
الأول سنة اثنتي عشرة ومائتين وقال الكرماني هو محمد بن يوسف أبو أحمد البيكندي
وهذا وهم لأن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي وإن كان يروي
أيضا عن البيكندي فافهم الثاني سفيان الثوري فإن قلت محمد بن الفريابي يروي عن
سفيان بن عيينة أيضا كما ذكرنا فما المرجح ههنا لسفيان الثوري قلت الفريابي وإن
كان يروي عن السفيانين ولكنه حيث يطلق لا يريد به إلا الثوري الثالث سليمان بن
مهران الأعمش الرابع أبو واثل شقيق بن سلمة الكوفي الخامس عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه
بيان الأنساب الفريابي بكسر الفاء وسكون الراء بعدها الياء آخر الحروف وبعد الألف
باء موحدة نسبة إلى فرياب اسم مدينة من نواحي بلخ قال الصغاني فرياب مثل جربال
ويقال فيرياب مثل كيمياء ويقال فارياب مثل قاصعاء وأما فاراب فهي ناحية وراء نهر
سيحون في تخوم بلاد الترك وفراب مثل سحاب قرية في سفح جبل على ثمانية فراسخ من
سمرقند وفراب مثل كفار قرية من قرى أصبهان الضبي بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء
الموحدة نسبة إلى ضبة بن اد بن طابخة بن الياس بن مضر وفي قريش أيضا ضبة بن الحارث
بن فهر ذكره ابن حبيب وفي هذيل أيضا ضبة بن عمرو ابن الحارث بن تميم بن سعد بن
هذيل البيكندي بكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف الساكنة وفتح الكاف
وسكون النون بعدها الدال المهملة نسبة إلى بيكند قرية من قرى بخارى
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كوفيون ما خلا
الفريابي ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي فإن قلت الأعمش مدلس وقد عنعن هنا وقد
روى مسلم من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر الحديث قال علي
بن مسهر قال الأعمش وحدثني عمرو بن مرة عن شقيق عن عبد الله مثله فقد يوهم هذا أن
الأعمش دلسه أولا عن شقيق ثم سمى الواسطة بينهما قلت صرح أحمد في رواية هذا الحديث
بسماع الأعمش عن شقيق فقال سمعت شقيقا وهو أبو وائل وكذا صرح الأعمش بالتحديث عند
البخاري في الدعوات من رواية حفص بن غياث عنه قال حدثني شقيق وزاد في أوله إنهم
كانوا ينتظرون عبد الله بن مسعود ليخرج إليهم فيذكرهم وإنه لما خرج قال أما إني
أخبر بمكانكم ولكنه يمنعني من الخروج إليكم فذكر الحديث
(2/44)
بيان تعد موضعه ومن أخرجه غيره
أخرجه البخاري أيضا في الباب الذي يليه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن
أبي وائل عن ابن مسعود به وأخرجه أيضا في الدعوات عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش
وأخرجه مسلم في التوبة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع وأبو معاوية ومحمد بن نمير
عن أبي معاوية وعن الأشج عن ابن إدريس وعن منجاب عن علي بن مسهر وعن إسحاق بن
إبراهيم وابن خشرم عن عيسى بن يونس عن ابن أبي عمر عن سفيان كلهم عن الأعمش زاد
الأعمش في رواية ابن مسهر وحدثني عمرو بن مرة عن شقيق عن عبد الله مثله وأخرجه
الترمذي في الاستئذان عن محمد بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري به
وعن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد عن سليمان الأعمش به وفي نسخة عن محمد بن بشار
عن يحيى عن سفيان عن الأعمش به وقال حسن صحيح
بيان اللغات قوله يتخولنا بالخاء المعجمة وباللام من التخول وهو التعهد من خال
المال وخال على الشيء خولا إذا تعهد ويقال خال المال يخوله خولا إذا ساسه وأحسن
القيام عليه والخائل المتعاهد للشيء المصلح له وخول الله الشيء أي ملكه إياه وخول
الرجل حشمه الواحد خائل وقال أبو عمرو الشيباني الصواب يتحولهم بالحاء المهملة أي
يطلب أحوالهم التي ينشطون فيها للموعظة فيعظهم ولا يكثر عليهم فيملوا وكان الأصمعي
يرويه يتخوننا بالنون والخاء المعجمة أي يتعهدنا حكاه عنهما صاحب ( نهاية الغريب )
وفي ( مجمع الغرائب ) قال الأصمعي أظنه يتخونهم بالنون وهو بمعنى التعهد وقيل إن
أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدث هذا الحديث فقال يتخولنا باللام فرده عليه
بالنون فلم يرجع لأجل الرواية وكلا اللفظين جائز والصواب بالخاء المعجمة وباللام
وقال ابن الأعرابي معناه يتخذنا خولا ويقال يناجينا بها وقيل يصلحنا وقال أبو
عبيدة يذللنا بها يقال خول الله لك أي ذلله لك وسخره وقيل يحبسهم عليها كما يحبس
الخول قوله كراهية السآمة من كرهت الشيء أكرهه كراهة وكراهية والسآمة مثل الملالة
بناء ومعنى وقال أبو زيد سئمت من الشيء أسأم سأما وسآمة وسآما إذا مللته ورجل سؤوم
بيان الإعراب قوله النبي مرفوع لأنه اسم كان وقوله يتخولنا جملة من الفعل والفاعل
والمفعول في محل النصب على أنها خبر كان فإن قلت كان لثبوت خبرها ماضيا و يتخولنا
إما حال وإما استقبال فما وجه الجمع بينهما قلت كان يراد به الاستمرار وكذا الفعل
المضارع فاجتماعهما يفيد شمول الأزمنة وقال الأصوليون قوله كان حاتم يكرم الضيف
يفيد تكرار الفعل في الأزمان والباء في بالموعظة تتعلق بيتخولنا قوله في الأيام
صفة لموعظة أي بالموعظة الكائنة في الأيام قوله كراهية السآمة كلام إضافي منصوب
على أنه مفعول له أي لأجل كراهية السآمة وصلة السآمة محذوفة لأنه يقال سأمت من
الشيء والتقدير كراهية السآمة من الموعظة وقوله علينا إما يتعلق بالسآمة على تضمين
السآمة معنى المشقة أي كراهة المشقة علينا إذ المقصود بيان رفق النبي عليه السلام
بالأمة وشفقته عليهم ليأخذوا منه بنشاط وحرص لا عن ضجر وملل وإما يجعل صفة
والتقدير كراهية السآمة الطارئة علينا وإما يجعل حالا والتقدير كراهية السآمة حال
كونها طارئة علينا وإما يتعلق بالمحذوف والتقدير كراهية السآمة شفقة علينا فافهم
بيان المعاني المعنى أن النبي كان يعظ الصحابة في أوقات معلومة ولم يكن يستغرق
الأوقات خوفا عليهم من الملل والضجر كما كان نهاهم بقوله لا يصلي أحد خاما وركيه
وكما قال ابدأوا بالعشاء لئلا تشغلوا عن الإقبال على الله تعالى بغيره وعن الصلاة
وعن النية وقد وصفه الله تعالى بالرفق بأمته فقال عزيز عليه ماعنتم ( التوبة 128 )
الآية فإن قلت أيجوز أن يكون المراد من السآمة سآمة رسول الله عليه الصلاة و
السلام من القول قلت لا يجوز ويدل عليه السياق وقرينة الحال
69 - حدثنا ( محمد بن بشار ) قال حدثنا ( يحيى بن سعيد ) قال حدثنا ( شعبة ) قال (
حدثنيأبو التياح ) عن ( أنس ) رضي الله عنه عن النبي قال يسروا ولا تعسروا وبشروا
ولا تنفروا
( الحديث 69 - طرفه في 6125 )
هذا الحديث للترجمة الثانية كما ذكرناه
بيان رجاله وهم خمسة الأول محمد بن بشار بفتح الباء الموحدة وتشديد
(2/45)
الشين المعجمة ابن عثمان بن
داود بن كيسان العبدي البصري كنيته أبو بكر ولقبه بندار واشتهر به لأنه كان بندارا
في الحديث جمع حديث بلده وبندار بضم الباء الموحدة وسكون النون والدال المهملة
وبالراء الحافظ وقال أحمد كتبت عنه نحوا من خمسين ألف حديث روى عنه الستة وإبراهيم
الحربي وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وعبد الله بن محمد البغوي ومحمد بن إسحاق بن
خزيمة وعنه قال كتب عني خمسة قرون وسألوني الحديث وأنا ابن ثمان عشرة سنة وقال
ولدت سنة سبع وستين ومائة وقال البخاري مات في رجب سنة اثنتين وخمسين يعني ومائتين
الثاني يحيى بن سعيد القطان الأحول الثالث شعبة بن الحجاج الرابع أبو التياح بفتح
التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة واسمه يزيد بن
حميد بالتصغير الضبعي من أنفسهم سمع أنسا وعمران بن حصين من الصحابة وخلقا من
التابعين ومن بعدهم قال أحمد هو ثقة ثبت وقال علي بن المديني هو معروف ثقة مات سنة
ثمان وعشرين ومائة روى له الجماعة الخامس أنس بن مالك
بيان الأنساب العبدي نسبة إلى عبد بن نصر بن كلاب بن مرة في قريش وفي ربيعة بن
نزار عبد القيس بن أفصى وفي تميم عبد الله بن دارم وفي خولان عبد الله بن جبار وفي
همدان عبد بن غيلان بن أرحب الضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة نسبة إلى
ضبيعة بن زيد بن مالك في الأنصار وفي ربيعة بن نزار ضبيعة بن ربيعة بن نزار وفي
بني ثعلبة ضبيعة بن قيس
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة ومنها أن رواته
كلهم بصريون ومنها أنهم أئمة أجلاء
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن آدم عن شعبة به
ورواه مسلم في المغازي عن عبد الله بن معاذ عن أبيه وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن
عبيد بن سعيد وعن محمد بن الوليد عن غندر كلهم عن شعبة به فوقع للبخاري عاليا
رباعيا من طريق آدم وآدم ممن انفرد به البخاري عن مسلم وأخرجه النسائي في العلم عن
بندار به
بيان اللغات قوله يسروا أمر من يسر ييسر تيسيرا من اليسر وهو نقيض العسر قوله ولا
تعسروا من عسر تعسيرا يقال عسرت الغريم أعسره عسرا إذا طلبت منه الدين على عسرته
وقال ابن طريف هذا مما جاء على فعل وأفعل كعسرتك عسرا وأعسرتك إذا طلبت منك الدين
على عسرة وعسر الشيء وعسر بضم السين وكسرها عسرا وعسارة وعسر الرجل قل سماحه وضاق
خلقه وأعسر الرجل افتقر وفي ( العباب ) قد عسر الأمر بالضم عسرا فهو عسر وعسير
وعسر عليه الأمر بالكسر يعسر عسرا بالتحريك أي التاث فهو عسر ويقال عسرت الناقة
بذنبها تعسر عسرا أو عسرانا مثال ضرب يضرب ضربا وضربانا إذا شالت به وعسرت المرأة
إذا عسر ولادها وعسرني فلان إذا جاء على يساري والمعسور ضد الميسور والمعسرة ضد
الميسرة وهما مصدران وقال سيبويه هما صفتان والعسرى نقيض اليسرى قوله وبشروا من
البشارة وهي الإخبار بالخير وهي نقيض النذارة وهي الإخبار بالشر يقال بشرت الرجل
أبشره بالضم بشرا وبشورا من البشرة وكذلك الإبشار والتبشير يقال أبشر وبشر قال
الله تعالى وابشروا بالجنة ( فصلت 30 ) وبشروا الذين آمنوا ( البقرة 25 ويونس 2 )
ذلك الذي يبشر ( الشورى 23 ) ثلاث لغات في القرآن أبشر وبشر وبشر بالتخفيف والاسم
البشارة والبشارة بالكسر والضم تقول بشرته بمولود وأبشرتك بالخير وبشرتك وقال
الصغاني البشارة بالكسر والضم أي حق ما يعطى على التبشير وقال اللحياني رحمه الله
تعالى البشارة ما بشرت من بطن الأديم وقال ابن الأعرابي البشارة والقشارة والخسارة
إسقاط الناس وبشرت بكذا بكسر الشين أبشر أي استبشرت قوله ولا تنفروا من نفر
بالتشديد تنفيرا وقد مر الكلام فيه عن قريب
بيان الإعراب قوله يسروا جملة من الفعل والفاعل مقول القول قوله ولا تعسروا عطف
على يسروا ويجوز عطف النهي على الأمر كما بالعكس والخلاف في عطف الخبر على الإنشاء
وبالعكس كما عرف في موضعه وكذا الكلام في قوله بشروا ولا تنفروا
بيان المعاني قوله يسروا أمر بالتيسير لا يقال الأمر بالشيء نهي عن ضده فما
الفائدة في قوله ولا تعسروا لأنا نقول لا نسلم ذلك ولئن سلمنا فالغرض التصريح بما
لزم ضمنا للتأكيد ويقال لو اقتصر على
(2/46)
قوله يسروا وهو نكرة لصدق ذلك
على من يسر مرة وعسر في معظم الحالات فإذا قال ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع
الأحوال من جميع الوجوه وكذلك الجواب عن قوله ولا تنفروا لا يقال كان ينبغي أن
يقتصر على قوله ولا تعسروا ولا تنفروا لعموم النكرة في سياق النفي لأنه لا يلزم من
عدم التعسير ثبوت التيسير ولا من عدم التنفير ثبوت التيسير فجمع بين هذه الألفاظ
لثبوت هذه المعاني لأن هذا المحل يقتضي الإسهاب وكثرة الألفاظ لا الاختصار لشبهه
بالوعظ والمعنى وبشروا الناس أو المؤمنين بفضل الله تعالى وثوابه وجزيل عطائه وسعة
رحمته وكذا المعنى في قوله ولا تنفروا يعني بذكر التخويف وأنواع الوعيد فيتألف من
قرب إسلامه بترك التشديد عليهم وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ وتاب من
المعاصي يتلطف بجميعهم بأنواع الطاعة قليلا قليلا كما كانت أمور الإسلام على
التدريج في التكليف شيئا بعد شيء لأنه متى يسر على الداخل في الطاعة المريد للدخول
فيها سهلت عليه وتزايد فيها غالبا ومتى عسر عليه أوشك أن لا يدخل فيها وإن دخل
أوشك أن لا يدوم أو لا يستحملها
وفيه الأمر للولاة بالرفق وهذا الحديث من جوامع الكلم لاشتماله على خيري الدنيا
والآخرة لأن الدنيا دار الأعمال والآخرة دار الجزاء فأمر رسول الله فيما يتعلق
بالدنيا بالتسهيل وفيما يتعلق بالآخرة بالوعد بالخير والإخبار بالسرور تحقيقا
لكونه رحمة للعالمين في الدارين
بيان البديع اعلم أن بين يسروا وبين بشروا جناس خطي والجناس بين اللفظين تشابههما
في اللفظ وهذا من الجناس التام المتشابه وهذا باب من أنواع البديع الذي يزيد في
كلام البليغ حسنا وطلاوة فإن قلت كان المناسب أن يقال بدل ولا تنفروا ولا تنذروا
لأن الإنذار وهو نقيض التبشير لا التنفير قلت المقصود من الإنذار التنفير فصرح بما
هو المقصود منه
12 -
( باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة )
أي هذا باب في بيان من جعل فالباب مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى من هذا
رواية كريمة وفي رواية الكشميهني أياما معلومات وفي رواية غيرهما يوما معلوما وجه
المناسبة بين البابين ظاهر لأن الباب الأول في التخويل بالموعظة والعلم وقد ذكرنا
أن معناه هو التعهد في أيام خوفا من الملل والضجر وهذا الباب أيضا كذلك
70 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل قال كان عبد
الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل
يوم قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان
النبي يتخولنا بها مخافة السآمة علينا
محه
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة والدليل عليها إما أن يكون بفعل الصحابي عند من يقول
به أو بالاستنباط من فعل النبي
بيان رجاله وهم خمسة الأول عثمان بن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة بن عثمان ابن
خواستي بضم الخاء المعجمة وبعد الألف سين مهملة ثم تاء مثناة من فوق أبو الحسن
العبسي الكوفي أخو أبي بكر وقاسم وهو أكبر من أبي بكر بثلاث سنين وأبو بكر أجل منه
نزل بغداد ورحل إلى مكة والري وكتب الكثير روى عنه يحيى بن محمد الذهلي ومحمد بن
سعد وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وروى
النسائي عن رجل عنه سئل عنه محمد بن عبد الله بن نمير فقال ومثله يسأل عنه وقال
يحيى بن معين وأحمد بن عبد الله ثقة وقال أحمد بن حنبل ما علمت إلا خيرا وأثنى
عليه وكان ينكر عليه أحاديث حدث بها منها حديث جرير عن الثوري عن ابن عقيل عن جابر
قال شهد النبي عليه الصلاة و السلام عيد المشركين توفي لثلاث بقين من المحرم سنة
تسع وثلاثين ومائتين الثاني جرير بن عبد الحميد بن قرط بن هلال وقيل تيري بدل هلال
الضبي الكوفي قال ولدت سنة مات الحسن وهي سنة عشر ومائة وتوفي سنة ثمان وثمانين
ومائة وقيل سبع روى عنه ابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو بكر قال محمد بن
سعد كان ثقة كثير العلم يرحل إليه وقال أبو حاتم ثقة وقال أبو زرعة صدوق من أهل
العلم روى له الجماعة الثالث منصور بن
(2/47)
المعتمر بن عبد الله بن ربيعة
ويقال ابن المعتمر بن عتاب بن عبد الله بن ربيعة بضم الراء وعتاب بفتح العين
المهملة وبالتاء المثناة من فوق روى عنه أيوب والأعمش ومسعر والثوري وهو أثبت
الناس فيه أخرج له البخاري في العلم والوضوء والغسل والحج وغير موضع عن شعبة
والثوري وابن عيينة وشيبان وروح بن القاسم وحماد بن زيد وجرير بن عبد الحميد عنه
عن أبي وائل وإبراهيم النخعي والشعبي ومجاهد والزهري وربعي وسالم بن أبي الجعد
أريد على القضاء فامتنع قيل صام أربعين سنة وقام ليلها وقيل ستين سنة وعمش من
البكاء ومات سنة ثلاث وقيل اثنتين وثلاثين ومائة روى له الجماعة الرابع أبو وائل
شقيق بن سلمة الخامس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
بيان لطائف اسناده منها أن في اسناده التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كوفيون
ومنها أنهم أئمة أجلاء
بيان الإعراب والمعاني قوله يذكر الناس جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل
النصب لأنها خبر كان قوله فقال له أي لعبد الله رجل قيل إنه يزيد بن معاوية النخعي
قوله يا أبا عبد الرحمن هو كنية عبد الله بن مسعود قوله لوددت اللام فيه جواب قسم
محذوف أي والله لوددت أي لاحببت وقول أنك بفتح الهمزة لأنه مفعول وددت وقوله
ذكرتنا في محل الرفع لأنه خبر أن قوله كل يوم كلام إضافي منصوب على الظرف قوله أما
بفتح الهمزة وتخفيف الميم من حروف التنبيه قاله الكرماني قلت أما هذه على وجهين
أحدهما أن يكون حرف استفتاح بمنزلة ألا ويكثر قبل القسم والثاني أن يكون بمعنى حقا
وأما ههنا من القسم الأول قوله إنه بكسر الهمزة والضمير فيه للشأن وبفتح أن بعد
أما إذا كان بمعنى حقا قوله يمنعني فعل ومفعول وقوله أني أكره بفتح الهمزة من أني
فاعل يمنعني و أكره جملة في محل الرفع لأنها خبر أن قوله أن أملكم أن هذه مصدرية و
أملكم بضم الهمزة وكسر الميم وتشديد اللام والتقدير أكره إملالكم وضجركم قوله وإني
بكسر الهمزة قوله اتخولكم جملة في محل الرفع لأنها خبر إن قوله كما كان الكاف
للتشبيه و ما مصدرية قوله بها أي بالموعظة قوله علينا يتعلق بالمخافتة ويحتمل أن
يتعلق بالسآمة
قال ابن بطال فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاقتداء بالنبي والمحافظة
على سنته على حسب معاينتهم لها منه وتجنب مخالفته لعلمهم بما في موافقته من عظم
الأجر وما في مخالفته بعكس ذلك
13 -
( باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين )
أي هذا باب في بيان من يرد الله به خيرا ومن موصولة ويرد الله به خيرا صلتها وإنما
جزم يرد لأنه فعل الشرط لأن من يتضمن معنى الشرط وخيرا منصوب لأنه مفعول يرد وقوله
يفقهه مجزوم لأنه جواب الشرط قوله في الدين في رواية الكشميهني وفي رواية غيره
ساقط وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول شأن من يذكر
الناس في أمور دينهم ببيان ما ينفعهم وما يضرهم وليس هذا إلا شأن الفقيه في الدين
والمذكور في هذا الباب هو مدح هذا الفقيه وكيف لا يكون ممدوحا وقد أراد الله به
خيرا حيث جعله فقيها في دينه عالما بأحكام شرعه
71 - حدثنا ( سعيد بن عفير ) قال حدثنا ( ابن وهب ) عن ( يونس ) عن ( ابن شهاب )
قال قال ( حميد بن عبد الرحمن ) سمعت ( معاوية خطيبا ) يقول سمعت النبي يقول من
يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة
قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفم حتى يأتي أمر الله
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة فإنها كلها من عين الحديث وقال الكرماني في قوله باب
من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين أعلم أن مثله سمي مرسلا عند طائفة والحق وعليه
الأكثر أنه إذا ذكر الحديث مثلا ثم وصل به إسناده يكون مسندا لا مرسلا قلت لا دخل
للإسناد والإرسال في مثل هذا الموضع لأنه ترجمة ولا يقصد بها إلا الإشارة إلى ما
قصده من وضع هذا الباب
بيان رجاله وهم ستة الأول سعيد بن عفير بضم العين المهملة وفتح الفاء وسكون الياء
آخر الحروف وفي آخره راء
(2/48)
وهو سعيد بن كثير بن عفير بن
مسلم بن يزيد ابن حبيب بن الأسود أبو عثمان البصري سمع مالكا وابن وهب والليث
وآخرين روى عنه محمد بن يحيى الذهلي والبخاري وروى مسلم والنسائي عن رجل عنه وقال
ابن حاتم في كتاب ( الجرح والتعديل ) سمعت منه أي وقال لم يكن بالثبت كان يقرأ من
كتب الناس وهو صدوق وقال المقدسي وكان سعيد بن عفير من أعلم الناس بالأنساب
والأخبار الماضية والتواريخ والمناقب أديبا فصيحا حاضر الحجة مليح الشعر توفي سنة
ست وعشرين ومائتين الثاني عبد الله بن وهب بن مسلم البصري أبو محمد القرشي الفهري
مولى يزيد بن رمانة مولى أبي عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهري سمع مالكا والليث
والثوري وابن أبي ذئب وابن جريج وغيرهم وذكر بعضهم أنه روى عن نحو أربعمائة رجل
وأن مالكا لم يكتب إلى أحد الفقيه إلا إليه وقال أحمد هو صحيح الحديث يفصل السماع
من العرض والتحديث من الحديث ما أصح حديثه وما أثبته وقال يحيى بن معين ثقة وقال
ابن أبي حاتم نظرت في نحو ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر وغير مصر فلا أعلم
أني رأيت حديثا لا أصل له وقال صالح الحديث صدوق وقال أحمد بن صالح حدث بمائة ألف
حديث وقال ابن بكير بن وهب أفقه من ابن القاسم ولد في ذي القعدة سنة خمس وعشرين
ومائة وقيل سنة أربع وفيها مات الزهري وتوفي بمصر سنة سبع وتسعين ومائة لأربع بقين
من شعبان روى له الجماعة وليس في ( الصحيحين ) عبد الله بن وهب غيره فهو من
أفرادهما وفي الترمذي وابن ماجه عبد الله بن وهب الأسدي تابعي وفي النسائي عبد
الله بن وهب عن تميم الداري وصوابه ابن موهب وفي الصحابة عبد الله بن وهب خمسة
الثالث يونس بن يزيد الأيلي وقد تقدم الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وقد تقدم
الخامس حميد بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقد تقدم السادس معاوية بن أبي
سفيان صخر بن حرب الأموي كاتب الوحي أسلم عام الفتح وعاش ثمانيا وسبعين سنة ومات
سنة ستين في رجب ومناقبه جمة وفي آخر عمره أصابته لقوة روي له عن رسول الله عليه
السلام مائة حديث وثلاثة وستون حديثا ذكر البخاري منها ثمانية ومسلم خمسة واتفقا
على أربعة أحاديث روى له الجماعة وليس في الصحابة معاوية بن صخر غيره وفيهم معاوية
فوق العشرين
بيان الطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رواته ما بين
بصري وايلي ومدني ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي ومنها أنه قال في هذا الإسناد
وعن ابن شهاب قال قال حميد بن عبد الرحمن ولم يذكر فيه لفظ السماع وهكذا هو في
جميع النسخ من البخاري وجاء في مسلم فيه عن ابن شهاب حدثني حميد بلفظ التحديث وقد
اتفق أصحاب الأطراف وغيرهم على أنه من حديث ابن شهاب عن حميد المذكور قال الشيخ
قطب الدين فلا أدري لم قال فيه قال حميد مع الاتفاق على تحديث ابن شهاب عن حميد
المذكور قلت يمكن أن يكون ذلك لأجل شهرة تحديث ابن شهاب عنه بهذا الحديث اقتصر فيه
على هذا القول ولهذا قال في باب الاعتصام عن ابن شهاب أخبرني حميد وللبخاري عادة
بذلك وقد قال في كتاب التوكيل في باب قول النبي رجل آتاه الله القرآن فقال فيه
حدثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان قال الزهري وذكر الحديث ثم قال سمعت من سفيان
مرارا لم أسمعه يذكر الخبر وهو من صحيح حديثه لكن يمكن أن يقال سفيان مدلس فلذلك
نبه عليه البخاري
بيان اللغات قوله من يرد الله بضم الياء مشتق من الإرادة وهي عند الجمهور صفة
مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع وقيل إنها اعتقاد النفع أو الضر وقيل ميل يتبعه
الاعتقاد وهذا لا يصح في الإرادة القديمة قوله خيرا أي منفعة وهو ضد الشر وهو اسم
ههنا وليس بافعل التفضيل قوله يفقهه أي يجعله فقيها في الدين والفقه لغة الفهم
وعرفا العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال ولا يناسب
هنا إلا المعنى اللغوي ليتناول فهم كل علم من علوم الدين وقال الحسن البصري الفقيه
هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة والبصير بأمر دينه المداوم على عبادة ربه
وقال ابن سيده في ( المخصص ) فقه الرجل فقاهة وهو فقيه من قوم فقهاء والأنثى فقيهة
وقال بعضهم فقه الرجل فقها وفقها وفقها ويعدى فيقال فقهته كما يقال علمته وقال
سيبويه فقه فقها وهو فقيه كعلم علما وهو عليم وقد افقهته وفقهته علمته وفهمته
والتفقه تعلم الفقه وفقهت عليه فهمت ورجل فقه وفقيه والانثى فقهة ويقال للشاهد كيف
فقاهتك
(2/49)
لما اشهدناك ولا يقال في غير
ذلك والفقه الفطنة وقال عيسى بن عمر قال لي أعرابي شهدت عليك بالفقه أي بالفطنة
وفي ( المحكم ) الفقه العلم بالشيء والفهم له وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه
وفضله على سائر أنواع العلوم والانثى فقيهة من نسوة فقهاية وحكى اللحياني من نسوة
فقهاء وهي نادرة وكأن قائل هذا من العرب لم يعتد بهاء التأنيث ونظيرها نسوة فقراء
وفي ( الموعب ) لابن التيامي فقه فقها مثال حذر إذا فهم وافقهته إذا بينت له وقال
ثعلب القرآن أصل لكل علم به فقه العلماء فمن قال فقه فهو فقيه مثال مرض فهو مريض
وفقه فهو فقيه ككرم وظرف فهو كريم وظريف وفي ( الصحاح ) فاقهته إذا باحثته في
العلم وفي ( الجامع ) لأبي عبد الله فقه الرجل تفقه فقها فهو فقيه وقيل أفصح من
هذا فقه يفقه مثل علم يعلم علما والفقه علم الدين وقد تفقه الرجل تفقها كثر علمه
وفلان ما يتفقه ولا يفقه أي لا يعلم ولا يفهم وقالوا كل عالم بشيء فهو فقيه به وفي
( الغريبين ) فقه فهم وفقه صار فقيها وقال ابن قتيبة يقال للعلم الفقه لأنه عن
الفهم يكون والعالم فقيه لأنه إنما يعلم بفهمه على تسمية الشيء بما كان له سببا
وقال ابن الأنباري قولهم رجل فقيه معناه عالم قوله قاسم اسم فاعل من قسم الشيء
يقسمه قسما بالفتح والقسم بالكسر الحظ والنصيب وبالفتح أيضا هو القسمة بين النساء
في البيتوتة والقسم بفتحتين اليمين والقسمة الاسم قوله ولن تزال الفرق بين زال
يزال وزال يزول هو أن الأول من الأفعال الناقصة ويلزمه النفي بخلاف الثاني والأمة
الجماعة قال الأخفش هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع وكل جنس من الحيوان أمة وفي
الحديث لو لا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها والأمة القامة والأمة الطريقة
والدين وقوله تعالى كنتم خير أمة ( آل عمران 110 ) قال الأخفش يريد أهل أمة أي خير
أهل دين والأمة الحين قال تعالى واذكر بعد أمة ( يوسف 45 ) وقال ولئن أخرنا عنهم
العذاب إلى أمة معدودة ( هود 8 ) والأمة بالكسر لغة في الأمة والأمة بالكسر أيضا
النعمة والأمة بالضم الملك أيضا وأتباع الأنبياء أيضا والأمة الرجل الجامع للخير
أيضا والأمة الأم والأمة الرجل المنفرد برأيه لا يشاركه فيه أحد
بيان الإعراب قوله سمعت معاوية فيه حذف المسموع لأن المسموع هو الصوت لا الشخص قال
الزمخشري تقول سمعت رجلا يقول كذا فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع لأنك وصفته
بما يسمع أو جعلته حالا عنه فاغناك عن ذكره ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد أن
يقال سمعت قول فلان قوله خطيبا نصب على الحال من معاوية وقال الكرماني حال من
المفعول لا من الفاعل لأنه أقرب ولأن الخطبة تليق بالولاة قلت لا يبادر الوهم قط
ههنا إلى كون حميد هو الخطيب حتى يعلل بهذين التعليلين ولو قال مثل ما قلنا لكان
كفى قوله يقول جملة في محل النصب على الحال وقوله سمعت النبي مقول القول وقوله
يقول أيضا حال وقوله من موصولة يتضمن معنى الشرط فلذلك جزم يرد و يفقه لأنهما فعل
الشرط والجزاء قوله إنما من أداة الحصر و أنا مبتدأ و قاسم خبره وقوله والله أيضا
مبتدأ ويعطي خبره والجملة تصح أن تكون حالا قوله ولن تزال كلمة لن ناصبة للنفي في
الاستقبال وتزال من الأفعال الناقصة وقوله هذه الأمة اسمه وقائمة خبره قوله لا
يضرهم جملة من الفعل والمفعول وقوله من فاعله وهي موصولة و خالفهم جملة صلتها فإن
قلت ما موقع هذه الجملة أعني قوله لا يضرهم من خالفهم قلت حال وقد علم أن المضارع
المنفي إذا وقع حالا يجوز فيه الواو وتركه قوله حتى غاية لقوله لن تزال فإن قلت
حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها فيلزم منه أن يوم القيامة لا تكون هذه الأمة
