حمل القران وورد وبي دي اف

 مدونة العيني /مدونة تاريخ الخلق /أضواء

 

 حمل القران وورد وبي دي اف.

القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الأربعاء، 28 سبتمبر 2022

ج5.وج6.عمدة القاري بدر الدين العيني

 

ج5.وج6.عمدة القاري بدر الدين العيني

 

ج5.عمدة القاري بدر الدين العيني

 

جنبني شره واجنبني والشيطان وزنه فيعال إذا كان من شطن وفعلان إذا كان من شاط وقال الزمخشري وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة والدليل على أصالتها قولهم تشيطن واشتقاقه من شطن إذا بعد لبعده من الصلاح والخير أو من شاط إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة ومن أسمائه الباطل وقال الجوهري شطن عنه بعد وأشطنه أبعده قال ابن السكيت شطنه يشطنه شطنا إذا خالفه عن نية وجهة وبئر شطون بعيدة والشيطان معروف وكل عات متمرد في الجن والإنس والدواب شيطان والعرب تسمى الحية شيطانا ونونه أصلية ويقال أنها زائدة فإن جعلته فيعالا من قولهم تشيطن الرجل صرفته وإن جعلته من تشيط لم تصرفه لأنه فعلان وفي العباب الشيطان واحد الشياطين واختلفوا في اشتقاقه فقال قوم إنه من شاط يشيط أي هلك ووزنه فعلان ويدل على ذلك قراءة الحسن البصري والأعمش وسعيد بن جبير وأبي البرهسم وطاوس ( وما تنزلت به الشياطون ) وقال قوم أنه من شطن أي بعد وقال وأصل شاط من شاط الزيت أو السمن إذا نضج حتى يحترق لأنه يهلك حينئذ وتشيط احترق وغضب فلان واستشاط أي احتد كأنه التهب في غضبه والتركيب يدل على ذهاب الشيء إما احتراقا وإما غير ذلك قوله ما رزقتنا من الرزق وفي العباب الرزق ما ينتفع به والجمع الأرزاق وقال بعضهم الرزق بالفتح المصدر الحقيقي والرزق بالكسر الاسم يقال رزقه الله يرزقه وقد يسمى المطر رزقا وذلك قوله تعالى ( وما أنزل الله من السماء من رزق ) ( وفي السماء رزقكم ) وهو على الاتساع في اللغة انتهى ويقال الرزق في كلام العرب الحظ قال تعالى ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) أي حظكم من هذا الأمر والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره وقيل الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل وهذا باطل لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال تعالى ( وأنفقوا مما رزقناكم ) فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه وقيل الرزق هو ما يملك وهو أيضا باطل لأن الإنسان قد يقول اللهم ارزقني ولدا صالحا وزوجة صالحة وهو لا يملك الولد والزوجة وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه فقال أبو الحسين البصري هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أي منعه من الانتفاع به ولما فسرت المعتزلة الرزق بهذا لا جرم قالوا الحرام لا يكون رزقا وقال أهل السنة الحرام رزق لأنه في أصل اللغة الحظ والنصيب كما ذكرنا فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظا له ونصيبا فوجب أن يكون رزقا له وأيضا قال الله تعالى ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة فوجب أن يقال طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا قوله فقضى من القضاء وله معان متعددة يقال قضى أي حكم ومنه قوله تعالى ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) وقضى حاجته أي فرغ منها وضربه فقضى عليه أي قتله كأنه فرغ منه وسم قاض أي قاتل وقضى نحبه قضاء أي مات وقضى دينه أي أداه وقضى إليه الأمر أي أنهاه إليه وأبلغه وقال تعالى ( وقضينا إليه ذلك الأمر ) وقضى إليه أي مضى إليه وقضاه أي صنعه وقضاه أي قدره قال تعالى ( فقضاهن سبع سموات في يومين ) ومنه القضاء والقدر والمناسب ههنا إما حكم أو قدر فافهم
( بيان الإعراب ) قوله ليبلغ بفتح الباء من البلاغ جملة في محل النصب على الحال وقوله به صلة يبلغ والنبي بالنصب مفعوله قوله لو أن أحدكم كلمة لو هذه ههنا لمجرد الربط تفيد ترتيب الوجود عند الوجود كما في قوله تعالى ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) وقول عمر رضي الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه وكلمة أن في محل الرفع على الفاعلية إذ التقدير لو ثبت قول أحدكم بسم الله قوله قال بسم الله خبر أن وقوله إذا أتى أحدكم أهله ظرف له وقوله لم يضره جواب لو والتقدير لو ثبت قول أحدكم بسم الله عند إتيان أهله لم يضر الشيطان ذلك الولد قوله جنبنا جملة من الفعل والفاعل والمفعول وقوله الشيطان بالنصب مفعول ثان لجنب وقوله وجنب جملة من الفعل والفاعل والشيطان مفعوله وقوله ما رزقتنا في محل النصب على أنه مفعول ثان وكلمة ما موصولة والعائد محذوف تقديره الذي رزقتناه وقول من قال من الشارحين ما ههنا بمعنى شيء ليس بشيء قوله فقضى عطف على قوله قال المعنى عقيب قوله قدر الله بينهما ولدا ويحتمل أن تكون للسببية كما في قوله تعالى ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ) قوله لم يضره يجوز بضم الراء وفتحها ويقال الضم أفصح قلت في مثل هذه المادة يجوز ثلاثة أوجه

(2/268)


الضم لأجل ضمه ما قبلها والفتح لأنه أخف الحركات وفك الإدغام كما علم في موضعه فافهم
( بيان المعاني ) قوله إذا أتى أهله أي جامعها وهو كناية عن الجماع قوله اللهم معناه يا الله وقد مر فيما مضى تحقيقه قوله فقضى بينهما أي بين الأحد والأهل هذه رواية الأكثرين وفي رواية المستملي والحموي فقضى بينهم ووجهه بالنظر إلى معنى الجمع في الأهل والولد يشمل الذكر والأنثى قوله لم يضره أي لم يضر الشيطان الولد يعني لا يكون له عليه سلطان ببركة اسمه عز و جل بل يكون من جملة العباد المحفوظين المذكورين في قوله تعالى ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ويقال يحتمل أن يؤخذ قوله لم يضره عاما فيدخل تحته الضرر الديني ويحتمل أن يؤخذ خاصا بالنسبة إلى الضرر البدني بمعنى أن الشيطان لا يتخبطه ولا يداخله بما يضر عقله وبدنه وهو الأقرب وإن كان التخصيص خلاف الأصل لأنا إذا حملناه على العموم اقتضى أن يكون الولد معصوما عن المعاصي وقد لا يتفق ذلك ولا بد من وقوع ما أخبر به عليه الصلاة و السلام أما إذا حملناه على الضرر في العقل والبدن فلا يمتنع وقال القاضي عياض قيل المراد أنه لا يصرعه الشيطان وقيل لا يطعن فيه عند ولادته بخلاف غيره قال ولم نحمله على العموم في جميع الضرر لوجود الوسوسة والإغراء يعني الحمل على فعل المعاصي وقال الداودي لم يضره بأن يفتنه بالكفر
( بيان استنباط الأحكام ) الأول فيه استحباب التسمية والدعاء المذكور في ابتداء الوقاع واستحب الغزالي في الأحياء أن يقرأ بعد بسم الله قل هو الله أحد ويكبر ويهلل ويقول بسم الله العلي العظيم اللهم اجعلها ذرية طيبة إن كنت قدرت ولدا يخرج من صلبي قال وإذا قربت الأنزال فقل في نفسك ولا تحرك به شفتيك ( الحمد لله الذي خلق من الماء بشرا ) الآية الثاني فيه الاعتصام بذكر الله تعالى ودعائه من الشيطان والتبرك باسمه والاستشعار بأن الله تعالى هو الميسر لذلك العمل والمعين عليه الثالث فيه الحث على المحافظة على تسميته ودعائه في كل حال لم ينه الشرع عنه حتى في حال ملاذ الإنسان وقال ابن بطال فيه الحث على ذكر الله في كل وقت على طهارة وغيرها ورد قول من قال لا يذكر الله تعالى إلا وهو طاهر ومن كره ذكر الله تعالى على حالتين على الخلاء وعلى الوقاع قلت روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان لا يذكر الله إلا وهو طاهر وروى مثله عن أبي العالية والحسن وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره أن يذكر الله تعالى على حالين على الخلاء والرجل يواقع أهله وهو قول عطاء ومجاهد وقال مجاهد رحمه الله يجتنب الملك الإنسان عند جماعه وعند غائطه وقال ابن بطال وهذا الحديث خلاف قولهم قلت ليس كذلك فإن المراد بإتيانه أهله إرادة ذلك وحينئذ فليس خلاف قولهم وكراهة الذكر على غير طهر لأجل تعظيمه الرابع قال ابن بطال لما كان في هذا الحث على التسمية في كل حال استحب مالك التسمية عند الوضوء قلت فيه مذاهب أحدها أنه سنة وليست بواجبة فلو تركها عمدا صح وضوؤه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء وهو أظهر الروايتين عن أحمد وعبارة ابن بطال أن مالكا استحبها وكذا عامة أهل الفتوى الثاني أنها واجبة وهي رواية عن أحمد وقول أهل الظاهر الثالث أنها واجبة إن تركها عمدا بطلت طهارته وإن تركها سهوا أو معتقدا أنها غير واجبة لم تبطل طهارته وهو قول إسحق بن راهويه كما حكاه الترمذي عنه الرابع أنها ليست بمستحبة وهي رواية عن أبي حنيفة وعن مالك رواية أنها بدعة وقال ما سمعت بهذا يريد أن يذبح وفي رواية أنها مباحة لا فضل في فعلها ولا في تركها الخامس فيه الإشارة إلى ملازمة الشيطان لابن آدم من حين خروجه من ظهر أبيه إلى رحم أمه إلى حين موته أعاذنا الله منه فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم وعلى خيشومه إذا نام وعلى قلبه إذا استيقظ فإذا غفل وسوس وإذا ذكر الله خنس ويضرب على قافية رأسه إذا نام ثلاث عقد عليك ليل طويل وتنحل بالذكر والوضوء والصلاة
( باب ما يقول عند الخلاء )
أي هذا باب في بيان ما يقول الشخص عند إرادة دخول الخلاء وهو بفتح الخاء وبالمد موضع قضاء الحاجة سمي بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة وهو الكنيف والحش والمرفق والمرحاض أيضا وأصله المكان الخالي ثم كثر

(2/269)


استعماله حتى تجوز به عن ذلك وأما الخلا بالقصر فهو الحشيش الرطب والكلأ الخشن أيضا وقد يكون خلا مستعملا في باب الاستنجاء فإن كسرت الخاء مع المد فهو عيب في الإبل كالحران في الخيل وقال الجوهري الخلاء ممدود المتوضىء والخلاء أيضا المكان الذي لا شيء به قلت كل منهما يصح أن يكون مرادا ههنا ووجه المناسبة بين البابين ظاهر لأن في كل منهما بيان ذكر اسم الله تعالى
8 - ( حدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن عبد العزيز بن صهيب قال سمعت أنسا يقول كان النبي إذا دخل الخلاء قال اللهم إني اعوذ بك من الخبث والخبائث )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
( بيان رجاله ) وهم أربعة تقدم ذكرهم وآدم ابن أبي إياس وصهيب بضم الصاد المهملة
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أنه من رباعيات البخاري ومنها أن رواته ما بين بغدادي وواسطي وبصري
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الدعوات عن محمد بن عروة عن شعبة وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن إسمعيل بن إبراهيم عن عبد العزيز به وأخرجه أبو داود أيضا في الطهارة عن الحسن بن عمرو عن وكيع عن شعبة وأخرجه الترمذي فيه أيضا عن قتيبة وهناد كلاهما عن وكيع به وأخرجه النسائي في الطهارة وفي البعوث عن إسحق بن إبراهيم عن إسمعيل بن إبراهيم عنه به وأخرجه ابن ماجه عن عمرو بن رافع عن إسمعيل عنه به
( بيان اللغات ) قوله أعوذ بك أي ألوذ وألتجىء من العوذ وهو عود إليه يلجأ الحشيش في مهب الريح وقال ابن الأثير يقال عذت به عوذا وعياذا ومعاذا أي لجأت إليه والمعاذ المصدر والمكان والزمان أي لقد لجأت إلى ملجأ ولذت بملاذ قوله من الخبث قال الخطابي بضم الخاء والباء جماعة الخبيث والخبائث جمع الخبيثة يريد ذكران الشياطين وإناثهم وعامة أصحاب الحديث يقولون الخبث مسكنة الباء وهو غلط والصواب مضمومة الباء قال وقال ذلك لأن الشياطين يحضرون الأخلية وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله تعالى فقدم لها الاستعاذة احترازا منهم انتهى وفيه نظر لأن أبا عبيد القاسم بن سلام حكى تسكين الباء وكذا الفارابي في ديوان الأدب والفارسي في مجمع الغرائب ولأن فعلا بضمتين قد يسكن عينه قياسا ككتب وكتب فلعل من سكنها سلك هذا المسلك وقال التوربشتي هذا مستفيض لا يسع أحدا مخالفته إلا أن يزعم إن ترك التخفيف فيه أولى لئلا يشتبه بالخبث الذي هو المصدر وفي شرح السنة الخبث بضم الباء وبعضهم يروي بالسكون وقال الخبث الكفر والخبائث الشياطين وقال ابن بطال الخبث بالضم يعم الشر والخبائث الشياطين وبالسكون مصدر خبث الشيء يخبث خبثا وقد يجعل اسما وزعم ابن الأعرابي أن أصل الخبث في كلام العرب المكروه فإن كان من الكلام فهو الشتم وإن كان من الملل فهو الكفر وإن كان من الطعام فهو الحرام وإن كان من الشراب فهو الضار وقال ابن الأنباري وصاحب المنتهى الخبث الكفر ويقال الشيطان والخبائث المعاصي جمع خبيثة ويقال الخبث خلاف طيب الفعل من فجور وغيره والخبائث الأفعال المذمومة والخصال الرديئة
( بيان الإعراب ) قوله يقول جملة في محل النصب على الحال قوله كان النبي يقول جملة وقعت مقول القول وقوله يقول جملة في محل النصب على أنها خبر كان وكلمة إذا ظرف بمعنى حين والخلاء منصوب بتقدير في لأن تقديره إذا دخل في الخلاء وهذا من قبيل قولهم دخلت الدار وكان حقه أن يقال دخلت في الدار إلا أنهم حذفوا حرف الجر اتساعا وأوصلوا الفعل إليه ونصبوه نصب المفعول به فمن هذا قول بعض الشارحين وانتصب الخلاء على أنه مفعول به لا على الظرفية غير صحيح اللهم إلا أن يذهب إلى ما قاله الجرمي من أنه فعل متعد نصب الدار نحو بنيت الدار ولكن يدفعه قوله بأن مصدره يجيء على فعول وهو من مصادر الأفعال اللازمة نحو قعد قعودا وجلس جلوسا ولأن مقابله لازم نحو خرج قلت التعليل الثاني غير مطرد لأن ذهب لازم وما يقابله جاء وهو متعد كقوله تعالى ( أو جاؤكم حصرت صدورهم ) قوله اللهم أصله يا الله وقد ذكرناه قوله أعوذ بك جملة في محل الرفع لأنها خبر أن وقوله من الخبث يتعلق بأعوذ

(2/270)


( بيان المعاني ) قوله كان النبي يقول ذكر لفظ كان لدلالته على الثبوت والدوام وذكر لفظ يقول بلفظ المضارع استحضار الصورة القول قوله إذا دخل الخلاء أي إذا أراد دخول الخلاء لأن اسم الله تعالى مستحب الترك بعد الدخول وهذا التقدير مصرح به في رواية سعيد بن زيد على ما يأتي عن قريب وهذا كما في قوله تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) والتقدير إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله وذلك لأن الله تعالى إنما يذكر في الخلاء بالقلب لا باللسان وقال القشيري المراد به ابتداء الدخول قلت لا يحتاج إلى هذا التأويل فإن المكان الذي تقضى فيه الحاجة لا يخلو إما أن يكون معدا لذلك كالكنيف أو لا يكون معدا كالصحراء فإن لم يكن معدا فإنه يجوز ذكر الله تعالى في ذلك المكان وإن كان معدا ففيه خلاف للمالكية فمن كرهه أول الدخول بمعنى الإرادة لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح أو لأنه بين في حديث آخر كما ذكرناه وفي قوله عليه الصلاة و السلام أيضا إن هذه الحشوش محتضرة أي للجان والشياطين فإذا أراد أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن أجازه استغنى عن هذا التأويل ويحمل دخل على حقيقتها وهذا الحديث أخرجه أبو داود عن عمرو بن مرزوق عن شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم عن النبي عليه الصلاة و السلام ولفظه فإذا أتى أحدكم الخلاء وأخرجه النسائي وابن ماجة أيضا وقال الترمذي حديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب وأشار إلى اختلاف الرواية فيه وسأل الترمذي البخاري عنه فقال لعل قتادة سمعه من القاسم بن عوف الشيباني والنضر بن أنس عن أنس ولم يقض فيه بشيء ولهذا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وقال البزار اختلفوا في إسناده وقال الحاكم مختلف فيه على قتادة وقد احتج مسلم بحديث لقتادة عن النضر عن زيد ورواه سعيد عن القاسم وكلا الإسنادين على شرط الصحيح وقال محمد الإشبيلي اختلف في إسناده والذي أسنده ثقة قلت هذا الكلام غير جيد لأنه لم يرم بالإرسال حتى يكون الحكم لمن أسنده وإنما رمى بالاضطراب عن قتادة كما مر
( بيان استنباط الأحكام ) الأول فيه الاستعاذة بالله عند إرادة الدخول في الخلاء وقد أجمع على استحبابها وسواء فيها البنيان والصحراء لأنه يصير مأوى لهم بخروج الخارج فلو نسى التعوذ فدخل فذهب ابن عباس وغيره إلى كراهة التعوذ وأجازه جماعة منهم ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الثاني قال ابن بطال فيه جواز ذكر الله تعالى على الخلاء وهذا مما اختلفت فيه الآثار فروى عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه أقبل من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى تيمم بالجدار واختلف في ذلك أيضا العلماء فروي عن ابن عباس أنه كره أن يذكر الله تعالى عند الخلاء وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي وقال عكرمة لا يذكر الله فيه بلسانه بل بقلبه وأجاز ذلك جماعة من العلماء وروى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يذكر الله تعالى في المرحاض وقال العرزمي قلت للشعبي أعطس وأنا في الخلاء أحمد الله قال لا حتى تخرج فأتيت النخعي فسألته عن ذلك فقال لي احمد الله فأخبرته بقول الشعبي فقال النخعي الحمد يصعد ولا يهبط وهو قول ابن سيرين ومالك وقال ابن بطال وهذا الحديث حجة لمن أجاز ذلك قلت فيه نظر لا يخفى وذكر البخاري في كتاب خلق الله تعالى أفعال العباد عن عطاء رحمه الله الخاتم فيه ذكر الله لا بأس أن يدخل به الإنسان الكنيف أو يلم بأهله وهو في يده لا بأس به وهو قول الحسن وذكر وكيع عن سعيد بن المسيب مثله قال البخاري وقال طاوس في المنطقة يكون على الرجل فيها الدراهم يقضي حاجته لا بأس بذلك وقال إبراهيم لا بد للناس من نفقاتهم وأحب بعض الناس أن لا يدخل الخلاء بالخاتم فيه ذكر الله تعالى قال البخاري وهذا من غير تحريم يصح وأما حديث بئر جمل فهو على الاختيار والأخذ بالاحتياط والفضل لأنه ليس من شرط رد السلام أن يكون على وضوء قاله الطحاوي وقال الطبري أن ذلك منه كان على وجه التأديب للمسلم عليه أن لا يسلم بعضهم على بعض على الحدث وذلك نظير نهيه وهم كذلك أن يحدث بعضهم بعضا بقوله لا يتحدث المتغوطان على طوفهما يعني حاجتهما فإن الله يمقت على ذلك وروى أبو عبيدة الباجي عن الحسن عن البراء رضي الله تعالى عنه أنه سلم على النبي عليه الصلاة و السلام وهو يتوضأ فلم يرد عليه شيئا حتى فرغ الثالث فيه أن لفظ الاستعاذة أن يقول اللهم إني أعوذ بك وقد اختلف فيه ألفاظ الرواة