على الحق وهو باطل قلت المراد من قوله على أمر الله هو التكاليف ويوم القيامة ليس
زمان التكاليف والأحسن أن يقال ليس المقصود منه معنى الغاية بل هو مذكور لتأكيد
التأبيد نحو قوله تعالى ما دامت السموات والأرض ( هود 107 - 108 ) ويقال حتى
للغاية على أصله ولكنه غاية لقوله لا يضرهم لأنه أقرب والمراد من قوله حتى يأتي
أمر الله حتى يأتي بلاء الله فيضرهم حينئذ فيكون ما بعدها مخالفا لما قبلها أو
يكون ذكره لتأكيد عدم المضرة كأنه قال لا يضرهم أبدا والمراد قوله حتى يأتي أمر
الله يوم القيامة والمضرة لا تمكن يوم القيامة فكأنه قال لا يضرهم من خالفهم أصلا
فإن قلت إذا جاء الدجال مثلا وقتلهم فقد ضرهم قلت على تفسير أمر الله ببلاء الله
ظاهر لا يرد شيء وعلى التفسير بيوم القيامة يقال ليس ذلك مضرة في الحقيقة إذ
(2/50)
الشهادة أعظم المنافع من جهة
الآخرة وإن كانت مضرة بحسب الظاهر فإن قلت هل يجوز أن تتعلق حتى بالفعلين
المذكورين بأن يتنازعا فيها قلت لا مانع من ذلك لا من جهة المعنى ولا من جهة
الإعراب فإن قلت إذا كان حتى بمعنى إلى ويكون معنى حتى يأتي أمر الله إلى أن يأتي
أمر الله هل يكون بينهما فرق قلت نعم بينهما فرق لأن مجرور حتى يجب أن يكون آخر
جزء من الشيء أو ما يلاقي آخر جزء منه وقال الزمخشري في قوله ولو أنهم صبروا حتى
تخرج إليهم ( الحجرات 5 ) الفرق بينهما أن حتى مختصة بالغاية المضروبة أي المعينة
تقول أكلت السمكة حتى رأسها ولو قلت حتى نصفها أو صدرها لم يجز و إلى عامة في كل
غاية فافهم
بيان المعانيفيه تنكير قوله خيرا لفائدة التعميم لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة
في سياق النفي فالمعنى من يرد الله به جميع الخيرات ويجوز أن يكون التنوين للتعظيم
والمقام يقتضي ذلك كما في قول الشاعر ( له حاجب عن كل أمر يشينه )
أي صاحب عظيم ومانع قوي وفيه إنما التي تفيد الحصر والمعنى ما أنا إلا قاسم فإن
قلت كيف يصح هذا وله صفات أخرى مثل كونه رسولا ومبشرا ونذيرا قلت الحصر بالنسبة
إلى اعتقاد السامع وهذا ورد في مقام كان السامع معتقدا كونه معطيا وإن اعتقد أنه
قاسم فلا ينفي إلا ما اعتقده السامع لا كل صفة من الصفات وحينئذ إن اعتقد أنه معط
لا قاسم فيكون من باب قصر القلب أي ما أنا إلا قاسم أي لا معط وإن اعتقد أنه قاسم
ومعط أيضا فيكون من قصر الإفراد أي لا شركة في الوصفين أي بل أنا قاسم فقط ومعناه
أنا أقسم بينكم فألقى إلى كل واحد ما يليق به والله يوفق من يشاء منكم لفهمه
والتفكر في معناه وقال التوربشتى إعلم أن النبي عليه الصلاة و السلام أعلم أصحابه
أنه لم يفضل في قسمة ما أوحى الله إليه أحدا من أمته على أحد بل سوى في البلاغ
وعدل في القسمة وإنما التفاوت في الفهم وهو واقع من طريق العطاء ولقد كان بعض
الصحابة رضي الله عنهم يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي ويسمعه آخر منهم
أو من بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وقال الشيخ قطب
الدين في شرحه إنما أنا قاسم يعني أنه لم يستأثر بشيء من مال الله وقال النبي عليه
الصلاة و السلام ما لي بما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود عليكم وإنما قال
أنا قاسم تطييبا لنفوسهم لمفاضلته في العطاء فالمال لله والعباد لله وأنا قاسم
بإذن الله ماله بين عباده قلت بين الكلامين بون لأن الكلام الأول يشعر القسمة في
تبليغ الوحي وبيان الشريعة وهذا الكلام صريح في قسمة المال ولكل منهما وجه أما
الأول فإن نظر صاحبه إلى سياق الكلام فإنه أخبر فيه أن من أراد الله به خيرا يفقهه
في الدين أي في دين الإسلام قال الله تعالى إن الدين عند الله الإسلام ( آل عمران
19 ) وقيل الفقه في الدين الفقه في القواعد الخمس ويتصل الكلام عليها في الأحكام
الشرعية ثم لما كان فقههم متفاوتا لتفاوت الأفهام أشار إليه النبي بقوله إنما أنا
قاسم يعني هذا التفاوت ليس مني وإنما الذي هو مني هو القسمة بينكم يعنى تبليغ
الوحي إليهم من غير تخصيص بأحد والتفاوت في أفهامهم من الله تعالى لأنه هو المعطي
يعطي الناس على قدر ما تعلقت به إرادته لأن ذلك فضل منه يؤتيه من يشاء وأما الثاني
فإن نظر صاحبه إلى ظاهر الكلام لأن القسمة حقيقة تكون في الأموال ولكن يتوجه هنا
السؤال عن وجه مناسبة هذا الكلام لما قبله ويمكن أن يجاب عنه بأن مورد الحديث كان
وقت قسمة المال حين خصص عليه السلام بعضهم بالزيادة لحكمة اقتضت ذلك وخفيت عليهم
حتى تعرض منهم بأن هذه قسمة فيها تخصيص لناس فرد عليهم النبي عليه الصلاة و السلام
وبقوله من يرد الله به إلى آخره يعني من أراد الله به خيرا يوفقه ويزيد له في فهمه
في أمور الشرع ولا يتعرض لأمر ليس على وفق خاطره إذ الأمر كله لله وهوالذي يعطي
ويمنع وهو الذي يزيد وينقص والنبي عليه الصلاة و السلام قاسم وليس بمعط حتى ينسب
إليه الزيادة والنقصان وعن هذا فسر أصحاب الكلام الثاني قوله عليه الصلاة و السلام
والله يعطي بقولهم أي من قسمت له كثيرا فبقدر الله تعالى وما سبق له في الكتاب
وكذا من قسمت له قليلا فلا يزداد لأحد في رزقه كما لا يزداد في أجله وقال الداودي
في قوله إنما أنا قاسم والله يعطي دليل على أنه إنما يعطي بالوحي ثم قال في آخر
كلامه إن شأن أمته القيام على أمر الله إلى يوم القيامة وهم الذين أراد الله بهم
خيرا حتى فقهوا في الدين ونصروا الحق ولم يخافوا ممن خالفهم ولا أكثر ثوابهم
(2/51)
أولئك حزب الله ألا أن حزب
الله هم المفلحون ( المجادلة 22 ) قوله والله يعطي فيه تقديم لفظة الله لإفادة
التقوية عند السكاكي ولا يحتمل التخصيص أي الله يعطي لا محالة وأما عند الزمخشري
فيحتمله أيضا وحينئذ يكون معناه الله يعطي لا غيره فإن قلت إذا كانت هذه الجملة
حالية أعني قوله والله يعطي فما يكون معنى الحصر حينئذ قلت الحصر بإنما دائما في
الجزء الأخير فيكون معناه ما أنا بقاسم إلا في حال إعطاء الله لا في حال غيره وفيه
حذف المفعول أعني مفعول يعطي لأنه جعله كاللازم إعلاما بأن المقصود منه بيان اتخاد
هذه الحقيقة أي حقيقة الإعطاء لا بيان المفعول أي المعطي قوله ولن تزال الخ أراد
به أن أمته آخر الأمم وأن عليها تقوم الساعة وإن ظهرت أشراطها وضعف الدين فلا بد
أن يبقى من أمته من يقوم به فإن قيل قال عليه السلام لا تقوم الساعة حتى لا يقول
أحد الله وقال أيضا لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق قلنا هذه الأحاديث لفظها
العموم والمراد منها الخصوص فمعناه لا تقوم على أحد يوحد الله تعالى إلا بموضع كذا
إذ لا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحق توحد الله هي شرار الخلق وقد جاء ذلك
مبينا في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق لا يضرهم من خالفهم قيل وأين هم يا رسول الله قال ببيت المقدس أو أكناف بيت
المقدس وقال النووي لا مخالفة بين الأحاديث لأن المراد من أمر الله الريح اللينة
التي تأتي قريب القيامة فتأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة وهذا قبل القيامة وأما الحديثان
الأخيران فهما على ظاهرهما إذ ذلك عند القيامة فإن قلت من هؤلاء الطائفة قلت قال
البخاري هم أهل العلم وقال الإمام أحمد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم
وقال القاضي عياض إنما أراد الإمام أحمد أهل السنة والجماعة وقال النووي يحتمل أن
تكون هذه الطائفة مفرقة من أنواع المؤمنين فمنهم مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون
ومنهم زهاد إلى غيره ذلك
بيان استنبطاط الأحكام الأول فيه دلالة على حجية الإجماع لأن مفهومة أن الحق لا
يعدو الأمة وحديث لا تجتمع أمتي على الضلالة ضعيف الثاني استدل به البعض على
امتناع خلو العصر عن المجتهد الثالث فيه فضل العلماء على سائر الناس الرابع فيه
فضل الفقه في الدين على سائر العلوم وإنما ثبت فضله لأنه يقود إلى خشية الله تعالى
والتزام طاعته الخامس فيه إخباره عليه الصلاة السلام بالمغيبات وقد وقع ما أخبر به
ولله الحمد فلم تزل هذه الطائفة من زمنه وهلم جرا ولا تزول حتى يأتي أمر الله
تعالى
14 -
( باب الفهم في العلم )
أي هذا باب في بيان الفهم في العلم قال الكرماني قال الجوهري فهمت الشيء أي علمته
فالفهم والعلم بمعنى واحد فكيف يصح أن يقال الفهم في العلم ثم أجاب بقوله المراد
من العلم المعلوم فكأنه قال باب إدراك المعلومات قلت تفسير الفهم بالعلم غير صحيح
لأن العلم عبارة عن الإدراك الكلي والفهم جودة الذهن والذهن قوة تقتنص الصور
والمعاني وتشمل الإدراكات العقلية والحسية وقال الليث يقال فهمت الشيء أي عقلته
وعرفته ويقال فهم وفهم بتسكين الهاء وفتحها وهذا قد فسر الفهم بالمعرفة وهو غير
العلم فإن قلت ما وجه المناسبة بين البابين قلت من حيث إن الفهم في العلم داخل في
قوله عليه الصلاة و السلام من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وقد مر أن الفقه هو
الفهم فافهم
72 - ( حدثناعلي ) حدثنا ( سفيان ) قال قال لي ( ابن أبي نجيح ) عن ( مجاهد ) قال
( صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه ) يحدث عن رسول الله إلا حديثا واحدا قال
كنا عند النبي فأتي بجمار فقال إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم فأردت أن أقول
هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم فسكت قال النبي هي النخلة
مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن قول النبي إن من الشجر الحديث كان على سبيل
الاستعلام منهم
(2/52)
وأن ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما فهم ذلك العلم ولكنه منعه عن الإبداء حياؤه وصغره
بيان رجاله وهم خمسة الأول علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح بفتح النون وكسر الجيم
وبالحاء المهملة السعدي مولاهم أبو الحسن المديني الإمام المبرز في هذا الشأن وقال
البخاري ما استصغرت نفسي عند أحد قط إلا عند ابن المديني وقال علي خير من عشرة
آلاف مثل الشاذكوني وقال عبد الرحمن علي أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم خاصة وقال السمعاني وغيره كان أعلم أهل زمانه بحديث رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم وعنه قال تركت من حديثي مائة ألف حديث منها ثلاثون ألفا
لعباد بن صهيب وقال الأعين رأيت علي بن المديني مستلقيا وأحمد بن حنبل عن يمينه
ويحيى بن معين عن يساره وهو يملي عليهما روى عنه أحمد وإسماعيل القاضي والذهلي
وأبو حاتم والبخاري وغيرهم وروى أبو داود والترمذي عن رجل عنه ولم يخرج له مسلم
شيئا أخرج البخاري عنه عن ابن عيينة وابن علية وعن القطان ومروان بن معاوية وغيرهم
ولد سنة إحدى وستين ومائة بسامرا وقال البخاري مات بالعسكر لليلتين بقيتا من ذي
القعدة سنة أربع وثلاثين ومائتين الثاني سفيان بن عيينة وقد تقدم الثالث عبد الله
بن يسار وكنية يسار أبو نجيح مولى الأخنس بن شريق قال يحيى القطان كان قدريا وقال
أبو زرعة مكي ثقة يقال فيه يرى القدر صالح الحديث وقال علي سمعت يحيى يقول ابن أبي
نجيح من رؤساء الدعاة أخرج البخاري في العلم والجنائز وفي غير موضع عن شعبة
والثوري وابن عيينة وإبراهيم بن نافع وابن علية عنه عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن
كثير وعن أبيه عن مسلم ولم يخرج البخاري لأبيه شيئا توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة
الرابع مجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة وقيل جبير أبو الحجاج
المخزومي مولى عبد الله بن السائب من الطبقة الثانية من تابعي أهل مكة وفقهائها
إمام متفق على جلالته وإمامته وتوثيقه وهو إمام في الفقه والتفسير والحديث روى عن
ابن عباس وجابر وأبي هريرة وأخرج له البخاري في باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم عن
الحسن بن عمر وعنه عن عبد الله بن عمرو ابن العاص مرفوعا من قتل معاهدا لم يرح
رائحة الجنة وهو مرسل كما قال الدارقطني مجاهد لم يسمع من عبد الله بن عمرو بن
العاص وإنما سمعه من جنادة بن أبي أمية عن ابن عمرو وكذلك رواه مروان عن الحسن بن
عمرو عنه وأنكر شعبة وابن أبي حاتم سماعه من عائشة وكذا ابن معين لكن حديثه عنها
في ( الصحيحين ) وقال مجاهد قال لي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وددت أن نافعا
يحفظ كحفظك وقال يحيى القطان مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء وقال مجاهد عرضت
القرآن على ابن عباس رضي الله عنهما ثلاثين مرة مات سنة مائة وقيل اثنتين وقيل
ثلاث وقيل أربع عن ثلاث وثمانين سنة وقد رأى هاروت وماروت وكاد يتلف وليس في الكتب
الستة مجاهد بن جبر غير هذا وفي مسلم والأربعة مجاهد بن موسى الخوارزمي شيخ ابن
عيينة وفي الأربعة مجاهد بن وردان عن عروة الخامس عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما
بيان الأنساب السعدي في قبائل ففي قيس غيلان سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن
عكرمة بن حفصة بن قيس غيلان وفي كنانة سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناف وفي أسد بن
خزيمة سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد وفي مراد سعد بن غطيف ابن عبد الله بن ناجية
بن مراد وفي طيء سعد بن نبهان بن عمرو بن الغوث بن طي وفي تميم سعد بن زيد مناة بن
تميم وفي خولان قضاعة سعد بن خولان وفي جذام سعد بن إياس بن حرام بن حزام وفي خثعم
سعد بن مالك المديني بإثبات الياء آخر الحروف نسبة إلى المدينة وكان أصله من
المدينة ونزل البصرة وقال السمعاني والأصل فيمن ينسب إلى مدينة النبي أن يقال فيه
مدني بحذف الياء وإلى غيرها بإثبات الياء واستثنوا هذه فقالوا المديني بإثبات
الياء المخزومي نسبة إلى مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو
في قريش وفي عبس أيضا مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رواته ما بين
بصري ومكي وكوفي ومنها أن فيه سفيان قال قال لي ابن نجيح ولم يقل حدثني وفي ( مسند
الحميدي ) عن سفيان حدثني ابن أبي نجيح وقال الكرماني روى عن
(2/53)
مجاهد معنعنا وعن ابن أبي نجيح
بلفظ قال والبخاري لا يذكر المعنعن إلا إذا ثبت السماع ولا يكتفي بمجرد إمكان
السماع كما اكتفى به مسلم فالمعنعن إذا لم يكن من المدلس كان أعلى درجة من قال لأن
قال إنما تذكر عند المجاورة لا على سبيل النقل والتحميل ثم في لفظة لي إشارة إلى
أنه جاور معه وحدة وقال البخاري كلما قلت قال لي فلان فهو عرض ومناولة فما روي عن
سفيان يحتمل أن يكون عرضا لسفيان أيضا
وبقية ما فيه من الكلام من تعدد موضعه ومن أخرجه ولغاته وإعرابه ومعانيه قد مرت في
أوائل كتاب العلم
قوله صحبت ابن عمر رضي الله عنهما إلى المدينة اللام فيها للعهد أي مدينة رسول
الله ولم يذكر مبتدأ الصحبة قال الكرماني والظاهر أنه من مكة وفيه الدلالة على أن
ابن عمر كان متوقيا للحديث وقد كان علم قول أبيه أقلوا الحديث عن رسول الله قاله
ابن بطال وقال الشيخ قطب الدين قد يكون تركه لغير هذا الوجه إما لعدم نشاط
الاشتغال بمؤونة السفر وتعبه أو لعدم السؤال قلت يمكن التوفيق بينهم بأنه كان
يتوقى الحديث ما لم يسأل فإذا سئل أجاب واكثر الجواب عند كثرة السؤال فإنه كان من
المكثرين في الحديث قوله يحدث عن رسول الله حال عن الضمير المنصوب في لم اسمعه
قوله إلا حديثا أراد به الحديث الذي بعده متصلا به قوله فأتي بضم الهمزة قوله
بجمار بضم الجيم وتشديد الميم وهو شحم النخيل وهو الذي يؤكل منه وفي ( العباب )
ويقال له الجامور أيضا قوله مثلها بفتح الميم أي صفتهاالعجيبة والمثل وإن كان بحسب
اللغة الصفة لكن لا تستعمل إلا عند الصفة العجيبة قوله فأردت أن أقول أي في جواب
الرسول عليه الصلاة و السلام حيث قال حدثوني ما هي كما علم من سائر الروايات قوله
فسكت بضم التاء على صيغة المتكلم وسكوته كان استحياء وتعظيما للأكابر
15 -
( باب الاغتباط في العلم والحكمة )
أي هذا باب في بيان الاغتباط وهو افتعال من غبطه يغبطه من باب ضرب يضرب غبطا وغبطة
والغبطة أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها عنه وليس بحسد والحسد أن
يتمنى زوال ما فيه وقال ابن بزرج غبط يغبط مثال سمع يسمع لغة فيه وبناء باب
الافتعال منها يدل على التصرف والسعي فيها والحكمة معرفة الأشياء على ما هي عليه
فهي مرادفة للعلم فالعطف عليه من باب العطف التفسيري إلا أن يفسر العلم بالمعنى
الأعم من اليقين المتناول للظن أيضا أو تفسر الحكمة بما يتناول سداد العمل أيضا
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن في الباب الأول الفهم في العلم وفي هذا الباب
الاغتباط في العلم وكلما زاد فهم الرجل في العلم زادت غبطته فيه لأن من زاد فهمه
وقوي يزداد نظره فيمن هو أقوى فهما منه ويتمنى أن يكون مثله وهو الغبطة
وقال عمر تفقهوا قبل أن تسودوا
الكلام فيه على أنواع
الأولقال الكرماني هو ليس من تمام الترجمة إذ لم يذكر بعده شيء يكون هذا متعلقا به
إلا أن يقال الاغتباط في الحكمة على القضاء لا يكون إلا قبل كون الغابط قاضيا
ويزول حينئذ وقال عمر بمعنى المصدر أي قول عمر رضي الله عنه قلت كيف يؤول الماضي
بالمصدر وتأويل الفعل بالمصدر لا يكون إلا بوجود أن المصدرية وقال ابن المنير
مطابقة قول عمر رضي الله عنه للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم وأوصى الطالب
باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة وذلك يحقق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه
فإنه سبب لسيادته قلت لا شك أن الذي يتفقه قبل السيادة يغبط في فقهه وعلمه فيدخل
في قوله باب الاغتباط في العلم
الثاني أن هذا الأثر الذي علقه أخرجه أبو عمر بإسناد صحيح عن أحمد بن محمد ثنا
محمد بن عيسى ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد ثنا ابن علية ومعاذ عن ابن عون
عن ابن سيرين عن الأحنف عن عمر رضي الله عنه به وأخرجه الحوزي في كتابه ثنا إسحاق
بن القعنبي ثنا بشر بن أبي الأزهر ثنا خارجة بن مصعب عن ابن عون عن ابن سيرين عن
الأحنف عنه به
(2/54)
وخارجة ضعيف جدا ورواه ابن أبي
شيبة بسند منقطع عن وكيع عن ابن عون به وأخرجه البيهقي في كتابه ( المدخل ) عن
الروذبازي عن الصفار عن سعدان بن نصر ثنا وكيع عن ابن عون به
الثالث قوله قبل أن تسودوا بضم التاء المثناة من فوق وفتح السين المهملة وتشديد
الواو أي قبل أن تصيروا سادة وتعلموا العلم ما دمتم صغارا قبل السيادة والرياسة
وقبل أن ينظر إليكم فإن لم تعلموا قبل ذلك استحييتم أن تعلموا بعد الكبر فبقيتم
جهلاء وفي ( مجمع الغرائب ) يحتمل أن معنى قول عمر رضي الله عنه قبل أن تزوجوا
فتصيروا سادة بالتحكم على الأزواج والاشتغال بهن لهوا ثم تمحلا للتفقه ومنه
الاستياد وهو طلب التسيد من القوم وجزم البيهقي في ( مدخله ) بهذا المعنى ولم يذكر
غيره وقال معناه قبل أن تزوجوا فتصيروا أرباب بيوت قاله شمر ويقال معناه لا تأخذوا
العلم من الأصاغر فيزرى بكم ذلك وهذا أشبه بحديث عبد الله لن يزال الناس بخير ما
أخذوا العلم عن أكابرهم ثم قوله تسودوا من سود يسود تسويدا وثلاثيه ساد يسود وفي (
المحكم ) سادهم سودا وسوددا وسيادة وسيدودة فاستادهم كسادهم وسوده وهو وقال
والسودد الشرف وقد يهمز وضم الدال لغة طائية والسيد الرئيس وقال كراع وجمعه سادة
ونظيره قيم وقامة قلت السادة جمع سائدة والأنثى بالهاء وفي ( المخصص ) ساودني
فسدته وقالوا سيد وسائد وجمع السيد سادة وحكى الزبيدي في كتاب ( طبقات النحويين ) أن
أبا محمد العذري الأعرابي قال لإبراهيم بن الحجاج الثابر باشبيلية تالله أيها
الأمير ما سيدتك العرب إلا بحقك فقالها بالياء فلما أنكر عليه قال السواد السخام
وأصر على أن الصواب معه ومالأه على ذلك الأمير لعظم منزلته في العلم وفي ( الجامع
) وهو مسود عليهم إذا جعل سيدهم والمسود هو الذي ساد غيره وفي ( الصحاح ) يجمع
السيد على سيائد بالهمزة على غير قياس لأن جمع فيعل فياعل بلا همز والدال في سودد
زائدة للإلحاق وقال ابن الأنباري العرب تقول هو سيدنا أي رئيسنا والذي نعظمه فينا
وقال الصغاني ساد قومه يسودهم سيادة وسوددا وسؤددا بالهمزة وضم الدال الأولى وهي
لغة طي وسودا عن الفراء وسيدودة فهو سيدهم وهم سادة وتقديرها فعلة بالتحريك لأن
تقدير سيد فعيل وهو مثل سري وسراة ولا نظير لها يدل على ذلك أنه يجمع على سيائد
بالهمزة مثال أفيل وأفائل وتبيع وتبائع وقال أهل البصرة تقدير سيد فيعل جمع على
فعلة كأنهم جمعوا سائدا مثال قائد وقادة وزائد وزادة والدال في سودد زائدة للإلحاق
ببناء فعلل مثال برقع وقال الفراء يقال هذا سيد قومه اليوم فإذا أخبرت أنه عن قليل
يكون سيدهم قلت هو سائد قومه عن قليل وسيد وقال الكسائي السيد من المعز المسن وقال
ابن فارس سمي السيد سيدا لأن الناس يلتجئون إلى سواده أي شخصه وقال الله تبارك
وتعالى وألفيا سيدها لدى الباب ( يوسف 25 ) أي زوجها وقال تعالى وسيدا وحصورا ( آل
عمران 39 ) السيد الذي يفوق في الخير قومه ويقال السيد الحليم وجاء النبي رجل فقال
أنت سيد قريش فقال السيد الله تعالى قال الأزهري كره أن يمدح في وجهه وأحب التواضع
وقال عكرمة السيد الذي لا يغلبه غضبه وقال قتادة السيد العابد وقال الأصمعي العرب
تقول السيد كل مقهور مغمور بحلمه وقال الفراء السيد المالك وفلان أسود من فلان أي
أعلى سوددا منه وساودت الرجل من سواد اللون ومن السودد جميعا أي غالبته
الرابعقال ابن بطال قال عمر رضي الله تعالى عنه ذلك لأن من سوده الناس يستحي أن
يقعد مقعد المتعلم خوفا على رياسته عند العامة وقال يحيى بن معين من عاجل الرياسة
فاته علم كثير وقيل إن السيادة تحصل بالعلم وكلما زاد العلم زادت السيادة به وقال
الكرماني في بعض النسخ بدل تفهموا تفقهوا وكلاهما بمعنى الأمر قلت المشهور من
الرواية تفقهوا فإنه يحث به على تحصيل الفقه وفي كتاب ابن عمر قال ابن مسعود رضي
الله عنه قال رسول الله أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم وعن علي رضي
الله تعالى عنه قال رسول الله ألا انبؤكم بالفقيه كل الفقيه قالوا بلى قال من لم
يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله ولم يؤمنهم من مكر الله ولا يدع
القرآن رغبة عنه إلى ما سواه ألا لا خير في عبادة ليس فيها فقه ولا علم ليس فيه
تفهم ولا قراءة ليس فيها تدبر قال أبو عمر لم يأت هذا الحديث مرفوعا إلا من هذا
الوجه وأكثرهم يوقفونه على علي رضي الله تعالى عنه وعن شداد بن أوس يرفعه لا يفقه
العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله تعالى ولا يفقه العبد كل الفقه حتى يرى
للقرآن وجوها كثيرة وقال أبو عمر لا يصح مرفوعا وإنما الصحيح أنه من قول أبي
الدرداء وصدقة السمين راويه مرفوعا مجمع على ضعفه وقال قتادة
(2/55)
من لم يعرف الاختلاف لم يشم
الفقه بأنفه وقال ابن أبي عروبة لا نعده عالما وكذا قاله عثمان بن عطاء عن أبيه
وقال الحارث بن يعقوب الفقيه من فقه في القراءة وعرف مكيدة الشيطان
قال أبو عبد الله وبعد أن تسودوا وقد تعلم أصحاب النبي في كبر سنهم
هذه زيادات جاءت في رواية الكشميهني فقط وأراد البخاري بقوله قال أبو عبد الله
نفسه لأن كنيته أبو عبد الله وقال الكرماني ولا بد من مقدر يتعلق به لفظ وبعد
والمناسب أن يقدر لفظ تفهموا يعني الماضي فيكون لفظ تسودوا بفتح التاء ماضيا كما
أنه يحتمل أن يكون تسودوا من التسويد الذي من السواد أي بعد أن يسودوا لحيتهم مثلا
أي في كبرهم أو أي بعد زوال السواد أي في الشيب والله أعلم بحقيقة الحال قلت هذا
كله تعسف خارج عن مقصود البخاري إذ مقصوده الأمر بالتفقه قبل السيادة وبعدها فقوله
وبعد أن تسودوا عطف على قول عمر رضي الله عنه قبل أن تسودوا وهو أيضا بضم التاء
كما في قول عمر رضي الله عنه والمعنى تفقهوا قبل أن تسودوا وتفقهوا بعد أن تسودوا
إذ لا يجوز ترك التفقه بعد السيادة إذا فاته قبلها والدليل على صحة ما قلنا أن
البخاري أكد ذلك بقوله وقد تعلم أصحاب النبي عليه السلام في كبر سنهم لأن الناس
الذين آمنوا بالنبي عليه السلام وهم كبار ما تفقهوا إلا في كبر سنهم
73 - ( حدثناالحميدي ) قال حدثنا ( سفيان ) قال حدثني ( إسماعيل بن أبي خالد على
غير ما حدثناه الزهري ) قال سمعت ( قيس بن أبي حازم ) قال سمعت ( عبد الله بن
مسعود ) قال قال النبي لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في
الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها
مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن البخاري حمل ما وقع في الحديث من لفظ الحسد على
الغبطة فأخرجه عن ظاهره وحمله على الغبطة وتمني الأعمال الصالحة وترجم الباب عليه
بيان رجاله وهم ستة والكل قد ذكروا والحميدي هو أبو بكر عبد الله بن الزبير ابن
عيسى المكي صاحب الشافعي أخذ عنه ورحل معه إلى مصر ولما مات الشافعي رجع إلى مكة
وسفيان هو ابن عيينة والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب وقيس بن أبي حازم بالحاء
المهملة والزاي
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والسماع ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين
ومنها أن رواته ما بين مكي وكوفي ومنها أن فيه سفيان بن عيينة وقد ذكر أن الزهري
حدثه بهذا الحديث بلفظ غير اللفظ الذي حدثه به إسماعيل وهو معنى قوله حدثنا
إسماعيل بن أبي خالد على غير ما حدثناه الزهري برفع الزهري لأنه فاعل حدث ونا
مفعوله والضمير يرجع إلى الحديث الذي يدل عليه حدثنا والغرض من هذا الإشعار بأنه
سمع ذلك من إسماعيل على وجه غير الوجه الذي سمع من الزهري إما مغايرة في اللفظ وإما
مغايرة في الإسناد وإما غير ذلك وفائدته التقوية والترجيح بتعداد الطرق ورواية
سفيان عن الزهري أخرجها البخاري في التوحيد عن علي بن عبد الله عنه قال قال الزهري
عن سالم ورواها مسلم عن زهير بن حرب وغيره عن سفيان بن عيينة قال ثنا الزهري عن
سالم عن أبيه ساقه مسلم تاما واختصره البخاري وأخرجه البخاري أيضا تاما في فضائل
القرآن من طريق شعيب عن الزهري قال حدثني سالم بن عبد الله بن عمر فذكره
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا عن الحميدي عن سفيان وأخرجه
أيضا في الزكاة عن محمد بن المثنى عن يحيى القطان وفي الأحكام وفي الاعتصام عن
شهاب بن عباد عن إبراهيم بن حميد الرواسي وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي
شيبة عن وكيع وعن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه ومحمد بن بشر وأخرجه النسائي
في العلم عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير ووكيع وعن سويد بن نصر عن عبد الله بن
المبارك ثمانيتهم عن إسماعيل بن أبي خالد عنه به وأخرجه ابن ماجه في الزهد عن محمد
بن عبد الله بن نمير به
بيان اللغات قوله لا حسد الحسد تمني الرجل أن يحول الله إليه نعمة الآخر أو فضيلته
ويسلبهما عنه
(2/56)
وفي ( مجمع الغرائب ) الحسد أن
يرى الإنسان لأخيه نعمة فيتمنى أن تكون له وتزول عن أخيه وهو مذموم والغبط أن يرى
النعمة فيتمناها لنفسه من غير أن تزول عن صاحبها وهو محمود وقال ثعلب المنافسة أن
يتمنى مثل ما له من غير أن يفتقر وهو مباح ويقال الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم
عليه وبعضهم خصه بأن يتمنى ذلك لنفسه والحق أنه أعم وقال ابن سيده يقال حسده يحسده
ويحسده حسدا ورجل حاسد من قوم حسد والأنثى بغير هاء وهم يتحاسدون وحسده على الشيء
وحسده إياه وفي ( الصحاح ) يحسده حسودا وقال الأخفش وبعضهم يقول يحسده بالكسر
والمصدر حسد بالتحريك وحسادة وهم قوم حسدة مثل حامل وحملة وقال ابن الأعرابي الحسد
مأخوذ من الحسود وهو القراد فهو يقشر القلب كما يقشر القراد الجلد فيمص الدم قوله
آتاه الله بالمد في أوله أي اعطاه الله من الإيتاء وهو الإعطاء قوله على هلكته
بفتح اللام أي هلاكه وفي ( العباب ) هلك الشيء يهلك بالكسر هلاكا وهلوكا ومهلكا ومهلكا
وتهلوكا وهلكة وتهلكة وتهلكة قال الله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (
البقرة 195 ) وقرأ الخليل إلى التهلكة بالكسر قال اليزيدي التهلكة بضم اللام من
نوادر المصادر وليست مما يجري على القياس وهلك يهلك مثال شرك يشرك لغة فيه قوله
الحكمة المراد بها القرآن والله أعلم كما جاء في حديث أبي هريرة لا حسد إلا في
اثنتين رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار ورجل آتاه الله مالا
فهو يهلكه وفي رواية ينفقه في الحق وفي مسلم نحوه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
بيان الإعراب قوله لا حسد كلمة لا لنفي الجنس و حسد اسمه مبني على الفتح وخبره
محذوف أي لا حسد جائز أو صالح أو نحو ذلك قوله رجل يجوز فيه الأوجه الثلاثة من
الإعراب الرفع على تقدير إحدى الاثنين خصلة رجل فلما حذف المضاف اكتسى المضاف إليه
إعرابه والنصب على إضمار أعني رجلا وهي رواية ابن ماجه والجر على أنه بدل من اثنين
وأما على رواية اثنتين بالتاء فهو بدل أيضا على تقدير حذف المضاف أي خصلة رجل لأن
الاثنتين معناه خصلتين على ما يجيء قوله آتاه الله مالا جملة من الفعل والفاعل
والمفعولين أحدهما الضمير المنصوب والآخر مالا وهي في محل الرفع أو الجر أو النصب
على تقدير إعراب الرجل لأنها وقعت صفته قوله فسلط على صيغة المجهول وهي رواية أبي
ذر ورواية الباقين فسلطه عطفا على آتاه وعبر بالتسليط لدلالته على قهر النفس
المجبولة على الشح قوله ورجل عطف على رجل الأول وإعرابه في الأوجه كإعرابه قوله
آتاه الله الحكمة مثل آتاه الله مالا قوله فهو يقضي بها جملة من المبتدأ والخبر
عطف على ما قبلها
بيان المعاني قوله لا حسد إلا في اثنتين أي لا حسد في شيء إلا في اثنتين أي في
خصلتين وكذا هو في معظم الروايات بالتاء ويروى إلا في اثنين أي شيئين فإن قلت
الحسد موجود في الحاسد لا في اثنتين فما معنى هذا الكلام قلت المعنى لا حسد للرجل
إلا في شأن اثنتين لا يقال قد يكون الحسد في غيرهما فكيف يصح الحصر لأنا نقول
المراد لا حسد جائز في شيء من الأشياء إلا في اثنتين أو المعنى لا رخصة في الحسد
في شيء إلا في اثنتين فإن قلت ما في هذين الاثنين غبطة وهو غير الحسد فكيف يقال لا
حسد قلت أطلق الحسد وأراد الغبطة من قبيل إطلاق اسم المسبب على السبب وقال الخطابي
معنى الحسد ههنا شدة الحرص والرغبة كنى بالحسد عنهما لأنهما سببه والداعي إليه
ولهذا سماه البخاري اغتباطا وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث ما يبين ذلك فقال فيه
ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل ذكره البخاري في فضائل القرآن في
باب اغتباط صاحب القرآن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فلم يتمن السلب وإنما تمنى
أن يكون مثله وقد تمنى ذلك الصالحون والأخيار وفيه قول بأنه تخصيص لإباحة نوع من
الحسد وإخراج له عن جملة ما حظر منه كما رخص في نوع من الكذب وإن كانت جملته
محظورة فالمعنى لا إباحة في شيء من الحسد إلا فيما كان هذا سبيله أي لا حسد محمود
إلا هذا وقيل إنه استثناء منقطع بمعنى لكن في اثنتين وقال الكرماني ويحتمل أن يكون
من قبيل قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ( الدخان 56 ) أي لا
حسد إلا في هذين الاثنين وفيهما لا حسد أيضا فلا حسد أصلا قلت المعنى في الآية لا
يذوقون فيها الموت البتة فوقع قوله إلا الموتة الأولى موقع ذلك لأن الموتة الماضية
محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل إن كانت الموتة
الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها في المستقبل ولا
(2/57)
يتأتى هذا المعنى في قوله لا
حسد إلا في اثنين فكيف يكون من قبيل الآية المذكورة وفي الآية جميع الموت منفي
بخلاف الحسد فإن جميعه ليس بمنفي فإن الحسد في الخيرات ممدوح ولهذا نكر الحاسد في
قوله تعالى ومن شر حاسد إذا حسد ( الفلق 5 ) لأن كل حاسد لا يضر قال أبو تمام (
وما حاسد في المكرمات بحاسد )
وكذلك نكر الغاسق لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر وإنما يكون في بعض دون بعض بخلاف
النفاثات فإنه عرف لأن كل نفاثة شريرة قوله مالا إنما نكره وعرف الحكمة لأن المراد
من الحكمة معرفة الأشياء التي جاء الشرع بها يعني الشريعة فأراد التعريف بلام
العهد أو المراد منه القرآن كما ذكرنا فاللام للعهد أيضا بخلاف المال فلهذا دخل
صاحبه بأي قدر من المال أهلكه في الحق تحت هذا الحكم قوله فسلط على هلكته في هذه
العبارة مبالغتان احداهما التسليط فإنه يدل على الغلبة وقهر النفس المجبولة على
الشح البالغ والأخرى لفظ على هلكته فإنه يدل على أنه لا يبقي من المال شيئا ولما
أوهم اللفظان التبذير وهو صرف المال فيما لا ينبغي ذكر قوله في الحق دفعا لذلك
الوهم وكذا القرينة الأخرى اشتملت على مبالغتين إحداهما الحكمة فإنها تدل على علم
دقيق محكم والأخرى القضاء بين الناس وتعليمهم فإنها من خلافة النبوة ثم إن لفظ
الحكمة إشارة إلى الكمال العلمي ويفضي إلى الكمال العملي وبكليهما إلى التكميل
والفضيلة إما داخلية وإما خارجية وأصل الفضائل الداخلية العلم وأصل الفضائل
الخارجية المال ثم الفضائل إما تامة وإما فوق التامة والأخرى أفضل من الأولى لأنها
كاملة متعدية وهذه قاصرة غير متعدية وقال الخطابي ومعنى الحديث الترغيب في طلب
العلم وتعلمه والتصدق بالمال وقيل إنه تخصيص لإباحة نوع من الحسد كما رخص في نوع
من الكذب قال إن الكذب لا يحل إلا في ثلاث الحديث والحسد على ثلاثة أضرب محرم
ومباح ومحمود فالمحرم تمني زوال النعمة المحسود عليها عن صاحبها وانتقالها إلى
الحاسد وأما القسمان الآخران فغبطة وهو أن يتمنى ما يراه من خير بأحد أن يكون له
مثله فإن كانت في أمور الدنيا فمباح وإن كانت من الطاعات فمحمود قال النووي الأول
حرام بالإجماع وقال بعض الفضلاء إذا أنعم الله تعالى على أخيك نعمة فكرهتها واحببت
زوالها فهو حرام بكل حال إلا نعمة أصابها كافر أو فاجر أو من يستعين بها على فتنة
أو فساد
وقال ابن بطال وفيه من الفقه أن الغني إذا قام بشروط المال وفعل ما يرضي ربه تبارك
وتعالى فهو أفضل من الفقير الذي لا يقدر على مثل هذا والله أعلم
16 -
( باب ما ذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه في البحر إلى الخضر )
الكلام فيه على أنواع
الأول أن التقدير هذا باب في ما ذكر إلى آخره وارتفاع باب على أنه خبر مبتدأ محذوف
وهو مضاف إلى ما بعده والذهاب الفتح مصدر ذهب قال الصغاني وذهب مر ذاهبا ومذهبا
وذهوبا وذهب مذهبا حسنا
الثاني وجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب الأول هو الاغتباط في العلم
وهذا الباب في الترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم وما يغتبط فيه يتحمل فيه
المشقة ووجه آخر وهو أن المغتبط شأنه الاغتباط وإن بلغ المحل الأعلى من كل الفضائل
وهذا الباب فيه أن موسى عليه الصلاة و السلام لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل
الأعلى من طلب الفضيلة والكمال حتى قاسى تعب البر وركوب البحر
الثالث أن هذا التركيب يفيد أن موسى عليه الصلاة و السلام ركب البحر لما توجه في
طلب الخضر مع أن الذي ثبت عند البخاري وغيره أنه خرج إلى البر وإنما ركب البحر في
السفينة هو والخضر بعد أن التقيا ويمكن أن يوجه هذا بتوجيهين أحدهما أن المقصود من
الذهاب إنما حصل بتمام القصة ومن تمامها أنه ركب مع الخضر البحر فأطلق على جميعها
ذهابا مجازا من قبيل إطلاق أسم الكل على البعض أو من قبيل تسمية السبب باسم ما
تسبب عنه الآخر أن الظرف وهو قوله في البحر في قوله وكان يتبع أثر الحوت في البحر
يحتمل أن يكون لموسى ويحتمل أن يكون للحوت وإذا كان كذلك فلعله قوى عنده أحد الاحتمالين
بما روى عبد بن حميد عن أبي الغالية أن موسى عليه الصلاة و السلام التقى بالخضر في
جزيرة من جزائر البحر انتهى والتوصل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر
وبما رواه أيضا من طريق الربيع بن أنس قال انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة
مفتوحة فدخلها موسى عليه الصلاة و السلام على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر فهذان
(2/58)
الأثران الموقوفان برجال ثقات
يوضحان أنه ركب البحر إليه وعن هذا قال ابن رشيد يحتمل أن يكون ثبت عند البخاري أن
موسى عليه الصلاة و السلام توجه في البحر لما طلب الخضر وحمل ابن المنير كلمة إلى
بمعنى مع يعني مع الخضر وقال بعضهم يحمل قوله إلى الخضر على أن فيه حذفا أي إلى
قصد الخضر لأن موسى عليه الصلاة و السلام لم يركب البحر لحاجة نفسه وإنما ركبه
تبعا للخضر قلت هذا لا يقع جوابا عن الإشكال المذكور وإنما هو كلام طائح ولا يخفى
ذلك
الرابع أن موسى عليه السلام هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ابن
إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ولد وعمر عمران سبعون سنة وعمر عمران مائة وسبعا
وثلاثين سنة وعمر موسى عليه السلام مائة وعشرين سنة وقال الفربري مات موسى وعمره
مائة وستون سنة وكانت وفاته في التيه في سابع آذار لمضي ألف سنة وستمائة وعشرين
سنة من الطوفان في أيام منوجهر الملك وكان عمره لما خرج ببني إسرائيل من مصر
ثمانين سنة وأقام بالتيه أربعين سنة ولما مات الريان بن الوليد الذي ولى يوسف على
خزائن مصر وأسلم على يديه ملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى
وكان جبارا وقبض الله يوسف عليه السلام وطال ملكه ثم هلك وملك بعده أخوه الوليد بن
مصعب بن ريان بن أراشة بن شروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح
عليه السلام وكان أعتى من قابوس وامتدت أيام ملكه حتى كان فرعون موسى عليه السلام
الذي بعثه الله إليه ولم يكن في الفراعنة أعتى منه ولا أطول عمرا في الملك منه عاش
أربع مائة سنة وموسى معرب موشى بالشين المعجمة سمته به آسية بنت مزاحم امرأة فرعون
لما وجدوه في التابوت وهو اسم اقتضاه حاله لأنه وجد بين الماء والشجر فمو بلغة
القبط الماء و شى الشجر فعرب فقيل موسى وقال الصغاني هو عبراني عرب وقال أبو عمرو
بن العلاء موسى اسم رجل وزنه مفعل فعلى هذا يكون مصروفا في النكرة وقال الكسائي
وزنه فعلى وهو لا ينصرف بحال قلت إن كان عربيا يكون اشتقاقه من الموس وهو حلق
الشعر فالميم أصلية ويقال من أوسيت رأسه إذا حلقته بالموسى فعلى هذا الميم زائدة
وقال ابن فارس النسبة إليه موسي وذلك لأن الياء فيه زائدة كذا قال الكسائي وقال
ابن السكيت في كتاب ( التصغير ) تصغير اسم رجل مويسي كأن موسى فعلى وإن شئت قلت
مويسى بكسر السين وإسكان الياء غير منونة ويقال في النكرة هذا مويسى ومويس آخر فلم
تصرف الأول لأنه أعجمي معرفة وصرفت الثاني لأنه نكرة وموسى في هذا التصغير مفعل
قال فأما موسى الحديدة فتصغيرها مويسية فمن قال هذه موسى ومويس قال وهي تذكر وتؤنث
وهي من الفعل مفعل والياء أصلية
الخامس البحر خلاف البر قيل سمي بذلك لعمقه واتساعه والجمع أبحر وبحار وبحور وقال
ابن السكيت تصغير بحور وبحار أبيحر ولا يجوز أن تصغر بحار على لفظها فتقول بحير
لان ذلك مضارع الواحد فلا يكون بين تصغير الواحد وتصغير الجمع إلا التشديد والعرب
تنزل المشدد منزلة المخفف والتركيب يدل على البسط والتوسع واختلفوا في البحرين في
قوله تعالى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ( الكهف 60 ) فقيل هو ملتقي بحري فارس
والروم مما يلي المشرق وقيل طنجة وقيل أفريقية وذكر السهيلي أنها بحر الأردن وبحر
القلزم وقيل بحر المغرب وبحر الزقاق قلت بحر فارس ينبعث من بحر الهند شمالا بين
مكران وهي على فم بحر فارس من شرقيه وبين عمان وهي على فم بحر فارس من غربيه وبحر
الروم هو بحر أفريقية والشام يمتد من عند البحر الأخضر إلى المشرق ويتصل بطرسوس
وبحر طنجة بينها وبين سبتة وغيرهما من بر العدوة من الأندلس وبحر أفريقية هو بحر
طرابلس الغرب يمتد منها شرقا حتى يتجاوز حدود أفريقية وهو الذي يتصل بإسكندرية
والكل يسمى بحر الروم وإنما يضاف إلى البلاد عند الاتصال إليها وبحر القلزم يأخذ
من القلزم وهي بلدة للسودان على طرفه الشمال جنوبا بميله إلى المشرق حتى يصير عند
القصير وهي فرصة قوص والأردن بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال المهملتين وتشديد
النون في آخرها بلدة من بلاد الغور من الشام ولا أعرف بحرا ينسب إليها وإنما نسب
إليها نهر كبير يسمى نهر الأردن وهو نهر الغور ويسمى الشريعة أيضا وآخره ينتهي إلى
البحيرة المنتنة وهي بحيرة زغر وبحر الزقاق بين طنجة وبر الأندلس هناك يسمى بحر
الزقاق وهو يضيق هناك و وبحر الغرب وهو البحر الأخضر الذي لا يعرف إلا ما يلي
الغرب من أقاصي الحبشة إلى خلف بلاد الرومية وهي بحيث لا يدرك آخرها لأن المراكب
لا تجري فيها وله خليج إلى الأندلس وطنجة
السادس الخضر والكلام فيه على
(2/59)
أنواع الأول في اسمه فذكر ابن قتيبة في ( المعارف ) عن وهب بن منبه أنه بليا بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وبالياء آخر الحروف ويقال إبليا بزيادة الهمزة في أوله وقيل اسمه خضرون ذكره أبو حاتم السجستاني وقيل ارميا وقيل اسمه اليسع قاله مقاتل ويسمى بذلك لأن علمه وسع ست سموات وست أرضين ووهاه ابن الجوزي واليسع اسم أعجمي ليس بمشتق وقيل اسمه أحمد حكاه القشيري ووهاه ابن دحية فإنه لم يسم أحد قبل نبينا عليه السلام بذلك وقيل عامر حكاه ابن دحية في كتابه ( مرج البحرين ) والأول هو المشهور والخضر بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمة لقبه ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها كما في نظائره الثاني في سبب تلقيبه بذلك وهو ما جاء في الصحيح في كتاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء والفروة وجه الأرض وقيل النبات المجتمع اليابس وقيل سمي به لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله قاله مجاهد وقال الخطابي إنما سمي به لحسنه وإشراق وجهه وكنيته أبو العباس الثالث في نسبه فقال ابن قتيبة هو بليا بن ملكان بفتح الميم وسكون اللام ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه الصلاة و السلام وقيل خضرون بن عماييل بن الفتر بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه الصلاة و السلام وقيل هو ابن حلقيا وقيل ابن قابيل بن آدم وذكره أبو حاتم السجستاني وقيل إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر وهذا غريب جدا قال ابن الجوزي رواه محمد بن أيوب عن أبي لهيعة وهما ضعيفان وقيل إنه ابن ملك وهو أخو الياس قاله السدي وقيل ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه وروى الحافظ ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال الخضر أمه رومية وأبوه فارسي وروى أيضا بإسناده إلى الدارقطني حدثنا محمد بن الفتح القلانسي حدثنا العباس بن عبد الله حدثنا داود بن الجراح حدثنا مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس قال الخضر ابن آدم لصلبه ونسىء له في أجله حتى يكذب الدجال وهذا منقطع غريب وقال الطبري قيل إنه الرابع من أولاده وقيل إنه من ولد عيصوا حكاه ابن دحية وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه من سبط هارون وكذا قال ابن إسحاق وقال عبد الله بن مؤدب إنه من ولد فارس وقال بعض أهل الكتاب إنه ابن خالة ذي القرنين الرابع في أي وقت كان قال الطبري كان في أيام أفريدون قال وقيل كان مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام وذو القرنين عند قوم هو أفريدون ويقال إنه كان وزير ذي القرنين وإنه شرب من ماء الحياة وذكر الثعلبي اختلافا أيضا هل كان في زمن إبراهيم عليه السلام أم بعده بقليل أم بكثير وذكر بعضهم أنه كان في زمن سليمان عليه السلام وأنه المراد بقوله قال الذي عنده علم من الكتاب ( النمل 40 ) حكاه الداودي ويقال كان في زمن كستاسب بن لهراسب قال ابن جرير والصحيح أنه كان مقدما على زمن أفريدون حتى أدركه موسى عليه السلام الخامس هل كان وليا أو نبيا وبالأول جزم القشيري واختلف أيضا هل كان نبيا مرسلا أم لا على قولين وأغرب ما قيل إنه من الملائكة والصحيح أنه نبي وجزم به جماعة وقال الثعلبي هو نبي على جميع الأقوال معمر محجوب عن الأبصار وصححه ابن الجوزي أيضا في كتابه لقوله تعالى حكاية عنه وما فعلته عن امري ( الكهف 82 ) فدل على أنه نبي أوحي إليه ولأنه كان أعلم من موسى في علم مخصوص ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي وإن كان يحتمل أن يكون أوحي إلى نبي في ذلك العصر يأمر الخضر بذلك ولأنه أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذلك إلا للوحي إليه في ذلك لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفس بمجرد ما يلقى في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة السادس في حياته فالجمهور على أنه باق إلى يوم القيامة قيل لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة وقيل لأنه شرب من عين الحياة وقال ابن الصلاح هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين ونقله النووي عن الأكثرين وقيل إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حتى يرتفع القرآن وفي ( صحيح مسلم ) في حديث الدجال أنه يقتل رجلا ثم يحييه قال إبراهيم بن سفيان راوي كتاب مسلم يقال له إنه الخضر وكذلك قال معمر في مسنده وأنكر حياته جماعة منهم البخاري وإبراهيم الحربي وابن المناوي وابن الجوزي فإن قيل خضر علم فكيف دخل عليه آلة التعريف قيل له قد يتأول العلم بواحد من الأمة المساوية فيجري مجرى رجل وفرس فيجري على إضافته وعلى إدخال اللام
(2/60)
عليه ثم بعض الأعلام دخول لام
التعريف عليه لازم نحو النجم والثريا وبعضها غير لازم نحو الحارث والخضر من هذا
القسم قلت العلم إذا لوحظ فيه معنى الوصف يجوز إدخال اللام عليه كالعباس والحسن
وغيرهما
وقوله تعالى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ( الكهف66 )
وقوله مجرور عطفا على المضاف إليه في قوله باب ما ذكر الخ وهذا أيضا من الترجمة
وأشار بهذه الترجمة إلى شرف العلم حتى جازت المخاطرة في طلبه بركوب البحر وركبه
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في طلبه بخلاف ركوب البحر في طلب الدنيا فإنه يكره
عند جماعة وإلى اتباع العلماء لأجل تحصيل العلوم التي لا توجد إلا عندهم قوله هل
اتبعك حكاية عن خطاب موسى الخضر عليهما الصلاة والسلام سأله أن يعلمه من العلم
الذي عنده مما لم يقف عليه موسى وكان له ذلك ابتلاء حيث لم يكل العلم إلى الله
تعالى قوله الآية بالنصب على تقدير تذكر الآية ويجوز الرفع على أن يكون مبتدأ
محذوف الخبر أي الآية بتمامها وذكر الأصيلي في روايته باقي الآية وهو قوله مما
علمت رشدا ( الكهف 66 )
16 - ( حدثني محمد بن غرير الزهري قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني أبي عن
صالح عن ابن شهاب حدث أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن ابن عباس أنه تمارى هو
والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى قال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبى بن
كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى
السبيل إلى لقبه هل سمعت النبي يذكر شانه قال نعم سمعت رسول الله يقول بينما موسى
في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجال فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى
الله إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إليه فجعل الله له الحوت آية وقيل
له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه وكان يتبع أثر الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان
أن أذكره قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما
الذي قص الله عز و جل في كتابه ) مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأنها في ذهاب موسى
عليه السلام إلى الخضر وركوبه البحر وسؤاله منه الاتباع لأجل التعلم والحديث بين
ذلك كله ( بيان رجاله ) وهم تسعة الأول محمد بن غرير بغين معجمة مضمومة وراء مكررة
بينهما ياء آخر الحروف ساكنة ابن الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو عبد
الله القرشي الزهدي المدني نزيل سمرقند يعرف بالفربري روى عن يعقوب بن إبراهيم
ومطرف بن عبد الله النيسابوري روى عنه البخاري و أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر
الترمذي وعبد الله بن شبيب المكي قال الكلاباذي أخرج له البخاري في الكتاب في
علامة مواضع هنا والزكاة وفي بني إسرائيل وليس في الكتب والسنة من اسمه على هذا
المثال وهو من الأفراد النبي يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن
عوف ويوسف القرشي المدني الزهري ساكن بغداد روى عن أبيه وغيره وروى عنه أحمد ويحيى
بن معين وعلى بن المديني واسحق ومحمد بن يحيى الدهلي قال ابن سعد كان ثقة مأمونا ولم
ينزل ببغداد ثم خرج إلى الحسن بن سهل بفم لصلح فلم يزل معه حتى توفي هناك في شوال
سنة ثمان ومائتين قلت فلم الصلح بفتح الفاء وتخفيف الميم وكسر الصاد المهملة وسكون
اللام وفي آخره حاء مهملة وهي بلدة على دجلة قريبة من واسط وقيل هو نهر ميبسان
الثالث أبوه أعنى أبا يعقوب بن إبراهيم المذكور وهو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف وهو من
(2/61)
جملة شيوخ الشافعي رحمه الله وقد مر ذكره في باب تفاضل أهل الإيمان الرابع صالح بن كيسان التابعي تقدم ذكره في آخر قصة هرقل توفي وهو ابن مائة ونيف وستين سنة ابتدأ بالتعليم وهو ابن تسعين سنة الخامس محمد بن ابن مسلم بن شهاب الزهري تقدم غير مرة السادس عبيد بن عبد الله بتصغير الابن وتكبير الأب ابن عيينة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة وقد مر ذكره السابع عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنها الثامن الحر بضم الحاء المهملة وتشديد الراء ابن قيس بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة ابن حصن بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين ابن حذيفة بن بدر الفزاري بفتح الفاء والزاي نسبة إلى فزارة بن شيبان بن بغيض بن ريث بن غطفان وهو ابن أخي عيينة بن حصن كان أحد الوفد الذين قدموا على النبي مرجعه من تبوك وكان من جلساء عمر رضي الله عنه التاسع أبي بن كعب بن المنذر الأنصاري اقرأ هذه الأمة شهد العقبة وبدرا وكان عمر رضي الله عنه يقول أبي سيد المسلمين روى له عن رسول مائة وأربعة وستون حديثا اتفقا منها على ثلاثة أحاديث وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة مات سنة تسع عشرة وقيل عشرين وقيل ثلاثين بالمدينة روى له الجماعة ( بيان لطائف اسناده ) منها أن فيه التحديث والاخبار والعنعنة ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروى بعضهم عن بعض ومنها أن فيه أربعة زهر بين وهم محمد بن غرير ويعقوب وأبوه إبراهيم وابن شهاب ومنها أن ستة منهم مدنيون وهم الرواة إلى ابن عباس رضي الله عنهما ومنها انه قال عن ابن شهاب حدث وبعده قال اخبره أن لوحظ الفرق بان التحديث عند قراءة الشيخ والأخبار عند القراءة على الشيخ فذاك وإلا فتغيير العبارة للتفتن في الكلام وحدث بغيرها رواية الكشميهني وفي رواية غيره حدثه بالهاء وبغير الهاء أيضا محمول على السماع لان صالحا غير مدلس وقوله حدثنا محمد بن غرير هكذا بصيغة الجمع في رواية الأكثرين وفي رواية الأصيلي حدثني بصيغة الأفراد ( بيان تعدد موضعه ومن أخراجه غيره ) أخرجه البخاري في مواضع فوق العشرة هنا كما ترى وفي أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة السلام عن عمرو بن محمد وفي العلم أيضا عن خالد بن خلى عن محمد بن حرب في التوحيد عن عبد الله بن محمد عن أبي عمرو كلاهما عن الزهري به وفي أحاديث الأنبياء أيضا عن علي بن المدني وفي النذور والتفسير عن الحميدي وفي التفسير أيضا عن قتيبة وفي العلم أيضا عن عبد الله بن محمد عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مختصرا وفي التفسير والاجارة والشروط عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد به وأخرجه مسلم في أحاديث الأنبياء عن حرملة عن ابن وهب عن يونس عن الزهري به وعن عمرو بن محمد الناقد وابن راهويه وعبيد الله بن سعيد وابن أبي عمر عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن جبير وعن الناقد أيضا وهو محمد بن عبد الأعلى عن معتمر عن أبيه عن رقية عن أبي أسحق عن ابن جبير به وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن يوسف وعن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى كلاهما عن إسرائيل عن أبي أسحق به وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمد بن يحيى ابن أبي عمر به وقال حسن صحيح وعن محمد بن عبد الأعلى به وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به وعن محمد بن عبد الأعلى وعن عمران بن يزيد عن اسمعيل بن عبد الله بن سماعة عن الأوزاعي به وفي العلم عن أبي الحسين أحمد بن سليمان الرهاوي عن عبيد الله بن موسى به ( بيان اللغات ) قوله تماريت أي تجادلت من التمارى وهو التجادل والتنازع وهو بمعنى ماريت لابن باب المفاعلة لمشاركة اثنين وباب التفاعل لأكثر منهما يقال ماريت الرجل اماريه مراء أي جادلته ومادته الميم والراء والياء آخر الحروف قوله لقيه بضم اللام وكسر القاف وتسديد الياء آخر الحروف مصدر بمعنى اللقاء يقال لقيته لقاء بالمدولقي بالضم والقصر ولقيا بالتشديد ولقيانا ولقيانة واحدة ولقية واحدة ولا تقل لقاة بالفتح
(2/62)