(2/271)


ففي رواية عن شعبة أعوذ بالله وفي رواية وهب فليتعوذ بالله وهو يشمل كل ما يأتي به من أنواع الاستعاذة من قوله أعوذ بك أستعيذ بك أعوذ بالله أستعيذ بالله اللهم إني أعوذ بك ونحو ذلك من أشباه ذلك الرابع فيه أن الاستعاذة من النبي عليه الصلاة و السلام إظهار للعبودية وتعليم للأمة وإلا فهو عليه الصلاة و السلام محفوظ من الجن والإنس وقد ربط عفريتا على سارية من سواري المسجد قالوا ويستحب أن يقول بسم الله مع التعوذ وقد روى المعمري الحديث المذكور من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب إذا دخلتم الخلاء فقولوا بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث وإسناده على شرط مسلم وعن ابن عرعرة عن شعبة وقال غندر عن شعبة إذا أتى الخلاء وقال موسى عن حماد إذا دخل وقال سعيد بن زيد في كتاب ابن عدي كان النبي إذا دخل الكنيف قال بسم الله ثم يقول اللهم إني أعوذ بك قال رواه أبو معشر وهو ضعيف عن اسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس وفي أفراد الدارقطني رواه عدي بن أبي عمارة عن قتادة عن أنس قال وهو غريب من حديث قتادة تفرد به عدي عنه ورواه الطبراني في الأوسط من حديث صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عنه قال لم يروه عن الزهري إلا صالح تفرد به إبراهيم بن حميد الطويل
( تابعه ابن عرعرة عن شعبة قال غندر عن شعبة إذا أتى الخلاء وقال موسى عن حماد إذا دخل وقال سعيد بن زيد حدثنا عبد العزيز إذا أراد أن يدخل )
أي تابع آدم بن أبي إياس محمد بن عرعرة في روايته هذا الحديث عن شعبة كما رواه آدم والحاصل أن محمد بن عرعرة روى هذا الحديث عن شعبة كما رواه آدم عن شعبة وهذه هي المتابعة التامة وفائدتها التقوية وحديث محمد بن عرعرة عن شعبة أخرجه البخاري في الدعوات وقال حدثنا محمد بن عرعرة حدثنا شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان النبي إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث قوله وقال غندر عن شعبة هذا التعليق وصله البزار في مسنده عن محمد بن بشار بندار عن غندر عن شعبة عنه بلفظه ورواه أحمد عن غندر بلفظ إذا دخل وغندر بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة على المشهور وبالراء ومعناه المشغب وهو لقب محمد بن جعفر البصري ربيب شعبة وقد مر في باب ظلم دون ظلم قوله وقال موسى عن حماد إذا دخل هذا التعليق وصله البيهقي باللفظ المذكور وموسى هو ابن إسماعيل التبوذكي وقد مر غير مرة وحماد هو ابن سلمة بن دينار أبو سلمة الربعي وكان يعد من الابدال وعلامة الابدال أن لا يولد لهم تزوج سبعين امرأة فلم يولد له وقيل فضل حماد بن سلمة بن دينار على حماد بن زيد بن درهم كفضل الدينار على الدرهم مات سنة سبع وستين ومائة روى له الجماعة والبخاري متابعة وهذه المتابعة ناقصة لا تامة قوله وقال سعيد بن زيد إلى آخره هذا التعليق وصله البخاري في الأدب المفرد قال حدثنا أبو النعمان قال حدثنا سعيد بن زيد قال حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال حدثني أنس قال كان النبي إذا أراد أن يدخل الخلاء قال فذكر مثل حديث الباب وسعيد بن زيد بن درهم أبو الحسن الجهضمي البصري أخو حماد بن زيد بن درهم وبعضهم يضعفه روى له البخاري استشهادا مات سنة وفاة ابن سلمة وهذا كما ترى اختلفت فيه ألفاظ الرواة والمعنى فيها متقارب يرجع إلى معنى واحد وهو أن التقدير كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول في الخلاء لا بعده وجاء لفظ الغائط مع موضع الخلاء على ما روى الإسماعيلي في معجمه بسند جيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي كان إذا دخل الغائط قال أعوذ بالله من الخبث والخبائث وكذا جاء لفظ الكنيف ولفظ المرفق فالاول في حديث علي رضي الله تعالى عنه بسند صحيح وإن كان أبو عيسى قال إسناده ليس بالقوى مرفوعا ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله والثاني في حديث أبي أمامة عند ابن ماجة مرفوعا لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم وسنده ضعيف فإن قلت هل جاء شيء فيما يقول إذا خرج من الخلاء قلت ليس فيه شيء على شرط البخاري وروى عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله إذا خرج من الغائط قال غفرانك أخرجه ابن حبان وابن خزيمة وابن الجارود والحاكم في صحيحهم وقال أبو حاتم الرازي هو أصح شيء في هذا الباب فإن قلت لما أخرجه الترمذي وأبو علي

(2/272)


الطوسي قال هذا حديث غريب حسن لا يعرف إلا من حديث إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة ولا يعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قلت قوله غريب مردود بما ذكرنا من تصحيحه ويمكن أن تكون الغرابة بالنسبة إلى الراوي لا إلى الحديث إذ الغرابة والحسن في المتن لا يجتمعان فإن قلت غرابة السند بتفرد إسرائيل وغرابة المتن لكونه لا يعرف غيره قلت إسرائيل متفق على إخراج حديثه عند الشيخين والثقة إذا انفرد بحديث ولم يتابع عليه لا ينقص عن درجة الحسن وإن لم يرتق إلى درجة الصحة وقولهما لا يعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة ليس كذلك فإن فيه أحاديث وإن كانت ضعيفة منها حديث أنس رضي الله تعالى عنه رواه ابن ماجة قال كان إذا خرج من الخلاء قال الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ومنها حديث أبي ذر رضي الله عنه مثله أخرجه النسائي ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه الدارقطني مرفوعا الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني وأمسك علي ما ينفعني ومنها حديث سهل ابن أبي خيثمة نحوه وذكره ابن الجوزي في العلل ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا أخرجه الدارقطني الحمد لله الذي أذاقني لذته وابقى علي قوته وأذهب عني أذاه فإن قلت ما الحكمة في قوله غفرانك إذا خرج من الخلاء قلت قد ذكروا فيه أوجها وأحسنها أنه إنما يستغفر من تركه ذكر الله تعالى مدة مكثه في الخلاء ويقرب منه ما قيل أنه لشكر النعمة التي أنعم عليه بها إذ أطعمه وهضمه فحق على من خرج سالما مما استعاذه منه أن يؤدي شكر النعمة في إعاذته وإجابة سؤاله وأن يستغفر الله تعالى خوفا أن لا يؤدي شكر تلك النعم
( باب وضع الماء عند الخلاء )
أي هذا باب في بيان وضع الماء عند الخلاء ليستعمله المتوضىء بعد خروجه منها وجه المناسبة بين البابين ظاهر لأن كل ما فيهما مما يستعمل عند الخلاء
9 - ( حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا هاشم بن القاسم قال حدثنا ورقاء عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أن النبي دخل الخلاء فوضعت له وضوءا قال من وضع هذا فأخبر فقال اللهم فقهه في الدين )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول عبد الله بن محمد الجعفي المسندي مر في باب أمور الإيمان الثاني هاشم بن القاسم أبو النضر بالنون والضاد المعجمة التميمي الليثي الكناني الخراساني نزل بغداد وتلقب بقيصر وهو حافظ ثقة صاحب سنة كان أهل بغداد يفتخرون به مات سنة سبع ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة وليس في الكتب الستة هاشم بن القاسم سواه وفي ابن ماجة وحده هاشم بن القاسم الحراني شيخه ولا ثالث فيهما سواهما الثالث ورقاء مؤنث الأورق ابن عمر اليشكري الكوفي أبو بشر ويقال أصله من خوارزم سكن المدائن قال أبو داود الطيالسي قال لي شعبة عليك بورقاء فإنك لن ترى عيناك مثله روى عن عبيد الله هذا وغيره وعنه الفريابي ويحيى بن آدم صدوق صالح قيل مات سنة تسع وستين ومائة وليس في الكتب الستة ورقاء غيره الرابع عبيد الله بالتصغير ابن أبي يزيد من الزيادة المكي مولى آل قارظ بالقاف وبالراء وبالظاء المعجمة من حلفاء بني زهرة كان ثقة كثير الحديث مات سنة ست وعشرين ومائة وليس في الكتب الستة عبيد الله بن أبي يزيد غيره نعم في النسائي عبيد الله بن يزيد الطائفي روى عن ابن عباس أيضا ووقع في رواية الكشميهني عبيد الله بن أبي زائدة وهو غلط والصحيح ابن أبي يزيد ولا يعرف اسمه الخامس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بغدادي وكوفي ومكي ومنها أنه على شرط الستة خلا شيخ البخاري فإنه من رجاله ورجال الترمذي فقط ومنها أن هذا الحديث من الأحاديث التي صرح ابن عباس فيها بالسماع من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
( بيان من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم في فضائل ابن عباس عن

(2/273)


زهير بن حرب وأبي بكر بن أبي النضر كلاهما عن هاشم بن القاسم عن ورقاء عنه به وأخرجه النسائي في المناقب عن أبي بكر بن أبي النضر به
( بيان اللغات ) قوله وضوأ بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به وبالضم المصدر وقد مر تحقيقه في أول كتاب الوضوء قوله فقهه في الدين من الفقه وهو في اللغة الفهم تقول فقه الرجل بالكسر وفلان لا يفقه ولا يفقه ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك وفاقهته إذا باحثته في العلم
( بيان الإعراب ) قوله دخل الخلاء جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع لأنها خبر أن قوله فوضعت له جملة معطوفة على الجملة السابقة قوله وضوأ نصب بقوله فوضعت قوله من استفهامية مبتدأ وقوله وضع هذا خبره قوله فأخبر على صيغة المجهول عطف على ما قبله وقد علم أن في عطف الاسمية على الفعلية والعكس أقوالا والمفهوم من كلام النحاة جواز ذلك كما عرف في موضعه قوله اللهم أصله يا الله فحذف حرف النداء وعوض عنها الميم قوله فقهه جملة من الفعل والفاعل وهو أنت المستكن فيه والمفعول وهو الضمير الراجع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقوله في الدين يتعلق به
( بيان المعاني ) قوله قال من وضع هذا أي قال النبي عليه الصلاة و السلام بعد الخروج من الخلاء من وضع الوضوء قوله فأخبر أي النبي عليه الصلاة و السلام وميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس هي المخبرة بذلك لأن وضع ابن عباس الوضوء للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان في بيتها قوله اللهم فقهه في الدين مناسبة دعائه عليه الصلاة و السلام لابن عباس بالتفقه في الدين لأجل وضعه الوضوء له لكونه تفرس فيه الذكاء والفطنة فالمناسبة أن يدعي له بالتفقه في الدين ليطلع به على أسرار الفقه في الدين فينتفع وينفع وذلك لأنه وضعه عند الخلاء لأنه كان أيسر له عليه الصلاة و السلام لأنه لو وضعه في مكان بعيد منه كان يحتاج إلى طلب الماء وفيه مشقة ما ولو دخل به إليه كان تعرضا للاطلاع على حاله وهو يقضي حاجته فلما رأى ابن عباس هذه الحالة أوفق وأيسر استدل عليه الصلاة و السلام على غاية ذكائه مع صغر سنه فدعا له بما دعا به
( بيان استنباط الأحكام ) الأول فيه جواز خدمة العالم بغير أمره ومراعاته حتى حال دخوله الخلاء الثاني فيه استحباب المكافأة بالدعاء الثالث قال الداودي فيه دلالة على أنه ربما لا يستنجي عندما يأتي الخلاء ليكون ذلك سنة لأنه لم يأمر بوضع الماء وقد اتبعه عمر رضي الله عنه بالماء فقال لو استنجيت كلما أتيت الخلاء لكان سنة وفيه نظر وما استشهد به حديث ضعيف الرابع قال الخطابي فيه أن حمل الخادم الماء إلى المغتسل غير مكروه وأن الأدب فيه أن يليه الأصاغر من الخدم دون الأكابر الخامس فيه دليل قاطع على إجابة دعاء الرسول عليه الصلاة و السلام لأنه صار فقيها أي فقيه السادس قال ابن بطال معلوم أن وضع الماء عند الخلاء إنما هو للاستنجاء به عند الحدث وفيه رد على من ينكر الاستنجاء بالماء وقال إنما ذلك وضوء النساء وقال إنما كان الرجال يتمسحون بالحجارة ونقل ابن التين في شرحه عن مالك أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يستنج عمره بالماء وهو عجيب منه وقد عقد البخاري قريبا بابا للاستنجاء بالماء وذكر فيه أنه عليه الصلاة و السلام استنجى على ما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى وفي صحيح ابن حبان أيضا من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ما رأيت رسول الله خرج من غائط قط إلا مس ماء وفي جامع الترمذي من حديثها أيضا أنها قالت مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول فإنه عليه الصلاة و السلام كان يفعله ثم قال هذا حديث حسن صحيح وفي صحيح ابن حبان أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قضى حاجته ثم استنجى من تور وقال ابن بطال أن مالكا روى في موطئه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يتوضأ بالماء وضوأ لما تحت الإزار قال مالك يريد الاستنجاء بالماء وقال الخطابي في الحديث استحباب الاستنجاء بالماء وإن كانت الحجارة مجزئة وكره قوم من السلف الاستنجاء بالماء وزعم بعض المتأخرين أن الماء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذلك وكان بعض القراء يكره الوضوء في مشارع المياه الجارية وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة ونحوها لأنه

(2/274)


لم يبلغه أن النبي توضأ على نهر أو مشرع في ماء جار قال وهذا عندي من أجل أنه لم يكن بحضرته المياه الجارية والأنهار فأما من كان بين ظهراني مياه جارية فأراد أن يشرع فيها ويتوضأ منها كان له ذلك من غير حرج وقال النووي اختلف في المسألة فالذي عليه الجمهور أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر فيستعمل الحجر أولا لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده ثم يستعمل الماء فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز وسواء وجد الآخر أو لم يجده فإن اقتصر فالماء أفضل من الحجر لأن الماء يطهر المحل طهارة حقيقية وأما الحجر فلا يطهر وإنما يخفف النجاسة ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها وذهب بعضهم إلى أن الحجر أفضل وربما أوهم كلام بعضهم أن الماء لا يجزىء وقال ابن حبيب المالكي لا يجزىء الحجر إلا لمن عدم الماء السابع استدل به بعضهم على أن المستحب أن يتوضأ من الأواني دون المشارع والبرك وقال القاضي عياض هذا لا أصل له ولم ينقل أن النبي عليه الصلاة و السلام وجدها فعدل عنها إلى الأواني والله تعالى أعلم
( باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء جدار أو نحوه )
أي هذا باب فباب مرفوع على الخبرية منون لعدم صحة الإضافة قوله لا يستقبل القبلة يجوز فيه الوجهان أحدهما أن يكون تستقبل بضم التاء المثناة من فوق على صيغة المجهول وقوله القبلة مرفوع لأنه مفعول ناب عن الفاعل والآخر أن يكون يستقبل بفتح الياء آخر الحروف على صيغة المعلوم أي لا يستقبل قاضي حاجته القبلة والقبلة منصوب به ولام يستقبل يجوز فيها وجهان أيضا أحدهما الضم على أن تكون لا نافية والآخر الكسر على أن تكون ناهية قوله بغائط الباء فيه ظرفية وفي المحكم الغائط والغوط المتسع من الأرض مع طمأنينة وجمعه أغواط وغياط وغيطان وكل ما انحدر من الأرض فقد غاط ومن بواطن الأرض المنبتة الغيطان الواحد منها غائط وزعموا أن الغائط ربما كان فرسخا والغائط اسم للعذرة نفسها لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان وقيل لأنهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط وتغوط الرجل كناية عن الخرأة والغوط أغمض من الغائط وأبعد وفي الصحاح وجمع الغائط غوط وفي المخصص الغائط أصله المطمئن من الأرض وسمى المتوضأ غائطا لأنهم كانوا يأتونه لقضاء الحاجة ثم سمى الشيء بعينه غائطا وقراءة الزهري ( أو جاء أحد منكم من الغيط ) مخففة الياء وأصله الغوط وقيل لكل من قضى حاجته قد أتى الغائط يكنى به عن العذرة وقال الخطابي أصله المطمئن من الأرض كانوا يأتونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحدث كراهة لذكره بخاص اسمه ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها واستعمال الكناية في كلامها وصون الألسنة عما تصان الأبصار والأسماع عنه قلت الحاصل أنه استعمل للخارج وغلب على الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية لكن لا يقصد به إلا الخارج من الدبر فقط للتفرقة في الحديث بينهما في قوله بغائط أو بول وقد يقصد به ما يخرج من القبل أيضا فإن الحكم عام وفي العباب غاط في الشيء يغوط ويغيط غوطا وغيطا دخل فيه يقال هذا رمل تغوط فيه الأقدام وتغيط والغوط والغائط المطمئن من الأرض الواسع وقال ابن دريد الغوط أشد انحطاطا من الغائط وأبعد وفي قصة نوح عليه الصلاة و السلام انسدت ينابيع الغوط الأكبر وأبواب السماء والجمع غوط وأغواط وغياط صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها والغائط أيضا الغوط من الأرض والغوطة الوهدة في الأرض المطمئنة والتركيب يدل على اطمئنان وغور قوله إلا عند البناء استثناء من قوله لا يستقبل القبلة وقال الإسماعيلي ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء الذي ذكره ثم أجاب عن ذلك بما حاصله أنه أراد بالغائط معناه اللغوي لا معناه العرفي فحينئذ يصح استثناء الأبنية منه وقال بعضهم هذا قوي الأجوبة قلت ليس كذلك لأنهم لما استعملوه للخارج وغلب هذا المعنى على المعنى الأصلي صار حقيقة عرفية غلبت على الحقيقة اللغوية فهجرت حقيقته اللغوية فكيف تراد بعد ذلك وقال ابن بطال هذا الاستثناء ليس مأخوذا من الحديث ولكن لما علم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما استثناء البيوت بوب به لأن حديثه عليه الصلاة و السلام كله كأنه شيء واحد وإن اختلفت طرقه كما أن القرآن كله كالآية الواحدة وإن كثر وتبعه ابن المنير في شرحه واستحسنه بعض الشارحين قلت فعلى هذا كان ينبغي أن يذكر حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الباب عقيب حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه وقال الكرماني