فإنها مولدة وليست من كلام العرب وهذه سبع مصادر قوله شانه أي قصته قوله في ملأ بالقصر هي الجماعة قاله عياض وقال غيره الملأ الإشراف وفي العباب الملأ بالتحريك الجماعة والملأ أيضا الخلق يقال ما أحسن ملأ بنى فلان أي عشرتهم وأخلاقهم والجمع املاء والملأ أيضا الأشراف قوله من بني إسرائيل هو أولاد يعقوب عليه الصلاة و السلام لان إسرائيل هو اسم يعقوب وأولاده اثنا عشر نفسا وهم يوسف وبنيامين وداني ويفتالي وزابلون وجاد ويستأخر واشير وروبيل ويهوذا وشمعون ولاوى وهم الذين سماهم الأسباط وسموا بذلك لان كل واحد منهم والدقبيلة والأسباط في كلام العرب الشجر الملتف الكثير الأغصان والأسباط من بني إسرائيل كالشعوب من العجم والقبائل من العرب وجميع بني إسرائيل من هؤلاء المذكورين قوله الحوت السمكة والجمع الحيتان والاحوات والحوتة قوله آية أي علامة قوله وكان يتبع أثر الحوادث أي ينتظر فقدانه قوله فتاء أي صاحبه وهو يوشع بن نون وإنما قال فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه وقيل كان يأخذ العلم عنه قلت يوشع بن نون بن اليشامع ابن عميهوذابن بارص بن بعدان بن ناخر بن تالخ بن راشف بن راقخ بن بريعا بن افراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام ويوشع بضم الياء آخر الحروف وفتح الشين المعجمة ونون مصروف كنوح قوله إذ أوينا بالقصر من أوى فلان إلى منزله يأوي أويا قوله إلى الصخرة هي التي دون نهر الزيت بالمغرب قاله الزمخشري والصخرة في اللغة الحجر الكبير والجمع صخر وصخر وصخور وصخورة وصخرات قوله نبغي أي نطلب من بغيت الشيء طلبته قوله فارتدا أي رجعا على آثارهما هو جمع أثر بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة واثر الشيء ما شخص منه قوله قصصا من قص أثره يقص قصا وقصصا أي تتبعه قال الله تعالى ( وقالت لأخته قصه ) أي تتبعي أثره وقال الصغاني قال تعالى ( فارتدا على آثارهما قصصا ) أي رجعا من الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر ( بيان الإعراب ) قوله تمارى هو أبي ابن عباس واتى بضمير الفصل لأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل إلا إذا أكد بالمنفصل فقوله والحر بن قيس عطف على الضمير الذي في تمارى وحسن ذلك تأكيده بقوله هو لأنه بدونه يوهم عطف الاسم على الفعل قوله في صاحب موسى بتعلق بقوله تمارى قوله هو خضر جملة اسمية وقعت مقول القول قوله تماريت أنا وصاحبي مثل تمارى هو والحر بن قيس حيث أكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل لتحسين العطف ويجوز أن ينتصب على أن يكون مفعولا معه وأراد بقوله صاحبي هو الحر بن قيس قوله هل سمعت استفهم به ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم قوله يذكر شأنه جملة حالية قوله يقول أيضا جملة حالية قوله بينما قد مر غير مرة أن أصله بين زيدت فيه ما والفصيح في جوابه ترك إذ وإذا وجوابه قوله جاءه رجل وفي بعض الروايات إذ جاءه رجل قوله اعلم بالنصب لأنه صفة أحد قوله بل عندنا خضر أي هو أعلم هكذا هو في اكثر الروايات وفي رواية الكشميهني بلى عبدنا خضر وبل للإضراب وهو من حروف العطف فإن قلت ما المعطوف عليه بالمضروب عنه قلت مقدر تقديره أوحى الله إليه لا تقل لا بل عبدنا خضر أي قل إلا علم عبدك خضر فإن قلت فعلى هذا كان ينبغي أن يقول بل عبد الله أو عبدك قلت ورد علة طريقة الحكاية عن قول الله تعالى قوله فسأل موسى أي سأل موسى عن الله تعالى السبيل إلى خضر والفاء في فجعل للتعقيب قوله له أي لأجله والحوت وآية منصوبان على انهما مفعولا جعل قولهفتاه فاعل فقال قوله أرأيت أي أخبرني وهو مقول القول قوله إذ بمعنى حين وههنا حذف تقديره أرأيت ما دهاني ( إذا أوينا إلى الصخرة ) قوله فإني الفاء فيه تفسيرية يفسر بها ما دهاه من نسيان الحوت حين أويا إلى الصخرة قوله وماأنسانيه أي أنساني ذكره إلا الشيطان قوله أن اذكره بدل من الهاء في أنسانيه قوله ذلك في محل الرفع على الابتداء قوله ما كنا نبغي خبره وكلمة ما موصولة وقوله كنا نبغي صلتها أي ذلك الذي كنا نطلب والعائد إلى الموصول محذوف أي ما كنا نبغيه ويجوز حذف الياء من نبغي للتخفيف وهكذا قرئ ايضافي القرآن وإثباتها احسن وهي قراءة أبي عمر وقوله قصصا نصب على تقدير يقصان قصصا أعنى النصب على المصدرية قوله ما قص الله في محل الرفع لأنه اسم كان وقوله من شأنهما مقدما خبره وفي بعض الرواية فكان من شأنهما الذي قص الله
(2/63)
( بيان المعاني ) قوله تمارى هو والحر بن قيس وكان لابن عباس في هذه القصة تماريان تمار بينه وبين البحر ابن قيس أهو الخضر أن غيره وتمار بينه وبين نوف البكالى في موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة أم موسى بن ميشا بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف بعد هاشين معجمة هكذا قاله الكرماني في التمارى الثاني وليس كذلك فإن هذا التمارى كان بين سعيد بن جبير وبين البكالي على ما يجيء في التفسير وسياق سعيد بن جبير للحديث عن ابن عباس أتم من سياق عبيد الله بن عبد الله هذا بشيء كثير وسيأتي مبينا إن شاء الله تعالى قوله في صاحب موسى أي الذي ذهب موسى عليه الصلاة السلام إليه وقال له هل اتبعك لفتاه الذي كان رفيقه عند الذهاب قوله فدعاه ابن عباس أي فناداه وقال ابن التين فيه حذف تقديره فقام إليه فسأله لان المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه وإخباره في ذلك مشهورة قوله فسأل موسى السبيل إليه أي قال فادللني لان المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه وإخباره في ذلك مشهورة قولهفسأل موسى السبيل إليه أي قال إفادللني اللهم إليه قوله فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا وجاء في كتاب التفسير وغيره فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذا لم يرد العلم إليه وكذا جاءه في مسلم وفيه أيضا بينا موسى في قومه يذكرهم أيام الله وأيام الله نعماؤه وبلاؤه إذ قال ما اعلم في الأرض رجلا خيرا وأعلم مني فأوحى الله إليه أن في الأرض رجلا هو أعلم منك وقال المازرى أما على رواية من روى هل تعلم أحدا أعلم منك فقال أنا فلا عتب عليه إذا خبر عما يعلم وأما على رواية أي الناس أعلم فقال أنا أعلم فقال أنا أعلم أي فيما يقتضيه شاهد الحال ودلالة النبوة ويظهر لي أن موسى كان من النبوة بالمكان الأرفع والعلم من اعظم المراتب فقد يعتقد أنه أعلم الناس بهذه المرتبة فإذا كان مراده بقوله أنا أعلم في اعتقادي لم يكن خبره كذبا وقيل قول المازري فلا عتب عليه مردود بقوله عليه السلام فعتب الله عليه لكن ينبغي العتب له أن لا ينفى العتب مطلقا بل عتب مخصوص وقال القاضي عياض وقيل مراد موسى بقوله أنا أعلم أي بوظائف النبوة وأمور الشريعة وسياسة الأمر والخضر أعلم منه بأمور أخر من علوم غيبية كما ذكر من خبرهما وكان موسى اعلم على الجملة والعموم مما لا يمكن جهل الأنبياء بشيء منه والخضر أعلم على الخصوص مما ألم من الغيوب وحوادث القدر مما لا يعلم الأنبياء منه إلا ما أعلموا من غيبة ولهذا قال له الخضر انك على علم من علم الله علمك لا أعلمه وأنا على علم من علم الله علمنه لا تعلمه ألا تراه لم يعرف موسى بن إسرائيل حتى عرفه بنفسه إذا لم يعرفه الله به وهذا مثل قول نبينا محمد إني لا علم إلا ما علمني ربي ومعنى قوله فعتب الله عليه أي لم يرض قوله وآخذه به واصل العتب المؤاخذة يقال منه عتب عليه إذا وجده وذكره له فالمؤاخذة والعتب في حق الله محال فمعنى قوله فعتب الله عليه لم يرض قوله شرعا ودينا وقد عتب الله عليه إذا لم يرد رد الملائكة ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) وقيل جاء هذا تنبيها لموسى وتعليما لمن بعده ولئلا يقتدي به غيره في تزكية نفسه والعجب بحاله فيهلك وإنما الجيء موسى للخضر لتأديب لا للتعليم قوله فجعل الله له الحوت آية أي علامة لمكان الخضر ولقائه وذلك أنه لما قال موسى أين أطلبه قال الله له على الساحل عند الصخرة قال يا رب كيف لي به قال تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك فقيل أخذ سمكة مملوحة قال لفتاه إذا فقدت الحوت فاخبرني وكان يمشي ويتبع أثر الحوت أي ينتظر فقدانه فرقد موسى فاضطرب الحوت ووقع في البحر قيل أن يوشع حمل الخبز والحوت في المكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت وقيل توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء قوله نسيت الحوت أي نسيت تفقد أمره وما يكون منه مما جعل امارة على الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام قوله قال أي موسى عليه الصلاة و السلام ذلك أي فقدان الحوت هو الذي كنا نبغي أي نطلب لأنه علامة وجدان المقصود قوله فارتدا أي رجعا على آثارهما يقصان قصصا أي يتبعان آثارهما اتباعا قوله من شأنهما أي شأن الخضر وموسى عليهما السلام والذي قص الله تعالى في كتابه اشارة إلى قوله تعالى ( هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ) إلى قوله ( ويسألونك عن ذي القرنين ) ( بيان استنباط الأحكام ) الأول قال ابن بطال فيه جواز التمارى في العلم إذا كان كل واحد يطلب الحق ولم يكن تعنتا الثاني فيه الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع الثالث فيه أنه يجب على العالم الرغبة في التزيد من العلم والحرص عليه
(2/64)
ولا يقنع بما عنده كما لم يكتف
موسى بعلمه الرابع فيه وجوب التواضع لن الله تعالى عاتب موسى عليه السلام حين لم
يرد العلم إليه وأراد من هو أعلم منه قلت يعني في علم مخصوص الخامس فيه حمل الزاد
وأعداده للسفر بخلاف قول الصوفية السادس قول النووي فيه أنه لا بأس على العالم
والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضى له حاجته ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم
العلم والآداب بل من مروآت الأصحاب وحسن المعاشرة ودليله اتيان فتاه غداءهما
السابع فيه الرحلة والسفر لطلب العلم برا وبحرا الثامن فيه قبول خبر الواحد الصدوق
والله أعلم بالصواب
17 -
( باب قول النبي اللهم علمه الكتاب )
أي هذا باب في قول النبي عليه الصلاة و السلام هذا لفظ الحديث وضعه ترجمة على صورة
التعليق ثم ذكره مسندا وهل يقال لمثله مرسل أم لا فيه خلاف فإن قلت ما أراد من وضع
هذا ترجمة قلت أشار به إلى أن هذا لا يختص جوازه بابن عباس رضي الله عنهما فإن قلت
ما وجه المناسبة بين البابين قلت من حيث إن من جملة المذكور في الباب الأول غلبة
ابن عباس على حر بن قيس في تماريهما في صاحب موسى عليه السلام وذاك من كثرة علمه
وغزارة فضله وفي هذا الباب إشارة إلى أن علمه الغزير وفضيلته الكاملة ببركة دعاء
النبي حيث قال له اللهم علمه الكتاب ووجه آخر أن في الباب الأول بيان استفادة موسى
عليه الصلاة و السلام من الخضر من العلم الذي لم يكن عنده من ذلك شيء وفي هذا
الباب بيان استفادة ابن عباس علم الكتاب من النبي
75 - ( حدثناأبو معمر ) قال حدثنا ( عبد الوارث ) قال حدثنا ( خالد ) عن ( عكرمة )
عن ( ابن عباس ) قال ضمني رسول الله وقال اللهم علمه الكتاب
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة بل هو عين الترجمة
بيان رجاله وهم خمسة الأول أبو معمر بفتح الميمين عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج
ميسرة البصري المقعد بضم الميم وفتح العين المنقري الحافظ الحجة سمع عبد الوارث
الدراوردي وغيرهما روى عنه أبو حاتم الرازي والبخاري وروى أبو داود والترمذي
والنسائي عن رجل عنه قال يحيى بن معين هو ثقة عاقل وفي رواية ثبت وكان يقول بالقدر
توفي سنة تسع وعشرين ومائتين الثاني عبد الوارث بن سعيد ابن ذكوان التميمي العنبري
أبو عبيدة البصري روى عن أيوب السختياني وغيره قال ابن سعد كان ثقة حجة توفي
بالبصرة في المحرم سنة ثمانين ومائة روى له الجماعة الثالث خالد بن مهران الحذاء
أبو المنازل بضم الميم كذا ذكره أبو الحسن وقال عبد الغني ما كان من منازل فهو بضم
الميم إلا يوسف بن منازل فإنه بفتح الميم قال الباجي قرأت على الشيخ أبي ذر يعني
الهروي في كتاب ( الأسماء والكنى ) لمسلم خالد بن مهران أبو المنازل بفتح الميم
وكذا ذكره في سائر الباب والضم أظهر وقال محمد ابن سعد هو مولى لأبي عبد الله عامر
بن كريز القرشي ولم يكن بحذاء إنما كان يجلس إليهم يقال إنه ما حذا نعلا قط وإنما
كان يجلس إلى صديق له حذاء وقيل إنه كان يقول أخذوا علي هذا النحو فلقب به تابعي
رأى أنس بن مالك قال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به وقال يحيى وأحمد ثقة
توفي سنة إحدى وأربعين ومائة روى له الجماعة الرابع عكرمة مولى عبد الله بن عباس
أبو عبد الله المدني أصله من البربر من أهل المغرب سمع مولاه وعبد الله بن عمر
وخلقا من الصحابة وكان من العلماء في زمانه بالعلم والقرآن وعنه أيوب وخالد الحذاء
وخلق وتكلم فيه برأيه رأي الخوارج وأطلق نافع وغيره عليه الكذب وروى له مسلم
مقرونا بطاوس وسعيد بن جبير واعتمده البخاري في أكثر ما يصح عنه من الروايات وربما
عيب عليه إخراج حديثه ومات ابن عباس وعكرمة مملوك فباعه علي ابنه من خالد بن
معاوية بأربعة آلاف دينار فقال له عكرمة بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار فاستقاله
فأقاله وأعتقه وكان جوالا في البلاد ومات بالمدينة سنة خمس أو ست أو سبع ومائة
ومات معه في ذلك اليوم كثير الشاعر فقيل مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس وقيل
مات عكرمة سنة خمس عشرة ومائة وقد بلغ ثمانين واجتمع حفاظ ابن عباس على عكرمة فيهم
عطاء وطاوس
(2/65)
وسعيد بن جبير فجعلوا يسألون
عكرمة عن حديث ابن عباس فجعل يحدثهم وسعيد كلما حدث بحديث وضع أصبعه الإبهام على
السبابة أي سوى حتى سألوه عن الحوت وقصة موسى فقال عكرمة كان يسايرهما في ضحضاح من
الماء فقال سعيد أشهد على ابن عباس أنه قال يحملانه في مكتل يعنى الزنبيل قال أيوب
ورأيي والله أعلم أن ابن عباس حدث بالخبرين جميعا الخامس عبد الله بن عباس
بيان الأنساب المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف بعدها راء نسبة إلى منقر
بن عبيد بن الحارث وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعيد بن زيد مناة بن تميم قال ابن
دريد من نقرت عن الأمر كشفت عنه التميمي في مضر ينسب إلى تميم بن مر ابن أد بن
طابخة بن الياس العنبري بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة بعدها
راء في تميم ينسب إلى العنبر بن عمرو بن تميم
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته بصريون خلا عكرمة
وابن عباس وهما أيضا سكنا البصرة مدة ومنها أن إسناده على شرط الأئمة الستة قاله
بعض الشارحين وفيه نظر ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه هنا عن أبي معمر وأخرجه أيضا في فضائل
الصحابة عن أبي معمر ومسدد عن عبد الوارث وعن موسى عن وهيب كلاهما عن خالد قال أبو
مسعود الدمشقي هو عند القواريري عن عبد الوارث وأخرجه أيضا في الطهارة عن عبد الله
بن محمد حدثنا هاشم بن القاسم وأخرجه مسلم في فضائل ابن عباس حدثنا زهير وأبو بكر
بن أبي النصر حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ورقاء عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن
عباس رضي الله عنهما وأخرجه الترمذي في المناقب عن محمد بن بشار عن الثقفي عن عبد
الوارث به وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي فيه عن عمر بن موسى عن عبد الوارث به
وأخرجه ابن ماجه في السنة عن محمد بن المثنى وأبي بكر بن خلاد كلاهما عن الثقفي به
بيان اللغات قوله ضمني من ضم يضم ضما وضممت الشيء إلى الشيء فانضم إليه وهو من باب
نصر ينصر قوله اللهم أصله يا الله فحذف حرف النداء وعوض عنه الميم ولذلك لا
يجتمعان وأما قول الشاعر
( وما عليك أن تقول كلماسبحت أو صليت يا اللهما )
اردد علينا شيخنا مسلما
فليس يثبت وهذا من خصائص اسم الله تعالى كما اختص بالباء في القسم وبقطع همزته في
يا الله وبغير ذلك وكأنهم لما أرادوا أن يكون نداؤه باسمه متميزا عن نداء عباده
باسمائهم من أول الأمر حذفوا حرف النداء من الأول وزادوا الميم لقربها من حرف
العلة كالنون في الآخر وخصت لأن النون كانت ملتبسة بضمير النساء صورة وشددت لأنها
خلف من حرفين واختار سيبويه أن لا توصف لأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف
والصفة كوقوع حرف النداء بينهما ومذهب الكوفيين أن أصله يا الله أم أي أقصد بخير
فتصرف فيه ورجح الأكثرون قول البصريين ورجح الإمام فخر الدين الرازي قول الكوفيين
من وجه وكأن الأصل أن يا الذي هو حرف النداء لا يدخل على ما فيه الألف واللام إلا
بواسطة كقوله تعالى يا أيها المزمل ( المزمل 1 ) وشبهه وإنما ادخلوها هنا لخصوصية
هذا الاسم الشريف بالله تعالى واللام فيه لازمة غير مفارقة لأنها عوض عما حذف منه
وهي الهمزة
بيان الإعراب قوله ضمني فعل ومفعول و رسول الله فاعله والجملة مقول القول قوله
وقال عطف على ضمني قوله اللهم علمه الكتاب مقول القول والهاء في علمه مفعول أول
لعلم و الكتاب مفعول ثان فإن قلت هذا الباب أعني التعليم يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل
ومفعوله الأول كمفعول أعطيت والثاني والثالث كمفعولي علمت يعني لا يجوز حذف الثاني
أو الثالث فقط فكيف ههنا قلت علمه بمعنى عرفه فلا يقتضي إلا مفعولين
بيان المعاني قوله ضمني فيه حذف تقديره ضمني إلى نفسه أو إلى صدره وقد جاء بذلك
مصرحا في روايته الأخرى عن مسدد عن عبد الوارث إلى صدره قوله الكتاب أي القرآن لأن
الجنس المطلق محمول على الكامل ولأن العرف الشرعي عليه أو لأن اللام للعهد فإن قلت
المراد نفس القرآن أي لفظه أو معانيه أي أحكام الدين قلت اللفظ باعتبار دلالته على
معانيه ووقع في رواية مسدد الحكمة بدل الكتاب وذكر الإسماعيلي أن ذلك هو الثابت في
الطرق كلها عن خالد الحذاء وفيه نظر لأن البخاري أخرجه أيضا من حديث وهيب عن خالد
بلفظ الكتاب
(2/66)
أيضا فيحمل على أن المراد
بالحكمة أيضا القرآن فيكون بعضهم رواه بالمعنى وقال جماعة من الصحابة والتابعين في
قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة الآية ( البقرة 269 ) إن الحكمة
القرآن فإن قلت روى الترمذي والنسائي من طريق عطاء عن ابن عباس قال دعا لي رسول
الله أن أوتى الحكمة مرتين قلت يحتمل تعدد الواقعة فيكون المراد بالكتاب القرآن
وبالحكمة السنة وقد فسرت الحكمة بالسنة في قوله تعالى ويعلمهم الكتاب والحكمة (
البقرة 129 ) قالوا المراد بالحكمة هنا السنة التي سنها رسول الله عليه الصلاة و
السلام بوحي من الله تعالى ويؤيد ذلك رواية عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي
الله عنهما التي أخرجها الشيخان بلفظ اللهم فقهه وزاد البخاري في رواية في الدين
وذكر الحميدي في ( الجمع ) أن أبا مسعود ذكر في ( أطراف الصحيحين ) بلفظ اللهم
فقهه في الدين وعلمه التأويل قال الحميدي هذه الزيادة ليست في الصحيحين وهي في
رواية سعيد بن جبير عند أحمد وابن حبان ووقع في بعض نسخ ابن ماجه من طريق عبد
الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء بلفظ اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب وهذه الرواية
غريبة من هذا الوجه وقد رواها الترمذي والإسماعيلي وغيرهما من طريق عبد الوهاب
بدونها وروى ابن سعد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس قال دعاني رسول الله فمسح على
ناصيتي وقال اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب وقد رواه أحمد عن هشيم عن خالد في حديث
الباب بلفظ مسح على رأسي فإن قلت ما معنى تسمية الكتاب والسنة بالحكمة قلت أما
الكتاب فلأن الله تعالى أحكم فيه لعباده حلاله وحرامه وأمره ونهيه وأما السنة
فحكمة فصل بها بين الحق والباطل وبين بها مجمل القرآن وقال الكرماني فإن قلت هل
جاز أن لا يستجاب دعاء النبي قلت لكل نبي دعوة مستجابة وإجابة الباقي في مشيئة
الله تعالى وأما هذا الدعاء فمما لا شك في قبوله لأنه كان عالما بالكتاب حبر الأمة
بحر العلم رئيس المفسرين ترجمان القرآن وكونه في الدرجة القصوى في المحل الأعلى
منه مما لا يخفى وقال ابن بطال كان ابن عباس من الأحبار الراسخين في علم القرآن
والسنة أجيبت فيه الدعوة إلى هنا كلام الكرماني قلت هذا السؤال لا يعجبني فإن فيه
بشاعة وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبي مستجابة وقوله لكل نبي دعوة مستجابة لا
ينفي ذلك لأنه ليس بمحصور فإن قلت ما كان سبب هذا الدعاء لابن عباس قلت بين ذلك
البخاري ومسلم في الرواية الأخرى عن ابن عباس قال دخل النبي عليه الصلاة و السلام
الخلاء فوضعت له وضوأ زاد مسلم فلما خرج ثم اتفقا قال من وضع هذا فأخبر ولمسلم
قالوا ابن عباس وفي رواية أحمد وابن حبان من طريق سعيد بن جبير عنه أن ميمونة هي
التي أخبرته بذلك وأن ذلك كان في بيتها ليلا قلت ولعل ذلك في الليلة التي بات فيها
ابن عباس عندها ليرى صلاة رسول الله لما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
بيان استناط الأحكام الأول فيه بركة دعائه عليه الصلاة و السلام وإجابته الثاني
فيه فضل العلم والحض على تعلمه وعلى حفظ القرآن والدعاء بذلك الثالث فيه استحباب
الضم وهو إجماع للطفل والقادم من سفر ولغيرهما ومكروه عند البغوي والمختار جوازه
ومحل ذلك إذا لم يؤد إلى تحريك شهوة هذا مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة أن ذلك يجوز
إذا كان عليه قميص وقال الإمام أبو منصور الماتريدي المكروه من المعانقة ما كان
على وجه الشهوة وأما على وجه البر والكرامة فجائز
18 -
( باب متى يصح سماع الصغير )
وفي رواية الكشميهني الصبي الصغير أي هذا باب وهو منون وكلمة متى للاستفهام إذا
قلت متى القتال كان المعنى اليوم أم غدا أم بعد غد وبني لتضمنه معنى حرف الاستفهام
كما في المثال المذكور قال الكرماني معنى الصحة جواز قبول مسموعه وقال بعضهم هذا
تفسير لثمرة الصحة لا لنفس الصحة قلت كأنه فهم أن الجواز هو ثمرة الصحة وليس كذلك
بل الجواز هو الصحة وثمرة الصحة عدم ترتب الشيء عليه عند العمل فإن قلت ما وجه
المناسبة بين البابين قلت من حيث إن ما ذكر في الباب الأول من دعائه عليه الصلاة و
السلام لابن عباس إنما كان وابن عباس إذ ذاك غلام مميز والمذكور
(2/67)
في هذا الباب حال الغلام
المميز في السماع على أن القضية ههنا لابن عباس أيضا كما كانت في الباب الأول
ومراده الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطا في التحمل واختلفوا في السن الذي يصح فيه
السماع للصغير فقال موسى بن هارون الحافظ إذا فرق بين البقرة والدابة وقال أحمد بن
حنبل إذا عقل وضبط وقال يحيى بن معين أقل سن التحمل خمسة عشر سنة لكون ابن عمر رضي
الله عنهما رد يوم أحد إذ لم يبلغها ولما بلغ أحمد أنكر ذلك وقال بئس القول وقال
عياض حدد أهل الصفة ذلك أن أقله سن محمود بن الربيع ابن خمس كذا ذكره البخاري وفي
رواية أخرى أنه كان ابن أربع وقال ابن الصلاح والتحديد بخمس هو الذي استقر عليه
عمل أهل الحديث من المتأخرين فيكتبون لابن خمس سنين فصاعدا سمع ولدون حضر أو أحضر
والذي ينبغي في ذلك اعتبار التمييز فإن فهم الخطاب ورد الجواب كان مميزا وصحيح
السماع وإن كان دون خمس وإن لم يكن كذلك لم يصح سماعه ولو كان ابن خمس بل ابن
خمسين وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال رأيت صبيا ابن أربع سنين قد حمل إلى
المأمون قد قرأ القرآن ونظر في الآي غير أنه إذا جاع بكى وحفظ القرآن أبو محمد عبد
الله بن محمد الأصبهاني وله خمس سنين فامتحنه فيه أبو بكر بن المقري وكتب له
بالسماع وهو ابن أربع سنين وحديث محمود لا يدل على التحديد بمثل سنه
76 - حدثنا ( إسماعيل بن أبي أويس ) قال حدثني ( مالك ) عن ( ابن شهاب ) عن ( عبيد
الله ابن عبد الله بن عتبة ) عن ( عبد الله بن عباس ) قال أقبلت راكبا على حمار
أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الإحتلام ورسول الله يصلي بمنى إلى غير جدار فمررت بين
يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي
مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن العلماء جوزوا المرور بين يدي المصلي إذا لم يكن
سترة برواية ابن عباس هذه وابن عباس تحمل هذا في حالة الصبى فعلم منه قبول سماع
الصبي إذا أداه بعد البلوغ فإن قلت الترجمة في سماع الصغير وليس في هذا الحديث
سماع الصبي قلت المقصود من السماع هو وما يقوم مقامه لتقرير الرسول عليه السلام في
مسألتنا لمروره فإن قلت عقد الباب على الصبي الصغير أو الصغير فقط على اختلاف
الرواية والمناهز للاحتلام ليس صغيرا فما وجه المطابقة قلت المراد من الصغير غير
البالغ وذكره مع الصبي من باب التوضيح والبيان
بيان رجاله وهم خمسة كلهم قد ذكروا وإسماعيل هو ابن عبد الله المشهور بابن أبي
أويس ابن أخت مالك وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري وعتبة بضم العين المهملة
وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ومنها
أن رواته كلهم مدنيون ومنها أن فيه رواية التابعي عن التابعي
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن إسماعيل وفي الصلاة عن عبد
الله بن يوسف والقعنبي ثلاثتهم عن مالك وفي الحج عن إسحاق عن يعقوب بن إبراهيم ابن
سعد عن ابن أخي ابن شهاب وفي المغازي وقال الليث حدثني يونس وأخرجه مسلم في الصلاة
عن يحيى بن يحيى عن مالك وعن يحيى بن يحيى وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم
عن سفيان بن عيينة وعن حرملة بن يحيى عن ابن وهب عن يونس وعن إسحاق بن إبراهيم وعن
عبد بن حميد كلاهما عند عبد الرزاق عن معمر خمستهم عنه به وأخرجه أبو داود فيه عن
عثمان بن أبي شيبة عن سفيان به وأخرجه الترمذي فيه عن محمد بن المالك أبي الشوارب
عن يزيد بن زريع عن معمر نحوه وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن منصور عن سفيان به
وفي العلم عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن
هشام بن عمار عن سفيان به
بيان اللغات قوله على حمار قال في ( العباب ) الحمار العير والجمع حمير وحمر وحمر
وحمرات واحمرة ومحمور والحمارة الأتان والحمارة أيضا الفرس الهجين وهي بالفارسية
يالانى واليحمور حمار الوحش أتان بفتح الهمزة وبالتاء المثناة من فوق وفي آخره نون
وهي الأنثى من الحمر وقد يقال بكسر الهمزة حكاه الصغاني في ( شوارده )
(2/68)
ولا يقال أتانة وحكى يونس
وغيره أتانة وقال الجوهري الاتان الحمارة ولا يقال أتانة وثلاث أتن مثل عناق وأعنق
والكثير اتن واتن والمأتونا الاتن مثل المعبورا قوله ناهزت الاحتلام أي قاربت يقال
ناهز الصبي البلوغ إذا قاربه وداناه قال صاحب ( الأفعال ) ناهز الصبي الفطام دنا
منه ونهز الشيء أي قرب وقال شمر المناهزة المبادرة فقيل للأسد نهز لأنه يبادر ما
يفترسه والنهزة بالضم الفرصة ونهزت الشيء دفعته ونهزت إليه نهضت إليه والاحتلام البلوغ
الشرعي وهو مشتق من الحالم بالضم وهو ما يراه النائم قوله بمنى مقصور موضع بمكة
تذبح فيه الهدايا وترمى فيه الجمرات قال الجوهري مذكر مصروف قلت لأنه علم للمكان
فلم يوجد فيه شرط المنع وقال النووي فيه لغتان الصرف والمنع ولهذا يكتب بالألف
والياء والأجود صرفها وكتابتها بالألف سميت بها لما يمنى بها من الدماء أي تراق
قوله ترتع بتاءين مثناتين من فوق مفتوحتين وضم العين أي تأكل ما تشاء من رتعت
الماشية ترتع رتوعا وقيل تسرع في المشي وجاء أيضا بكسر العين على وزن تفتعل من
الرعي وأصله ترتعي ولكن حذفت الياء تخفيفا والأول أصوب ويدل عليه رواية البخاري في
الحج نزلت عنها فرتعت
بيان الإعراب قوله أقبلت جملة من الفعل والفاعل قوله راكبا نصب على الحال وعلى
حمار يتعلق به قوله أتان صفة للحمار أو بدل منه فإن قلت من أي قسم من أقسام البدل
قلت قيل إنه بدل غلط وقال القاضي وعندي أنه بدل البعض من الكل إذ قد يطلق الحمار
على الجنس فيشمل الذكر والأنثى كما قالوا بعير وقال النووي والقرطبي وغيرهما أيضا
إن الحمار اسم جنس للذكر والانثى كلفظة الشاة والإنسان وقال الشيخ قطب الدين في
بعض طرقه على حمار أراد به الجنس ولم يرد الذكورة وفي بعضها أتان وجمع البخاري
بينهما فقال على حمار أتان وقال القاضي وجاء في البخاري على حمار أتان بالتنوين
فيهما إما على البدل أو الوصف وقد ذكرناه وروي على حمار أتان بالإضافة أي حمار
أنثى كفحل اتن وقال ابن الأثير إنما استدرك الحمارة بالأنثى ليعلم أن الأنثى من
الحمر لا تقطع الصلاة فكذلك لا تقطعها المرأة وقال الكرماني فإن قلت لم قال على
حمارة فيستغني عن لفظ أتان قلت لأن التاء في حمارة يحتمل أن تكون للوحدة وللتأنيث
فلا تكون نصا في الأنوثة قلت هنا قرينة تدل على ترجيح المراد بأنوثته فلا يقع
الجواب موقعه والأحسن أن يقال في الجواب إن الحمارة قد تطلق على الفرس الهجين كما
نقلناه عن الصغاني عن قريب فلو قال على حمارة ربما كان يفهم أنه أقبل على فرس هجين
وليس الأمر كذلك على أن الجوهري حكى أن الحمارة في الأنثى شاذ قوله وأنا يومئذ
الواو فيه للحال و أنا مبتدأ وخبره قوله قد ناهزت الاحتلام قوله ورسول الله الواو
فيه للحال وهو مبتدأ وخبره قوله يصلي قوله بمنى نصب على الظرف قوله إلى غير جدار
في محل النصب على الحال وفيه حذف تقديره يصلي غير متوجه إلى جدار قوله وارسلت عطف
على مررت و الأتان بالنصب مفعوله قوله ترتع جملة في محل النصب على الحال من
الأحوال المقدرة والتقدير مقدرا رتوعها قوله ودخلت بالواو عطف على أرسلت وفي رواية
الكشميهني فد خلت وبالفاء التي للتعقيب قوله فلم ينكر على صيغة المعلوم أي فلم
ينكر النبي ذلك علي وروي بلفظ المجهول أي لم ينكر أحد لا رسول الله ولا غيره ممن
كانوا معه
بيان المعاني قوله أقبلت راكبا على حمار وزاد البخاري فيه في الحج أقبلت أسير على
أتان حتى صرت بين يدي الصف ثم نزلت عنها ولمسلم فسار الحمار بين يدي بعض الصف قوله
إلى غير جدار يعني إلى غير سترة فإن قلت لفظة إلى غير جدار لا ينفي شيئا غيره فكيف
يفسر بغير سترة إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم وعن عدم جدار مع أنهم لم ينكروا
عليه وأنه مظنة إنكار يدل على حدوث أمر لم يعهد قبل ذلك من كون المرور مع السترة
غير منكر فلو فرض سترة أخرى غير الجدار لم يكن لهذا الإخبار فائدة قوله بين يدي
بعض الصف هو مجاز عن القدام لأن الصف لا يد له وبعض الصف يحتمل أن يكون المراد به
صف من الصفوف أو بعض من الصف الواحد يعني المراد به إما جزء من الصف وإما جزئي منه
قوله ناهزت الاحتلام قال الشيخ تقي الدين فيه معنى يقتضي تأكيد الحكم وهو عدم
بطلان الصلاة بمرور الحمار لأنه استدل على ذلك بعدم الإنكار وعدم الإنكار على من
هو في مثل هذا السن أدل على هذا الحكم فإنه لو كان في سن عدم التمييز لاحتمل أن
يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته لصغر سنه فعدم الإنكار دليل على جواز المرور
(2/69)
والجواز دليل على عدم إفساد
الصلاة وقال عياض وقوله ناهزت الاحتلام يصحح قول الواقدي إن النبي توفي وابن عباس
ابن ثلاث عشرة سنة وقول الزبير بن بكار إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين
وما روي عن سعيد بن جبير عنه توفي النبي عليه الصلاة و السلام وأنا ابن خمس عشرة
سنة قال أحمد هذا هو الصواب وهو يرد رواية من يروي عنه أنه قال توفي النبي عليه
الصلاة و السلام وأنا ابن عشر سنين وقد يتأول إن صح على أن معناه راجع إلى ما بعده
وهو قوله وقد قرأت ( المحكم )
بيان استنباط الاحكام الأول فيه جواز سماع الصغير وضبطه السنن والتحمل لا يشترط
فيه كمال الأهلية وإنما يشترط عند الأداء ويلتحق بالصبي في ذلك العبد والفاسق
والكافر وقامت حكاية ابن عباس لفعل النبي وتقريره مقام حكاية قوله الثاني فيه
إجازة من علم الشيء صغيرا وأداه كبيرا ولا خلاف فيه وأخطأ من حكى فيه خلافا وكذا
الفاسق والكافر إذا أديا حال الكمال الثالث فيه احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح
منها فإن المرور أمام المصلين مفسدة والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة
فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار الرابع فيه جواز الركوب إلى صلاة
الجماعة الخامس قال المهلب فيه أن التقدم إلى القعود لسماع الخطبة إذا لم يضر أحدا
والخطيب يخطب جائز بخلاف ما إذا تخطى رقابهم السادس أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة
وعليه بوب أبو داود في ( سننه ) وما ورد من قطع ذلك محمول على قطع الخشوع السابع
فيه صحة صلاة الصبي الثامن فيه أنه إذا فعل بين يدي النبي شيء ولم ينكره فهو حجة
التاسع جواز إرسال الدابة من غير حافظ أو مع حافظ غير مكلف العاشر قال ابن بطال
وأبوعمر والقاضي عياض فيه دليل على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه وكذا بوب عليه
البخاري وحكى ابن بطال وأبو عمر فيه الإجماع قالا وقد قيل الإمام نفسه سترة لمن
خلفه وأما وجه الدلالة فقال عياض قوله فلم ينكر ذلك أحد لأنه إن كان النبي رآه وهو
الظاهر لقوله بين يدي الصف فهو حجة لتقريره وإن كان بموضع لم يره فقد رآه أصحابه
بجملتهم فلم ينكروه ولا أحد منهم فدل على أنه ليس عندهم بمنكر وقال غيره يحتمل أن
لفظة أحد تشمل النبي وغيره لما فيها من العموم لكنه ضعيف بأنه لا معنى لعدم إنكار
غير النبي مع حضوره وعدم إنكاره أيضا فيجوز أن يكون الصف ممتدا فلا يراه النبي
ولهذا أن ابن عباس ذكر الرائين ولم يذكر النبي احترازا منه قلت فعلى هذا لا يكون
من باب المرفوع قطعا بل مما يتوجه فيه الخلاف ويحتمل كما قالوا في شبهه وقال أبو
عمر حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا يخص بحديث ابن سعيد الخدري رضي الله عنه
يرفعه إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه قال فحديث أبي سعيد هذا يحمل
على الإمام والمنفرد فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث ابن عباس هذا قال
وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء ومما يوضحه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
النبي صلى بهم الظهر أو العصر فجاءت بهيمة تمر بين يديه فجعل يدرؤها حتى رأيته
ألصق منكبيه بالجدار فمرت من خلفه قلت أخرجه أبو داود من أبو داود من أوله كان
يصلي إلى جدر وفيه حتى ألصق بطنه بالجدر وبوب عليه باب سترة الإمام سترة لمن خلفه
قال والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إماما أو منفردا أو مصليا إلى سترة وأشد
منه أن يدخل المار بين السترة وبينه وأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه كما أن
الإمام أو المنفرد لا يضر واحد منهما ما مر من وراء سترته لأن سترة الإمام سترة
لمن خلفه وقد قيل إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه قال وهذا كله إجماع لا خلاف فيه
وقال ابن بطال اختلف أصحاب مالك فيمن صلى إلى غير سترة في فضاء يأمن أن يمر أحد
بين يديه فقال ابن القاسم يجوز ولا حرج عليه وقال ابن الماجشون ومطرف السنة أن
يصلي إلى سترة مطلقا قال وحديث ابن عباس يشهد لصحة قول ابن القاسم وهو قول عطاء
وسالم وعروة والقاسم والشعبي والحسن وكانوا يصلون في الفضاء إلى غير سترة وسيأتي
بسط الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى
77 - حدثني ( محمد بن يوسف ) قال حدثنا ( أبو مسهر ) قال حدثني ( محمد بن حرب )
حدثني
(2/70)
( الزبيدي ) عن ( الزهري ) عن
( محمود بن الربيع ) قال عقلت من النبي مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو
مطابقة الحديث للترجمة من حيث استدلالهم به على إباحة مج الريق على الوجه إذا كان
فيه مصلحة وعلى طهارته وغير ذلك وليس ذلك إلا لاعتبارهم نقل محمود بن الربيع فدل
على أن سماع الصغير صحيح والترجمة فيه بل مطابقة هذا الحديث للترجمة أشد من حديث
ابن عباس فإن من ناهز الاحتلام لا يسمى صغيرا عرفا ومحمود ابن الربيع أخبر بذلك
وعمره خمس سنين
بيان رجاله وهم ستة الأول محمد بن يوسف البيكندي أبو أحمد نص عليه البيهقي وغيره
وذلك لأن محمد بن يوسف الفريابي ليس له رواية عن أبي مسهر الثاني أبو مسهر بضم
الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء وبالراء واسمه عبد الأعلى أبو مسهر الغساني
الدمشقي قيل ما رؤي أحد في كورة من الكور أعظم قدرا ولا أجل عند أهلها من أبي مسهر
بدمشق وكان إذا خرج إلى المسجد اصطف الناس يسلمون عليه ويقبلون يده وحمله المأمون
إلى بغداد في أيام المحنة فجرد للقتل على أن يقول بخلق القرآن ومد رأسه إلى السيف
فلما رأوا ذلك منه حمل إلى السجن فمات ببغداد سنة ثمان عشرة ومائتين ودفن بباب
التين وقد لقيه البخاري وسمع منه شيئا كثيرا وحدث هنا بواسطة وذكر ابن المرابط
فيما نقله ابن رشيد عنه أن أبا مسهر تفرد برواية هذا الحديث وليس كما قال فإن
النسائي رواه في ( سننه الكبرى ) عن محمد بن المصفى عن محمد بن حرب وأخرجه البيهقي
في ( المدخل ) من رواية ابن جوصا بفتح الجيم والصاد المهملة عن سلمة بن الخليل
وابن التقي بفتح التاء المثناة من فوق وكسر القاف كلاهما عن محمد بن حرب فهؤلاء
ثلاثة غير أبي مسهر رووه عن محمد بن حرب فكأنه المنفرد به عن الزبيدي الثالث محمد
بن حرب بفتح الحاء وسكون الراء المهملتين وفي آخره باء موحدة هو الأبرش أي الذي
يكون فيه نكت صغار يخالف سائر لونه الخولاني الحمصي أبو عبد الله سمع الأوزاعي
وغيره وتقضى بدمشق وهو ثقة مات سنة أربع وسبعين ومائة روى له الجماعة الرابع أبو
الهذيل محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي الشامي الحمصي قاضيها الثقة الكبير المفتي
الكبير روى عن مكحول والزهري وغيرهما وعنه محمد بن حرب ويحيى بن حمزة وهو أثبت
أصحاب الزهري مات بالشام سنة سبع وقيل ثمان واربعين ومائة وهو شاب قاله أحمد بن
محمد بن عيسى البغدادي وقال ابن سعد ابن سبعين سنة روى له الجماعة سوى الترمذي
الخامس محمد بن مسلم الزهري السادس محمود بن الربيع بن سراقة بن عمرو بن زيد بن
عبدة ابن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث ابن الخزرج الأنصاري الخزرجي أبو
نعيم وقيل أبو محمد مدني مات سنة تسع وتسعين عن ثلاث وتسعين وهو ختن عبادة ابن
الصامت نزل بيت المقدس ومات بها
بيان الأنساب الغساني نسبة إلى غسان ماء بالمشلل قريب من الجحفة والذين شربوا منه
تسموا به وهم من ولد مازن بن الأزد فإن مازن جماع غسان فمن نزل من بنيه ذلك الماء
فهو غسان وذكر الرشاطي الغساني في الأزد وقال ابن هشام نسبوا إلى ماء بسد مأرب كان
شربا لولد مازن فسموا به الخولاني في قبائل حكى الهمداني في كتاب ( الإكليل ) قال
خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وخولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد
قال وخولان حضور وخولان ردع هو خولان بن قحطان وقال ابن قتيبة في كتاب ( المعارف )
وخولان بن سعد بن مذحج الزبيدي بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء
آخر الحروف والدال المهملة نسبة إلى زبيد قبيلة من مذحج بفتح الميم وسكون الذال
المعجمة وذكر الرشاطي الزبيدي في قبائل مذحج وغيرها فالذي في مذحج زبيد واسمه منبه
الأكبر بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك ومالك هو جماع مذحج قال ابن دريد زبيد تصغير
زبد والزبد العطية زبدته أزبده زبدا وفي الأزد زبيد بطن وهو زبيد بن عامر بن عمرو بن
كعب ابن الحارث الغطريف الأصغر بن عبد الله بن عامر الغطريف الأكبر بن بكر بن يشكر
بن بشير بن كعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن
مالك بن نصر بن الأزد وفي خولان القضاعية زبيد بطن ابن الخيار بن زياد بن سليمان
بن الناجش بن حرب بن سعد بن خولان
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ومنها
أن رواته إلى الزهري شاميون
(2/71)
ومنها أن هذا الحديث من أفراد
البخاري عن مسلم
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن علي بن عبد الله
عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان عن الزهري به وفي الدعوات عن
عبد العزيز بن عبد الله عن إبراهيم بن سعد به وأخرجه النسائي في العلم عن محمد بن
مصفى عن محمد بن حرب به وفي اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر
عن الزهري نحوه ولم يذكر وأنا ابن خمس سنين وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي
مروان محمد بن عثمان العثماني عن إبراهيم بن سعد به
بيان اللغات قوله عقلت أي عرفت ويقال معناه حفظت عن عقل يعقل من باب ضرب يضرب عقلا
ومعقولا وهو مصدر وقال سيبويه وهو صفة وكان يقول إن المصدر لا يتأتى على وزن مفعول
البتة قوله مجة يقال مج الشراب من فيه إذا رمى به وقال أهل اللغة المج إرسال الماء
من الفم مع نفخ وقيل لا يكون مجا حتى تباعد به وكذلك مج لعابه والمجاجة والمجاج
الريق الذي تمجه من فيك ومجاجة الشيء إيضا عصارته ويقال إن المطر مجاج المزن
والعسل مجاج النحل والمجاج أيضا اللبن لأن الضرع يمجه والتركيب يدل على رمي الشيء
بسرعة
بيان الإعراب قوله عقلت جملة من الفعل والفاعل مقول القول قوله مجة بالنصب مفعوله
قوله مجها جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على أنها صفة لمجة والضمير
فيها يرجع إلى المجة قوله في وجهي حال من مجه قوله من دلو أي من ماء دلو والدلو
يذكر ويؤنث وقوله وأنا ابن خمس سنين جملة إسمية من المبتدأ والخبر معترضة وقعت
حالا إما من تاء عقلت أو من ياء وجهي
بيان المعاني قوله وأنا ابن خمس سنين قد ذكرنا أن المتأخرين قد حددوا أقل سن
التحمل بخمس سنين وقال ابن رشيد الظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مظنة لذلك
لا أن بلوغها شرط لا بد من تحققه وليس في ( الصحيحين ) ولا في غيرهما من الجوامع
والمسانيد التقييد بالسن عند التحمل في شيء من طرقه إلا في طريق الزبيدي هذه وهو
من كبار الحفاظ المتقنين عن الزهري ووقع في رواية الطبراني والخطيب في ( الكفاية )
من طريق عبد الرحمن بن نمر بفتح النون وكسر الميم عن الزهري قال حدثني محمود بن
الربيع وتوفي النبي عليه الصلاة و السلام وهو ابن خمس سنين واستفيد من هذه الرواية
أن الواقعة التي ضبطها كانت في آخر سنة من حياة النبي عليه الصلاة و السلام وقد
ذكر ابن حبان وغيره أنه مات سنة تسع وتسعين وهو ابن أربع وتسعين سنة وهو مطابق
لهذه الرواية وذكر عياض في ( الإلماع ) وغيره أن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع
سنين وليس في الروايات شيء يصرح بذلك فكأن ذلك أخذ من قول ابن عمر أنه عقل المجة
وهو ابن أربع سنين أوخمس وكأن الحامل له على هذا التردد قول الواقدي إنه كان ابن
ثلاث وتسعين سنة لما مات والأول أصح قوله من دلو وفي رواية النسائي من دلو معلق
وفي ( الرقاق ) من رواية معمر من دلو كانت في دارهم وفي الطهارة والصلاة وغيرهما
من بئر بدل دلو ولا تعارض بينهما لأنه يتأول بأن الماء أخذ بالدلو من البئر
وتناوله النبي عليه الصلاة و السلام من الدلو
بيان استنباط الأحكام الأول فيه بركة النبي عليه الصلاة و السلام كما جاء من أنه
يحنك الصبيان بأن يأخذ التمرة يمضغها ويجعلها في فم الصبي وحنك بها حنكه بالسبابة
حتى تحللت في حلقه وكانت الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على ذلك إرادة بركته عليه
الصلاة و السلام لأولادهم كما رأوا بركته في المحسوسات والأجرام من تكثير الماء
بمجه في فرلادين وفي بئر الحديبية الثاني فيه جواز سماع الصغير وضبطه بالسنن
الثالث قال التيمي فيه جواز مداعبة الصبي إذ داعبه النبي عليه الصلاة و السلام
فأخذ ماء من الدلو فمجه في وجهه
فائدة تعقب ابن أبي صفرة على البخاري من ذكره حديث محمود بن الربيع في اعتبار خمس
سنين وإعقاله حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه رأى أباه يختلف إلى بني
قريظة في يوم الخندق ويراجعهم ففيه السماع منه وكان سنه إذ ذاك ثلاث سنين أو أربع
فهو أصغر من محمود وليس في قصة محمود ضبطه لسماع شيء فكان ذكره حديث ابن الزبير
أولى لهذين المعنيين وأجيب بأن البخاري إنما أراد نقل السنن النبوية لا الأحوال
(2/72)
الوجودية ومحمود نقل سنة
مقصودة في كون النبي عليه الصلاة و السلام مج مجة في وجهه لإفادته البركة بل في
مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية يثبت بها كونه صحابيا وأما قصة ابن الزبير فليس فيها
نقل سنة من السنن النبوية حتى يدخل في هذا الباب وقال الزركشي في ( تنقيحه )
ويحتاج المهلب إلى ثبوت أن قضية ابن الزبير صحيحة على شرط البخاري قلت هذا غفلة
منه فإن قضية ابن الزبير المذكورة أخرجها البخاري في مناقب الزبير في ( الصحيح )
والجواب ما ذكرناه والله أعلم
19 -
( باب الخروج في طلب العلم )
أي هذا باب في بيان الخروج لأجل طلب العلم وأطلق الخروج ليشمل سفر البحر والبر وجه
المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول إقبال ابن عباس إلى رسول
الله وهو في الصلاة ودخوله فيها معه ثم إخباره ذلك كله لمن روى عنه الحديث وفي ذلك
كله معنى طلب العلم ومعنى الخروج في طلبه ومع هذا كان ذكر هذا الباب عقيب باب ما
ذكره في ذهاب موسى إلى الخضر في البحر أنسب وأليق على ما لا يخفى
ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد
الكلام فيه على أنواع الأول أنه أراد بذكر هذا الأثر المعلق التنبيه على فضيلة
السفر والرحلة في طلب العلم برا وبحرا
الثاني أن جابر بن عبد الله هو الأنصاري الصحابي المشهور وعبد الله بن أنيس بضم
الهمزة مصغر أنس ابن مسعد الجهني بضم الجيم وفتح الحاء حليف الأنصار شهد العقبة مع
السبعين من الأنصار وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد وبعثه رسول الله وحده سرية
واختلف في شهوده بدرا له خمسة وعشرون حديثا روى له مسلم حديثا واحدا في ليلة القدر
وروى له الأربعة ولم يذكره الكلاباذي وغيره فيمن روى له البخاري وقد ذكر البخاري
في كتاب ( الرد على الجهمية ) ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنيس
فذكره توفي بالشام سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنه وفي ( سنن أبي
داود ) والترمذي عن عبد الله بن أنيس الأنصاري عنه ابنه عيسى ولعله الأول وفي
الصحابة أو أنيس عبد الله بن أنيس أو أنيس قيل هو الذي رمى ماعزا لما رجموه فقتله
وعبد الله بن أنيس قتل يوم اليمامة وعبد الله بن أنيس العامري له وفادة ومن رواية
يعلى بن الأشدق وعبد الله بن أبي أنيسة قال الوليد بن مسلم ثنا داود بن عبد الرحمن
المكي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر سمعت حديثا في القصاص لم يبق أحد يحفظه
إلا رجل بمصر يقال له عبد الله بن أبي أنيسة
الثالث قوله في حديث واحد أي لأجل حديث واحد وكلمة في تجيء للتعليل كما في قوله
تعالى فذلكن الذي لمتنني فيه ( يوسف 32 ) وقوله لمسكم فيما افضتم ( النور 14 ) وفي
الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها
الرابع قال ابن بطال أراد بقوله في حديث واحد حديث الستر على المسلم قيل فيه نظر
لأنه يقال إن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري رحل إلى عقبة بن عامر أخرجه الحاكم
حدثنا علي بن حماد حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن ابن جريج عن
أبي سعيد الأعمى عن عطاء بن أبي رباح قال خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر يسأله عن
حديث سمعه من رسول الله لم يبق أحد سمعه من رسول الله غيره وغير عقبة فلما قدم أبو
أيوب منزل سلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر فاخبره فعجل عليه فخرج إليه فعانقه ثم
قال ما جاء بك يا أبا أيوب قال حديث سمعته من رسول الله لم يبق أحد سمعه من رسول
الله عليه السلام غيري وغيرك في ستر المؤمن قال عقبة نعم سمعت رسول الله يقول من
ستر مؤمنا في الدنيا على عورة ستره الله يوم القيامة فقال له أبو أيوب صدقت ثم
انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعا إلى المدينة وفي ( مسند عبد الله بن وهب )
صاحب مالك أنبأنا عبد الجبار بن عمر حدثنا مسلم بن أبي حرة عن رجل من الأنصار عن
رجل من أهل قبا أنه قدم مصر على مسلمة بن مخلد فقال أرسل معي إلى فلان رجل من
الصحابة قال حسبت أنه قال سرق قال فذهب إليه في قريته فقال هل تذكر مجلسا كنت أنا
وأنت فيه مع النبي ليس أحد معنا قال نعم قال كيف سمعته يقول فقال سمعته يقول من
أطلع من أخيه على عورة ثم سترها جعلها الله له يوم القيامة
(2/73)
حجابا من النار قال كنت أعرف
ذلك ولكن أوهمت الحديث فكرهت أن أحدث به على غير ما كان ثم ركب راحلته ورجع وقال
ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن أبيه عن مولى لخارجة عن أبي صياد الأسود
الأنصاري وكان عريفهم أن رجلا قدم على مسلمة بن مخلد فلم ينزل وقال أرسل معي إلى
عقبة بن عامر فأرسل معه أبا صياد فقال الرجل لعقبة هل تذكر مجلسا لنا فيه عند
النبي عليه الصلاة و السلام فقال نعم فقال من ستر عورة مؤمن كانت له كموؤودة
أحياها فقال عقبة نعم فكبر الرجل قال لهذا ارتحلت من المدينة ثم رجع والصحيح أن
المراد من قوله في حديث واحد هو الذي أخرجه البخاري في كتاب ( الرد على الجهمية )
آخر الكتاب فقال ونذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنيس سمعت النبي عليه
الصلاة و السلام يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من
قرب أنا الملك أنا الديان لم يزد البخاري على هذا ورواه أحمد وأبو يعلى في (
مسنديهما ) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول بلغني
عن رجل حديث سمعه عن رسول الله عليه الصلاة و السلام فاشتريت بعيرا ثم شددت رحلي
فسرت إليه شهرا حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب قل له جابر بن
عبد الله على الباب فقال ابن عبد الله قلت نعم فخرج فاعتنقني فقلت حديث بلغني عنك
أنك سمعته من رسول الله عليه الصلاة و السلام فخشيت أن أموت قبل أن أسمعك فقال
سمعت رسول الله يقول يحشر الله الناس يوم القيامة عراة غرلا بهما فيناديهم بصوت
يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأهل الجنة أن يدخل
الجنة واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى يقتصه منه حتى اللطمة قال وكيف وإنما
نأتي عراة غرلا قال بالحسنات والسيئات وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب العلم عن شيبان
حدثنا همام حدثنا القاسم بن عبد الواحد حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل أن جابرا
حدثه إلى آخره وأخرجه أيضا الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن هدبة عن همام بسنده
نحوه وأخرجه أيضا نصر المقدسي في كتاب ( الحجة على تارك المحجة ) عن علي ابن طاهر
حدثنا الحسين بن خراش حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو الوليد
الطيالسي ثنا همام إلى آخره فإن قلت ذكر أبو سعيد بن يونس بسنده عن جابر قال بلغني
حديث في القصاص عن عقبة بن عامر وهو بمصر فاشتريت بعيرا فشددت عليه رحلا وسرت إليه
شهرا حتى أتيت مصر وذكر الحديث وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين وتمام في (
فوائده ) من طريق الحجاج بن دينار عن محمد بن المنكدر عن جابر قال كان بلغني عن
النبي حديث في القصاص وكان صاحب الحديث بمصر فاشتريت بعيرا فسرت حتى وردت مصر
فقصدت إلى باب الرجل فذكر نحو الحديث المذكور وإسناده صالح وروى الخطيب في كتاب (
الرحلة ) من حديث عبدالوارث بن سعيد عن القاسم بن عبد الواحد عن ابن عقيل عن جابر
قال تقدمت على ابن أنيس بمصر ورواه أيضا من طريق عيسى الغنجار عن عمر بن صالح عن
مقاتل بن حبان عن أبي جارود العبسي عن جابر فأتيت مصر فإذا هو بباب الرجل فخرج إلي
وفيه والرب على عرشه ينادى بصوت رفيع غير فظيع الحديث قلت يحتمل أن يكونا واقعتين
إحداهما لعبد الله بن أنيس والأخرى لعقبة بن عامر رضي الله عنهما قوله عراة جمع
عار قوله غرلا بضم الغين المعجمة وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف وقوله بهما بضم
الباء الموحدة قال الجوهري ليس معهم شيء ويقال أصحاء قلت يعني ليس فيهم شيء من
العاهات كالعمى والعور وغيرهما وإنما أجساد صحيحة للخلود إما في الجنة وإما في
النار والبهم في الأصل الذي يخالط لونه لون سواد قوله فيناديهم بصوت قال القاضي
المعنى يجعل ملكا ينادي أو يخلق صوتا ليسمعه الناس وأما كلام الله تعالى فليس بحرف
ولا صوت وفي رواية أبي ذر فينادي بصوت على ما لم يسم فاعله
الخامس ادعت جماعة أن البخاري قد نقض قاعدته وذلك أن من قواعده أنه يذكر التعليق
إذا كان صحيحا بصيغة الجزم وإذا كان ضعيفا بصيغة التمريض وهنا قال ورحل جابر بن
عبد الله بصيغة الجزم وقال في أواخر ( صحيحة ) ويذكر جابر بصيغة التمريض وأجاب عنه
الشيخ قطب الدين بأنه جزم بالرحلة دون الحديث فعند ما ذكر الحديث اتى بصيغة
التمريض فقال ويذكر عن جابر بن عبد الله
78 - حدثنا ( أبو القاسم خالد بن خلي ) قال حدثنا ( محمد بن حرب ) قال قال (
الأوزاعي ) أخبرنا ( الزهري )
(2/74)
عن ( عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة بن مسعود ) عن ( ابن عباس ) أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في
صاحب موسى فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في
صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه هل سمعت رسول الله يذكر شأنه فقال ابي نعم
سمعت النبي يذكر شأنه يقول بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال
أتعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى الله عز و جل إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل
السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه
فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر فقال فتى موسي لموسى أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة
فاني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره قال موسى ذلك ما كنا نبغي
فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وقد عقد على هذا الحديث بابين بترجمتين الأول باب ما
ذكر في ذهاب موسى عليه السلام في البحر إلى الخضر والثاني هذا الباب
والتفاوت في بعض الرواة فإن هناك عن محمد بن غرير عن يعقوب عن إبراهيم عن أبيه عن
صالح عن ابن شهاب هو الزهري وههنا عن أبي القاسم خالد بن خلي عن محمد بن حرب عن الأوزاعي
عن الزهري وكذا التفاوت في بعض الألفاظ فإن هناك قال ابن عباس هو خضر بعد قوله في
صاحب موسى وقبل قوله فمر بهما أبي بن كعب وهناك هل سمعت النبي وههنا هل سمعت رسول
الله وهناك قال نعم سمعت رسول الله وههنا نعم سمعت النبي يذكر شأنه وهناك جاء رجل
في أكثر الروايات وههنا إذ جاءه وهناك فقال هل تعلم أحدا وههنا فقال تعلم أحدا
وهناك فكان يتبع الحوت وههنا فكان موسى يتبع أثر الحوت وهناك فقال لموسى فتاه أريت
وههنا فقال فتى موسى لموسى أرأيت ووقع ههنا في رواية ابن عساكر تمارى والحر بغير
لفظه هو وهو عطف على المرفوع المتصل بغير التأكيد بالمنفصل وذلك جائز عند الكوفيين
وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى
وكذا الكلام في رجاله ما خلا شيخ البخاري والأوزاعي أما شيخه فهو أبو القاسم خالد
بن خلي الحمصي الكلاعي من حديث عبد الوارث بن سعيد عن القاسم بن عبد الواحد عن ابن
عقيل عن جابر انفرد به البخاري عن مسلم وهو قاضي حمص صدوق أخرج له ههنا وفي
التعبير روى عن بقية وطبقته وعنه ابنه محمد وأبو زرعة الدمشقي وأخرج له من أهل
السنن النسائي فقط وخلي بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وتشديد الياء على وزن علي
وقال بعضهم وقع عند الزركشي مضبوطا بلام مشددة وهو سبق قلم أو خطأ من الناسخ قلت
ليس الزركشي ضبطه هكذا وإنما قال بخاء معجمة مفتوحة ولام مكسورة وياء مشددة بوزن
علي وأما الأوزاعي فهو أحد الأعلام أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد وقيل كان
اسمه عبد العزيز فسمى نفسه عبد الرحمن أحد اتباع التابعين كان يسكن دمشق خارج باب