(2/275)


يحتمل أن يكون أي الاستثناء المذكور مأخوذا من هذا الحديث يعني حديث أبي أيوب إذ لفظ الغائط مشعر بأن الحديث ورد في شأن الصحارى إذ الاطمئنان أي الانخفاض والارتفاع إنما يكون في الأراضي الصحراوية لا في الأبنية قلت العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وقال ابن المنير أن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفا قلت كل من توجه إلى نحو الكعبة يطلق عليه أنه مستقبل الكعبة سواء كان في الصحراء أو في الأبنية فإن كان في الأبنية فالحائل بينه وبين القبلة هو الأبنية وإن كان في الصحراء فهو الجبال والتلال والصواب أن يقال أن الحديث عنده عام مخصوص وعليه يوجه الاستثناء قوله جدار بالجر بدل من البناء قوله أو نحوه أي نحو الجدار كالأحجار الكبار والسواري والأساطين ونحو ذلك وفي رواية الكشميهني أو غيره وهما متقاربان ووجه المناسبة بين البابين ظاهر
10 - ( حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب قال حدثنا الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره شرقوا أو غربوا )
مطابقة الحديث للترجمة المستثنى منها ظاهرة وليس له مطابقة للمستثنى على ما ذكرنا وما يطابقه هو حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما على الوجه الذي نقلناه الآن عن ابن بطال فمن هذا قال صاحب التلويح في هذا الحديث ما يدل على عكس ما قاله البخاري وذلك أن أبا أيوب راوي الحديث فهم منه غير ما ذكره البخاري وهو تعميم النهي والتسوية في ذلك بين الصحاري والأبنية بين ذلك بقوله فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله تعالى وفي حديث مالك قال أبو أيوب رضي الله تعالى عنه فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل الكعبة فننحرف ونستغفر الله تعالى وعن الزهري عن عطاء سمعت أبا أيوب عن النبي مثله ذكره البخاري في باب قبلة أهل المدينة في أوائل الصلاة وفي حديث مالك للنسائي عن أبي أيوب أنه قال والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس وقد قال النبي عليه الصلاة و السلام الحديث
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول آدم ابن أبي إياس وقد تكرر ذكره الثاني محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب هشام المدني العامري وقد مر الثالث محمد بن مسلم الزهري وقد تكرر ذكره الرابع أبو يزيد عطاء بن يزيد من الزيادة الليثي ثم الجندعي بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وفي آخره عين مهملة المدني ويقال الشامي التابعي لأنه سكن رملة الشام مات سنة سبع وقيل خمس ومائة عن اثنين وثمانين سنة الخامس أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم الأنصاري النجاري شهد بدرا والعقبة الثانية وعليه نزل رسول الله حين قدم المدينة شهرا وهو من نجباء الصحابة رضي الله تعالى عنهم روى له مائة وخمسون حديثا اتفقا منها على سبعة وانفرد البخاري بحديث وكان مع علي رضي الله تعالى عنه في حروبه مات بالقسطنطينية غازيا سنة خمسين وذلك مع يزيد بن معاوية خرج معه فمرض فلما ثقل عليه المرض قال لأصحابه إذا أنا مت فاحملوني فإذا صافقتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم ففعلوا فقبره قريب من سورها معروف إلى اليوم معظم فيستسقون به فيسقون وأبو أيوب في الصحابة ثلاثة هذا أجلهم وثانيهم يماني له رواية وثالثهم روى له عن علي بن مسهر عن الأفريقي عن أبيه عن أبي أيوب فلعله الأول وأيوب يشتبه بأثوب بسكون الثاء المثلثة وفتح الواو وهو أثوب بن عتبة صحابي روى عن النبي الديك الأبيض خليلي إسناده لا يثبت رواه عبد الباقي بن قانع حدثنا حسين حدثنا علي بن بحر حدثنا ملاذ بن عمرو عن هارون بن نجيد عن جابر عن أثوب بن عتبة قال قال النبي والحارث ابن أثوب تابعي قاله عبد الغني وقال ابن ماكولا والصواب ثوب بضم الثاء وفتح الواو وأثوب بن أزهر زوج قيلة بنت مخرمة الصحابية رضي الله تعالى عنها
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم مدنيون ما خلا آدم فإنه أيضا دخل إليها

(2/276)


ومنها أن فيه رواية التابعي عن التابعي
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن علي عن سفيان بن عيينة عن الزهري به وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى وزهير وابن نمير وأبو داود أيضا فيه عن مسدد والترمذي فيه أيضا عن سعيد بن عبد الرحمن خمستهم عن سفيان به وأخرجه النسائي فيه أيضا عن محمد بن منصور عن سفيان به وعن يعقوب بن إبراهيم عن غندر عن معمر عن الزهري بمعناه وأخرجه ابن ماجه فيه أيضا عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب عن يونس عن الزهري نحوه
( بيان اللغات والإعراب ) قوله إذا أتى من الإتيان وهو المجيء وقد أتيه أتيا وأتوتة وأتوة لغة فيه وكلمة إذا للشرط ولهذا دخلت الفاء في جوابها وهو قوله فلا يستقبل القبلة قوله الغائط منصوب بقوله أتى قوله فلا يستقبل القبلة يجوز فيه الوجهان أحدهما أن يكون نهيا فتكون اللام مكسورة لأن الأصل في الساكن إذا حرك أن يحرك بالكسر والآخر أن يكون نفيا فتكون اللام مضمومة قوله ولا يولها نهى ولهذا حذفت منه الياء وأصله ولا يوليها من ولاه الشيء إذا استقبله وفي المطالع وقد يكون التولي بمعنى الاستقبال ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) أي تولوا وجوهكم والهاء مفعوله الأول وظهره مفعوله الثاني وهو يستدعي مفعولين ولهذا قال الزمخشري في قوله تعالى ( ولكل وجهة هو موليها ) أي موليها وجهه فحذف أحد المفعولين وقال الجوهري ( ولكل وجهة هو موليها ) أي يستقبلها بوجهه وههنا أيضا المعنى لا يستقبل القبلة بظهره وحاصل المعنى لا يستدبر القبلة بظهره أو لا يجعلها مقابل ظهره قوله شرقوا جملة من الفعل والفاعل وكذلك أو غربوا من التشريق وهو الأخذ في ناحية المشرق والتغريب وهو الأخذ في ناحية المغرب يقال شتان بين مشرق ومغرب
( بيان المعاني ) فيه تقييد الفعل بالشرط وقد علم الفرق بين تقييده بأن وبين تقييده بإذا بأن أصل أن عدم الجزم بوقوع الشرط وأصل إذا الجزم بوقوعه وغلب لفظ الماضي بإذا على المستقبل لأن لفظ الماضي أنسب إلى مدلول إذا من لفظ المستقبل لكون الماضي أقرب إلى القطع بالوقوع من المستقبل نظرا إلى اللفظ لا إلى المعنى فإنه يدل على الاستقبال لوقوعه في سياق الشرط وفيه أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وإذا وقع الكلام على أساليب مختلفة يزداد رونقا وبهجة وحسنا سيما هو من كلام أفصح الناس وقال الخطابي قوله شرقوا أو غربوا خطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته على ذلك السمت وأما من قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب فإنه لا يشرق ولا يغرب وقال الداودي اختلف في قوله شرقوا أو غربوا فقيل إنما ذلك في المدينة وما أشبهها كأهل الشام واليمن وأما من كانت قبلته من جهة المشرق أو المغرب فإنه يتيامن أو يتشاءم وقال بعضهم البيت قبلة لمن في المسجد والمسجد قبلة لأهل مكة ومكة قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لسائر أهل الأرض وقالوا في قوله ما بين المشرق والمغرب قبلة فيما يحاذي الكعبة أنه يصلي إليه من الجهتين ولا يشرق ولا يغرب يحاذي كل طائفة الأخرى في هذا لأن الله سبحانه وتعالى كرم البيت وجعله مصلى يصلى إليه من كل جهة
( بيان استنباط الأحكام ) الأول احتج أبو حنيفة رضي الله عنه بالحديث المذكور على عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط سواء كان في الصحراء أو في البنيان أخذا في ذلك بعموم الحديث هو مذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبي ثور وأحمد في رواية وهو مذهب الراوي أيضا وهو أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه ولأن المنع لأجل تعظيم القبلة وهو موجود في الصحراء والبنيان فالجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل فهو موجود في الصحراء في البلاد النائية لأن بينها وبين الكعبة جبالا وأودية وغير ذلك لا سيما عند من يقول بكروية الأرض فإنه لا موازاة إذ ذاك بالكلية وما ورد من قول الشعبي أنه علل ذلك بأن لله خلقا من عباده يصلون في الصحراء فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم وأنه لا يوجد في الأبنية فهو تعليل في مقابلة النص ولهم في ذلك أحاديث أخرى كلها عامة في النهي منها حديث عبد الله بن الحارث بن جزء أنا أول من سمع النبي يقول لا يبولن أحدكم مستقبل القبلة وأنا أول من حدث الناس بذلك فإن قلت قال ابن يونس في تاريخه وهو حديث معلول قلت لا التفات إلى قوله هذا فإن ابن حبان قد صححه ومنها

(2/277)


حديث معقل بن أبي معقل نهى رسول الله عليه الصلاة و السلام أن تستقبل القبلتين ببول أو غائط أخرجه ابن ماجه وأبو داود وأراد بالقبلتين الكعبة وبيت المقدس ويحتمل أن يكون على معنى الاحترام لبيت المقدس إذ كان مرة قبلة لنا ويحتمل أن يكون ذلك من أجل استدبار الكعبة لأن من استقبله فقد استدبر الكعبة ومنها حديث سلمان رضي الله تعالى عنه لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول الحديث أخرجه مسلم والأربعة ومنها حديث أبي هريرة إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه فإن قلت حديث أبي أيوب في إسناده اختلاف فرواه إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة عن أبي أيوب وقيل عن إبراهيم عن الزهري عن رجل عن أبي أيوب ورواه أيوب بن أبي تميمة عن الزهري عن رجلين لم يسمهما عن أبي أيوب وأرسله نافع بن عمر الجمحي عن الزهري عن النبي قلت رواه عن أبي أيوب جماعة منهم رافع بن إسحق وعمر بن ثابت وأبو الأحوص وعبد الرحمن بن يزيد بن حارثة وعن الزهري ابن أبي ذئب ومعمر ويونس وابن أخي الزهري والنعمان بن راشد وسليمان بن كثير وعبد الرحمن بن إسحق وأبو سعيد الخدري ومحمد بن أبي حفصة ويزيد بن أبي حبيب وعقيل وقال الدارقطني والقول قول ابن أبي ذئب ومن تابعه وفي مسند الحميدي تصريح الزهري بسماعه إياه من عطاء وعطاء من أبي أيوب رضي الله تعالى عنه ثم اعلم أن حاصل ما للعلماء في ذلك أربعة مذاهب أحدها المنع المطلق وقد ذكرناه الثاني الجواز مطلقا وهو قول عروة بن الزبير وربيعة الرأي وداود ورأى أي هؤلاء أن حديث أبي أيوب منسوخ وزعموا أن ناسخه حديث مجاهد عن جابر رضي الله تعالى عنه نهانا رسول الله عليه الصلاة و السلام أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وزعم أنه صحيح على شرط مسلم وقال الترمذي حديث حسن غريب قلت قول الحاكم صحيح على شرط مسلم غير صحيح لأن أبان راويه عن مجاهد عن جابر لم يخرج له مسلم شيئا والحديث حديثه وعليه يدور نعم صححه البخاري فيما سأله الترمذي عنه فقال حديث صحيح ذكره في الخلافيات للبيهقي وتقريب المدارك في الكلام على موطأ مالك فإن قلت قال ابن حزم هذا حديث ضعيف لأنه رواه أبان بن صالح وليس هو المشهور قلت هذا مردود بتصحيح البخاري وغيره وقال يحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة والعجلي أبان بن صالح ثقة وقال النسائي كان حاكما بالمدينة وليس به بأس فأي شهرة أرفع من هذه وقال البزار هذا حديث لا نعرفه ويروى عن جابر بهذا اللفظ بإسناد أحسن من هذا الإسناد فإن قلت قال أبو عمر في التمهيد رد أحمد بن حنبل حديث جابر رضي الله عنه هذا وهو حديث ليس بصحيح فيعرج عليه لأن أبان ضعيف قلت إن أراد بقوله رده أحمد العمل به فمحتمل وإن أراد به الرد الصناعي فغير مسلم لثبوته في مسنده لم يضرب عليه كعادته فيما ليس بصحيح عنده أو مردود على ما بينه الحافظ أبو موسى المديني في خصائص مسنده وأما تضعيفه الحديث بأبان فغير موجه لثبوت توثيقه من الجماعة الذين ذكرناهم وأما قول الترمذي حسن غريب فهو وإن كان جمعا بين الضدين بحسب الظاهر ولكنه لعله أراد تفرد بعض رواته وكأنه يشير إلى أن أبان هو المنفرد به فيما أرى والله أعلم وأما دعوى النسخ المذكور فليست بظاهرة بل هو استدلال ضعيف لأنه لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع وهو ممكن كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى على أن حديث جابر محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه لأن ذلك هو المعهود من حال النبي عليه الصلاة و السلام لمبالغته في التستر المذهب الثالث أنه لا يجوز الاستقبال في الأبنية والصحراء ويجوز الاستدبار فيهما وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه الرابع أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء دون البنيان وبه قال مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في رواية وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي ذكره عن قريب إن شاء الله تعالى وهذه المذاهب الأربعة مشهورة عن العلماء ولم يذكر النووي في شرح المذهب غيرها وكذلك عامة شراح البخاري وههنا ثلاثة مذاهب أخرى منها جواز الاستدبار

(2/278)


في البنيان فقط تمسكا بظاهر حديث ابن عمر وهو مروي عن أبي يوسف ومنها التحريم مطلقا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين عملا بحديث معقل الأسدي المذكور عن قريب ومنها أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها وأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا لعموم قوله عليه الصلاة و السلام شرقوا أو غربوا قاله أبو عوانة صاحب المزني وبعكسه قال البخاري واستدل به على أنه ليس في المشرق ولا في المغرب قبله كما سيأتي في باب قبلة أهل المدينة في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى فإن قلت ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة قلت فيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم ومحمد بن سيرين وهو قول بعض الشافعية أيضا الثاني من الأحكام فيه إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة مطلقا تعظيما لها ولا سيما عند الغائط والبول الثالث فيه المحافظة على الأدب ومراعاته في كل حال الرابع استنبط ابن التين منه منع استقبال النيرين في حالة الغائط والبول وكأنه قاسه على استقبال القبلة وليس القياس بظاهر على ما لا يخفى
( فروع ) من آداب الاستنجاء الإبعاد إذا كان في براح من الأرض أو ضرب حجاب أو ستر وأعماق الآبار والحفائر وأن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض جاء ذلك في حديث رواه أبو محمد الأعمش عن أنس عن أبي داود وتغطية الرأس كما كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يفعله وترك الكلام كفعل عثمان رضي الله تعالى عنه والاستنجاء باليسار وغسل اليد بعد الفراغ بالتراب رواه ابن حبان في صحيحه والاستجمار واجتناب الروث والرمة وأن لا يتوضأ في المغتسل لقوله عليه الصلاة و السلام لا يبولن أحدكم في مغتسله وينزع خاتمه إذا كان فيه اسم الله تعالى رواه النسائي وارتياد الموضع الدمث وأن لا يستقبل الشمس والقمر وأن لا يبول قائما ولا في طريق الناس ولا ظلهم ولا في الماء الراكد ومساقط الثمار وصفة الأنهار وأن يتكئ على رجله اليسرى وينثر ذكره ثلاثا
( باب من تبرز على لبنتين )
أي هذا باب في بيان حكم من تبرز على لبنتين وباب مرفوع مضاف إلى ما بعده وكلمة من موصولة وتبرز صلتها على وزن تفعل من التبرز وهو التغوط وأصل التبرز الخروج إلى البراز للحاجة والبراز بفتح الموحدة اسم للفضاء الواسع من الأرض وكنوا به عن حاجة الإنسان قوله لبنتين تثنية لبنة بفتح اللام وكسر الباء الموحدة ويجوز تسكينها أيضا مع فتح اللام وكسرها وكذا كل ما كان على هذا الوزن أعني مفتوح الأول مكسور الثاني يجوز فيه الأوجه الثلاثة ككتف وإن كان ثانيه أو ثالثه حرف حلق جاز فيه وجه رابع وهو كسر الأول والثاني كفخذ قال الجوهري اللبنة واللبنة التي يبنى بها والجمع لبن مثل كلمة وكلم قيل اللبنة هي الطوب قاله ابن قرقول وهو الطوب النيء والذي توقد عليه النار يسمى بالآجر وقال بعضهم اللبنة هي ما يصنع من الطين أو غيره للبناء قبل أن يحرق قلت ليت شعري ما معنى قوله أو غيره فهل تصنع اللبنة من غير الطين عادة وجه المناسبة بين البابين ظاهر وهو أن حديث هذا الباب مخصص لحديث الباب الأول على رأي البخاري ومن ذهب إلى مذهبه في ذلك كما ذكرناه هناك
11 - ( حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إن ناسا يقولون إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس فقال عبد الله بن عمر لقد ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته وقال لعلك من الذين يصلون على أوراكهم فقلت لا أدري والله قال مالك يعني

(2/279)


الذي يصلي ولا يرتفع عن الأرض يسجد وهو لاصق بالأرض )
مطابقة الحديث للترجمة في قوله فرأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على لبنتين مستقبلا بيت المقدس
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول عبد الله بن يوسف التنيسي وقد تقدم الثاني الإمام مالك بن أنس وقد تكرر ذكره الثالث يحيى بن سعيد الأنصاري المدني وقد تقدم الرابع محمد بن يحيى بن حبان بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة الأنصاري النجاري بالنون والجيم المازني كان له حلقة في مسجد رسول الله عليه الصلاة و السلام وكان مفتيا ثقة كثير الحديث مات بالمدينة سنة إحدى وعشرين ومائة الخامس عم محمد بن يحيى وهو واسع بن حبان بالفتح الأنصاري النجاري المازني الثقة قيل أن له رواية فلذلك ذكر في الصحابة رضي الله عنهم وأبوه حبان هو ابن منقذ بن عمرو له ولأبيه صحبة السادس عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار ومنها أن هذا الإسناد كله على شرط الشيخين والأربعة إلا عبد الله بن يوسف فإنه من رجال البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي ومنها أنهم كلهم مدنيون سوى عبد الله فإنه مصري تنيسي بكسر التاء المثناة من فوق وتشديد النون ومنها أن فيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض يحيى بن سعيد ومحمد بن يحيى وواسع بن حبان ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي على قول من يعد واسعا من الصحابة رضي الله عنهم
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن يعقوب بن إبراهيم عن يزيد بن هرون عن يحيى بن سعيد وفيه وفي الخمس أيضا عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حبان به وأخرجه مسلم في الطهارة عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد به وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر عن عبيد الله وأبو داود فيه أيضا عن القعنبي عن مالك به والترمذي أيضا فيه عن هناد عن عبدة بن سليمان عن عبيد الله به وقال حسن صحيح وللنسائي أيضا فيه عن قتيبة عن مالك به وابن ماجة أيضا فيه عن أبي بكر بن خلاد ومحمد بن يحيى كلاهما عن يزيد بن هارون به وعن هشام بن عمار عن عبد الحميد بن حبيب عن الأوزاعي عن يحيى به يزيد بعضهم على بعض
( بيان اللغات ) قوله بيت المقدس فيه لغتان مشهورتان فتح الميم وسكون القاف وكسر الدال المخففة وضم الميم وفتح القاف والدال المشددة والمشدد معناه المطهر والمخفف لا يخلو إما أن يكون مصدرا أو مكانا ومعناه بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة وتطهيره أخلاؤه من الأصنام وأبعاده منها أو من القلوب قوله ارتقيت معناه صعدت من رقيت في السلم بالكسر رقيا ورقيا إذا صعدت وهذه هي اللغة الفصيحة المشهورة وحكى صاحب المطالع لغتين أخريين إحداهما فتح القاف بغير همز والأخرى فتحها مع الهمزة قوله أوراكهم جمع ورك قال الكرماني وهو ما بين الفخذين قلت ليس كذلك بل الوركان ما قاله الأصمعي الوركان العظمان على طرف عظم الفخذين وفي العباب الورك الورك الورك كفخذ وفخذ وفخذ وهي مؤنثة
( بيان الإعراب ) قوله كان في محل الرفع لأنه خبر أن وقوله يقول في محل النصب لأنه خبر كان وقوله أن ناسا بكسر الهمزة مقول القول وقوله يقولون في محل الرفع لأنه خبر أن قوله ولا بيت المقدس بالنصب عطف على قوله القبلة والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى صفته نحو مسجد الجامع قوله لقد ارتقيت اللام فيه جواب قسم محذوف قوله يوما نصب على الظرف وقوله على ظهر بيت يتعلق بقوله ارتقيت قوله فرأيت عطف على قوله ارتقيت وهو بمعنى أبصرت فلا يقتضي إلا مفعولا واحدا قوله على لبنتين في محل النصب على الحال من رسول الله عليه السلام وكذا قوله مستقبلا حال منه ويجوز أن يكونا حالين مترادفتين ومتداخلتين قوله بيت المقدس كلام إضافي منصوب بقوله مستقبل واللام في لحاجته للتعليل ويجوز أن تكون للتوقيت أي وقت حاجته قوله يسجد جملة في محل النصب على الحال وكذا قوله وهو لاصق بالأرض جملة وقعت حالا

(2/280)


( بيان المعاني ) قوله أنه كان أي أن واسعا كان يقول كذا قاله الكرماني وقال ابن بطال أما قول ابن عمر أن ناسا يقولون إلى آخره قلت هذا يدل على أن الضمير في قوله أنه كان يعود إلى عبد الله بن عمر وقال الكرماني أيضا جعل ابن بطال أن ناسا مفعولا لابن عمر لا لواسع والسياق لا يساعده قلت الصواب مع ابن بطال على ما لا يخفى وقال الخطابي قد يتوهم السامع من قول ابن عمر أن ناسا يقولون إلى آخره فهذا أيضا يؤيد تفسير ابن بطال فافهم قوله أن ناسا كانوا يقولون أراد بالناس هؤلاء من كان يقول بعموم النهي في استقبال القبلة واستدبارها عند الحاجة في الصحراء والبنيان وهم أمثال أبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة ومعقل الأسدي وغيرهم رضي الله تعالى عنهم قوله إذا قعدت ذكر القعود لكونه الغالب وإلا فحال القيام كذلك قوله على حاجتك كناية عن التبرز قوله على ظهر بيت لنا وفي رواية يزيد عن يحيى الآتية على ظهر بيتنا وفي رواية عبيد الله بن عمر الآتية على ظهر بيت حفصة يعني أخته كما صرح به في رواية مسلم قوله مستقبلا بيت المقدس وفي رواية تأتي عن قريب مستقبل الشام مستدبر الكعبة ووقع في صحيح ابن حبان مستقبل القبلة مستدبر الشام وكأنه مقلوب والله أعلم فإن قلت كيف نظر ابن عمر إلى رسول الله وهو في تلك الحالة ولا يجوز ذلك قلت وقعت منه تلك اتفاقا من غير قصد لذلك فنقل ما رآه وقصده ذلك لا يجوز كما لا يتعمد الشهود النظر إلى الزنا ثم يجوز أن يقع أبصارهم عليه ويتحملوا الشهادة بعد ذلك وقال الكرماني يحتمل أن يكون ابن عمر قصد ذلك ورأى رأسه دون ما عداه من بدنه ثم تأمل قعوده فعرف كيف هو جالس ليستفيد فعله فنقل ما شاهد قوله وقال أي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قوله لعلك الخطاب فيه لواسع أي لعلك من الذين لا يعرفون السنة إذ لو كنت عارفا بالسنة لعرفت جواز استقبال بيت المقدس ولما التفت إلى قولهم وإنما كنى عن الجاهلين بالسنة بالذين يصلون على أوراكهم لأن المصلي على الورك لا يكون إلا جاهلا بالسنة وإلا لما صلى عليه والسنة في السجود التخوية أي لا يلصق الرجل بالأرض بل يرفع عنها قوله فقلت لا أدري أي قال واسع لا أدري أنا منهم أم لا ولا أدري السنة في استقبال بيت المقدس قوله قال مالك إلى آخره تفسير الصلاة على الورك وهو اللصوق بالأرض حالة السجود قوله قال مالك إلى آخره إن كان من قول البخاري نقله عنه يكون تعليقا وإن كان من قول عبد الله يكون داخلا تحت الإسناد المذكور
( بيان استنباط الأحكام ) الأول احتج به مالك والشافعي وإسحق وآخرون فيما ذهبوا إليه من جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة في البنيان وأنه مخصص لعموم النهي كما ذكرناه في الباب السابق ومنهم من رأى هذا الحديث ناسخا لحديث أبي أيوب المذكور واعتقد الإباحة مطلقا وقاس الاستقبال على الاستدبار وترك حكم تخصيصه بالبنيان ورأى أنه وصف ملغى الاعتبار ومنهم من رأى العمل بحديث أبي أيوب وما في معناه واعتقد هذا خاصا بالنبي ومنهم من جمع بينهما وأعملهما ومنهم من توقف في المسألة قلت دعوى النسخ غير ظاهرة لأنه لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع وهو ممكن كما قد ذكرناه فإن قلت قد ورد عن عائشة رضي الله عنها حديث بين فيه وجه النسخ مطلقا رواه ابن ماجه بسند صحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد ثنا وكيع عن حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عنها قالت ذكر عند النبي قوم يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أراهم قد فعلوا استقبلوا بمقعدتي القبلة قلت في علل الترمذي قال محمد هذا حديث فيه اضطراب والصحيح عن عائشة قولها وقال ابن حزم هذا حديث ساقط لأن خالد بن أبي الصلت مجهول لا يدري من هو وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن أبي الصلت وهذا أبطل وأبطل لأن الحذاء لم يدرك كثيرا انتهى كلامه قوله ابن أبي الصلت لا يدري من هو غير مسلم لأن ابن حبان ذكره في الثقات ولأن بخشلا ذكر أنه كان عينا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بواسط وذكر من صلاحه ودينه وقوله كثير بن أبي الصلت ليس كذلك وإنما المذكور عند البخاري في تاريخه وعند ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل كثير بن الصلت وكذا ذكره أبو عمر العسكري وابن حبان وابن منده والبارودي وآخرون ولعل ذلك يكون من خطأ عبد الرزاق فيه وقال الإمام أحمد رحمه الله أحسن ما روى في الرخصة حديث عراك وإن كان مرسلا فإن مخرجه

(2/281)


حسن وفي المراسيل عنه هذا حديث مرسل وأنكر أن يكون عراك سمع عائشة وقال من أين سمع عائشة ماله ولعائشة إنما يروي عن عروة هذا خطأ فمن روى هذا قبل حماد بن سلمة عن خالد فقال غير واحد عن خالد ليس فيه سمعت وغير واحد أيضا عن حماد وليس فيه سمعت قلت أبو عبد الله لم يجزم بعدم سماعه منها إنما ذكره استبعادا وأما روايته عن عروة عنها فلا يدل على عدم سماعه منها لا سيما وقد جمعهما بلد وعصر واحد فسماعه منها ممكن جائز وقد صرح في الكمال والتهذيب بسماعه منها وقد وجدنا متابعا لحماد على قوله عن عراك سمعت عائشة رضي الله عنها وهو علي بن عاصم عند الدارقطني وصحيح ابن حبان وهو منهما محمول على الاتصال حتى يقوم دليل واضح بعدم سماعه عنها والله أعلم الثاني من الأحكام استعمال الكناية بالحاجة عن البول والغائط وجواز الإخبار عن مثل ذلك للاقتداء والعمل الثالث في قوله أن ناسا يقولون دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في معاني السنن وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه فمن ههنا وقع بينهم الاختلاف وقال الخطابي قد يتوهم السامع من قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن ناسا يقولون الخ أنه يريد إنكار ما روى في النهي من استقبال القبلة عند الحاجة نسخا لما حكاه من رؤيته عليه الصلاة و السلام يقضي حاجته مستدبر القبلة وليس الأمر في ذلك على ما يتوهم لأن المشهور من مذهبه أنه لا يجوز الاستقبال والاستدبار في الصحراء ويجيزهما في البنيان وإنما أنكر قول من يزعم أن الاستقبال في البنيان غير جائز ولذلك مثل لما شاهد من قعوده في الأبنية قلت ظاهر عبارة الكلام يدل على إنكار ابن عمر رضي الله تعالى عنه على من يزعم أن استقبال بيت المقدس عند الحاجة غير جائز فمن ذلك قال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ناسخ للنهي عن استقبال بيت المقدس واستدباره والدليل على هذا ما روى مروان الأصغر عن ابن عمر أنه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس ثم جلس يبول إليها فقلت يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهى عن هذا قال إنما نهى عن هذا في الفضاء وأما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس الرابع فيه تتبع أحوال النبي عليه الصلاة و السلام كلها ونقلها وأنها كلها أحكام شرعية
( باب خروج النساء إلى البراز )
أي هذا باب في بيان خروج النساء إلى البراز وهو بفتح الباء الموحدة اسم للفضاء الواسع من الأرض ويكنى به عن الحاجة وقال الخطابي وأكثر الرواة يقولون بكسر الباء وهو غلط لأن البراز بالكسر مصدر بارزت الرجل مبارزة وبرازا وقال بعضهم قلت بل هو موجه لأنه يطلق بالكسر على نفس الخارج قال الجوهري البراز المبارزة في الحرب والبراز أيضا كناية عن ثفل الغذاء وهو الغائط والبراز بالفتح الفضاء الواسع انتهى فعلى هذا من فتح أراد الفضاء وهو من إطلاق اسم المحل على الحال كما تقدم مثله في الغائط ومن كسر أراد نفس الخارج انتهى قلت الذي قاله غير موجه والتوجيه مع الخطابي قال في العباب قال ابن الأعرابي برز بكسر الراء إذا ظهر بعد خمول وبرز بفتحها إذا خرج إلى البراز للغائط وهو الفضاء الواسع قال الفراء هو الموضع الذي ليس فيه خمر من شجر ولا غيره والبراز الحاجة سميت باسم الصحراء كما سميت بالغائط ومنه حديث النبي عليه الصلاة و السلام اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل والمناسبة بين البابين ظاهرة لأن في الأول حكم التبرز وهنا حكم البراز
12 - ( حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح فكان عمر يقول للنبي احجب نساءك فلم يكن رسول الله يفعل فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله آية الحجاب )

(2/282)


مطابقة الحديث للترجمة في قوله إذا تبرزن إلى المناصع وأشار البخاري بهذا الباب إلى أن تبرز النساء إلى البراز كان أولا لعدم الكنف في البيوت وكان رخصة لهن ثم لما اتخذت الكنف في البيوت منعن عن الخروج منها إلا عند الضرورة وعقد على ذلك الباب الذي يأتي عقيب هذا الباب
( بيان رجاله ) وهم ستة تقدم ذكرهم بهذا الترتيب في كتاب الوحي وعقيل بضم العين وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه صيغة التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة ومنها أن فيه تابعيين ابن شهاب وعروة وقرينين الليث وعقيل ومنها أن رواته ما بين مصري ومدني ومنها أن هذا الإسناد على شرط الستة إلا يحيى فإنه على شرط البخاري ومسلم
( بيان من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم أيضا في الاستئذان عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده به
( بيان اللغات ) قوله إذا تبرزن أي إذا خرجن إلى البراز للبول والغائط فأصله من تبرز بفتح عين الفعل إذا خرج إلى البراز للغائط وهو الفضاء الواسع قوله إلى المناصع جمع منصع مفعل من النصوع وهو الخلوص والناصع الخالص من كل شيء يقال نصع ينصع نصاعة ونصوعا ويقال أبيض ناصع وأصفر ناصع قال الأصمعي كل ثور خالص البياض أو الصفرة أو الحمرة فهو ناصع وفي العباب المناصع المجالس فيما يقال وقال أبو سعيد المناصع المواضع التي يتخلى فيها لبول أو لغائط الواحد منصع بفتح الصاد وقال الأزهري أراها مواضع خارج المدينة وقال ابن الجوزي هي المواضع التي يتخلى فيها للحاجة وكان صعيدا أفيح خارج المدينة يقال له المناصع والصعيد وجه الأرض وقد فسره في الحديث بقوله وهو صعيد أفيح والأفيح بالفاء وبالحاء المهملة الواسع وزاد فيحا أي وسعة وقال الصغاني بحر أفيح بين الفيح أي واسع وبحر فياح أيضا بالتشديد وقال الأصمعي أنه لجواد فياح وفياض بمعنى واحد قلت كأنه سمى بالمناصع لخلوصه عن الأبنية والأماكن
( بيان الإعراب ) قوله كن جملة في محل الرفع على أنها خبر أن قوله يخرجن جملة في محل النصب على أنها خبر كان والباء في بالليل ظرفية وكلمة إذا ظرفية قوله إلى المناصع جار ومجرور يتعلق بقوله يخرجن قال الكرماني ويحتمل أن يتعلق بقوله تبرزن قلت احتمال بعيد قوله وهو مبتدأ وقوله صعيد أفيح صفة وموصوف خبره قوله يقول جملة في محل النصب أيضا لأنها خبر كان قوله احجب نساءك مقول القول قوله يفعلوا جملة في محل النصب أيضا لأنها خبر كان قوله بنت زمعة كلام إضافي مرفوع لأنه صفة لسودة وقوله زوج النبي عليه الصلاة و السلام كلام إضافي أيضا مرفوع لأنه صفة أخرى لسودة قوله ليلة نصب على الظرف قوله عشاء هو بكسر العين وبالمد نصب على أنه بدل من قوله ليلة قوله ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح ينبه بها على تحقق ما بعدها قوله يا سودة منادى مفرد معرفة ولهذا يبنى على الضم قوله حرصا نصب على أنه مفعول له والعامل فيه قوله فناداها قوله على أن ينزل على صيغة المجهول وأن مصدرية
( بيان المعاني ) قوله وهو صعيد أفيح تفسير لقوله إلى المناصع وقال بعضهم الظاهر أن التفسير مقول عائشة رضي الله عنها قلت لا دليل على الظاهر وإنما هو يحتمل أن يكون منها أو من عروة أو ممن دونه من الرواة قوله احجب نساءك أي امنعهن من الخروج من البيوت وسياق الكلام يدل على هذا المعنى وقال بعضهم يحتمل أن يكون أراد أولا الأمر بستر وجوههن فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضا أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التستر فلم يجب لأجل الضرورة وهذا أظهر الاحتمالين قلت ليس الأظهر إلا ما قلنا بشهادة سياق الكلام والاحتمال الذي ذكره لا يدل عليه هذا الحديث وإنما الذي يدل عليه هو حديث آخر وذلك لأن الحجب ثلاثة الأول الأمر بستر وجوههن يدل عليه قوله تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) الآية قال القاضي عياض والحجاب الذي خص به خلاف أمهات المؤمنين هو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا لغيرها الثاني هو الأمر بإرخاء الحجاب بينهن وبين الناس يدل عليه قوله تعالى ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) الثالث هو الأمر بمنعهن من الخروج من البيوت إلا لضرورة شرعية فإذا