الفراديس ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن مات في سنة سبع وخمسين ومائة آخر
خلافة أبي جعفر دخل الحمام فذهب الحمامي في حاجة وأغلق عليه الباب ثم جاء ففتح
عليه الباب فوجده ميتا متوسدا يمينه مستقبل القبلة رحمه الله وكان مولده ببعلبك
سنة ثمان وثمانين وكان أصله من سبي الهند روى عن عطاء ومكحول وغيرهما ورأى ابن
سيرين وعنه قتادة ويحيى بن أبي كثير وهما من شيوخه وكان رأسا في العبادة والعلم
وكان أهل الشام والمغرب على مذهبه قبل انتقالهم إلى مذهب مالك وسئل عن الفقه يعني
استفتي وهو ابن ثلاث عشرة وقيل إنه أفتى في ثمانين ألف مسألة ونسبته إلى الأوزاع
بفتح الهمزة قيل إنها قرية بقرب دمشق خارج باب الفراديس سميت بذلك لأنه سكنها في
صدر الإسلام قبائل شتى وقيل الأوزاع بطن من حمير وقيل من همدان بسكون الميم وقيل
هو نسبة إلى
(2/75)
أوزاع القبائل أي فرقها
وبقاياها مجتمعة من قبائل شتى
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن فيه حدثنا محمد
بن حرب قال الأوزاعي وفي رواية الأصيلي حدثنا الأوزاعي ومنها أن فيه أخبرنا الزهري
وفي الطريق السابقة عن صالح عن ابن شهاب وابن شهاب هو الزهري وهذا الاختلاف من
جملة ضبط البخاري وقوة احتياطه حيث يقول تارة ابن شهاب وتارة الزهري وتارة محمد بن
مسلم لأنه ينقله في كل موضع باللفظ الذي نقله شيخه
20 -
( باب فضل من علم وعلم )
أي هذا باب في بيان فضل من علم بتخفيف اللام المكسورة أي صار عالما وعلم بفتح
اللام المشددة من التعليم أي علم غيره
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو بيان حال العالم
والمعلم وهذا الباب في بيان فضلهما
79 - حدثنا ( محمد بن العلاء ) قال حدثنا ( حماد بن أسامة ) عن ( بريد بن عبد الله
) عن ( أبي بردة ) عن ( أبي موسى ) عن النبي قال مثل ما بعثني الله به من الهدى
والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ
والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا
وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من
فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم
يقبل هدى الله الذي أرسلت به
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الباب معقود على قوله في الحديث فعلم وعلم وفضل
من باشر العلم والتعليم ظاهر منه لأنه في معرض المدح على سبيل التمثيل على ما
نبينه عن قريب إن شاء الله تعالى
بيان رجاله وهم خسمة الأول محمد بن العلاء بالمهملة وبالمد ابن كريب الهمداني
بسكون الميم والدال المهملة المكنى بأبي كريب بضم الكاف مصغر كرب بالموحدة وشهرته
بالكنية أكثر روى عنه الجماعة وآخرون وهو صدوق لا بأس به وهو مكثر قال أبو العباس
بن سعيد ظهر له بالكوفة ثلاثة مائة ألف حديث مات سنة ثمان وأربعين ومائتين الثاني
أبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد الهاشمي القرشي الكوفي مولى الحسن بن علي أو غيره
وشهرته بكنيته أكثر روى عن بريد وغيره وأكثر عن هشام ابن عروة له عنه ستمائة حديث وعنه
الشافعي وأحمد وغيرهما وكان ثقة ثبتا صدوقا حافظا حجة اخباريا روي عنه أنه قال
كتبت بإصبعي هاتين مائة ألف حديث مات سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين سنة فيما
قيل وليس في ( الصحيحين ) من هو بهذه الكنية سواه وفي النسائي أبو أسامة الرقي
النخعي زيد بن علي بن دينار صدوق وليس في الكتب الستة من اشتهر بهذه الكنية سواهما
روى له الجماعة الثالث بريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف
وبالدال المهملة ابن عبد الله بن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري والمكنى بأبي بردة
الكوفي وقد تقدم الرابع أبو بردة بضم الباء الموحدة وسكون الراء عامر بن أبي موسى
الأشعري وقد تقدم الخامس أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري وقد تقدم
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن بريدا يروي عن جده وجده
عن أبيه وهذه لطيفة
(2/76)
ومنها أن رواته كلهم كوفيون
ومنها أن فيه عن أبي بردة عن أبي موسى ولم يقل عن أبي بردة عن أبيه قال بعضهم إنما
قال ذلك تفننا قلت التفنن هو التنوع في أنواع الكلام وأساليبه من الفن واحد الفنون
وهي الأنواع ولا يكون ذلك إلا باختلاف العبارات وليس ههنا إلا عبارة واحدة فكيف
يكون من هذا القبيل
بيان من أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا فقط وأخرجه مسلم في فضائل النبي عن أبي بكر
بن أبي شيبة وعبد الله بن براد وأبي كريب والنسائي في العلم عن القاسم بن زكريا
الكوفي ثلاثتهم عن أبي أسامة عنه به
بيان اللغات قوله مثل بفتح الميم والثاء المثلثة المراد به ههنا الصفة العجبية لا
القول السائر قوله من الهدى قال الجوهري الهدى الرشاد والدلالة يذكر ويؤنث يقال
هداه الله للدين هدى وهديته الطريق والبيت هداية أي عرفته هذه لغة أهل الحجاز
وغيرهم تقول هديته إلى الطريق وإلى الدار حكاها الأخفش وهدى واهتدى بمعنى وفي
الاصطلاح الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية قوله والعلم هو صفة توجب تمييزا لا
يحتمل متعلقه النقيض والمراد به ههنا الأدلة الشرعية قوله الغيث هو المطر وغيثت
الأرض فهي مغيثة ومغيوثة يقال غاث الغيث الأرض إذا أصابها وغاث الله البلاد يغيثها
غيثا قوله نقية بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء آخر الحروف من النقاء هكذا هو
عند البخاري في جميع الروايات ووقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر
ثغبة بفتح الثاء المثلثة وكسر الغين المعجمة بعدها باء موحدة خفيفة مفتوحة قال
الخطابي هي مستنقع الماء في الجبال والصخور وقال الصغاني الثغب بالتحريك الغدير
يكون في ظل جبل لا تصيبه الشمس فيبرد ماؤه والجمع ثغبان مثل شبث وشبثان وقد يسكن
فيقال ثغب ويجمع على ثغبان مثل ظهر وظهران ويجمع على ثغاب أيضا وقال صاحب (
المطالع ) هذه الرواية غلط من الناقلين وتصحيف وإحالة للمعنى لأنه إنما جعلت هذه
الطائفة الأولى مثلا لما تنبت والثغبة لا تنبت ويروى بقعة ويروى طيبة كما في رواية
مسلم قوله قبلت الماء من القبول وهي بفتح القاف وكسر الباء الموحدة قال الشيخ قطب
الدين وهذا الموضع لا خلاف فيه قلت أشار به إلى أن الخلاف في قوله قال إسحاق وكان
منها طائفة قبلت الماء يعني هل يقال فيه بالباء الموحدة أو بالياء آخر الحروف على
ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى وقال بعضهم كذا هو في معظم الروايات ووقع عند
الأصيلي قيلت بتشديد الياء آخر الحروف قلت ذكر هذا ههنا غير مناسب لأن هذا الموضع
لا خلاف فيه كما قاله الشيخ قطب الدين وإنما يذكر هذا عند قول إسحاق قوله الكلأ
بفتح الكاف واللام وفي آخره همزة بلا مد قال الصغاني الكلأ العشب وقد كلئت الأرض
فهي كليئة ثم قال في باب العشب العشب الكلأ الرطب ولا يقال له حشيش حتى يهيج
وأعشبت الأرض إذا أنبتت العشب وقال في باب الحشيش الحشيس الكلأ اليابس ولا يقال له
رطب حشيش قلت علم من كلامه أن الكلأ يطلق على الرطب من النبات واليابس منه وكذا
صرح به ابن فارس والجوهري والقاضي عياض الكلأ يطلق على الرطب واليابس من النبات
وفهم من قول الصغاني أيضا أن الحشيش لا يطلق على الرطب كذا صرح به الجوهري وهو
منقول عن الأصمعي ذكره البطليوسي في ( أدب الكتاب ) ونقل عن أبي حاتم إطلاقه عليه
وقال الكرماني الكلأ بالهمزة هو النبات يابسا ورطبا وأما العشب والخلاء مقصورا
فمختصان بالرطب والحشيش مختص باليابس قلت قال الجوهري الخلاء مقصور الحشيش اليابس
الواحدة خلاءة والصواب مع الكرماني فالجوهري سهى فيه لأن الخلاء الرطب فإذا يبس
فهو حشيش قوله أجادب بالجيم وبالدال المهملة جمع جدب على غير قياس كما قالوا في
حسن جمعه محاسن والقياس أنه جمع محسن أو جمع جديب وهو من الجدب الذي هو القحط
والأرض الجدبة التي لم تمطر والمراد ههنا الأرض التي لا تشرب لصلابتها فلا تنبت
شيئا وفي ( العباب ) أرض جدبة وجدوب أيضا وارضون جدوب ومكان جدب وجديب بين الجدوبة
وعام جدب واجدب القوم أصابهم الجدب وأجدبت أرض كذا أي وجدتها جدبة وقال ابن السكيت
جادبت الإبل العام إذا كان العام محلا فصارت لا تأكل إلا الدرين الأسود ودرين
الثمام وهكذا هو عامة الروايات في البخاري ورواية مسلم أيضا هكذا وضبطه المازري
بالذال المعجمة وكذا ذكره الخطابي وقال هي صلاب الأرض التي تمسك الماء وقال القاضي
هذا وهم قلت إن صح ما قاله الخطابي يكون من الجذب وهو انقطاع الريق قاله أبو عمرو
ويقال للناقة إذا قل لبنها قد جذبت فهي جاذب والجمع جواذب
(2/77)
وجذاب أيضا مثل نائم ونيام
ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب أحارب بحاء وراء مهملتين قال
الإسماعيلي لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي ليست هذه الرواية بشيء قلت إن صح هذا
يكون من الحرباء وهي النشز من الأرض ومثل هذه لا تمسك الماء لأنه ينحدر عنها وقال
الخطابي قال بعضهم أجارد بجيم وراء ثم دال مهملة جمع جرداء وهي البارزة التي لا
تنبت شيئا قال وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية وقال الأصمعي الأجارد من الأرض
التي لا تنبت الكلأ معناه أنها جرداء بارزة لا يسترها النبات وفي رواية أبي ذر
إخاذات بكسر الهمزة والخاء والذال المعجمتين وفي آخره تاء مثناة من فوق جمع إخاذة
وهي الأرض التي تمسك الماء ويقال هي الغدران التي تمسك الماء وقال أبو الحسين عبد
الغافر الفارسي هو الصواب وقال الشيخ مغلطاي قال بعضهم إنما هي أخذات سقط منها
الألف والأخذات مساكات الماء واحدتها اخذة قلت على ما قاله البعض ينبغي أن تفتح
الهمزة في الأخذات وفي الأخذة أيضا الذي هو مفردها وليس كذلك بل هي بكسر الهمزة في
الجمع والمفرد وفي ( العباب ) الأخذ جمع إخاذ وهو كالغدير مثال كتاب وكتب وقال أبو
عبيدة الأخاذة والأخاذ بالهاء وبغير الهاء صنع للماء ليجتمع فيه وسمي إخاذا لأنه
يأخذ ماء السماء ويقال له المساكة لأنه تمسكه ونهيا ونهيا وتنهية لأنه ينهاه
ويحبسه ويمنعه من الجري ويسمى حاجزا لأنه يحجزه حائرا لأنه يحار الماء فيه فلا
يدري كيف يجري وقال صاحب ( المطالع ) هذه كلها منقولة مروية قلت وليس في ( الصحيحين
) إلا روايتان وقال القاضي عياض في ( شرح مسلم ) لم يرو هذا الحرف في مسلم وغيره
إلا بالدال المهملة من الجدب الذي ضد الخصب وعليه شرح الشارحون قوله وسقوا قال أهل
اللغة سقى واسقى بمعنى لغتان وقيل سقاه ناوله ليشرب وأسقاه جعل له سقيا قوله طائفة
أي قطعة أخرى من الأرض قوله قيعان بكسر القاف جمع القاع وهي الأرض المتسعة وقيل
الملساء وقيل التي لا نبات فيها وهذا هو المراد في الحديث قلت أصل قيعان قوعان
قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها والقاع يجمع أيضا على قوع وأقواع والقيعة
بكسر القاف بمعنى القاع قوله من فقه قال النووي روي هنا بالوجهين بالضم والكسر
والضم أشهر قلت الفقه الفهم يقال فقه بكسر القاف كفرح يفرح وأما الفقه الشرعي
فقالوا يقال منه فقه بضم القاف وقال ابن دريد بكسرها والمراد به ههنا هو الثاني
فتضم القاف على المشهور على قول ابن دريد تكسر وقد مر الكلام مستوفى
بيان الإعراب قوله مثل ما كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله كمثل الغيث و ما موصولة
وبعثني الله جملة صلتها والعائد قوله به قوله من الهدى كلمة من بيانية قوله والعلم
بالجر عطف عليه قوله أصاب أرضا جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على
الحال بتقدير قد قوله فكان الفاء للعطف ونقية بالرفع اسم كان ومنها مقدما خبره
قوله قبلت الماء جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع على أنها صفة لنقية
قوله فانبتت عطف على قبلت و الكلأ منصوب به و العشب عطف عليه و الكثير بالنصب صفة
العشب قوله وكانت عطف على قوله فكان و أجادب بالرفع اسم كان وخبره قوله منها مقدما
قوله أمسكت الماء جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع على أنها صفة أجادب
قوله فنفع الله جملة معطوفة على التي قبلها و الفاء التعقيبية يكون التعقيب فيها
بحسب الشيء الذي يدخل فيه قوله فشربوا وسقوا وزرعوا جمل عطف بعضها على بعض قوله
وأصاب عطف على قوله أصاب أرضا والضمير فيه يرجع إلى الغيث كما في أصاب الأول و
طائفة منصوب به لأنه مفعول و أخرى صفة طائفة قوله منهاحال متقدم من طائفة وقد علم
أن الحال إذا كان عن نكرة تتقدم على صاحبها وفي رواية الأصيلي وكريمة أصابت
والتقدير أصابت طائفة أخرى ووقع كذلك صريحا عند النسائي قوله إنما هي قيعان أي ما
هي إلا قيعان لأن إنما من أدوات الحصر و هي مبتدأ و قيعان خبره قوله لا تمسك ماء
في محل الرفع لأنه صفة قيعان قوله ولا تنبت كلأ عطف عليه وهو أيضا صفته قوله فكذلك
الفاء فيه تفصيلية وذلك إشارة إلى ما ذكر من الأقسام الثلاثة وهو في محل الرفع على
الابتداء وقوله مثل من فقه كلام إضافي خبره قوله ونفعه جملة من الفعل والمفعول عطف
على من فقه وقوله ما بعثني الله في محل الرفع على أنه فاعل لقوله ونفعه و ما
موصولة وبعثني الله به جملة صلتها قوله فعلم عطف على قوله فقه و علم عطف على علم
قوله ومثل من كلام إضافي عطف على قوله مثل
(2/78)
من فقه و من موصولة و لم يرفع
بذلك رأسا صلتها قوله ولم يقبل عطف على من لم يرفع و هدى الله كلام إضافي مفعول لم
يقبل وقوله الذي أرسلت به في محل النصب لأنه صفة هدى و أرسلت مجهول والضمير في به
يرجع إلى الذي فافهم
بيان المعانيفيه عطف المدلول على الدليل لأن الهدى هو الدلالة والعلم هو المدلول
وجهة الجمع بينهما هو النظر إلى أن الهدى بالنسبة إلى الغير أي التكميل والعلم
بالنسبة إلى الشخص أي الكمال ويقال الهدى الطريقة والعلم هو العمل وفيه عطف الخاص
على العام لأن العشب أعم من الكلأ كما ذكرناه والتخصيص بالذكر لفائدة الاهتمام به
لشرفه ونحوه وفيه حذف المفاعيل من قوله فشربوا وسقوا وزرعوا لكونها معلومة ولأنها
فضلة في الكلام والتقدير فشربوا من الماء وسقوا دوابهم وزرعوا ما يصلح للزرع وفيه
ضرب الأمثال وقال الخطابي هذا مثل ضرب لمن قبل الهدى وعلم ثم علم غيره فنفعه الله
ونفع به ومن لم يقبل الهدى فلم ينفع بالعلم ولم ينتفع به قلت فعلى هذا لم يجعل
الناس على ثلاثة أنواع بل على نوعين وقال الطيبي القسمة الثنائية هي المتصورة وذلك
أن أصاب منها طائفة معطوف على أصاب أرضا و كانت الثانية معطوفة على كان لا على
أصاب وقسمت الأرض الأولى إلى النقية وإلى الاجادب والثانية على عكسها وفي كان ضم
وتر إلى وتر وفي أصاب ضم شفع إلى شفع وهو نحو قوله تعالى إن المسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات ( الأحزاب 35 ) من جهة أنه عطف الإناث على الذكور أولا ثم عطف
الزوجين على الزوجين وكذا ههنا عطف كانت على كانت ثم عطف أصاب على أصاب فالحاصل
أنه قد ذكر في الحديث الطرفان العالي في الاهتداء والعالي في الضلال فعبر عمن قبل
هدى الله والعلم بقوله فقه وعن أبى قبولها بقوله لم يرفع بذلك رأسا لأن ما بعدها وهو
نفعه إلى آخره في الأول ولم يقبل هدى الله إلى آخره في الثاني عطف تفسيري لفقه
ولقوله لم يرفع وذلك لأن الفقيه هو الذي علم وعمل ثم علم غيره وترك الوسط وهو
قسمان أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه فحسب والثاني الذي لم ينتفع هو بنفسه ولكن
نفع الغير وقال المظهري في ( شرح المصابيح ) إعلم أنه ذكر في تقسيم الأرض ثلاثة
أقسام وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين أحدهما من فقه ونفع الغير والثاني
من لم يرفع به رأسا وإنما ذكره كذلك لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم
واحد من حيث إنه ينتفع به والثاني هو ما لا ينتفع به وكذلك الناس قسمان من يقبل
ومن لا يقبل وهذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين من ينتفع به ومن لا ينتفع
وأما في الحقيقة فالناس على ثلاثة أقسام فمنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به
ولم يبلغ درجة الإفادة ومنهم من يقبل ويبلغ ومنهم من لا يقبل وقال الكرماني ويحتمل
لفظ الحديث تثليث القسمة في الناس أيضا بأن يقدر قبل لفظة نفعه كلمة من بقرينة
عطفه على من فقه كما في قوله حسان رضي الله عنه
( أمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء )
إذ تقديره ومن يمدحه وحينئذ يكون الفقيه بمعنى العالم بالفقه مثلا في مقابلة
الأجادب والنافع في مقابلة النقية على اللف والنشر غير المرتب ومن لم يرفع في
مقابلة القيعان فإن قلت لم حذف لفظة من قلت إشعارا بأنهما في حكم شيء واحد أي في
كونه ذا انتفاع في الجملة كما جعل للنقية والاجادب حكما واحدا ولهذا لم يعطف بلفظ
أصاب في الأجادب انتهى وقال النووي معنى هذا التمثيل أن الأرض ثلاثة أنواع فكذلك
الناس فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فتحيي بعد أن كانت ميتة وتنبت الكلأ
فينتفع به الناس والدواب والنوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه ويحيي
قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع والنوع الثاني من الأرض ما لا يقبل
الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع به الناس والدواب
وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أذهان ثاقبة ولا رسوخ لهم
في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام وليس لهم اجتهاد في العمل به فهم يحفظونه
حتى يجيء أهل العلم للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بما بلغهم
والثالث من الأرض هو السباخ التي لا تنبت فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به
غيرها وكذلك الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا
العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم الأول المنتفع النافع والثاني النافع
غير المنتفع والثالث غير النافع وغير المنتفع فالأول إشارة إلى العلماء والثاني
إلى النقلة والثالث إلى من لا علم له ولا عقل قلت الصواب مع الطيبي لأن تقسيم
الأرض وإن كان ثلاثة
(2/79)
بحسب الظاهر ولكنه في الحقيقة
قسمان لأن النوعين محمودان والثالث مذموم وتقسيم الناس نوعان أحدهما ممدوح أشار
إليه بقوله مثل من فقه في دين الله تعالى الخ والآخر مذموم أشار إليه بقوله ومثل
من لم يرفع بذلك رأسا وما ذكره الكرماني تعسف وهذا التقدير الذي ذكره غير سائغ في
الاختيار وباب الشعر واسع وأيضا يلزمه أن يكون تقسيم الناس أربعة الأول قوله مثل
من فقه في دين الله تعالى والثاني قوله ونفعه ما بعثني الله به على قوله والثالث
قوله ومثل من لم يرفع بذلك رأسا والرابع ولم يقبل هدى الله قوله فنفع الله بها أي
بأجادب وفي رواية الأصيلي به وتذكيره الضمير باعتبار الماء قوله وزرعوا من الزرع
كذا رواية البخاري ولمسلم والنسائي وغيرهما ورعوا من الرعي قال النووي كلاهما صحيح
ورجح القاضي عياض رواية مسلم وقال هو راجع إلى الأولى لأن الثانية لم يحصل منها
نبات قلت ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه
أرض أخرى فأنبتت وقال الشيخ قطب الدين ويحتمل أن يريد بقوله ورعوا الناس الذي
أخذوا العلم عن الذين حملوه على الناس وهم غير الأصناف الثلاثة على رأي جماعة وروي
ووعوا وهو تصحيف قوله من لم يرفع بذلك رأسا يعني تكبر يقال ذلك ويراد به أنه لم
يلتفت إليه من غاية تكبره
بيان البيان فيه تشبيه ما جاء به النبي عليه الصلاة و السلام من الدين بالغيث
العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه وتشبيه السامعين له بالأرض المختلفة
فالأول تشبيه المعقول بالمحسوس والثاني تشبيه المحسوس بالمحسوس وعلى قول من يقول
بتثليث القسمة يكون ثلاث تشبيهات على ما لا يخفى ويحتمل أن يكون تشبيها واحدا من
باب التمثيل أي تشبيه صفة العلم الواصل إلى أنواع الناس من جهة اعتبار النفع وعدمه
بصفة المطر المصيب إلى أنواع الأرض من تلك الجهة قوله فذلك مثل من فقه تشبيه آخر
ذكر كالنتيجة للأول ولبيان المقصود منه والتشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر
في وصف من أوصاف أحدهما في نفسه كالشجاعة في الأسد والنور في الشمس ولا بد فيه من
المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه أما المشبه والمشبه به فظاهران وكذا
أداة التشبيه وهي الكاف وأما وجه الشبه فهو الجهة الجامعة بين العلم والغيث فإن
الغيث يحيي البلد الميت والعلم يحيي القلب الميت فإن قلت لم اختير الغيث من بين
سائر أسماء المطر قلت ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ قال تعالى وهو الذي ينزل
الغيث من بعد ما قنطوا ( الشورى 28 ) وقد كان الناس قبل المبعث قد امتحنوا بموت
القلوب وتصوب العلم حتى أصابهم الله برحمة من عنده وفيه التفصيل بعد الإجمال فقوله
أصاب أرضا مجمل وقوله فكان منها نقية إلى آخره تفصيل فلذلك ذكره بالفاء فإن قلت لم
كرر لفظة مثل في قوله من لم يرفع أجيب بأنه نوع آخر مقابل لما تقدم فلذلك كرره
قال أبو عبد الله قال إسحاق وكان منها طائفة قيلت الماء
أبو عبد الله هو البخاري أراد أن إسحاق قال قيلت بالياء آخر الحروف المشددة مكان
قبلت بالباء الموحدة وقال الأصيلي قيلت تصحيف من إسحاق وإنما هي قبلت كما ذكر في
أول الحديث وقال غيره معنى قيلت شربت القيل وهو شرب نصف النهار يقال قيلت الإبل
إذا شربت نصف النهار وقيل معنى قيلت جمعت وحبست قال القاضي وقد رواه سائر الرواة
غير الأصيلي قبلت يعني بالباء الموحدة في الموضعين في أول الحديث وفي قول إسحاق
فعلى هذا إنما خالف إسحاق في لفظة طائفة جعلها مكان نقية قاله الشيخ قطب الدين
وبنحوه قال الكرماني قال إسحاق وفي بعض النسخ بعده عن أبي أسامة يعني حماد بن
أسامة والمقصود منه أنه روى إسحاق عن حماد لفظ طائفة بدل ما روى محمد بن العلاء عن
حماد لفظ نقية وأما إسحاق فقد قال الشيخ قطب الدين هذا من المواضع المشكلة في كتاب
البخاري فإنه ذكر جماعة في كتابه لم ينسبهم فوقع من بعض الناس اعتراض عليه بسبب
ذلك لما يحصل من اللبس وعدم البيان ولا سيما إذا شاركهم ضعيف في تلك الترجمة وأزال
الحاكم ابن الربيع اللبس بأن نسب بعضهم واستدل على نسبته وذكر الكلاباذي بعضهم
وذكر ابن السكن بعضا ومن جملة التراجم المعترضة إسحاق فإنه ذكر هذه الترجمة في
مواضع من كتابه مهملة وهي كثيرة جدا قال أبو علي الجياني روى البخاري عن إسحاق بن
إبراهيم الحنظلي وإسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي وإسحاق بن منصور الكوسج عن أبي
أسامة حماد بن أبي أسامة وقد حدث
(2/80)
مسلم أيضا عن إسحاق بن منصور
الكوسج عن أبي أسامة قلت إسحاق المذكور هنا لا يخرج عن أحد الثلاثة ويترجح أن يكون
إسحاق بن راهويه لكثرة روايته عنه وقد حكى الجياني عن سعيد بن السكن الحافظ أن ما
كان في كتاب البخاري عن إسحاق غير منسوب فهو ابن راهويه وهو بالهاء والواو
المفتوحتين والياء آخر الحروف الساكنة وهو المشهور ويقال أيضا بالهاء المضمومة
وبالياء أخر الحروف المفتوحة وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بفتح الميم وسكون الخاء
المعجمة وفتح اللام أبو يعقوب الحنظلي المروزي سكن نيسابور وقال عبد الله بن طاهر
له لم قيل لك ابن راهويه قال إعلم أيها الأمير أن أبي ولد في طريق مكة فقال
المراوزة راهوي لأنه ولد في الطريق وهو بالفارسية راه وهو أحد أركان المسلمين وعلم
من أعلام الدين مات بنيسابور سنة ثمان وثلاثين ومائتين قلت يحتمل أن يراد به إسحاق
بن إبراهيم بن نصر السعدي البخاري بالخاء العجمة نزيل المدينة توفي سنة اثنتين
وثلاثين و مائتين أو إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج المروزي مات عام أحد وخمسين
ومائتين إذ البخاري في هذا الصحيح يروي عن الثلاثة عن أبي أسامة قال الغساني في
كتاب ( تقييد المهمل ) إن البخاري إذا قال حدثنا إسحاق غير منسوب حدثنا أبو أسامة يعني
به أحد هؤلاء الثلاثة ولا يخلو عن أحدهم
قاع يعلوه الماء والصفصف المستوي من الأرض
لما كان في الحديث لفظ قيعان أشار بقوله قاع يعلوه الماء إلى شيئين أحدهما أن
قيعان المذكورة واحدها قاع والآخر أن القاع هي الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر
فيها وذكر الصفصف معه بطريق الاستطراد لأن من عادته تفسير ما وقع في الحديث من
الألفاظ الواقعة في القرآن ووقع في القرآن قاعا صفصفا ( طه 106 ) قال أكثر أهل
اللغة الصفصف المستوي من الأرض مثل ما فسره البخاري وقال ابن عباد الصفصف حرف
الجبل ووقع في بعض النسخ والمصطف المستوي من الأرض وهو تصحيف ثم قوله قاع إلى آخره
إنما هو ثابت في رواية المستملي وفي رواية غيره ليس بموجود
21 -
( باب رفع العلم وظهور الجهل )
أي هذا باب في بيان رفع العلم وظهور الجهل وإنما قال وظهور الجهل مع أن رفع العلم
يستلزم ظهور الجهل لزيادة الإيضاح ووجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في
الباب الأول فضل العالم والمتعلم وفيه الترغيب في تحصيل العلم والإشارة إلى فضيلة
العلم وهذا الباب فيه ضد ذلك لأن فيه رفع العلم المستلزم لظهور الجهل وفيه التحذير
وذم الجهل وبالضد تتبين الأشياء
وقال ربيعة لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه
ربيعة هو المشهور بربيعة الرأي بإسكان الهمزة إنما قيل له ذلك لكثرة اشتغاله
بالرأي والاجتهاد وهو ابن أبي عبد الرحمن فروخ بالفاء والراء المشددة المضمومة
وبالخاء المعجمة المدني التابعي الفقيه شيخ مالك بن أنس روى عنه الأعلام منهم أبو
حنيفة توفي سنة ست وثلاثين ومائة بالمدينة وقيل بالأنبار في دولة أبي العباس فإن
قلت ما وجه مناسبة قول ربيعة هذا للتبويب في رفع العلم قلت من كان له فهم وقبول
يلزمه من فرض العلم ما لا يلزم غيره فينبغي أن يجتهد فيه ولا يضيع علمه فيضيع نفسه
فإنه إذا لم يتعلم أفضى إلى رفع العلم لأن البليد لا يقبل العلم فهو عنه مرتفع فلو
لم يتعلم الفهم لارتفع العلم عنه أيضا فيرتفع عموما وذلك من أشراط الساعة ويقال
معنى كلام ربيعة الحث على نشر العلم لأن العالم في قومه إذا لم ينشر علمه ومات قبل
ذلك أدى ذلك إلى رفع العلم وظهور الجهل وهذا المعنى أيضا يناسب التبويب ويقال
معناه أنه لا ينبغي للعالم أن يأتي بعلمه أهل الدنيا ولا يتواضع لهم إجلالا للعلم
فعلى هذا فالمعنى في مناسبة التبويب ما يؤدي إليه من قلة الإشتغال بالعلم
والاهتمام به لما يرى من ابتذال أهله وقلة الاحترام لهم قوله أن يضيع وفي بعض
النسخ يضيع بدون أن معناه بأن لا يفيد الناس ولا يسعى في تعليم الغير وقد قيل
( ومن منع المستوجبين فقد ظلم )
وقال التيمي
(2/81)
قال الفقهاء لزم معين البلد
للقضاء طلبه لحاجة إلى رزقة من بيت المال أو لخمول ذكره وعدم شهرة فضيلته يعني إذا
ولي القضاء انتشر علمه فإن قلت ما حال هذا التعليق قلت قد علم أن ما يذكر البخاري
بصيغة الجزم يدل على صحته عنده وما يذكره بصيغة التمريض يدل على ضعفه وهذا بصيغة
الجزم ووصله الخطيب في ( الجامع ) والبيهقي في ( المدخل ) من طريق عبد العزيز
الأويسي عن مالك عن ربيعة
80 - حدثنا ( عمران بن ميسرة ) قال حدثنا ( عبد الوارث ) عن ( أبي التياح ) عن (
أنس ) قال قال رسول الله إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب
الخمر ويظهر الزنا
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم أربعة الأول عمران بكسر العين ابن ميسرة بفتح الميم ضد الميمنة أبو