(2/283)


خرجن لا يظهرن شخصهن كما فعلت حفصة يوم مات أبوها سترت شخصها حين خرجت وزينب عملت لها قبة لما توفيت وكان لهن في التستر عند قضاء الحاجة ثلاث حالات الأولى بالظلمة لأنهن كن يخرجن بالليل دون النهار كما قالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث كن يخرجن بالليل وسيأتي في حديث عائشة في قصة الإفك فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا الحديث ثم نزل الحجاب فتسترن بالثياب لكن ربما كانت أشخاصهن تتميز ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه قد عرفناك يا سودة وهذه هي الحالة الثانية ثم لما اتخذت الكنف في البيوت منعن عن الخروج منها وهي الحالة الثالثة فدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك فإن فيها وذلك قبل أن تتخذ الكنف وكانت قصة الإفك قبل نزول آية الحجاب والله أعلم قوله سودة بنت زمعة بالزاي والميم والعين المهملة المفتوحتين وقال ابن الأثير وأكثر ما سمعنا من أهل الحديث والفقهاء يقولونه بسكون الميم ابن قيس القريشية العامرية أسلمت قديما وبايعت وكانت تحت ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو أسلم معها وهاجرا جميعا إلى الحبشة فلما قدم مكة مات زوجها فتزوجها النبي ودخل بها بمكة وذلك بعد موت خديجة قبل عائشة رضي الله عنهما وهاجرت إلى المدينة فلما كبرت أراد طلاقها فسألته أن لا يفعل وجعلت يومها لعائشة فأمسكها روي لها خمسة أحاديث أخرج البخاري منها حديثين توفيت آخر خلافة عمر رضي الله عنه وقيل زمن معاوية سنة أربع وخمسين بالمدينة قوله فأنزل الله الحجاب وفي رواية المستملي فأنزل الله آية الحجاب وزاد أبو عوانة في صحيحه من طريق الزبيدي عن ابن شهاب فأنزل الله الحجاب ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي ) الآية وقال الكرماني الحجاب أي حكم الحجاب يعني حجاب النساء عن الرجال فأنزل الله آية الحجاب ويحتمل أن يراد بآية الحجاب الجنس فيتناول الآيات الثلاث قوله تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) الآية وقوله تعالى ( وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) وقوله تعالى ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) الآية وأن يراد به العهد من واحدة من هذه الثلاث قلت رواية أبي عوانة المذكورة فسرت المراد من آية الحجاب صريحا كما ذكرنا وسبب نزولها قصة زينب بنت جحش لما أولم عليها وتأخر النفر الثلاثة في البيت واستحيى النبي عليه الصلاة و السلام أن يأمرهم بالخروج فنزلت آية الحجاب وسيأتي في تفسير الأحزاب وسيأتي أيضا حديث عمر رضي الله تعالى عنه قلت يا رسول الله إن نساءك يدخلن عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب وروى ابن جرير في تفسيره من طريق مجاهد قال بينا النبي عليه الصلاة و السلام يأكل ومعه بعض أصحابه وعائشة تأكل معهم إذ أصابت يد رجل منهم يدها فكره النبي عليه الصلاة و السلام ذلك فنزلت آية الحجاب فإن قلت ما طريقة الجمع بين هذه قلت أسباب نزول الحجاب تعددت وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية وقال التيمي الحجاب هنا استتارهن بالثياب حتى لا يرى منهن شيء عند خروجهن وأما الحجاب الثاني فهو إرخاؤهن الحجاب بينهن وبين الناس قلت رواية أبي عوانة تخدش هذا الكلام على ما لا يخفى ثم اعلم أن الحجاب كان في السنة الخامسة في قول قتادة وقال أبو عبيد في الثالثة وقال ابن إسحق بعد أم سلمة وعند ابن سعيد في الرابعة في ذي القعدة
( بيان استنباط الأحكام ) الأول قال ابن بطال فيه مراجعة الأدون للأعلى في الشيء الذي يتبين له الثاني فيه فضل المراجعة إذا لم يقصد بها التعنت فإنه قد يتبين فيها من العلم ما خفي فإن نزول الآية وهي قوله تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين ) الآية كان سببه المراجعة الثالث فيه فضل عمر رضي الله تعالى عنه فإن الله تعالى أيد به الدين وقال الكرماني وهذه من إحدى الثلاث التي وافق فيها نزول القرآن قلت هذه إحدى ما وافق فيها ربه والثانية في قوله ( عسى ربه أن طلقكن ) والثالثة ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) وهذه الثلاثة ثابتة في الصحيح والرابعة موافقة في أسرى بدر والخامسة في منع الصلاة على المنافقين وهاتان في صحيح مسلم والسادسة موافقته في آية المؤمنين وروى أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث علي بن زيد وافقت ربي لما نزلت ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) فقلت أنا ( تبارك الله أحسن الخالقين ) فنزلت والسابعة موافقته في تحريم الخمر كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى والثامنة موافقته

(2/284)


في قوله ( من كان عدوا لله وملائكته ) الآية ذكره الزمخشري وقال ابن العربي قدمنا في الكتاب الكبير أنه وافق ربه تعالى تلاوة ومعنى في أحد عشر موضعا وفي جامع الترمذي مصححا عن ابن عمر رضي الله عنهما ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر فيه إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه الرابع فيه كلام الرجال مع النساء في الطرق الخامس فيه جواز وعظ الإنسان أمه في البر لأن سودة من أمهات المؤمنين السادس فيه جواز الإغلاظ في القول والعتاب إذا كان قصده الخير فإن عمر رضي الله عنه قال قد عرفناك يا سودة وكان شديد الغيرة لا سيما في أمهات المؤمنين السابع في التزام النصيحة لله ولرسوله في قول عمر رضي الله عنه احجب نساءك وكان عليه الصلاة و السلام يعلم أن حجبهن خير من غيره لكنه كان يترقب الوحي بدليل أنه لم يوافق عمر رضي الله عنه حين أشار بذلك وكان ذلك من عادة العرب الثامن فيه جواز تصرف النساء فيما لهن حاجة إليه لأن الله تعالى أذن لهن في الخروج إلى البراز بعد نزول الحجاب فلما جاز ذلك لهن جاز لهن الخروج إلى غيره من مصالحهن وقد أمر النبي عليه الصلاة و السلام بالخروج إلى العيدين ولكن في هذا الزمان لما كثر الفساد ولا يؤمن عليهن من الفتنة ينبغي أن يمنعن من الخروج إلا عند الضرورة الشرعية والله تعالى أعلم
13 - ( حدثنا زكرياء قال حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي قال قد أذن أن تخرجن في حاجتكن قال هشام يعني البراز )
مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة لأن الباب معقود في خروجهن إلى البراز وفي هذا الحديث بيان أن الله تعالى قد أذن لهن بالخروج عن بيوتهن إلى البراز كما يجيء هذا الحديث في التفسير مطولا أن سودة خرجت بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت عظيمة الجسم فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين فرجعت فشكت ذلك للنبي عليه الصلاة و السلام وهو يتعشى فأوحى إليه فقال أنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول زكريا بن يحيى بن صالح اللؤلؤي أبو يحيى البلخي الحافظ الفقيه المصنف في السنة مات ببغداد ودفن عند قتيبة بن سعيد سنة ثلاثين ومائتين الثاني أبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي وقد مر الثالث هشام بن عروة الرابع أبو عروة بن الزبير بن العوام الخامس عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بلخي وكوفي ومدني ومنها أن فيه رواية الابن عن الأب
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن زكريا بن يحيى المذكور وأخرجه مسلم في الاستئذان عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي أسامة به
( بيان ما فيه من الإعراب والمعنى ) قوله قد أذن مقول القول وفي بعض النسخ أذن بلا لفظة قد وهو على صيغة المجهول والآذن هو الله تعالى وبنى الفعل على صيغة المجهول للعلم بالفاعل قوله أن تخرجن أصله بأن تخرجن وأن مصدرية والتقدير بخروجكن وكلمة في متعلق به قوله قال هشام يعني ابن عروة المذكور وهو إما تعليق من البخاري وإما من مقول أبي أسامة قال الكرماني قلت لم لا يجوز أن يكون مقول هشام أو عروة قوله تعني البراز مقول القول والضمير في تعني يرجع إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أراد أن عائشة تقصد من قولها تخرجن في حاجتكن البراز الخروج إلى البراز وانتصابه بقوله تعني وقال الداودي قوله قد أذن أن تخرجن دال على أنه لم يرد هنا حجاب البيوت فإن ذلك وجه آخر إنما أراد أن يستترن بالجلباب حتى لا يبدو منهن إلا العين قالت عائشة كنا نتأذى بالكنف وكنا نخرج إلى المناصع
( باب التبرز في البيوت )
أي هذا باب في بيان التبرز في البيوت عقب الباب السابق بهذا الباب لما ذكرنا من أن خروج النساء إلى الصحراء لقضاء الحاجة إنما كان لأجل عدم الكنف في البيوت فلما اتخذت بعد ذلك الأخلية والكنف منعن عن الخروج إلا للضرورة الشرعية والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفى

(2/285)


14 - ( حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن محمد بن يحيى بن حبان عن واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر قال ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت رسول الله يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشأم )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول إبراهيم بن المنذر بلفظ اسم الفاعل من الإنذار وقد مر في أول كتاب العلم الثاني أنس بن عياض أبو ضمرة الليثي المدني ثقة عالم روى عن شعبة وعدة وعنه أحمد وأمم مات سنة مائتين عن ست وتسعين سنة وهو من الأفراد ليس في الكتب الستة أنس بن عياض سواه الثالث عبيد الله بالتصغير ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عثمان القريشي المدني روى عن أبيه والقاسم وسالم وعدة ويقال أنه أدرك أم خالد بنت خالد وعنه خلق آخرهم عبد الرزاق مات سنة سبع وأربعين ومائة الرابع محمد بن يحيى بن حبان بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة الخامس عمه واسع بن حبان كلاهما تقدما في باب من تبرز على لبنتين السادس عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم مدنيون ومنها أن في رواته ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم عبيد الله بن عمر فإنه تابعي صغير من فقهاء أهل المدينة وأثباتهم ومحمد بن يحيى وواسع بن حبان ومنها أن فيه رواية الصحابي عن الصحابي على قول من يعد واسعا من الصحابة
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) قد ذكرنا في باب من تبرز على لبنتين تعدد موضعه ومن أخرجه غيره عن قريب
( بيان ما فيه من اللغة والإعراب والمعنى ) قوله ارتقيت أي صعدت قوله يقضي حاجته جملة في محل النصب على الحال ورأيت بمعنى أبصرت فلا يقتضي إلا مفعولا واحدا قوله مستدبر القبلة نصب على الحال لا يقال شرط الحال أن تكون نكرة لأنا نقول إضافته لفظية لا تفيد التعريف وفائدة ذكره التأكيد والتصريح به وإلا فمستقبل الشام في المدينة مستدبر القبلة قطعا فإن قلت قد قال ههنا فوق ظهر بيت حفصة وفي الرواية الآتية عن قريب على ظهر بيتنا وفي رواية أخرى وقد مضيت على ظهر بيت لنا فما وجه ذلك قلت بيت حفصة بيته أو كان لها بيت في بيت عمر رضي الله تعالى عنه يعرف بها أو صار إليها بعد فإن قلت في الرواية الماضية مستقبلا بيت المقدس وكذا في الرواية الآتية مستقبل الشام قلت العبارة مختلفة والمعنى واحد لأنهما في جهة واحدة فافهم
15 - ( حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا يحيى عن محمد بن يحيى بن حبان أن عمه واسع بن حبان أخبره أن عبد الله بن عمر أخبره قال لقد ظهرت ذات يوم على ظهر بيتنا فرأيت رسول الله قاعدا على لبنتين مستقبل بيت المقدس )
الكلام فيه كالكلام فيما قبله
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف الدورقي وقد تقدم في باب حب الرسول من الإيمان الثاني يزيد بن هارون وكذا وقع في رواية أبي ذر والأصيلي وهو الحافظ المتقن أحد الأعلام روى عنه الذهلي وخلق مات وقد عمي سنة ست ومائتين بواسط عن ثمان وثمانين سنة وليس في الكتب الستة مشارك له في اسمه واسم أبيه الثالث يحيى بن سعيد الأنصاري المدني روى مالك عنه هذا الحديث كما تقدم الرابع والخامس والسادس تكرر ذكرهم
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن رواته أئمة أجلاء أعلام ومنها أن فيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض
( بيان بقية الكلام ) قوله لقد ظهرت أي علوت وارتقيت واللام وقد فيه للتأكيد قوله ذات يوم معناه يوما وهو من باب إضافة المسمى إلى اسمه أي ظهرت في زمان هو مسمى لفظ اليوم وصاحبه ويحتمل أن يكون من إضافة العام إلى الخاص أي ظهرت نفس اليوم فيفيد التأكيد أي اليوم في نفسه وإنما لم يتصرف ذات يوم وذات مرة لأمرين أحدهما أن إضافتهما من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم كما ذكرنا لأن معنى لقيتك

(2/286)


ذات مرة وذات يوم قطعة من الزمان ذات مرة وذات يوم والآخر أن ذات ليس لهما تمكن في ظروف الزمان لأنهما ليسا من أسماء الزمان وزعم السهيلي أن ذات مرة وذات يوم لا يتصرفان في لغة خثعم ولا غيرها وحكى عن سيبويه أنه ادعى جواز التصرف في ذات في لغة خثعم قوله مستقبل بيت المقدس نصب على الحال ولم يقع في هذه الرواية مستدبر القبلة أي الكعبة كما في رواية عبد الله بن عمر لأن ذلك من لازم من استقبل الشام بالمدينة وأما ذكره في رواية عبد الله فقد ذكرنا عن قريب وجهه فافهم
( باب الاستنجاء بالماء )
أي هذا باب في بيان حكم الاستنجاء بالماء قال الخطابي الاستنجاء في اللغة الذهاب إلى النجوة من الأرض لقضاء الحاجة والنجوة المرتفعة من الأرض كانوا يستترون بها إذا قعدوا للتخلي وفي المطالع الاستنجاء إزالة النجو وهو الأذى الباقي في فم المخرج وأكثر ما يستعمل في الماء وقد يستعمل في الأحجار وأصله من النجو وهو القشر والإزالة وقيل من النجوة لاستتارهم به وقيل لارتفاعهم وتجافيهم عن الأرض عند ذلك وقال الأزهري عن شمر الاستنجاء بالحجارة مأخوذ من نجوت الشجرة وأنجيتها واستنجيتها إذا قطعتها كأنه يقطع الأذى عنه بالماء أو بحجر يتمسح به قال ويقال استنجيت العقب إذا خلصته من اللحم ونقيته منه وقال الجوهري استنجى مسح موضع النجو أو غسله والنجو ما يخرج من البطن واستنجى الوتر أي مد القوس وأصله الذي يتخذ أوتار القسي لأنه يخرج ما في المصارين من النجو ويقال أنجى أي أحدث ونجوت الجلد من البعير وأنجيته إذا سلخته وفلان في أرض نجاة يستنجي من شجرها العصي والقسي واستنجى الناس في كل وجه أي أصابوا الرطب وقال الأصمعي استنجيت النخلة إذا التقطت رطبها قال ونجوت غصون الشجرة أي قطعتها وأنجيت غيري وقال أبو زيد استنجيت الشجر قطعته من أصله وأنجيت قضيبا من الشجر أي قطعت وفي اصطلاح الفقهاء الاستنجاء إزالة النجو من أحد المخرجين بالحجر أو بالماء فإن قلت الاستفعال للطلب فيكون معناه طلب النجو قلت الاستفعال قد جاء أيضا لطلب المزيد فيه نحو الاستعتاب فإنه ليس لطلب العتب بل لطلب الأعتاب والهمزة فيه للسلب فكذا هذا هو لطلب الإنجاء وتجعل الهمزة للسلب والإزالة وجه المناسبة بين البابين ظاهر لا يخفى
16 - ( حدثنا أبو الوليد هشام بن عبدالملك قال حدثنا شعبة عن أبي معاذ واسمه عطاء بن أبي ميمونة قال سمعت أنس بن مالك يقول كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء يعني يستنجي به )
مطابقة الحديث للترجمة في قوله ( ( يعني يستنجي ) ) لأن البخاري قصد بهذه الترجمة الرد على من كره الاستنجاء بالماء وعلى نفي وقوعه من النبي صلى الله عليه و سلم وهؤلاء قد ذهبوا في ذلك إلى ما روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال إذن لايزال في يدي نتن وعن نافع عن ابن عمر كان لايستنجي بالماء وعن ابن الزبير قال ما كنا نفعله ونقل عن ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم استنجى بالماء وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم فإن قلت ليس في الحديث ما يطابق الترجمة لأن الأصيلي زعم فيما ذكره ابن المهلب أن الاستنجاء بالماء ليس بالبين في هذا الحديث لأن قوله ( فيستنجي به ) ليس من قول أنس بن مالك إنما هو من قول أبي الوليد وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة لم يذكر فيستنجي به فيحتمل أن يكون الماء لطهوره أو الوضوء به وقال السفاقسي مثله زاد وقال أبو عبدالملك هو قول ابن معاذ الرازي عن أنس قال وذلك أنه لم يصح أن النبي عليه الصلاة و السلام استنجى بالماء قلت ذكر البخاري فيما يأتي من طريق ابن بشار عن غندر عن شعبة بلفظ ( ( يستنجي بالماء ) ) ثم ذكر من تابعه على لفظة فيستنجي بخلاف أبي الوليد وفي رواية الاسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة فاطلقت أنا وغلام من الأنصار معنا غداوة فيها ماء يستنجي منها النبي عليه الصلاة و السلام ) وفي رواية البخاري أيضا من طريق

(2/287)


روح بن القاسم عن عطاء بن ميمونة ( إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغتسل به ) وفي رواية مسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس ( ( فخرج علينا وقد استنجى بالماء ) وكذا عند أبي عوانة في صحيحه ( ( فيخرج عليها وقد استنجى بالماء ) ) وتبين بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس راوي الحديث وقال بعضهم ووقع هنا في نكت البدر الزركشي تصحيف فإنه نسب التعقيب المذكور إلى الإسماعيلي وإنما هو للأصيلي وأقره فكانه ارتضاه وليس بمرضي وكذا نسبه الكرماني إلى ابن بطال وأقره عليه وابن بطال إنما أخذه عن الأصيلي قلت مثل هذا لايسمى تصيحفا لأن التصحيف الخطأ في الصحيفة بأن يذكر موضع الحاء المهملة مثلا الخاء المعجمة وموضع العين المهملة الغين المعجمة ونحو ذلك واصل التعقيب المذكور ليس للأصيلي أيضا وإنما هو للمهلب كما ذكرناه وابن بطال وغيره نقلوه هكذا ولم يذكروا المقول منه فبهذا لايتوجه عليهم التشنيع * ثم اعلم أن الأحاديث قد تظاهرت بالإخبار عن استنجاء النبي صلى الله عليه و سلم بالماء وبالمر به فمنها ما رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي عليه الصلاة و السلام دخل الخلاء فوضعت له وضوأ ) الحديث وقد مر بيانه * ومنها ما رواه مسلم في صحيحه لما عد الفطرة عشرة عد منها انتقاص الماء وفسر بالاستنجاء ومنها ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث إبراهيم بن جرير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل الغيضة فقضى حاجته فأتاه جرير بإداوة من ماء فاستنجى منها ومسح يده بالتراب ) ) * ومنها ما رواه ابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج من غائط قط إلا مس ماء ) ومنها مارواه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة عن معاذة عن عائشة أنها قالت ( ( مرن ازواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعله ) وقال حسن صحيح فإن قلت سأل حرب أبا عبدالله عنه قال لايصح في الاستنجاء بالماء حديث قال فحديث عائشة قال لايصح لأن غير قتادة لايرفعه قلت فيه نظر لأن قتادة إمام حافظ إذا تفرد برفع حديث قبل منه إجماعا ورفعه غير قتادة أيضا وهو ابن شوذب عن يزيد وغبراهيم بن طهمان وأبو زيد عن أيوب كذا في العلل لأبي إسحاق الحربي فإن قلت قال الحربي والحديث عندي موقوف لكثرة من أجمع على ذلك قلت قد رفعه من زكرناهم وهم حجة ولاسيما فيهم قتادة وبه الكفاية وأما قول أحمد بن حنبل لم يصح في الاستنجاء بالماء حديث مردود بما ذكرنا من الأحاديث وبما رواه ابن حبان أيضا في صحيحه من حديث أبي هريرة ( ( أن عليه الصلاة و السلام قضى حاجته ثم استنجى من تور ) ) رواه عن إسحق بن براهيم وإسماعيل بن مبشر قالا حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس حدثنا شريك عن إبراهيم بن جرير عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عنه فإن قلت قال أبو الحسن بن القطان في كتاب الوهم والإيهام أنه لايصح لعلتين أحداهما شريك فإنه سيء الحفظ مشهور التدليس وهو في سوء الحفظ مثل ابن أبي ليلى وقيس بن الربيع وكلهم اعتراهم سوء الحفظ لما ولوا القضاء الثانية إبراهيم لايعرف حاله وهو كوفي يروى عن أبيه مرسلا ومنهم من يقول حدثني أبي قلت تدليس شريك المخوف زال بحديث آدم عنه المصرح فيه بحدثنا عن إبراهيم كما مر وتسويته بين شريك وقيس وابن أبي ليلى في سوء الحفظ غير جيد لأنه ممن قال فيه يحيى ثقة وهو أحب إلي من ىأبي الأحوص وجرير ليس يقاس هؤلاء به وقال أحمد فيه نحو ذلك وزاد وهو في أبي إسحاق أثبت من زهير وإسرائيل وقال وكيع لم نر أحدا من الكوفيين مثله وقال ابن سعد ثقة مأمون كثير الحديث وثقه وعظمه غير هؤلاء فكيف يقاس بمن قيل فيه كثير الخطأ ردىء الحفظ كثير المناكير في حديثه فاستحق الترك تركه أحمد ويحيى وزائدة يعني ابن ابي ليلى وقال ابن طاهر أجمعوا على ضعفه وقال أحمد في قيس ترك الناس حديثه واساء الثناء عليهما غير واحد وقوله في إبراهيم لايعرف حاله مردود برواية جماعة عنهم منهم أبان بن عبدالله وحميد بن مالك وزياد بن أبي سفيان وقيس بن أسلم وداود بن عبدالجبار وغيرهم وقال أبو حاتم الرازي الرازي يكتب حديثه وذكره ابن حبان في كتاب وقال ابن عدي أحاديثه مستقيمه تكتب وقوله ومنهم من يقول حدثني أبي واغضى على ذلك هو لايستقيم وأنى له السماع من أبيه مع قول الآجري والحربي وابن سعد ولد بعد موت أبيه * ومنها ما رواه ابن ماجه عن عائشة من طريق ضعيفة ( ( أن النبي عليه الصلاة و السلام كان يغسل مقعدته ثلاثا ) ) وفي لفظ ( ( استنجوا

(2/288)


بالماء البارد فأنه مصحه للبواسير ) زمنها ما رواه ابن حبيب في شرح الموطأ
حدثنا أسيد بن موسى وغيره عن السرى بن يحى عن أبان ابي عياش ان النبي عليه الصلاة و السلام قال ( اشتنجوا بالماء فإنه اطيب وأطهر ) وأبان هذا متروك
( بيان رجاله ) الأول أبو الوليد هشام بكسر الهاء بن عبدالملك الطيالسي البصرى مر في كتاب علامة اليمان حب الأنصار الثاني شعبة بن الحجاج وقدمر الثالث أبو معاذ بضم الميم وبالذال المعجمه واسمه عطاء بن ميمونة البصرى التابعي مولى أنس وقيل مولى عمران بن حصين مات بعد الثلاثين ومائه وكان يرى القدر الرابع أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه
( بيان لطائف إسنادة ) منها أن فيه التحديث والعنعنه والسماع . ومنها أن رواته كلهم بصريون ومنها أنهم كلهم فرسان الصحيحين والأربعه إلاعطاء فأن الترمذي لم يخرج له ومنها أنه من رباعيات البخاري
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) اخرجه البخاري ايضا في الطهاره عن سليمان بن حرب بندار عن غندر وفي الصلاة أيضا عن محمد بن حاتم بن يزيغ عن أسود بن عامر شاذان ثلاثتهم عن شعبه وفي الطهارة أيضا عن يعقوب الدورقي عن إسماعيل بن عليه عن روح بن القاسم كلاهما عنه به وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبه عن وكيع وغندر وعن ابي موسى محمد بن المثنى عن غندر كلاهما عن شعبة به وعن زهير بن حرب وابي كريب كلاهما عن إسماعيل بن عليه به وعن يحيى بن يحى عن خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد هو الحذاء عنه به وأخرجه أبو داود في الطهارة عن وهب بن بقية عن خالد الواسطي به واخرجه النسائي فيه عن إسحق بن إبراهيم عن النضر بن شميل عن شعبة به
( بيان اللغات ) قوله ( وغلام ) هو الذي طرشاربه وقيل هو من حين يولد إلى أن يشيب وزعم الزمخشري أن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء فان أجرى عليه بعد ما صار ملتحيا اسم الغلام فهو مجاز ويروي عنه علي بن ابي طالب رضي الله تعالى عنه في بعض أراجيزه أنا الغلام الهاشمي المكي وقالت ليلى الأخليلية في الحجاج غلام إذا هز القناة تباهيا . قال وقال بعضهم يستحق هذا الاسم إذا ترعرع وبلغ حد الاحتلام بشهوة النكاح كأنه يشتهي النكاح ذلك الوقت ويسمى الغلام قبل ذلك تفاؤلا وبعد ذلك مجازا وفي المخصص هو غلام من لدن فطامه إلى سبع سنين وعن أبي عبيد هو المترعرع المتحرك والجمع أغلمة وغلمة وغلمان والأنثى غلامة وفي الصحاح استغنوا بغلمة عن اغلمة وتصغير الغلمة اغليمة على غير مكبرة كأنهم صغروا اغلمة وان لم يقولوه وقال الخليل الغلومة والغلامية والغلام هو الذي طر شاربه وفي الموعب لابن التياني لا يقال للأنثى الا في كلام قد ذهب في ألسنه الناس وفي الجمهرة غلام رعرع ورعراع ولا يكون ذلك الامع حسن الشباب قوله ( إدواة ) بكسر الهمزه وهي اناء صغير من جلد تتخذ للماء كالسطحيه ونحوها والجمع اداوى قال الجوهري الاداوة المطهرة والجمع اداوى
( بيان الاعراب ) قولة ( كان رسول الله عليه الصلاة و السلام ) ارتفاع رسول الله بكان وخبره جملة قد حذفت منها العائد وهو قوله ( أجي أنا ) تقدير أجيئه أنا وغلام معي ويدل عليه الروايه الآتيه ( كان رسول الله صلى الله علية وسلم اذا خرج لحاجته تبعته انا وغلام منا ) وكلمة إذا للظرف المحض ويحتمل أن يكون فيها معنى الشرط وجوابه قوله ( أجئ ) والجملة تكون في محل نصب على أنها خبر كان وقوله ( أنا ) ضمير مرفوع ابرز ليصح عطف غلام على ما قبله لئلا يلزم عطف اسم على فعل ويجوز وغلاما بالنصب على ان تكون الواو بمعنى مع قوله ( اداوة ) مرفوع بالأبتداء وخبرة قوله ( معنا ) مقدما والجملة في محل النصب على الحال بدون الواو كما في قوله تعالى ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) وكلمة من في قوله ( من ماء ) للبيان
( بيان المعاني ) قولة ( كان رسول الله صلى الله علية وسلم ) هذه اللفظة مشعره بأستمرار ذلك واعتياده له قوله ( لحاجته ) اراد بها ههنا الغائط او البول قوله ( أجئ انا وغلام ) وصرح الاسماعيلي في روايته ( وغلام منا ) أي من الانصار وكذا في الروايه الآتيه للبخاري وفي روايه مسلم ( وغلام نحوي ) أي مثلي اراد مقارب لي في السن قوله ( معنا ) أي في صحبتنا اداوة قال صاحب المحكم مع اسم معناه الصحبه متحركة وساكنة غير ان المتحركه العين تكون اسما وحرفا والساكنة

(2/289)


العين تكون حرفا لا غير وههنا يجوز تسكين العين وكذا في معكم وعند اجتماعه بالألف واللام تفتح العين وتكسر فيقال مع القوم فتحا وكسرا وقال الجوهري مع للمصاحبه وقد تسكن وتنون فيقال جاؤامعا قوله ( يعني يستنجي به ) من كلام أنس رضي الله تعالى عنه وفاعل يستنجي رسول الله صلى الله عليه و سلم والرواية الثالثة للبخاري الآتية عن قريب تدل على هذا وبهذا يرد على عبدالملك البوني في قوله هذا مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس فيكون مرسلا فلا حجة فيه حكاه عنه ابن التين وإليه ذهب الكرماني أيضا وكذا يرد على بعضهم في قوله قائل يعني هو هشام أراد به هشام بن عبدالملك الطيالسي شيخ البخاري وقد مر تحقيق الكلام فيه عن قريب
( بيان استنباط الاحكام ) الأول خدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك وتفقد حاجتهم خصوصا المتعلقه بالطهارة الثاني فيه استخدام الرجل الصالح الفاضل بعض اتباعه الأحرار خصوصاإذا أرصدوا لذلك والاستعانة في مثل هذا فيحصل لهم الشرف بذلك وقد صرح الروياني من الشافعية بأنه يجوز أن يعير ولده الصغير ليخدم من يتعلم منه وخالف صاحب العدة فقال ليس للأب أن يعير ولده الصغير لمن يخدمه لأن ذلك هبة لمنافعها فاشبه إعاره ماله وأوله النووي في الروضه فقال هذا محمول على خدمة تقابل بأجرة أما ما كان لا يقابل بها فالظاهر والذي تقتضيه أفعال السلف أن لامانع منه وقال غيره من المتأخرين ينبغي تقييد المنع بما إذا انتفت المصلحة أما إذا وجدت كما لو قال لولده الصغير اخدم هذا الرجل في كذا لتتمرن على التواضع ومكارم الأخلاق فلا مانع منه وهو حسن الثالث فيه التباعد لقضاء الحاجه عن الناس وقد اشتهر هذا من فعله صلى الله عليه و سلم الرابع فيه جواز الاستعانه في أسباب الوضوء الخامس فيه اتخاذ آنية الوضوء كالإداوة ونحوها وحمل الماء معه الى الكنيف السادس فيه جواز الاستنجاء بالماء ولذلك ترجم البخاري عليه وفيه رد على من منع ذلك كما بيناه وأجابوا على قول سعيد بن المسيب وقد سئل عن الاستنجاء بالماء أنه وضوء النساء بأنه لعل ذلك في مقابله غلو من أنكر الاستنجاء بالحجارة وبالغ في إنكاره بهذه الصيغه ليمنعه من الغلو وحمله ابن قانع على أنه في حق النساء وأما الرجال فيجتمعون بينه وبين الاحجار حكاه الباجي عنه قال القاضي والعلة عند سعيد في كونه وضوء النساء معناه أنه الاستنجاء في حقهن بالحجارة متعذر وقال الخطابي وزعم بعض المتأخرين مطعوم فلهذا كره الاستنجاء به سعيد وموافقوه وهذا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة وشذ ابن حبيب فقال لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء وحكاه القاضي أببو الطيب عن الزيدية والشيعة وغيرهما والسنه قاضية عليهم استعمل الشارع الأحجار وأبو هريرة معه ومعه إداوة من ماء ومذهب جمهور السلف والخلف والذي اجمع عليه أهل الفتوى من أهل الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر فيقدم الحجر أولا ثم يستعمل الماء فتخفف النجاسة وتقل مباشرتها بيده ويكون أبلغ في النظافة فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لكونه يزيل عين النجاسه وأثرها والحجر يزيل العين دون الأثر لكنه معفو عنه في حق نفسه وتصح الصلاة معه كسائر النجاسات المعفوا عنها واحتج الطحاوي رحمه الله على الاستنجاء بالماء بقوله تعالى ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين ) قال الشعبي رحمه الله ( لما نزلت هذه الآيه قال النبي صلى الله عليه و سلم يا أهل قبا ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم قالوا مامنا أحد إلا وهو يستنجي بالماء )
( باب من حمل معه الماء لطهوره )
أي هذا باب في بيان من حمل معه الماء لأن يتطهر به والطهور ههنا بضم الطاء لأن المراد به هو الفعل الذي هو المصدر وأما الطهور بفتح الطاء فهو اسم للماء الذي يتطهر به وقد حكى الفتح فيهما وكذا حكى الضم فيهما ولكن بالضم ههنا كما ذكرنا على اللغة المشهورة وفي بعض النسخ لطهور بدون الضمير في آخره والطهارة في اللغة النظافة والتنزه وجه المناسبة بين البابين ظاهر لا يخفى
( وقال أبو الدرداء أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد )

(2/290)


هذا تعليق أخرجه موصولا في المناقب حدثنا موسى عن أبي عوانة عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة دخلت الشام فصليت ركعتين فقلت اللهم يسر لي جليسا صالحا فرأيت شيخا مقبلا فلما دنا قلت أرجو أن يكون استجاب قال ممن أنت قلت من أهل الكوفة قال أفلم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهرة الحديث وأراد بإخراج طرف هذا الحديث ههنا مع حديث أنس رضي الله عنه التنبيه على ما ترجم عليه من حمل الماء إلى الكنيف لأجل التطهر وأبو الدرداء اسمه عويمر بن مالك بن عبد الله بن قيس ويقال عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري من أفاضل الصحابة وفرض له عمر رضي الله عنه رزقا فألحقه بالبدريين لجلالته وولي قضاء دمشق في خلافة عثمان رضي الله عنه مات سنة إحدى أو اثنين وثلاثين وقبره بالباب الصغير بدمشق قوله أليس فيكم الخطاب فيه لأهل العراق ويدخل فيه علقمة بن قيس قال لهم حين كانوا يسألونه مسائل وأبو الدرداء كان يكون بالشام أي لم لا تسألون من عبد الله بن مسعود هو في العراق وبينكم لا يحتاج العراقيون مع وجوده إلى أهل الشام وإلى مثلي قوله صاحب النعلين أي صاحب نعلي رسول الله عليه الصلاة و السلام لأن عبد الله كان يلبسهما إياه إذا قام فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه وإسناد النعلين إليه مجاز لأجل الملابسة وفي الحقيقة صاحب النعلين هو رسول الله عليه الصلاة و السلام قوله والطهور هو بفتح الطاء لا غير قطعا إذ المراد صاحب الماء الذي يتطهر به رسول الله عليه الصلاة و السلام قوله والوساد بكسر الواو وبالسين المهملة وفي آخره دال وفي المطالع قوله صاحب الوساد والمطهرة يعني عبد الله بن مسعود كذا في البخاري من غير خلاف في كتاب الطهارة وفي رواية مالك بن إسماعيل ويروي الوسادة أو السواد بكسر السين وكان ابن مسعود رضي الله عنه يمشي مع النبي حيث انصرف ويخدمه ويحمل مطهرته وسواكه ونعليه وما يحتاج إليه فلعله أيضا كان يحمل وسادة إذا احتاج إليه وأما أبو عمر فإنه يقول كان يعرف بصاحب السواد أي صاحب السر لقوله آذنك على أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي انتهى كلامه وقال الكرماني ولعل السواد والوسادة هما بمعنى واحد وكأنهما من باب القلب والمقصود منه أنه رضي الله عنه صاحب الأسرار يقال ساودته مساودة وسوادا أي ساررته وأصله إدناء سوادك من سواده وهو الشخص ويحتمل أن يحمل على معنى المخدة لكنه لم يثبت قلت تصرف اللفظ على احتمال معاني لا يحتاج إلى الثبوت وقال الصغاني ساودت الرجل أي ساررته ومنه قول النبي لابن مسعود رضي الله عنه آذنك على أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي حتى أنهاك أي سراري وهو من إدناء السواد من السواد أي الشخص من الشخص وقال والوساد والوسادة المخدة والجمع وسد ووسائد
17 - ( حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن أبي معاذ هو عطاء بن أبي ميمونة قال سمعت أنسا يقول كان رسول الله إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام منا معنا إداوة من ماء
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
( بيان رجاله ) وهم أربعة ذكروا جميعا وحرب بفتح الحاء المهملة وسكون الراء وفي آخره باء موحدة
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رواته كلهم بصريون ومنها أنه من رباعيات البخاري وقد ذكرنا في الباب السابق تعدد موضعه ومن أخرجه غيره
( بيان اللغات والإعراب والمعنى ) قوله تبعته قال ابن سيده تبع الشيء تبعا وتباعا وأتبعه واتبعه وتبعه قفاه وقيل اتبع الرجل سبقه فلحقه وتبعه تبعا واتبعه مر به فمضى معه وفي التنزيل ( ثم أتبع سببا الكهف و92 ) ومعناه تبع وقرأ أبو عمرو ( ثم أتبع سببا ) الكهف و92 يريد لحق وأدرك واستتبعه طلب إليه أن يتبعه والجمع تبع وتباع وتبعة وحكى القزاز أن أبا عمرو وقرأ ( ثم أتبع سببا ) والكسائي ( ثم أتبع سببا ) يريد الحق وأدرك وذكر أن تبعه واتبعه بمعنى واحد وكذا ذكر في الغريبين وفي الأفعال لابن طريف المشهور تبعته سرت في أثره واتبعته لحقته وكذلك فسر في التنزيل ( فاتبعوهم مشرقين ) أي لحقوهم وفي الصحاح تبعت القوم تباعا وتباعا وتباعة بالفتح إذا مشيت أو مروا بك فمضيت معهم وقال الأخفش تبعته واتبعته بمعنى مثل ردفته