الحسن المنقري البصري روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم والبخاري وأبو داود مات سنة ثلاث
وعشرين ومائتين الثاني عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التيمي البصري وقد تقدم الثالث
أبو التياح بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف والحاء المهملة
اسمه يزيد بن زيادة بن حميد الضبعي من أنفسهم وليس في الكتب الستة من يشترك معه في
هذه الكنية وربما كنى بأبي حماد وهو ثقة ثبت صالح مات سنة ثمان وعشرين ومائة روى
عنه الجماعة الرابع أنس بن مالك رضي الله عنه
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم بصريون ومنها
أن إسناده رباعي
بيان من أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن عمران بن ميسرة ومسلم في القدر عن شيبان
بن فروخ والنسائي في العلم عن عمران بن موسى القزاز ثلاثتهم عن عبد الوارث عنه به
بيان اللغات قوله من أشراط الساعة بفتح الهمزة أي علاماتها وهو جمع شرط بفتح الشين
والراء وبه سميت شرط السلطان لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها وقد مر زيادة
الكلام فيه في الإيمان قوله ويثبت الجهل من الثبوت بالثاء المثلثة وهو ضد النفي
وفي رواية لمسلم ويبث من البث بالباء الموحدة والثاء المثلثة وهو الظهور والفشو
وقال بعضهم وغفل الكرماني فعزاها إلى البخاري وإنما حكاها النووي في ( شرح مسلم )
قلت لم يقل الكرماني وفي رواية للبخاري ولا قال روى وإنما قال وفي بعض النسخ يبث
من البث وهو النشر ولا يلزم من هذه العبارة نسبته إلى البخاري لأنه يمكن أن تكون
هذه الرواية من غير البخاري وقد كتب في كتابه وكذا قال الكرماني وفي بعضها ينبت من
النبات بالنون والمعترض المذكور أيضا وليست هذه في شيء من الصحيحين قال ولا يلزم
من عدم اطلاعه على ذلك نفيه بالكلية وربما ثبت ذلك عند أحمد من نقله ( الصحيحين )
فنقله ثم جعل ذلك نسخة والمدعي بالفن لا يقدر على إحاطة جميع ما فيه ولا سيما علم
الرواية فإنه علم واسع لا يدرك ساحله قوله ويشرب الخمر قال بعضهم المراد كثرة ذلك
واشتهاره ثم أكد كلامه بقوله وعند المصنف في النكاح من طريق هشام عن قتادة ويكثر
شرب الخمر أو العلامة مجموع ذلك قلت لا نسلم أن المراد كثرة ذلك بل شرب الخمر
مطلقا هو جزء العلة من أشراط الساعة وقوله في الرواية الأخرى ويكثر شرب الخمر لا
يستلزم أن يكون نفي مطلق الشرب من أشراطها لأن المقيد بحكم لا يستلزم نفي الحكم
المطلق والأصل إجراء كل لفظ على مقتضاه ولا تنافي بين حكم يمكن حصوله معلقا بشرط
تارة وبغيره أخرى ونظيره الملك فإنه يوجد بالشراء وغيره وهذا القائل أخذ ما قاله
من كلام الكرماني حيث قال فإن قلت شرب الخمر كيف يكون من علاماتها والحال أنه كان
واقعا في جميع الأزمان وقد حد رسول الله بعض الناس لشربه إياها قلت المراد منه أن
يشرب شربا فاشيا أو أن نقس الشرب وحده ليس علامة بل العلامة مجموع الأمور المذكورة
قلت هذا السؤال غير وارد لأنه لا يلزم من وقوعها في جميع الأزمان وحد النبي عليه
الصلاة و السلام شاربها أن لا يكون من علامات الساعة نعم قوله بل العلامة مجموع
الأمور المذكورة هو كذلك لأنه عليه الصلاة
(2/82)
والسلام جمع بين الأشياء
الأربعة بحرف الجمع والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ووجود المجموع هو العلامة
لوقوع الساعة وكل منها جزء العلة فحينئذ تقييد الشرب بالكثرة لا يفيد وقد قلنا إن
ما ورد من قوله ويكثر شرب الخمر لا ينافي كون مطلق الشرب جزء علة وكل من الشرب المطلق
والشرب المقيد بالكثرة والشهرة جزء علة لأن العلة الدالة على وقوع الحكم هي العلة
المركبة من وجود الأشياء الأربعة ثم الخمر في اللغة من التخمير وهو التغطية سميت
به لأنها تغطي العقل ومنه الخمار للمرأة وفي ( العباب ) يقال خمرة وخمر وخمور مثال
تمرة وتمر وتمور ويقال خمرة صرف وفي الحديث الخمرة ما خامر العقل وقال ابن
الأعرابي سميت الخمرة خمرا لأنها تركت فاختمرت واختمارها تغيير ريحها وعند الفقهاء
الخمر هي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ويلحق بها غيرها من
الأشربة إذا أسكر قوله ويظهر الزنا أي يفشو وينتشر وفي رواية مسلم ويفشو الزنا
والزنا يمد ويقصر والقصر لأهل الحجاز قال الله تعالى ولا تقربوا الزنا ( الإسراء
32 ) والمد لأهل نجد وقد زنى يزني وهو من النواقص اليائية والنسبة إلى المقصور
زنوي وإلى المدود زنائي
بيان الإعراب قوله أن حرف من الحروف المشبهة بالفعل يرفع وينصب فقوله أن يرفع
العلم في محل النصب إسمها و أن مصدرية تقريره رفع العلم وخبرها قوله من أشراط
الساعة وفي رواية النسائي من أشراط الساعة أن يرفع العلم من غير أن في أوله فعلى
هذه الرواية يكون محل أن يرفع العلم الرفع على الابتداء وخبره مقدما من أشراط
الساعة وقال بعضهم وسقطت أن من رواية النسائي حيث أخرجه عن عمران شيخ البخاري قلت
هذا غفلة وسهو لأن شيخ البخاري هو عمران بن ميسرة وشيخ النسائي هو عمران بن موسى
قوله ويثبت بالنصب عطفا على أن يرفع وكذلك ويشرب ويظهر منصوبان بالعطف على المنصوب
و أن مقدرة في الجمع و يرفع ويشرب مجهولان و ويثبت ويظهر معلومان
بيان المعاني قوله أن يرفع العلم فيه إسناد مجازي والمراد رفعه بموت حملته وقبض
العلماء وليس المراد محوه من صدور الحفاظ وقلوب العلماء والدليل عليه ما رواه
البخاري في باب كيف يقبض العلم عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله يقول إن
الله عز و جل لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض
العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فيسألوا فافتوا بغير علم
فضلوا وأضلوا وبين بهذا الحديث أن المراد برفع العلم هنا قبض أهله وهم العلماء لا
محوه من الصدور لكن بموت أهله واتخاذ الناس رؤساء جهالا فيحكمون في دين الله تعالى
برأيهم ويفتون بجهلهم قال القاضي عياض وقد وجد ذلك في زماننا كما أخبر به عليه
الصلاة و السلام قال الشيخ قطب الدين قلت هذا قوله مع توفر العلماء في زمانه فكيف
بزماننا قال العبد الضعيف هذا قوله مع كثرة الفقهاء والعلماء من المذاهب الأربعة
والمحدثين الكبار في زمانه فكيف بزماننا الذي خلت البلاد عنهم وتصدرت الجهال
بالإفتاء والتعين في المجالس والتدريس في المدارس فنسأل السلامة والعافية
81 - حدثنا ( مسدد ) قال حدثنا ( يحيى ) عن ( شعبة ) عن ( قتادة ) عن ( أنس ) قال
لأحدثنكم حديثا لا يحدثكم أحد بعدي سمعت رسول الله يقول من أشراط الساعة أن يقل
العلم ويظهر الجهل ويظهر الزنا وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة
القيم الواحد
مطابقة هذا أيضا للترجمة ظاهرة ففي الترجمة رفع العلم من لفظ الحديث الأول وفيها
ظهور الجهل من لفظ هذا الحديث
بيان رجاله وهم خمسة والكل قد ذكروا غير مرة ويحيى هو ابن سعيد القطان والكل
بصريون وبهذا الترتيب وقع في باب الإيمان أن يحب لاخيه وفي إسناده تحديث وعنعنة
وسماع قوله عن أنس وفي رواية الأصيلي عن أنس بن مالك
بيان من أخرجه غيره أخرجه مسلم أيضا في القدر عن أبي موسى وبندار كلاهما عن غندر
عن شعبة عن قتادة عن أنس به وأخرجه الترمذي في الفتن عن محمود بن غيلان عن النضر
بن شميل عن شعبة عنه به وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي في العلم عن عمرو بن علي
وأبي موسى وابن ماجه في الفتن عن أبي موسى وبندار ثلاثتهم عن غندر عن شعبة به
(2/83)
بيان اللغات والإعراب قوله أن
يقل بكسر القاف من القلة ضد الكثرة قوله القيم الواحد بفتح القاف وكسر الياء
المشددة وهو القائم بأمور النساء وكذا القيام والقوام يقال فلان قوام أهل بيته
وقيامه وهو الذي يقيم شأنهم ومنه قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل
الله لكم قياما ( النساء 5 ) وقوام الأمر أيضا ملاكه الذي يقوم به وأصل قيم قيوم
على وزن فيعل اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فابدلت من الواو ياء
وأدغمت الياء في الياء ولم يعكس الأمر ههنا هربا من الالتباس بقوم الذي هو ماض من
التقويم قوله لأحدثنكم اللام فيه مفتوحة وهو جواب قسم محذوف أي والله لاحدثنكم
ولهذا جاز دخول النون المؤكدة عليه وصرح به أبو عوانة من طريق هشام عن قتادة وفي
رواية مسلم عن غندر عن شعبة ألا أحدثكم فيحتمل أن يكون قال لهم أولا ألا أحدثكم فقالوا
نعم فقال لأحدثنكم قوله حديثا قائم مقام أحد المفعولين لأحدثنكم قوله لا يحدثكم
أحد جملة من الفعل والمفعول والفاعل في محل النصب على أنها صفة لقوله حديثا قوله
بعدي كلام إضافي صفة لأحد وفي رواية مسلم لا يحدث أحد بعدي بحذف المفعول وفي رواية
ابن ماجه عن غندر عن شعبة لا يحدثكم به أحد بعدي وفي رواية البخاري من طريق هشام
لا يحدثكم به غيري وفي رواية أبي عوانة من هذا الوجه لا يحدثكم أحد سمعه من رسول
الله عليه الصلاة و السلام بعدي قوله سمعت بيان أو بدل لقوله لأحدثنكم وقد مر
توجيه كيفية جعل الذات مسموعا قوله يقول جملة وقعت حالا قوله أن يقل العلم في محل
الرفع على الابتداء وأن مصدرية قوله من أشراط الساعة خبر مقدم والتقدير من أشراط
الساعة قلة العلم قوله ويظهر في الموضعين و تكثر ويقل في الأخير كلها منصوبات
بتقدير أن لأنها عطف على قوله أن يقل العلم والكل على صيغة المعلوم قوله حتى يكون
حتى ههنا للغاية بمعنى إلى و أن بعدها مقدرة قوله القيم مرفوع لأنه اسم يكون و
الواحد صفته
بيان المعاني قوله وتكثر النساء ويقل الرجال قال القاضي والنووي وغيرهما يقل
الرجال بكثرة القتل فيموت الرجال فتكثر النساء وبقتلهم يكثر الفساد والجهل وقال
أبو عبد الملك هو إشارة إلى كثرة الفتوح فتكثر السبايا فيتخذ الرجل الواحد عدة
موطوآت وقال بعضهم فيه نظر لأنه صرح بالعلة في حديث أبي موسى الآتي في الزكاة عند
المصنف فقال من قلة الرجال وكثرة النساء والظاهر أنها علامة محضة لا لسبب آخر قلت
ليس في حديث أبي موسى شيء من التنبيه على العلة لا صريحا ولا دلالة وإنما معنى
قوله من قلة الرجال وكثرة النساء مثل معنى قوله في هذا الحديث وتكثر النساء ويقل
الرجال والعلة لهذا لا تطلب إلا من خارج وقد ذكروا هذين الوجهين ويمكن أن يقال
يكثر في آخر الزمان ولادة الإناث ويقل ولادة الذكور وبقلة الرجال يظهر الجهل ويرفع
العلم ويكفي كثرتهن في قلة العلم وظهور الجهل والزنا لأن النساء حبائل الشيطان وهن
ناقصات عقل ودين قوله لخمسين امرأة يحتمل أن يراد بها حقيقة هذا العدد وأن يراد
بها كونها مجازا عن الكثرة ولعل السر فيه أن الأربعة في كمال نصاب الزوجات فاعتبر
الكمال مع زيادة واحدة عليه ثم اعتبر كل واحدة بعشر أمثالها ليصير فوق الكمال
مبالغة في الكثرة أو لأن الأربعة منها يمكن تألف العشرة لأن فيها واحد أو اثنين
وثلاثة وأربعة وهذا المجموع عشرة ومن العشرات المئات ومن المئات الألوف فهي أصل
جميع مراتب الأعداد فزيد فوق الأصل واحد آخر ثم اعتبر كل واحدة منها بعشر أمثالها
أيضا تأكيدا للكثرة ومبالغة فيها
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل من أين عرف أنس رضي الله عنه أن أحدا لا يحدث بعده
أجيب بأنه لعله عرفه بإخبار الرسول عليه الصلاة و السلام أو قال بناء على ظنه أنه
لم يسمع الحديث غيره من رسول الله عليه الصلاة و السلام وقال ابن بطال يحتمل أن
أنسا رضي الله عنه قال ذلك لأنه لم يبق من أصحاب رسول الله غيره أو لما رأى من
التغير ونقص العلم فوعظهم بما سمع من النبي في نقص العلم أنه من أشراط الساعة
ليحضهم على طلب العلم ثم أتى بالحديث على نصه قلت يحتمل أن يكون الخطاب بذلك لأهل
البصرة خاصة لأنه آخر من مات بالبصرة رضي الله عنه ومنها ما قيل إن قلة العلم
تقتضي بقاء شيء منه وفي الحديث السابق يرفع العلم والرفع عدم بقائه فبينهما تناف
أجيب بأن القلة قد تطلق ويراد بها العدم أو كان ذلك باعتبار الزمانين كما يقال
مثلا القلة في ابتداء أمر الإشراط والعدم
(2/84)
في انتهائه ولهذا قال ثمة يثبت
الجهل وههنا يظهر ومن الدليل على إطلاق القلة وإرادة العدم والرفع أنه وقع ههنا في
رواية مسلم عن غندر وغيره عن شعبة أن يرفع العلم وكذا في رواية سعيد عند ابن أبي
شيبة وهمام عند البخاري في الحدود وهشام عنده في النكاح كلهم عن قتادة وهو موافق
لرواية أبي التياح وفي رواية للبخاري أيضا في الأشربة من طريق هشام أن يقل فافهم
ومنها ما قيل ما فائدة التعريف في قوله القيم وكان حق الظاهر أن يقال قيم واحد
أجيب بأن فائدته الإشعار بما هو معهود من الرجال قوامون على النساء ( النساء 34 )
فاللام للعهد ومنها ما قيل ما فائدة تخصيص هذه الأشياء الخمسة بالذكر أجيب بأن
فائدة ذلك أنها مشعرة باختلال الضرورات الخمس الواجبة رعايتها في جميع الأديان
التي بحفظها صلاح المعاش والمعاد ونظام أحوال الدارين وهي الدين والعقل والنفس
والنسب والمال فرفع العلم مخل بحفظ الدين وشرب الخمر بالعقل وبالمال أيضا وقلة
الرجال سبب الفتن بالنفس وظهور الزنا بالنسب وكذا بالمال ومنها ما قيل لم كان
اختلال هذه الأمور من علاماتها أجيب لأن الخلائق لا يتركون سدى ولا نبي بعد هذا الزمان
فتعين خراب العالم وقرب القيامة وقال القرطبي في هذا الحديث علم من أعلام النبوة
إذ أخبر عن أمور ستقع فوقعت خصوصا في هذه الأزمان والله المستعان
22 -
( باب فضل العلم )
أي هذا باب في بيان فضل العلم وجه المناسبة بين البابين ظاهر لأن المذكور في كل
منهما العلم ولكن في كل واحد بصفة من الصفات ففي الأول بيان رفعه وفي هذا بيان
فضله ولا يقال إن هذا الباب مكرر لأنه ذكره مرة في أول كتاب العلم لأنا نقول هذا
الباب بعينه ليس بثابت في أول كتاب العلم في عامة النسخ ولئن سلمنا وجوده هناك
فالمراد التنبيه على فضيلة العلماء وههنا التنبيه على فضيلة العلم وقد حققنا
الكلام هناك كما ينبغي وقال بعضهم الفضل ههنا بمعنى الزيادة أي ما فضل عنه والفضل
الذي تقدم في أول كتاب العلم بمعنى الفضيلة فلا يظن أنه كرره قلت لم يبوب البخاري
هذا الباب لبيان أن الفضل بمعنى الزيادة ولم يقصد به الإشارة إلى معناه اللغوي بل
قصده من التبويب بيان فضيلة العلم ولا سيما الباب من جملة أبواب كتاب العلم فإن
كان القائل أخذ ما قاله من قوله عليه السلام في الحديث ثم أعطيت فضلي عمر بن
الخطاب فإنه لا دخل له في الترجمة فإنها ليست في بيان إعطاء النبي عليه السلام فضله
لعمر رضي الله عنه وإنما ترجمته في بيان فضل العلم وشرف قدره واستنبط البخاري بأن
إعطاءه عليه السلام فضله لعمر عبارة عن العلم وهو عين الفضيلة لأنه جزء من النبوة
وما فضل عنه عليه السلام فضيلة وشرف وقد فسره بالعلم فدل على فضيلة العلم
82 - حدثنا ( سعيد بن عفير ) قال حدثني ( الليث ) قال حدثني ( عقيل ) عن ( ابن
شهاب ) عن ( حمزة بن عبد الله بن عمر ) أن ( ابن عمر ) قال سمعت رسول الله قال
بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج في أظفاري ثم أعطيت
فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم
مطابقة الحديث للترجمة من الوجه الذي ذكرناه الآن
بيان رجاله وهم ستة الأول سعيد بن عفير بضم العين المهملة وفتح الفاء وسكون الياء
آخر الحروف وفي آخره راء وقد مر الثاني ليث بن سعد الإمام الكبير المصري وقد تقدم
الثالث عقيل بضم العين وفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره لام ابن خالد
الأيلي بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وقد تقدم الرابع محمد بن مسلم بن شهاب
الزهري الخامس حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم المكنى بابي عمارة
بضم العين القرشي المدني العدوي التابعي سمع أباه وعائشة قال أحمد بن عبد الله
(2/85)
تابعي ثقة وقال ابن سعد أمه أم
ولد وهي أم سالم وعبيد الله وكان ثقة قليل الحديث روى له الجماعة السادس عبد الله
بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
بيان لطائف إسناده ومنها أن في إسناده التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة
والسماع وفي رواية الأصيلي وكريمة حدثني الليث حدثني عقيل وللبخاري في التعبير
أخبرني حمزة ومنها أن نصف رواته مصريون ونصفهم مدنيون ومنها أن فيه رواية تابعي عن
تابعي
بيان تعدد موضعه ومن آخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا عن سعيد بن عفير وفي تعبير
الرؤيا عن يحيى بن بكير وقتيبة ثلاثتهم عن ليث عن عقيل وفيه عن أبي جعفر محمد بن
الصلت الكوفي وفي فضل عمر رضي الله عنه عن عبدان كلاهما عن ابن المبارك عن يونس
وفيه عن علي بن عبد الله عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح ثلاثتهم عن الزهري
عنه به وأخرجه مسلم في الفضائل عن قتيبة به وعن حسن الحلواني وعبد ابن حميد كلاهما
عن يعقوب به وعن حرملة عن ابن وهب عن يونس به وأخرجه الترمذي في الرؤيا وفي
المناقب عن قتيبة به وقال حسن غريب وأخرجه النسائي عن قتيبة به وعن عبد الله بن
سعد عن عمه يعقوب به وفي المناقب عن عمرو بن عثمان عن الزبيدي عن الزهري به وأعاده
في العلم عن قتيبة
بيان اللغات قوله بقدح القدح بفتحتين واحد الأقداح التي هي للشرب فيها و القدح
بكسر القاف وسكون الدال السهم قبل أن يراش ويركب نصله وقدح الميسر أيضا والقدح
بالكسر ما يقدح به النار والقدح المغرفة والمقديح المغرف والقدوح الذباب قوله الري
بكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف مصدر يقال رويت من الماء بالكسر أروي ريا
بالكسر وحكى الجوهري الفتح أيضا وقال ريا وريا وروي أيضا مثل رضى رضى وارتويت
وترويت كله بمعنى وقال غيره يقال روي من الماء والشراب بكسر الواو ويروى بفتحها
ريا بالكسر في الاسم والمصدر قال القاضي وحكى الداودي الفتح في المصدر وأما في
الرواية فعكسه تقول رويت الحديث أرويه رواية بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل
والرواء من الماء ما يروي إذا مددت فتحت الراء وإذا كسرت قصرت قلت الري أصله الروي
اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الياء من الواو وأدغمت الياء في
الياء قوله في أظفاري جمع ظفر وقال ابن دريد الظفر ظفر الإنسان والجمع أظفار ولا
تقول ظفر بالكسر وإن كانت العامة قد أولعت به وتجمع أظفار على أظافير قال وقال قوم
بل الأظافير جمع أظفور والظفر والأظفور سواء وأظفار الإبل مناسمها وأظفار السباع
براثنها
بيان الإعراب قوله بينا قد مر غير مرة أن أصله بين فاشبعت الفتحة فصارت ألفا وقد
تدخل عليها ما فيقال بينما وقوله أنا مبتدأ و نائم خبره قوله أتيت على صيغة
المجهول وهو جواب بينا وعامل فيه والأصمعي لا يستفصح إلا طرح إذ وإذا منه كما
ذكرناه قوله بقدح لبن كلام إضافي يتعلق بأتيت قوله فشربت عطف على أتيت قوله حتى
إما ابتدائية وإما جارة فعلى الأول أتى بكسر الهمزة وعلى الثاني بفتحها وياء
المتكلم اسم إن وخبره قوله لأري الري واللام فيه للتأكيد وقال بعضهم اللام جواب
قسم محذوف قلت هذا ليس بصحيح ليس هنا قسم صريح ولا مقدر ولا يصح التقدير وإنما هذه
اللام هي اللام الداخلة في خبر إن للتأكيد كما في قولك إن زيدا لقائم وقوله اري إن
كان من الرؤية بمعنى العلم يقتضي مفعولين أحدهما هو قوله الري والآخر هو قوله يخرج
في أظفاري وإن كان من الرؤية بمعنى الإبصار لا يقتضي إلا مفعولا واحدا وهو قوله
الري وقوله يخرج حينئذ يكون حالا من اللبن ويكون الضمير فيه راجعا إليه ويجوز أن
يكون حالا من الري تجوزا ويكون الضمير راجعا إليه قوله وفي اظفاري وفي رواية ابن
عساكر من أظفاري وفي رواية البخاري في التعبير من أطرافي والكل بمعنى في الحقيقة فإن
قلت يخرج من أظفاري ظاهر فما معنى قوله يخرج في أظفاري قلت يجوز أن تكون في ههنا
بمعنى على أي على أظفاري كما في قوله تعالى ولأصلبنكم في جذوع النخل ( طه 71 ) أي
عليها ويكون بمعنى يظهر عليها والظفر إما منشأ الخروج أو ظرفه قوله ثم اعطيت عطف
على قوله فشربت وهي جملة من الفعل والفاعل وقوله فضلي كلام إضافي مفعوله الأول
وقوله عمر بن الخطاب مفعوله الثاني قوله فما أولته كلمة ما استفهامية وأولته جملة
من الفعل
(2/86)
والفاعل والمفعول وهو الضمير
الذي يرجع إلى شرب اللبن الذي يدل عليه قوله فشربت قوله يا رسول الله منادى منصوب
فإن قلت ما الفاء في قوله فما أولته قلت زائدة كما في قوله تعالى هذا فليذوقوه ( ص
57 ) قوله العلم بالنصب والرفع روايتان أما وجه النصب فعلى المفعولية والتقدير
أولته العلم وأما وجه الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي المؤول به العلم
بيان المعاني فيه حذف المفعول من قوله فشربت للعلم به والتقدير فشربت اللبن يعني
منه لأنه شرب حتى روي ثم أعطى فضله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيه استعمال
المضارع موضع الماضى وهو قوله يخرج وكان حقه أن يقال خرج ولكنه أراد استحضار صورة
الرؤية للسامعين قصدا إلى أن يبصرهم تلك الحالة وقوعا وحدوثا قوله ثم أعطيت فضلي
أي ما فضل من اللبن الذي هو في القدح الذي شربت منه قوله فما أولته أي فما عبرته
والتأويل في اللغة تفسير ما يؤول إليه الشيء وههنا المراد به تعبير الرؤيا وفيه
تأكيد الكلام بصوغه جملة إسمية وتأكيدها بأن واللام في الخبر وهو قوله إني لأري
الري فإن قلت لم تكن الصحابة منكرين ولا مترددين في أخباره فما فائدة هذه
التأكيدات قلت قوله أرى الري يخرج في أظفاري أورثهم حيرة في خروج اللبن من الأظفار
فأزال تلك الحيرة بهذه التأكيدات كما في قوله تعالى وما ابرىء نفسي إن النفس
لأمارة بالسوء ( يوسف 53 ) لأن ما أبرىء أي ما أزكي أورث المخاطب حيرة في أنه كيف
لا ينزه نفسه عن السوء مع كونها مطمئنة زكية فأزال تلك الحيرة بقوله إن النفس
لأمارة بالسوء ( يوسف 53 ) في جميع الأشخاص إلا من عصمه الله قوله العلم تفسير
اللبن بالعلم لكونهما مشتركين في كثرة النفع بهما وفي أنهما سببا الصلاح فاللبن
غذاء الإنسان وسبب صلاحهم وقوة أبدانهم والعلم سبب الصلاح في الدنيا والآخرة وغذاء
الأرواح وقال المهلب رؤية اللبن في النوم تدل على السنة والفطرة والعلم والقرآن
لأنه أول شيء يناله المولود من طعام الدنيا وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة
القلوب فهو يناسب العلم من هذه الجهة وقد يدل على الحياة لأنها كانت في الصغر وقد
يدل على الثواب لأنه من نعيم الجنة إذ روى نهر من اللبن وقد يدل على المال والحلال
قال وإنما أوله النبي بالعلم في عمر رضي الله عنه لصحة فطرته ودينه والعلم زيادة
في الفطرة فإن قلت رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق فهل كان هذا الشراب وما يتعلق به
واقعا حقيقة أو هو على سبيل التخيل قلت واقع حقيقة ولا محذور فيه إذ هو ممكن والله
على كل شيء قدير
بيان البيان فيه الاستعارة الأصلية وهي قوله إني لأري الري لأن الري لا يرى ولكنه
شبه بالجسم وأوقع عليه الفعل ثم أضيف إليه ما هو من خواص الجسم وهو كونه مرئيا
ومما يستفاد منه فضيلة عمر رضي الله عنه وجواز تعبير الرؤيا ورعاية المناسبة بين
التعبير وما له التعبير
23 -
( باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها )
الكلام فيه على أنواع الأول أن الباب مرفوع بأنه خير مبتدأ محذوف مضاف إلى ما بعده
وفيه حذف تقديره هذا باب في بيان ما يستفتى به الشخص وهو واقف أي والحال أنه واقف
على ظهر الدابة أو غيرها الثاني أن الفتيا بضم الفاء إسم وكذلك الفتوى وهو الجواب
في الحادثةيقال استفتيت الفقيه في مسألة فأفتاني وتفاتوا إلى الفقيه ارتفعوا إليه
في الفتيا وفي ( المحكم ) أفتاه في الأمر أبانه له والفتى والفتيا والفتوى ما افتى
به الفقيه الفتح لأهل المدينة وقال الشيخ قطب الدين الفتيا اسم ثم قال ولم يجيء من
المصادر على فعلى غير الفتيا والرجعي وبقيا ولقيا قلت فيه نظران إحدهما أنه قال
أولا الفتيا اسم ثم قال مصدر الثاني أنه قال لم يجىء من المصادر على فعلى يعني بضم
الفاء غير هذه الأمثلة الأربعة وقد جاء العذرى بمعنى العذر والعسرى بمعنى العسر
واليسرى بمعنى اليسر والعتبى بمعنى العتاب والحسنى بمعنى الإحسان والشورى بمعنى
المشورة والرغبى بمعنى الرغبة والنهبى بمعنى الانتهاب وزلفى بمعنى التزلف وهو
التقرب والبشرى بمعنى البشارة قوله على ظهر الدابة وفي بعض النسخ على الدابة من دب
على الأرض يدب دبيبا وكل ماش على الأرض دابة ودبيب والدابة
(2/87)
التي تركب قاله في ( العباب )
وقال الكرماني الدابة لغة الماشية على الأرض وعرفا الخيل والبغل والحمار وقال
بعضهم وبعض أهل العرف خصها بالحمار قلت ليس كما قالا وإنما الدابة في العرف اسم
لذات الأربع من الحيوان ولكن مراد البخاري ما قاله الصغاني وهي الدابة التي تركب
وأشار بهذا إلى جواز سؤال العالم وإن كان مشتغلا راكبا وماشيا وواقفا وعلى كل
أحواله ولو كان في طاعة وقال بعض الشارحين وليس في الحديث الذي أخرجه في الباب لفظ
الدابة ليطابق ما بوب عليه وأجاب بعضهم بأنه أحال به على الطريق الأخرى التي
أوردها في الحج فقال كان على ناقته قلت بعد هذا الجواب كبعد الثرى من الثريا وكيف
يعقد باب بترجمة ثم يحال ما يطابق ذلك على حديث يأتي في باب آخر ويمكن أن يجاب بأن
بين قوله وغيرها أي وغير الدابة وبين حديث الباب مطابقة لأن ما فيه وهو قوله وقف
في حجة الوداع بمنى للناس أعم من أن يكون وقوفه على الأرض أو على الدابة ويكون ذكر
لفظ الدابة إشارة إلى أنه في حديث الباب طريق أخرى فيها ذكر الدابة وهي قوله كان
على ناقته الثالث وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو
فضل العلم والمذكور في هذا الباب هو الفتيا وهو أيضا من العلم
83 - حدثنا ( إسماعيل ) قال حدثني ( مالك ) عن ( ابن شهاب ) عن ( عيسى بن طلحة بن
عبيد الله ) عن ( عبد الله بن عمرو بن العاص ) أن رسول الله وقف في حجة الوداع
بمنى للناس يسألونه فجاءه رجل فقال لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال ادبح ولا حرج
فجاء آخر فقال لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج فما سئل النبي الله عن شيء
قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج
مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن المذكور في الحديث هو الاستفتاء والإفتاء
والترجمة هي الفتيا
بيان رجاله وهم خمسة الأول إسماعيل بن أبي أويس ابن اخت مالك الثاني مالك بن أنس
الإمام الثالث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الرابع عيسى بن طلحة ابن عبيد الله
القرشي التيمي تابعي ثقة من أفاضل أهل المدينة وعقلائهم أخو موسى ومحمد مات سنة
مائة روى له الجماعة الخامس عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
بيان لطائف أسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ومنها
أن رواته كلهم مدنيون ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيرهأخرجه البخاري هنا عن إسماعيل عن مالك وفي العلم
أيضا عن أبي نعيم عن عبد العزيز بن أبي سلمة وفي الحج عن عبد الله بن يوسف عن مالك
وعن إسحاق عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح وعن سعيد بن يحيى بن سعيد
الأموي عن أبيه عن ابن جريج وفي النذور وحدثني عثمان بن الهيثم عن ابن جريج
أربعتهم عن الزهري عنه به وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به وعن
الحسن بن علي الحلواني عن يعقوب بن إبراهيم به وعن سعيد ابن يحيى عن أبيه وعن علي
بن خشرم عن عيسى بن يونس وعن عبد بن حميد عن محمد بن بكر ثلاثتهم عن ابن جريج به
وعن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن سفيان بن عيينة وعن حرملة بن يحيى