(2/291)


وأردفته قوله يقول جملة في محل النصب على الحال وإنما ذكر بلفظ المضارع مع أن حق الظاهر أن يكون بلفظ الماضي لإرادة استحضاره صورة القول تحقيقا وتأكيدا له كأنه يبصر الحاضرين ذلك قوله إذا خرج أي من بيته أو من بين الناس لحاجته أي للبول أو الغائط فإن قلت إذا للاستقبال وإن دخل للمضي فكيف يصح ههنا إذ الخروج مضى ووقع قلت هو ههنا لمجرد الظرفية فيكون معناه تبعته حين خرج أو هو حكاية للحال الماضية قوله تبعته جملة في محل النصب على أنها خبر كان وقد مر الكلام في بقية الإعراب في الباب السابق قوله منا أي من الأنصار وبه صرح في رواية الإسماعيلي وقال الكرماني أي من قومنا أو من خواص رسول الله ومن جملة المسلمين قلت الكل بمعنى واحد لأن قوم أنس هم الأنصار وهم من خواص رسول الله ومن جملة المسلمين وقال بعضهم وإيراد المصنف لحديث أنس مع هذا الطرف من حديث أبي الدرداء يشعر إشعارا قويا بأن الغلام المذكور في حديث أنس هو ابن مسعود ولفظ الغلام يطلق على غير الصغير مجازا وعلى هذا قول أنس وغلام منا أي من الصحابة أو من خدم النبي قلت فيما قاله محذوران أحدهما ارتكاب المجاز من غير داع والآخر مخالفته لما ثبت في صريح رواية الإسماعيلي ومن أقوى ما يرد كلامه أن أنسا رضي الله عنه وصف الغلام بالصغر في رواية أخرى فكيف يصح أن يكون المراد هو ابن مسعود ولكن روى أبو داود من حديث أبي هريرة قال كان النبي إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى فيحتمل أن يفسر به الغلام المذكور في حديث أنس رضي الله تعالى عنه ومع هذا هو احتمال بعيد لمخالفته رواية الإسماعيلي لأنه نص فيها أنه من الأنصار وأبو هريرة ليس منهم ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة فأتبعه وأنا غلام بصورة الجملة الاسمية الواقعة حالا بالواو ولكن الصحيح أنا وغلام بواو العطف والله أعلم
( باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء )
أي هذا باب في بيان حمل العنزة وهي بفتح العين المهملة وفتح النون أطول من العصا وأقصر من الرمح وفي طرفها زج كزج الرمح والزج الحديدة التي في أسفل الرمح يعني السنان وفي التلويح العنزة عصا في طرفها الأسفل زج يتوكأ عليها الشيخ وفي البخاري قال الزبير بن العوام رأيت سعيد بن العاصي وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينه حتى أخرجتها متفقئة على حدقته فأخذها رسول الله فكانت تحمل بين يديه وبعده بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم ثم طلبها ابن الزبير رضي الله عنهما فكانت عنده حتى قتل وفي مفاتيح العلوم لأبي عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمي هذه الحربة وتسمى العنزة كان النجاشي أهداها للنبي عليه الصلاة و السلام فكانت تقام بين يديه إذا خرج إلى المصلى وتوارثها من بعده الخلفاء رضي الله تعالى عنهم وفي الطبقات أهدى النجاشي إلى النبي عليه الصلاة و السلام ثلاث عنزات فأمسك واحدة لنفسه وأعطى عليا واحدة وأعطى عمر واحدة وجه المناسبة بين البابين ظاهر لا يخفى
18 - ( حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة سمع أنس بن مالك يقول كان رسول الله يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة يستنجي بالماء
مطابقة الحديث للترجمة في قوله وعنزة يستنجي بالماء
( بيان رجاله ) وهم خمسة وقد ذكروا غير مرة ومحمد بن بشار لقبه بندار ومحمد بن جعفر لقبه غندر وقد ذكرنا مبسوطا
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن فيه سمع أنس بن مالك وفي الرواية السابقة سمعت أنسا والفرق بينهما من جهة المعنى أن

(2/292)


الأول إخبار عن عطاء والثاني حكاية عن لفظه ومحصلهما واحد ومنها أن رواته أئمة أجلاء
( بيان اللغات والإعراب والمعنى ) قوله الخلاء بالمد هو التبرز والمراد به ههنا الفضاء ويدل عليه الرواية الأخرى كان إذا خرج لحاجته ويدل عليه أيضا حمل العنزة مع الماء فإن الصلاة إليها إنما تكون حيث لا سترة غيرها وأيضا فإن الأخلية التي هي الكنف في البيوت يتولى خدمته فيها عادة أهله قوله يدخل الخلاء جملة في محل النصب على أنها خبر كان والخلاء منصوب بتقدير في أي في الخلاء وهو من قبيل دخلت الدار قوله وعنزة بالنصب عطف على قوله إداوة قوله يستنجي بالماء جملة استئنافية كأن قائلا يقول ما كان يفعل بالماء قال يستنجي به قوله سمع أنس بن مالك تقديره أنه سمع ولفظة أنه تحذف في الخط وتثبت في التقدير قوله وعنزة أي ونحمل أيضا عنزة وكانت الحكمة في حملها كثيرة منها ليصلي إليها في الفضاء ومنها ليتقي بها كيد المنافقين واليهود فإنهم كانوا يرومون قتله واغتياله بكل حالة ومن أجل هذا اتخذ الأمراء المشي أمامهم بها ومنها لاتقاء السبع والمؤذيات من الحيوانات ومنها لنبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خشية الرشاش ومنها لتعليق الأمتعة ومنها للتوكأ عليها ومنها قال بعضهم أنها كانت تحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة وهذا بعيد لأن ضابط السترة في هذا مما يستر الأسافل والعنزة ليست كذلك
( تابعه النضر وشاذان عن شعبة )
أي تابع محمد بن جعفر النضر بن شميل وحديثه موصول عند النسائي والنضر بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن شميل بضم الشين المعجمة المازني البصري أبو الحسن من تبع التابعين الساكن بمرو وقال ابن المبارك هو درة بين مروين ضائعة يعني كورة مرو وكورة مرو الروذ وهو إمام في العربية والحديث وهو أول من أظهر السنة بمرو وجميع خراسان وكان أروى الناس عن شعبة ألف كتبا لم يسبق إليها مات آخر سنة ثلاث أو أربع ومائتين عن نيف وثمانين سنة قوله وشاذان بالرفع عطف على النضر أي وتابع محمد بن جعفر بن شاذان وحديثه موصول عند البخاري في الصلاة على ما يأتي إن شاء الله تعالى وشاذان بالشين المعجمة والذال المعجمة وفي آخره نون وهو لقب الأسود بن عامر الشامي البغدادي أبو عبد الرحمن روى عن شعبة وخلق وعنه الدارمي وخلق مات سنة ثمان ومائتين وشاذان أيضا لقب عبد العزيز بن عثمان بن جبلة الأزدي مولاهم المروزي أخرج له البخاري والنسائي وهو والد خلف بن شاذان وكأنه معرب ومعناه بالفارسية فرحان وقال الكرماني ويحتمل أن البخاري روى عنه أي بلا واسطة أو روى له أي بالواسطة فهو إما متابعة تامة أو متابعة ناقصة وفائدتها التقوية قلت روى له البخاري كما ذكرنا بواسطة فقال حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع قال حدثنا شاذان عن شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة قال سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام معنا عكازة أو عصا أو عنزة ومعنا إداوة فإذا فرغ من حاجته ناولناه الإداوة
( العنزة عصا عليه زج )
هذا التفسير وقع في رواية كريمة لا غير والزج بضم الزاي المعجمة وبالجيم المشددة هو السنان وفي العباب الزج نصل السهم والحديدة في أسفل الرمح والجمع زججة وزجاج ولا تقل أزجة ثم اعلم أن العنزة هل هي قصيرة أو طويلة فيه اضطراب لأهل اللغة صحح الأول القاضي عياض والثاني النووي في شرحه وجزم القرطبي في باب من قدم من سفر بأنها عصا مثل نصب الرمح أو أكثر وفيها زج ونقله ابن عبيد وفي غريب ابن الجوزي أنها مثل الحربة قال الثعالبي فإن طالت شيئا فهي النيزك ومطرد فإذا زاد طولها وفيها سنان عريض فهي آلة وحربة وقال ابن التين العنزة أطول من العصا وأقصر من الرمح وفيه زج كزج الرمح وعبارة الداودي العنزة العكاز أو الرمح أو الحربة أو نحوها يكون في أسفلها قرن أو زج وقال الحربي عن الأصمعي العنزة ما دور نصله والآلة والحربة العريضة النصل وقيل الحربة ما لم يعرض نصله والله أعلم

(2/293)


( باب النهي عن الاستنجاء باليمين )
أي هذا باب في بيان النهي عن الاستنجاء باليمين أي باليد اليمنى وقال بعضهم عبر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له أهو للتحريم أو للتنزيه أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر له قلت هذا كلام فيه خبط لأن في الحديث الذي عقد عليه الباب النهي عن ثلاثة أشياء فلا بد من التعبير بالنهي وإما أنه للتحريم أو للتنزيه فهو أمر آخر وليس تعبيره بالنهي لعدم ظهور ذلك ولا لعدم القرينة الصارفة عن التحريم فعلى أي حال يكون لا بد من التعبير بالنهي فلا يحتاج إلى الاعتذار عنه في ذلك ووجه المناسبة بين البابين بل بين هذه الأبواب ظاهر لأن جميعها معقود في أمور الاستنجاء
19 - ( حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام هو الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال قال رسول الله إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسح بيمينه
مطابقة الحديث في قوله ولا يتمسح بيمينه
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول معاذ بضم الميم وبالذال المعجمة بن فضالة بفتح الفاء والضاد المعجمة البصري الزهراني أبو زيد روى عن الثوري وغيره وعنه البخاري وآخرون الثاني هشام بن أبي عبد الله الدستوائي بفتح الدال وسكون السين المهملتين والتاء المثناة من فوق وبهمزة بلا نون وقيل بالقصر وبالنون وقد مر تحقيقه في باب زيادة الإيمان الثالث يحيى بن أبي كثير أبو نصر الطائي وقد مر في باب كتابة العلم الرابع عبد الله بن أبي قتادة أبو إبراهيم البلخي روى عن أبيه وعنه يحيى وغيره مات سنة خمس وتسعين روى له الجماعة الخامس أبو قتادة الحارث أو النعمان أو عمرو بن ربعي بن بلدمة بن خناس بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بكسر اللام السلمي بفتحها ويجوز في لغة كسرها المدني فارس رسول الله شهد أحدا والخندق وما بعدها والمشهور أنه لم يشهد بدرا روي له مائة حديث وسبعون حديثا وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثمانية واتفقا على أحد عشر ومناقبه جمة مات بالمدينة وقيل بالكوفة سنة أربع وخمسين على أحد الأقوال عن سبعين سنة ولا يعلم في الصحابة من يكنى بهذه الكنية سواه وربعي بكسر الراء وسكون الباء الموحدة وكسر العين المهملة وبلدمة بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وفتح الدال المهملة ويقال بضم الباء وبضم الذال المعجمة وخناس بكسر الخاء المعجمة وبالنون المخففة
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بصري ومدني ومنها أن قوله هو الدستوائي قيد لإخراج هشام بن حسان لأنهما بصريان ثقتان مشهوران من طبقة واحدة فقيد به لدفع الالتباس وغرض التعريف وقال الكرماني وإنما قال بهذه العبارة اقتصارا على ما ذكره شيخه واحترازا عن الزيادة على لفظه
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن محمد بن يوسف عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير به وعن يحيى بن يحيى عن وكيع بن هشام به وفيه وفي الأشربة أيضا عن أبي نعيم عن شيبان عن يحيى به وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن يحيى بن يحيى عن عبد الرحمن بن مهدي عن همام بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير به وعن يحيى بن يحيى عن وكيع عن هشام به وفيه وفي الأشربة عن ابن أبي عمر عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل كلاهما عن أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير وأخرجه الترمذي فيه أيضا عن ابن أبي عمر عن سفيان عن معمر عن يحيى بن أبي كثير به وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي فيه أيضا عن يحيى بن درستويه عن أبي إسماعيل القناوي عن يحيى بن أبي كثير به وعن هناد بن السري عن وكيع به وعن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن هشام به وعن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري عن عبد الوهاب الثقفي به وأخرجه ابن ماجه فيه أيضا عن هشام بن عمار عن عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين وعن دحيم نحوه عن الوليد بن مسلم كلاهما عن الأوزاعي به ولم يذكر التنفس في الإناء

(2/294)


( بيان اللغات ) قوله فلا يتنفس من باب التفعل يقال تنفس يتنفس تنفسا والتنفس له معنيان أحدهما أن يشرب ويتنفس في الإناء من غير أن يبينه عن فيه وهو مكروه والآخر أن يشرب الماء وغيره من الإناء بثلاثة أنفاس فيبين فاه عن الإناء في كل نفس وأصل التركيب يدل على خروج النسيم كيف كان من ريح أو غيرها وإليه ترجع فروعه والتنفس خروج النفس من الفم وكل ذي رئة يتنفس وذوات الماء لا ريات لها كذا قاله الجوهري قوله في الإناء وهي الوعاء وجمعها آنية وجمع الآنية الأواني مثل سقاء وأسقية وأساقي وأصله غير مهموز ولهذا ذكره الجوهري في باب أني فعلى هذا أصله أناي قلبت الياء همزة لوقوعها في الطرف بعد ألف ساكنة قوله الخلاء ممدود المتوضأ ويطلق على الفضاء أيضا قوله فلا يمس من مسست الشيء بالكسر أمس مسا ومسيسا ومسيسي مثال خصيصي هذه هي اللغة الفصيحة وحكى أبو عبيدة مسسته بالفتح أمسه بالضم وربما قالوا أمست الشيء يحذفون منه السين الأولى ويحولون كسرتها إلى الميم ومنهم لا يحول ويترك الميم على حالها مفتوحة وهو مثل قوله ( فظلتم تفكهون ) بكسر الظاء وتفتح وأصله ظللتم وهو من شواذ التخفيف ويجوز فيه ثلاثة أوجه من حيث القاعدة فتح السين لخفة الفتحة وكسرها لأن الساكن إذا حرك حرك بالكسر وفك الإدغام على ما عرف في موضعه قوله ولا يتمسح أي ولا يستنجي وهو من باب التفعل أشار به إلى أنه لا يتكلف المسح باليمين لأن باب التفعل للتكلف غالبا
( بيان الإعراب ) قوله فلا يتنفس بجزم السين لأنه صيغة النهي وكذا قوله فلا يمس ولا يتمسح وروى بالضم في هذه الألفاظ الثلاثة على صيغة النفي والفاء في قوله فلا يتنفس وفلا يمس جواب الشرط وقوله ولا يتمسح بالواو عطف على قوله فلا يمس وإنما لم يظهر الجزم في فلا يمس لأجل الإدغام وعند الفك يظهر الجزم تقول فلا يمسس
( بيان المعاني ) قوله فلا يتنفس قد ذكرنا أنه نهي ويحتمل النفي وعلى كل تقدير هو نهي أدب وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يأمن أن يبرز من فيه الريق فيخالط الماء فيعافه الشارب وربما يروح بنكهة المتنفس إذا كانت فاسدة والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح ثم أنه يعد من فعل الدواب إذا كرعت في الأواني جرعت ثم تنفست فيها ثم عادت فشربت وإنما السنة أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس كلما شرب نفسا من الإناء نحاه عن فمه ثم عاد مصا له غير عب إلى أن يأخذ ريه منه والتنفس خارج الإناء أحسن في الأدب وأبعد عن الشره وأخف للمعدة وإذا تنفس فيه تكاثر الماء في حلقه وأثقل معدته وربما شرق وأذى كبده وهو فعل البهائم وقد قيل أن في القلب بابين يدخل النفس من أحدهما ويخرج من الآخر فيبقى ما على القلب من هم أو قذى ولذلك لو احتبس النفس ساعة هلك الآدمي ويخشى من كثرة التنفس في الإناء أن يصحبه شيء مما في القلب فيقع في الماء ثم يشربه فيتأذى به وقيل علة الكراهة أن كل عبة شربة مستأنفة فيستحب الذكر في أولها والحمد في آخرها فإذا وصل ولم يفصل بينهما فقد أخل بعدة سنن فإن قلت لم يبين في الحديث عدد التنفس خارج الإناء غاية ما في الباب أنه نهى عن التنفس فيها قلت قد بينه في الحديث الآخر بالتثليث وقد اختلف العلماء في أي هذه الأنفاس الثلاثة أطول على قولين أحدهما الأول والثاني أن الأول أقصر والثاني أزيد منه والثالث أزيد منهما فيجمع بين السنة والطب لأنه إذا شرب قليلا قليلا وصل إلى جوفه من غير إزعاج ولهذا جاء في الحديث مصوا الماء مصا ولا تعبوه عبا فإنه أهنأ وأمرأ وأبرأ فإن قلت قد صح عن أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة و السلام كان يتنفس في الإناء ثلاثا قلت المعنى يتنفس في مدة شربه عند إبانة القدح عن الفم لا التنفس في الإناء لا سيما مع قوله هو أهنأ وأمرأ وأبرأ أو فعله بيانا للجواز أو النهي خاص بغيره لأن ما يتقذر من غيره يستطاب منه فإن قلت هل الحكم مقصور على الماء أم غيره من الأشربة مثله قلت النهي المذكور غير مختص بشرب الماء بل غيره مثله وكذلك الطعام مثله فكره النفخ فيه والتنفس في معنى النفخ وفي جامع الترمذي مصححا عن أبي سعيد الخدري أنه نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل القذاة أراها في الإناء قال أهرقها قال فإني لا أروى من نفس واحد قال فابن القدح إذا عن فيك فإن قلت ما الدليل على العموم قلت حذف المفعول في قوله وإذا شرب وذلك لأن حذف