عن ابن وهب عن يونس وعن ابن عمرو عبد بن حميد كلاهما عن عبد الرازق عن معمر وعن
محمد بن عبد الله بن قهزاد عن علي بن الحسن عن ابن شقيق عن ابن المبارك عن محمد بن
أبي حفصة أربعتهم عن الزهري به وأخرجه أبو داود في الحج عن القعنبي عن مالك به
وأخرجه الترمذي فيه أيضا عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وابن أبي عمر كلاهما عن
سفيان به وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي فيه أيضا عن قتيبة عن سفيان به وعن يعقوب
بن إبراهيم الدورقي عن غندر عن معمر به وعن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد عن مالك
به وعن أحمد بن عمرو بن السرح عن ابن وهب عن مالك ويونس به وأخرجه ابن ماجه فيه
أيضا عن علي بن محمد عن سفيان به مختصرا أن النبي سئل عمن ذبح قبل أن يحلق أو حلق
قبل أن يذبح قال لا حرج
(2/88)
بيان اللغات قوله العاصي
الجمهور على كتابته بالياء وهو الفصيح عند أهل العربية ويقع في كثير من الكتب
بحذفها وقد قرىء في السبع نحوه كالكبير المتعال ( الرعد 9 ) و الداع ( البقرة 86
والقمر 6 و8 ) قال الكرماني وقيل أجوف وجمعه الأعياض قلت العاصي من العصيان وجمعه
عصاة كالقاضي يجمع على قضاة والأعياص جمع عيص بكسر العين وهو الشجر الكثير الملتف
وقال عمار العيص من السدر والعوسج والسلم من العصاة كلها إذا اجتمع وتدانى والتف
وفي ( العباب ) والجمع عيصان وأعياص وفيه والأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس
الأكبر وهم أربعة العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص وقال أبو عمرو العيصان من
معادن بلاد العرب قوله في حجة الوداع بكسر الحاء وفتحها والمعروف في الرواية الفتح
قال الجوهري الحجة بالكسرة المرة الواحدة وهو من الشواذ لأن القياس الفتح وفي (
العباب ) الحج بالكسر الاسم والحجة المرة الواحدة وهذا من الشواذ قلت يعني القياس
في المرة الفتح قالوا المفعل للموضع والمفعل للآلة والفعلة للمرة والفعلة للحالة
والحجة أيضا السنة والجمع الحجج وذو الحجة شهر الحج والجمع ذوات الحجة كذوات
القعدة ولم يقولوا ذووا على واحده والحجة أيضا شحمة الأذن و الوداع بفتح الواو اسم
التوديع كالسلام بمعنى التسليم وقال الكرماني جاز الكسر بأن يكون من باب المفاعلة
وتبعه على هذا بعضهم وما أظن هذا صحيحا لأنه بالكسر يتغير المعنى لأن الموادعة
معناها المصالحة وكذا الوداع بالكسر والمعنى هو التوديع وهو عند الرحيل معروف وهو
تخليف المسافر الناس خافضين وادعين وهم يودعونه إذا سافر تفاؤلا بالدعة التي يصير
إليها إذا نقل أو يتركونه وسفره قوله بمنى هو قرية بالقرب من مكة تذبح فيها
الهدايا وترمى فيها الجمرات وهو مقصور مذكر مصروف قوله لم أشعر بضم العين أي لم
أعلم أي لم افطنه يقال شعر يشعر من باب نصر ينصر شعرا وشعرة وشعرى بالكسر فيهن
وشعرة وبالفتح وشعورا ومشعورا ومشعورة قال الصغاني شعرت بالشيء أعلمت به وفطنت له
ومنه قولهم ليت شعري معناه ليتني أشعر والشعر واحد الأشعار قوله ولا حرج أي ولا
إثم قوله فنحرت النحر في اللبة مثل الذبح في الحلق وتستعمل بمعنى الذبيح
بيان الإعراب قوله وقف جملة في محل الرفع لأنها خبر إن قوله بمنى في محل النصب على
الحال قوله يسألونه في محل النصب على الحال من الضمير الذي في وقف ويجوز أن يكون
من الناس أي وقف لهم حال كونهم سائلين عنه ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لعلة
الوقوف قوله فجاء رجل عطف على قوله وقف قوله فحلقتالفاء فيه سببية وكذلك الفاء في
فنحرت كأنه جعل الحلق والنحر كلا منهما مسببا عن عدم شعوره كأنه يعتذر لتقصيره
قوله قبل أن أذبح أن فيه مصدرية أي قبل الذبح قوله ولا حرج كلمة لا للنفي وقوله
حرج اسمه مبني على الفتح وخبره محذوف والتقدير لا حرج عليك قوله فجاء آخر أي رجل
آخر قوله أن ارمي أن فيه أيضا مصدرية أي قبل الرمي قوله فما سئل على صيغة المجهول
و النبي مفعول ناب عن الفاعل و عن شيء يتعلق بالسؤال قوله قدم على صيغة المجهول
جملة في محل الجر لأنها صفة لشيء قوله ولا أخر أيضا على صيغة المجهول عطف على قدم
والتقدير لا قدم ولا أخر لأن الكلام الفصيح قل ما يقع لا الداخلة على الماضي فيه
إلا مكررة وحسن ذلك هنا لأنه وقع في سياق النفي ونظيره قوله تعالى وما أدري ما
يفعل بي ولا بكم ( الأحقاف 9 ) وفي رواية مسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال
إفعل ولا حرج
بيان المعاني فيه حذف المفاعيل من قوله فحلقت وأن أذبح وأذبح وفنحرت وأن ارمي وارم
للعلم بها بقرينة المقام قوله عن شيء أي مما هو من الأعمال يوم العيد وهي الرمي
والنحر والحلق والطواف قوله افعل ولا حرج قال القاضي قيل هذا إباحة لما فعل وقدم
وإجازة له لا أمر بالعيادة كأنه قال إفعل ذلك كما فعلته قبل أو متى شئت ولا حرج
عليك لأن السؤال إنما كان عما انقضى وتم
بيان استنباط الأحكام الأول فيه جواز سؤال العالم راكبا وماشيا وواقفا الثاني فيه
جواز الجلوس على الدابة للضرورة بل للحاجة كما كان جلوسه عليه الصلاة و السلام
عليها ليشرف على الناس ولا يخفى عليهم كلامه لهم الثالث في ترتيب الأعمال المذكورة
في الحديث هل هو سنة ولا شيء في تركه أو واجب يتعلق الدم بتركه فإلى الأول ذهب
الشافعي وأحمد وإلى الثاني ذهب أبو حنيفة ومالك وقال عياض أجمع العلماء على أن سنة
الحاج أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يطوف
(2/89)
وقال غيره فلو خالف وقدم بعضها
على بعض جاز ولا إثم عليه ولا فدية لهذا الحديث ولعموم وقوله ولا حرج وهذا مذهب
عطاء وطاوس ومجاهد وقول أحمد وإسحاق والمشهور من قول الشافعي وحملوا قوله تعالى
ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله ( البقرة 196 ) على المكان الذي يقع فيه
النحر وللشافعي قول ضعيف أنه إذا قدم الحلق على الرمي والطواف لزمه الدم بناء على
قوله الضعيف عند أصحابه أن الحلق ليس بنسك قال النووي وبهذا القول قال أبو حنيفة
ومالك ويروى عن سعيد بن جبير والحسن والنخعي وقتادة ورواية شاذة عن ابن عباس أن من
قدم بعضها على بعض لزمه الدم وقال المازري لا فدية عليه عند مالك يعني في تقديم
بعضها على بعض إلا الحلق على الرمي فعليه الفدية وقال عياض وكذا إذا قدم الطواف
للإفاضة على الرمي عنده فقيل يجزئه وعليه الهدي وقيل لا يجزئه وكذلك قال إذا رمى
ثم أفاض قبل أن يحلق وأجمعوا على أن من نحر قبل الرمي لا شيء عليه واتفقوا على أنه
لا فرق بين العامد والساهي في وجوب الفدية وعدمها وإنما اختلفوا في الإثم وعدمه
عند من منع التقديم قلت إذا حلق قبل أن يذبح فعليه دم عند أبي حنيفة وإن كان قارنا
فعلية دمان وقال زفر إذا حلق قبل أن ينحر عليه ثلاثة دماء دم للقران ودمان للحلق
قبل النحر وقال إبراهيم من حلق قبل أن يذبح أهرق دما وقال أبو عمر لا أعلم خلافا
فيمن نحر قبل أن يرمي أنه لا شيء عليه قال واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد
الرمي فكان ابن عمر يقول يرجع فيحلق أو يقصر ثم يرجع إلى البيت فيفيض وقال عطاء
ومالك والشافعي وسائر الفقهاء يجزئه الإفاضة ويحلق أو يقصر ولا شيء عليهقلت احتج
الشافعي وأحمد ومن تبعهما فيما ذهبوا إليه بظاهر الحديث المذكور فإن معنى قوله ولا
حرج أي لا شيء عليك مطلقا من الإثم لا في ترك الترتيب ولا في ترك الفدية واحتجت
الحنفية فيما ذهبوا إليه بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال من قدم
شيئا من حجه أو اخره فليهرق لذلك دما وتأويل الحديث المذكور لا إثم عليكم فيما
فعلتموه من هذا لأنكم فعلتموه على الجهل منكم لا القصد منكم خلاف السنة وكانت
السنة خلاف هذا وأسقط عنهم الحرج وأعذرهم لأجل النسيان وعدم العلم والدليل عليه
قول السائل فلم أشعر وقد جاء ذلك مصرحا في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح أن رسول الله عليه الصلاة و السلام سأله رجل في حجته
فقال إني رميت وأفضت ونسيت فلم احلق قال فاحلق ولا حرج ثم جاء رجل آخر فقال إني
رميت وحلقت ونسيت أن أنحر فقال انحر ولا حرج فدل ذلك على أن الحرج الذي رفعه الله
عنهم إنما كان لأجل نسيانهم ولجهلهم أيضا بأمر المناسك لا لغير ذلك وذلك أن
السائلين كانوا ناسا أعرابا لا علم لهم بالمناسك فأجابهم رسول الله بقوله لا حرج
يعني فيما فعلتم بالنسيان وبالجهل لا أنه أباح لهم ذلك فيما بعد ومما يؤيد هذا
ويؤكده قول ابن عباس رضي الله عنهما المذكور والحال أنه أحد رواة الحديث المذكور
فلو لم يكن معنى الحديث عنده على ما ذكرنا لما قال بخلافه ومن الدليل على ما ذكرنا
أن ذلك كان بسبب جهلهم ما رواه أبو سعيد الخدري أخرجه الطحاوي قال سئل رسول الله
عليه الصلاة و السلام وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي قال لا حرج وعن رجل
ذبح قبل أن يرمي قال لا حرج ثم قال عباد الله وضع الله عز و جل الحرج والضيق
وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم قال الطحاوي أفلا يرى إلى أنه أمرهم بتعلم مناسكهم
لأنهم كان لا يحسنونها فدل ذلك أن الحرج الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر
مناسكهم لا لغير ذلك فإن قلت قد جاء في بعض الروايات الصحيحة ولم يأمر بكفارة قلت
يحتمل أنه لم يأمر بها لأجل نسيان السائل أو أمر بها وذهل عنه الراوي
24 -
( باب من أجاب الفتيا باشارة اليد والرأس )
أي هذا باب في بيان المفتي الذي أجاب المستفتي في فتياه بإشارة بيده أو رأسه وجه
المناسبة بين البابين ظاهر
84 - حدثنا ( موسى بن إسماعيل ) قال حدثنا ( وهيب ) قال حدثنا ( أيوب ) عن ( عكرمة
) عن ( ابن
(2/90)
عباس ) أن النبي سئل في حجته
فقال ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال ولا حرج قال حلقت قبل أن أذبح فأومأ بيده
ولا حرج
مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن فيه الإشارة باليد في جواب الفتيا وهو قوله فاومأ
بيده في الموضعين
بيان رجاله وهم خمسة الأول موسى بن إسماعيل أبو سلمة بفتح اللام التبوذكي الحافظ
البصري وقد مر ذكره الثاني وهيب بضم الواو وفتح الهاء وسكون الياء آخر الحروف وفي
آخره باء موحدة ابن خالد الباهلي البصري الثالث أيوب السختياني البصري الرابع
عكرمة مولى ابن العباس الخامس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم بصريون ومنها
أن فيه رواية تابعي عن تابعي
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الحج عن علي بن محمد
الطنافسي عن سفيان بن عيينة عن أيوب به نحوه وأخرجه أيضا في الحج عن موسى ابن
إسماعيل عن وهيب عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وأخرجه مسلم فيه عن محمد
بن حاتم عن بهز بن أسد عن وهيب عنه به وأخرجه النسائي فيه أيضا عن عمرو بن منصور
عن المعلى بن أسد عن وهيب به
بيان اللغات والإعراب قوله فأومأ أي أشار وثلاثيه ومأت إليه أميء ومأ وأومأت إليه
وأومأته أيضا وومأت تومئة اشرت قوله سئل بضم السين قوله فقال أي السائل ذبحت قبل
أن أرمي أي فما حكمك فيه هل يصح وهل علي فيه حرج قوله فأومأ أي رسول الله عليه
الصلاة و السلام بيده قوله قال ولا حرج أي قال النبي عليه الصلاة و السلام ولا حرج
عليك فإن قلت ما محل قال من الإعراب قلت محله النصب على الحال أي فأومأ بيده حال
كونه قد قال ولا حرج عليك والأحسن أن يكون بيانا لقوله فأومأ ولهذا ذكر بدون الواو
العاطفة حيث لم يقل فأومأ بيده وقال وأما الواو في ولا حرج ففي رواية الأصيلي
وغيره وليست بموجودة في رواية ابن ذر وأما في ولا حرج الثاني فهي موجودة عند الكل
وقال الكرماني فإن قلت لم ترك الواو أولا في ولا حرج وذكر ثانيا فيه قلت لأن الأول
كان في ابتداء الحكم والثاني عطف على المذكور أولا قلت هذا إنما يتمشى على رواية
أبي ذر على ما لا يخفى قوله وقال حلقت أي قال سائل آخر أو ذلك السائل بعينه قوله
قبل أن اذبح أن فيه مصدرية أي قبل الذبح قوله فأومأ أي رسول الله عليه الصلاة و
السلام بيده ولا حرج ولم يذكر ههنا قال ولا حرج وإنما قال فأومأ بيده ولا حرج ولم
يحتج إلى ذكر قال ههنا لأنه أشار بيده بحيث فهم من تلك الإشارة أنه لا حرج سيما
وقد سئل عن الحرج أو يقدر لفظة قال والتقدير فأومأ بيده قال ولا حرج أو قائلا ولا
حرج وقال الكرماني وفي بعض النسخ فأومأ بيده أن لا حرج ثم قال ان إما صلة لقوله
أومأ وإما تفسيرية إذ في الإيماء معنى القول
85 - حدثنا ( المكي بن إبراهيم ) قال أخبرنا ( خنظلة بن أبي سفيان ) عن ( سالم )
قال سمعت ( أبا هريرة ) عن النبي قال يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج
قيل يا رسول الله وما الهرج فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل
مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن فيه الإشارة باليد كما في الحديث السابق
بيان رجاله وهم أربعة الأول المكي بن إبراهيم بن بشر بفتح الباء الموحدة وكسر
الشين المعجمة وبالراء ابن فرقد أبو السكن البلخي أخو إسماعيل ويعقوب سمع حنظلة
وغيره من التابعين وهو أكبر شيوخ البخاري من الخراسانيين لأنه روى عن التابعين
وروى عنه أحمد ويحيى بن معين وروى عنه البخاري في الصلاة والبيوع وغير موضع وأخرج
في البيوع عن محمد بن عمرو عنه عن عبد الله بن سعيد وروى مسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي عن رجل عنه وقال أحمد ثقة وقال ابن سعد ثقة ثبت وقال أبو حاتم محله الصدق
وقال النسائي لا بأس به ولد سنة ست وعشرين ومائة وتوفي سنة أربع عشرة ومائتين
(2/91)
ببلخ وليس في الكتب الستة مكي
بن إبراهيم غيره و مكي بتشديد الياء على وزن النسبة وليس بنسبة وإنما هو اسمه
الثاني حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الملك وقد مر في باب الحياء من الإيمان الثالث
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم الرابع أبو هريرة عبد الرحمن بن
صخر رضي الله عنه
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة والسماع ووقع في رواية
الإسماعيلي من طريق إسحاق بن سليمان الرازي عن حنظلة قال سمعت سالما وزاد فيه لا
أدري كم رأيت أبا هريرة واقفا في السوق يقول يقبض العلم فذكره موقوفا لكن ظهر في
آخره أنه مرفوع ومنها أن رواته ما بين بلخي ومكي ومدني ومنها أن إسناده من
الرباعيات العوالي
بيان اللغات والإعراب قولهالهرج بفتح الهاء وسكون الراء وفي آخره جيم قال في (
العباب ) الهرج الفتنة والاختلاط وقد هرج الناس يهرجون بالكسر هرجا ومنه حديث
النبي يتقارب الزمان وينقص العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج قيل وما
الهرج يا رسول الله قال القتل القتل ثم قال الصغاني وأصل الهرج الكثرة في الشيء
ومنه قولهم في الجماع بات يهرجها ليلته جمعاء ويقال للفرس مر يهرج وإنه لمهرج
ومهراج إذا كان كثير الجري وهرج القوم في الحديث إذا أفاضوا فيه فأكثروا والهراجة
الجماعة يهرجون في الحديث وقال في آخر الفصل والتركيب يدل على اختلاط وتخليط وقال
ابن دريد الهرج الفتنة في آخر الزمان وقال القاضي الفتن بعض الهرج وأصل الهرج
والتهارج الاختلاط والقتال ومنه قوله فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة ومنه
يتهارجون تهارج الحمر قيل معناه يتخالطون رجالا ونساء ويتناكحون مزاناة ويقال
هرجها يهرجها إذا نكحها و يهرجها بفتح الراء وضمها وكسرها وقال الكرماني إرادة
القتل من لفظ الهرج إنما هو على طريق التجوز إذ هو لازم معنى الهرج اللهم إلا أن
يثبت ورود الهرج بمعنى القتل لغة وقال بعضهم وهي غفلة عما في البخاري في كتاب
الفتن والهرج القتل بلسان الحبشة قلت هذا غفلة لأن كون الهرج بمعنى القتل بلسان
الحبشة لا يستلزم أن يكون بمعنى القتل في لغة العرب غير أنه لما استعمل بمعنى
القتل وافق اللغة الحبشية وأما في أصل الوضع فالعرب ما استعملته إلا لمعنى الفتنة
والاختلاط واستعملوه بمعنى القتل تجوزا فإن قلت قال صاحب ( المطالع ) فسر الهرج في
الحديث بالقتل بلغة الحبشة ثم قال وقوله بلغة الحبشة وهم من بعض الرواة وإلا فهي
عربية صحيحة قلت لا يلزم من تفسيره في الحديث بالقتل أن يكون معناه القتل في أصل
الوضع قوله يقبض العلم على صيغة المجهول وقد مر أن قبضه بقبض العلماء كما جاء
مبينا في الحديث وجاء في مسلم وينقص العلم ويظهر الجهل على صيغة المعلوم وظهور
الجهل من لوازم قبض العلم وذكره لزيادة الإيضاح والتأكيد قوله الفتن بالرفع عطفا
على الجهل وفي رواية الأصيلي وتظهر الفتن قوله ويكثر الهرج على صيغة المعلوم قوله
فقال هكذا بيده معناه أشار بيده محرفا وفيه إطلاق القول على الفعل وهو كثير ومنه
قول العرب قالوا بزيد وقلنا به أي قتلناه قاله ابن الأعرابي وقال الرجل بالشيء أي
غلب وقال الصغاني وفي دعاء النبي عليه الصلاة و السلام سبحان من تعطف بالعز وقال
به وهذا من المجاز الحكمي كقولهم نهاره صائم والمراد وصف الرجل بالصوم ووصف الله
تعالى بالعز قوله وقال به أي وغلب به كل عزيز وملك عليه أمره وفي ( المطالع ) وفي
حديث الخضر فقال بيده فأقامه أي أشار أو تناول وقوله في الوضوء فقال بيده هكذا أي
نفضه قوله فقال باصبعه السبابة والوسطى أي أشار وفي حديث دعاء الوالد وقال بيده
نحو السماء أي رفعها قوله فحرفها من التحريف تفسير لقوله فقال هكذا بيده كأن الراوي
بين أن الإيماء كان محرفا ومثل هذه الفاء تسمى الفاء التفسيرية نحو فتوبوا إلى
بارئكم فاقتلوا أنفسكم ( البقرة 54 ) إذ القتل هو نفس التوبة على أحد التفاسير
قوله كأنه يريد القتل الظاهر أن هذا زيادة من الراوي عن حنظلة فإن أبا عوانة رواه
عن عباس الدوري عن أبي عاصم عن حنظلة وقال في آخره وأرانا أبو عاصم كأنه يضرب عنق
الإنسان وكأن الراوي فهم من تحريك اليد وتحريفها أنه يريد القتل قلت وقع في بعض
النسخ فحركها بالكاف موضع فحرفها فالظاهر أنه غير ثابت وفيه دليل على أن الرجل إذ
أشار بيده أو برأسه أو بشيء يفهم منه ارادته أنه جائز عليه وسيأتي في كتاب الطلاق
حكم الإشارة بالطلاق واختلاف الفقهاء فيه إن شاء الله تعالى
(2/92)
86 - حدثنا ( موسى بن إسماعيل
) قال حدثنا ( وهيب ) قال حدثنا ( هشام ) عن ( فاطمة ) عن ( أسماء ) قالت أتيت
عائشة وهي تصلي فقلت ما شأن الناس فأشارت إلى السماء فإذا الناس قيام فقالت سبحان
الله قلت آية فأشارت برأسها أي نعم فقمت حتى تجلاني الغشي فجعلت أصب على رأسي
الماء فحمد الله عز و جل النبي وأثنى عليه ثم قال ما من شيء لم أكن أريته إلا
رأيته في مقامي حتى الجنة والنار فأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريب لا
أدري أي ذلك قالت أسماء من فتنة المسيح الدجال يقال ما علمك بهذا الرجل فأما
المؤمن أو الموقن لا أدري بأيهما قالت أسماء فيقول هو محمد رسول الله جاءنا
بالبينات والهدى فأجبنا واتبعنا هو محمد ثلاثا فيقال نم صالحا قد علمنا إن كنت
لموقنا به وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول لا أدري سمعت
الناس يقولون شيئا فقلته
مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن فيه الإشارة بالرأس لكنه من فعل عائشة رضي
الله عنها وقال بعضهم فيكون موقوفا لكن له حكم المرفوع لأنها كانت تصلي خلف النبي
وكان في الصلاة يرى من خلفه قلت لا يحتاج إلى هذا التكلف بل وجود شيء في حديث
الباب مما هو مطابق للترجمة كاف وقال الكرماني فإن قلت هذا الحديث لا يدل إلا على
بعض الترجمة وهو الإشارة بالرأس كما أن الأولين لا يدلان أيضا إلا على البعض الآخر
وهو الإشارة باليد قلت لا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على تمام الترجمة بل إذا
دل البعض على البعض بحيث دل المجموع على المجموع صحت الترجمة ومثله مر في كتاب بدء
الوحي
بيان رجاله وهم خمسة الأول موسى بن إسماعيل الثاني وهيب بن خالد وقد ذكرا الآن
الثالث هشام بن عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهم وقد تقدم الرابع فاطمة بنت
المنذر بن الزبير بن العوام وهي زوجة هشام بن عروة وبنت عمه روت عن جدتها أسماء
روى عنها زوجها هشام ومحمد بن إسحاق وقال أحمد بن عبد الله تابعية ثقة روى لها
الجماعة الخامس أسماء بنت أبي بكر الصديق زوجة الزبير رضي الله عنهم وكان عبد الله
بن أبي بكر شقيقها وعائشة وعبد الرحمن أخواها لأبيها وهي ذات النطاقين ولدت قبل
الهجرة بسبع وعشرين سنة وأسلمت بعد سبعة عشر إنسانا روي لها عن رسول الله ستة
وخمسون حديثا انفرد البخاري بأربعة ومسلم بمثلها واتفقا على أربعة عشر توفيت بمكة
في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير وقد بلغت
المائة ولم يسقط لها سن ولم يتغير عقلها رضي الله تعالى عنها
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن فيه رواية تابعية عن
صحابية مع ذكر صحابية أخرى ومنها أن رواته ما بين بصري ومدني
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن إسماعيل وفي
الكسوف عن عبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن القعنبي ثلاثتهم عن مالك وفي كتاب
الجمعة في باب من قال في الخطبة أما بعد وقال فيه محمود حدثنا أبو أسامة وفي كتاب
الخسوف وقال أبو أسامة وفي كتاب السهو في باب الإشارة في الصلاة عن يحيى بن سليمان
عن ابن وهب عن الثوري مختصرا وفي الخسوف مختصرا عن الربيع بن يحيى عن زائدة وعن
موسى بن مسعود عن زائدة مختصرا وتابعه علي عن الدراوردي وعن محمد المقدمي عن تمام
في العتاقة وأخرجه مسلم في الخسوف عن أبي كريب عن ابن غير وعن أبي بكر بن أبي شيبة
وأبي كريب عن أبي أسامة كلهم عن هشام بن عروة عن امرأته فاطمة
بيان اللغات قوله حتى علاني بالعين المهملة من علوت الرجل غلبته تقول علاه يعلوه
علوا وعلا في المكان يعلو علوا
(2/93)
أيضا وعلا بالكسر في الشرف
يعلي علاء ويقال أيضا بالفتح يعلى قال رؤبة
دفعك داواني وقد جويت
لما علا كعبك لي عليت
فجمع بين اللغتين هذا رواية الأكثرين أعني علاني وفي رواية كريمة تجلاني بفتح
التاء المثناة والجيم وتشديد اللام وأصله تجللني أي علاني قال في ( العباب ) تجلله
أي علاه قلت هذا مثل تقضى البازي أصله تقضض فاستثقلوا ثلاث ضادات فابدلوا من
إحداهن ياء فصار ياء وكذلك استثقلوا ثلاث لامات فأبدلوا من إحداهن ياء فصار تجلى
وربما يظنه من لا خبرة له من مواد الكلام أن هذا من النواقص وهو من المضاعف وقال
بعضهم تجلاني بمثناة وجيم ولام مشددة وجلال الشيء ما غطي به قلت الجلال جمع جل
الفرس ولا مناسبة لذكره مع تجلاني وإن كانا مشتركين في أصل المادة لأن ذلك فعل من
باب التفعيل وهذا اسم وهو جمع ولو قال ومنه جلال الشيء كان لا بأس به تنبيها على
أنهما مشتركان في أصل المادة وأيضا لا يقال جلال الشيء ما غطى به بل الذي يقال جل
الشيء قلت الغشي بفتح الغين المعجمة وسكون الشين المعجمة وفي آخره ياء آخر الحروف
مخففة من غشى عليه غشية وغشيا وغشيانا فهو مغشي عليه واستغشى بثوبه وتغشى أي تغطى
به وقال القاضي رويناه في مسلم وغيره بكسر الشين وتشديد الياء وباسكان الشين
والياء وهما بمعنى الغشاوة وذلك لطول القيام وكثرة الحر ولذلك قالت فجعلت أصب على
رأسي أو على وجهي من الماء قال الكرماني الغشي بكسر الشين وتشديد الياء مرض معروف
يحصل بطول القيام في الحر وغير ذلك وعرفه أهل الطب بأنه تعطل القوى المحركة
والحساسة لضعف القلب واجتماع الروح كله إليه فإن قلت إذا تعطلت القوى فكيف صبت
الماء قلت أرادت بالغشي الحالة القريبة منه فأطلقت الغشي عليها مجازا أو كان الصب
بعد الإفاقة منه قال بعض الشارحين ويروى بعين مهملة قال القاضي ليس بشيء وفي (
المطالع ) الغشي بكسر الشين وتشديد الياء كذا قيده الأصيلي ورواه بعضهم الغشي وهما
بمعنى واحد يريد الغشاوة وهو الغطاء ورويناه عن الفقيه ابن محمد عن الطبري العشي
بعين مهملة وليس بشيء قوله تفتنون أي تمتحنون قال الجوهري الفتنة الامتحان
والاختبار تقول فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته ودينار مفتون ويسمى
الصائغ الفتان وأفتن الرجل وفتن فهو مفتون إذا أصابته فتنة فذهب ماله وعقله وذلك
إذا اختبر قال الله تعالى وفتناك فتونا ( طه 40 ) قوله المسيح الدجال إنما سمي
مسيحا لأنه يمسح الأرض أو لأنه ممسوح العين قال في ( العباب ) المسيح الممسوح
بالشوم وقال ابن دريد سمت اليهود الدجال مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين وبعض
المحدثين يقولون فيه المسيح مثال سكيت لأنه مسح خلقه أي شوه وأما المسيح بالفتح
فهو عيسى بن مريم عليه السلام وقال ابن ماكولا عن شيخه الصواب هو بالخاء المعجمة
المسيخ يقال مسحه الله بالمهملة إذا خلقه خلقا حسنا ومسخه بالمعجمة إذا خلقه خلقا
ملعونا والدجال على وزن فعال من الدجل وهو الكذب والتمويه وخلط الحق بالباطل وهو
كذاب مموه خلاط وقال أبو العباس سمي دجالا لضربه في الأرض وقطعه أكثر نواحيها يقال
دجل الرجل إذا فعل ذلك ويقال دجل إذا لبس ويقال الدجل طلي البعير بالقطران وبغيره
ومنه سمي الدجال ويقال لماء الذهب دجال بالضم وشبه الدجال به لأنه يظهر خلاف ما
يضمر ويقال الدجل السحر والكذب وكل كذاب دجال وقال ابن دريد سمي به لأنه يغطي
الأرض بالجمع الكثير مثل دجلة تغطي الأرض بمائها والدجل التغطية يقال دجل فلان
الحق بباطله أي غطاه يقال دجل الرجل بالتخفيف والتشديد مع فتح الجيم ودجل أيضا
بالضم مخففا
بيان الأعراب قوله عائشة منصوب بقوله أتيت ومنع التنوين لأنه غير منصرف للعلمية
والتأنيث قوله وهي تصلي جملة إسمية وقعت حالا من عائشة قوله فقلت جملة من الفعل
والفاعل وقوله ما شأن الناس جملة إسمية من المبتدأ والخبر وقعت مقول القول قوله
فأشارت عطف على قوله فقلت قوله فإذا للمفاجأة و الناس مبتدأ و قيام خبره قوله
فقالت أي عائشة سبحان الله فإن قلت ينبغي أن يكون مقول القول جملة و سبحان الله
ليس بجملة قلت قالت معناه ههنا ذكرت وقال بعضهم فقالت سبحان الله أي أشارت قائلة
سبحان الله قلت هذا التقدير فاسد لأن قالت ههنا عطف بحرف الفاء فكيف يقدر حالا
مفردة و سبحان علم للتسبيح كعثمان علم للرجل وهو
(2/94)
مفعول مطلق التزم إضمار فعله والتقدير يسبح الله سبحان أي تسبيحا معناه أنزهه من النقائص وسمات المخلوقين فإن قلت إذا كان علما كيف أضيف قلت ينكر عند إرادة الإضافة وقال ابن الحاجب كونه علما إنما هو في غير حالة الإضافة قوله آية بهمزة الاستفهام وحذفها خبر مبتدأ محذوف أي هي آية أي علامة لعذاب الناس قوله فأشارت عطف على قلت قوله أي نعم تفسير لقوله أشارت قوله حتى علاني حتى ههنا للغاية بمعنى إلى أن علاني وعلاني فعل ومفعول و الغشي بالرفع فاعله قوله فجعلت من الأفعال الناقصة والتاء اسمه وقوله أصب على رأسي الماء جملة من الفعل والفاعل وهو أنا المستتر في أصب والمفعول وهو قوله الماء ومحله النصب لأنها خبر جعلت قوله فحمد فعل ولفظة الله مفعوله والنبي فاعله قوله وأثنى عليه عطف على حمد قوله ثم قال عطف على حمد قوله ما من شيء كلمة ما للنفي وكلمة من زائدة لتأكيد النفي و شيء اسم ما وقوله لم أكن أريته في محل الرفع لأنه صفة لشيء وهو مرفوع في الأصل وإن كان جر بمن الزائدة واسم أكن مستتر فيه و أريته بضم الهمزة جملة في محل النصب على أنها خبر لم أكن وقوله إلا رأيته استثناء مفرغ وقالت النحاة كل استثناء مفرغ متصل ومعناه أن ما قبلها مفرغ لما بعدها إذ الاستثناء من كلام غير تام فيلغى فيه إلا من حيث العمل لا من حيث المعنى نحو ما جاءني إلا زيد وما رأيت إلا زيدا أو ما مررت إلا بزيد فالفعل الواقع ههنا قب