(2/295)


المفعول ينبىء عن العموم قوله فلا يمس ذكره بيمينه النهي فيه تنزيه لها عن مبشارة العضو الذي يكون فيه الأذى والحدث وكان النبي يجعل يمناه لطعامه وشرابه ولباسه مصونة عن مباشرة الثفل ومماسة الأعضاء التي هي مجاري الأثفال والنجاسات ويسراه لخدمة أسافل بدنه وإماطة ما هناك من القاذورات وتنظيف ما يحدث فيها من الأدناس فإن قلت الحديث يقتضي النهي عن مس الذكر باليمين حالة البول وكيف الحكم في غير هذه الحالة قلت روى أبو داود بسند صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كانت يد رسول الله اليمنى لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى وأخرجه بقية الجماعة أيضا وروى أيضا من حديث حفصة زوج النبي عليه الصلاة و السلام قالت كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه ولباسه ويجعل شماله لما سوى ذلك وظاهر هذا يدل على عموم الحكم على أنه قد روي النهي عن مسه باليمين مطلقا غير مقيد بحالة البول فمن الناس من أخذ بهذا المطلق ومنهم من حمله على الخاص بعد أن ينظر في الروايتين هل هما حديثان أو حديث واحد فإن كانا حديثا واحدا مخرجه واحد واختلفت فيه الرواة فينبغي حمل المطلق على المقيد لأنها تكون زيادة من عدل في حديث واحد فتقبل وإن كانا حديثين فالأمر في حكم الإطلاق والتقييد على ما ذكر فإن قلت النهي فيه تنزيه أو تحريم قلت للتنزيه عند الجمهور لأن النهي فيه لمعنيين أحدهما لرفع قدر اليمين والآخر أنه لو باشر النجاسة بها يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك وحمله أهل الظاهر على التحريم حتى قال الحسين بن عبد الله الناصري في كتابه البرهان على مذهب أهل الظاهر ولو استنجى بيمينه لا يجزيه وهو وجه عند الحنابلة وطائفة من الشافعية قوله ولا يتمسح بيمينه النهي فيه للتنزيه عند الجمهور خلافا للظاهرية كما ذكرنا وقد أورد الخطابي ههنا إشكالا وهو أنه متى استجمر بيساره استلزم مس ذكره بيمينه ومتى مسه بيساره استلزم استجماره بيمينه وكلاهما قد شمله النهي ثم أجاب عن ذلك بقوله أنه يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه ويستجمر بيساره فلا يكون متصرفا في شيء من ذلك بيمينه وقال الطيبي النهي عن الاستنجاء باليمين مختص بالدبر والنهي عن المس مختص بالذكر فلا إشكال فيه قلت قوله عليه الصلاة و السلام في الحديث الآتي ولا يستنجي بيمينه يرد عليه في دعواه الاختصاص على ما لا يخفى وقال بعضهم الذي ذكره الخطابي هيئة منكرة بل قد يتعذر فعلها في غالب الأوقات والصواب ما قاله إمام الحرمين ومن بعده كالغزالي في الوسيط والبغوي في التهذيب أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه وهي قارة غير متحركة فلا يعد مستجمرا باليمين ولا ماسا بها فهو كمن صب الماء بيمينه على يساره حالة الاستنجاء قلت دعواه بأن هذه هيئة منكرة فاسدة لأن الاستجمار بالجدار ونحوه غير بشيع وهذا ظاهر وتصويبه ما قاله هؤلاء إنما يمشي في استجمار الذكر وأما في الدبر فلا على ما لا يخفى
( بيان استنباط الأحكام ) الأول كراهة التنفس في الإناء وقد ذكرناه مفصلا الثاني فيه جواز الشرب من نفس واحد لأنه إنما نهى عن التنفس في الإناء والذي شرب في نفس واحد لم يتنفس فيه فلا يكون مخالفا للنهي وكرهه جماعة وقالوا هو شرب الشيطان وفي الترمذي محسنا من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا لا تشربوا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم رفعتم الثالث فيه النهي عن مس الذكر باليمين الرابع فيه النهي عن الاستنجاء باليمين الخامس فيه فضل الميامن والله أعلم بالصواب
( باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال )
أي هذا باب فيه بيان حكم مس الذكر باليمين وقت البول وباب منون غير مضاف ووجه المناسبة بين البابين ظاهر وقال بعضهم أشار بهذه الترجمة إلى أن النهي المطلق عن مس الذكر باليمين كما في الباب الذي قبله محمول على المقيد بحالة البول فيكون ما عداه مباحا قلت هذا كلام فيه خباط لأن الحاصل من معنى الحديثين واحد وكلاهما مقيد أما الأول فلأن إتيان الخلاء في قوله إذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه كناية عن التبول والمعنى إذا بال أحدكم فلا يمس

(2/296)


ذكره بيمينه والجزاء قيد الشرط وأما الثاني فهو صريح بالقيد وكلاهما واحد في الحقيقة فكيف يقول هذا القائل أن ذلك المطلق محمول على المقيد والمفهوم منهما جميعا النهي عن مس الذكر باليمين عند البول فلا يدل على منعه عند غير البول ولا سيما جاء في الحديث ما يدل على الإباحة وهو قوله عليه الصلاة و السلام لطلق بن علي حين سأله عن مس الذكر إنما هو بضعة منك فهذا يدل على الجواز في كل حال ولكن خرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح وما عدا ذلك فقد بقي على الإباحة فافهم فإن قلت فما فائدة تخصيص النهي بحالة البول قلت ما قرب من الشيء يأخذ حكمه ولما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسما للمادة فإن قلت إذا كان الأمر على ما ذكرت من الرد على القائل المذكور فما فائدة ترجمة البخاري بالحديث في بابين ولم يكتف بباب واحد قلت فائدته من وجوه الأول التنبيه على اختلاف الإسناد الثاني التنبيه على الاختلاف الواقع في لفظ المتن فإن في السند الأول إذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه وفي الإسناد الثاني إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ولا يخفى التفاوت الذي بين إذا أتى الخلاء وبين إذا بال وبين فلا يمس ذكره وفلا يأخذن ذكره أيضا ففي الحديث الأول ولا يتمسح بيمينه وفي هذا الحديث ولا يستنجي بيمينه وهذا يفسر ذاك فافهم الثالث أنه عقد الباب الأول على الحكم الثالث من الحديث وهو كراهة الاستنجاء باليمين وعقد هذا الباب على الحكم الأول وهو كراهة مس الذكر عند البول ومن أبين الدلائل على هذا الوجه أنه عقد بابا آخر في الأشربة على الحكم الأول وهو كراهة التنفس في الإناء
20 - ( حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله ابن أبي قتادة عن أبيه عن النبي قال إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ولا يستنجي بيمينه ولا يتنفس في الإناء )
مطابقة الحديث للترجمة في قوله إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه فإن قلت كان ينبغي أن يقال باب لا يأخذ ذكره بيمينه إذا بال للتطابق قلت أشار البخاري بذلك إلى دقيقة تخفى على كثير من الناس وهي أن في رواية همام عن يحيى بن كثير عن عبد الله فلا يمسكن ذكره بيمينه وكذا أخرجه مسلم من هذه الرواية بهذا اللفظ والبخاري أخرجه ههنا من رواية الأوزاعي عن يحيى باللفظ المذكور فذكر في الترجمة اللفظ الذي أخرجه مسلم من رواية همام وفي الحديث اللفظ الذي رواه الأوزاعي عن يحيى وقال بعضهم ووقع في رواية الإسماعيلي لا يمس فاعترض على ترجمة البخاري بأن المس أعم من المسك يعني فكيف يستدل بالأعم على الأخص قلت ليت شعري ما وجه هذا الاعتراض وهذا كلام واه ولو أعم إذ ليس في حديث البخاري لفظ المس فكيف يعترض عليه فإنه ترجم بالمسك والمس أعم من المسك وهذا كلام فيه خباط
( بيان رجاله ) وهم خمسة قد ذكروا كلهم والأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين شامي وبصري ومدني ومنها أنهم أئمة أجلاء
( ذكر بقية الكلام ) قوله فلا يأخذن جواب الشرط وهو بنون التأكيد في رواية أبي ذر وفي رواية غيره بدون النون قوله ولا يستنجي بيمينه أعم من أن يكون بالقبل أو بالدبر وبه يرد على من يقول في الحديث السابق لفظ لا يتمسح بيمينه مختص بالدبر قوله ولا يتنفس يجوز فيه الوجهان أحدهما أن تكون لا فيه نافية فحينئذ تضم السين والآخر أن تكون ناهية فحينئذ تجزم السين فإن قلت هذه الجملة عطف على ماذا قلت عطف على الجملة المركبة من الشرط والجزاء مجموعا ولهذا غير الأسلوب حيث لم يذكر بالنون ولا يجوز أن يكون معطوفا على الجزاء لأنه مقيد بالشرط فيكون المعنى إذا بال أحدكم فلا يتنفس في الإناء وهو غير صحيح لأن النهي مطلق وذهب السكاكي إلى أن الجملة الجزائية جملة خبرية مقيدة بالشرط فيحتمل على مذهبه أن تكون عطفا على الجزائية ولا يلزم من كون المعطوف عليه مقيدا بقيد أن يكون المعطوف مقيدا به على ما هو عليه أكثر النحاة

(2/297)


( باب الاستنجاء بالحجارة )
أي هذا باب في بيان حكم الاستنجاء بالحجارة ونبه بهذه الترجمة على الرد على من زعم اختصاص الاستنجاء بالماء وجه المناسبة بين هذا الباب والأبواب التي قبله ظاهر
21 - ( حدثنا أحمد بن محمد المكي قال حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي عن جده عن أبي هريرة قال اتبعت النبي وخرج لحاجته فكان لا يلتفت فدنوت منه فقال أبغني أحجارا أستنفض بها أو نحوه ولا تأتني بعظم ولا روث فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه وأعرضت عنه فلما قضى أتبعه بهن )
مطابقة الحديث للترجمة في قوله أبغني أحجارا أستنفض بها لأن معناه أستنجي بها كما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى
( بيان رجاله ) وهم أربعة الأول أحمد بن محمد بن عون بالنون أبو الوليد الغساني الأزرقي المكي جد أبي الوليد محمد بن عبد الله صاحب تاريخ مكة وفي طبقته أحمد بن محمد المكي أيضا لكن كنيته أبو محمد وجده عون يعرف بالقواس وقد وهم من زعم أن البخاري روى عن أبي محمد الذي في طبقته وإنما روى عن أبي الوليد وهم أيضا من جعلهما واحدا روى أبو الوليد المذكور عن مالك وغيره وروى عنه البخاري وحفيده مؤرخ مكة محمد بن عبد الله وأبو جعفر الترمذي وآخرون مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين الثاني عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي أبو أمية القريشي المكي الأموي وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق الذي ولي إمرة المدينة وكان يجهز البعوث إلى مكة وكان عمرو هذا قد تغلب على دمشق في زمن عبد الملك بن مروان فقتله عبد الملك وسير أولاده إلى المدينة وسكن ولده مكة لما ظهرت دولة بني العباس فاستمروا بها وعمرو بن يحيى روى عن أبيه وجده وعنه سويد وغيره روى له البخاري وابن ماجه الثالث جده سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي بن أبي أحيحة التابعي الثقة روى عن ابن عباس وغيره وعنه ابناه إسحق وخالد وحفيده عمرو بن يحيى روى له الجماعة سوى الترمذي الرابع أبو هريرة عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن فيه مكيين ومدنيين ومنها أنه من رباعيات البخاري ومنها أن فيه رواية الابن عن الجد
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا مطولا في ذكر الجن عن موسى بن إسمعيل عن عمرو بن يحيى بن سعيد عن جده به ولم يخرجه مسلم ولا الأربعة وأخرجه رزين عن أبي هريرة قال قال رسول الله أبغني أحجارا أستنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة قلت ما بال العظم والروثة قال هما من طعام الجن وأنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني عن الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروث إلا وجدوا عليهما طعاما
( بيان اللغات ) قوله اتبعت النبي بتشديد التاء المثناة من فوق أي سرت وراءه وقد أشبعنا الكلام فيه في باب من حمل الماء لطهوره عن قريب قوله أبغني يجوز في همزته الوصل إذا كان من الثلاثي معناه اطلب لي يقال بغيتك الشيء أي طلبته لك والقطع إذا كان من المزيد معناه أعني على الطلب يقال أبغيتك الشيء إذا أعنتك على طلبه وكلاهما روايتان وقال الجوهري بغيت الشيء طلبته وبغيتك الشيء طلبته لك وأبغيته الشيء أعنته على طلبه وقال ابن التين رويناه بالوصل قال الخطابي معناه اطلب لي من بغيت الشيء طلبته وبغيتك الشيء طلبته لك وأبغيتك الشيء جعلتك طالبا له قال تعالى ( يبغونكم الفتنة ) أي يبغونها لكم وقال أبو علي الهجري في أماليه بغيت الخير بغاء قلت بكسر الباء وقال أبو الحسن اللحياني في نوادره يقال بغى الرجل الحاجة والعلم والخير وكل شيء يطلب يبغي بغاء قلت بضم الباء وبغية بكسر الباء وبغى كذلك وبغية بالضم وبغى كذلك واستبغى القوم فبغوه وبغوا له أي طلبوا له وفي المحكم المعروف بغاء قلت بالضم والاسم البغية والبغية وقال ثعلب بغى الخير بغية وبغية فجعلهما مصدرين والبغية والبغبة والبغية ما ابتغى وأبغاه الشيء طلبه له أو أعانه على طلبه والجمع بغاة وبغيان

(2/298)


وأبتغى الشيء تيسر وتسهل وبغى الشيء بغوا نظر إليه كيف هو وفي الجامع للقزاز أبغني كذا أي أعني عليه واطلبه معي وفي الواعي لعبد الحق الإشبيلي البغاء الطلب قلت بالضم وفي الصحاح كل طلبة بغاء بالضم وبالمد وبغاية أيضا وابتغيت الشيء وتبغيته إذا طلبته قال ساعدة بن جوية الهذلي
سباع تبغى الناس مثنى وموحد
قوله أستنفض على وزن أستفعل من النفض بالنون والفاء والضاد المعجمة وهو أن يهز الشيء ليطير غباره أو يزول ما عليه ومعناه ههنا أستنظف بها أي أنظف بها نفسي من الحدث وفي المطالع أبغي أحجارا أستنفض بها أي أستنج بها مما هنالك ونفاضة كل شيء ما نفضته فسقط منه وفي الواعي أستنفض بها أي أستنجى بها وهو أن ينفض عن نفسه أذى الحدث فقال هذا موضع مستنفض أي متبرز وفي كتاب ابن طريف نفضت الأرض تتبعت مغانيها ونفضت الشيء نفضا حركته ليسقط عنه ما علق به وقال المطرزي الاستنفاض الاستخراج ويكنى به عن الاستنجاء وقال ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحف قلت قال الصغاني في العباب استنفاض الذكر وانتقاصه استبراؤه مما فيه من بقية البول قلت الأول بالفاء والضاد المعجمة والثاني بالقاف والضاد المعجمة أيضا والثالث بالقاف والمهملة وذكر أيضا في باب نقص بالقاف والمهملة وقال أبو عبيد انتقاص الماء غسل الذكر بالماء لأنه إذا غسل بالماء ارتد البول ولم ينزل وإن لم يغسل نزل منه الشيء بعد الشيء حتى يستبرىء ( بيان الإعراب ) قوله اتبعت النبي عليه الصلاة و السلام جملة وقعت مقول القول قوله وخرج لحاجته جملة وقعت حالا بتقدير قد والتقدير وقد خرج وقد علم أن الفعل الماضي إذا وقع حالا فلا بد فيه من قد إما ظاهرة أو مقدرة ويجوز فيه الواو وتركه كما في قوله تعالى ( أو جاؤكم حصرت صدورهم ) والتقدير قد حصرت وقد وقع بدون الواو قوله فكان لا يلتفت بفاء العطف في رواية أبي ذر وفي رواية غيره وكان بالواو فإن قلت ما وجه الواو فيه قلت للحال وقول بعضهم وكان استئنافية غير صحيح على ما لا يخفى قوله فقال أبغني بوصل الهمزة وقطعها كما ذكرناه قوله أحجارا نصب على أنه مفعول ثان لأبغنى قوله أستنفض مجزوم لأنه جواب الأمر ويجوز رفعه على الاستئناف قوله أو نحوه بالنصب لأنه مقول القول وهو في المعنى جملة والتقدير أو قال نحو قوله أستنفض بها وذلك نحو قوله أستنجي بها وكذا وقع في رواية الإسماعيلي أستنجي بها والتردد فيه من بعض الرواة قوله بطرف ثيابي الباء ظرفية ( بيان المعاني ) قوله فكان لا يلتفت أي فكان النبي إذا مشى لا يلتفت وراءه وكان هذا عادة مشيه عليه الصلاة و السلام قوله فدنوت منه أي قربت منه لأستأنس به وأقضي حاجته وفي رواية الإسماعيلي أستأنس فقال من هذا قلت أبو هريرة قوله فقال أبغني أحجارا وفي رواية الإسماعيلي ائتني قوله ولا تأتني بعظم كأنه عليه الصلاة و السلام خشي أن يفهم أبو هريرة من قوله أستنفض بها أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار فنبه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزىء ولو كان ذلك مختصا بالأحجار كما يقول أهل الظاهر وبعض الحنابلة لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنى قال الخطابي وفي النهي عنهما دليل على أن أعيان الحجارة غير مختصة بهذا المعنى وذلك لأنه لما أمر بالأحجار ثم استثنى هذين وخصهما بالنهي دل على أن ما عداهما قد دخل في الإباحة ولو كانت الحجارة مخصوصة بذلك لم يكن لتخصيصهما بالذكر معنى وإنما جرى ذكر الحجارة وسيق اللفظ إليها لأنها كانت أكثر الأشياء التي يستنجى بها وجودا وأقربها تناولا وقال أهل الظاهر الحجر متعين لا يجزىء غيره وقال أصحابنا الذي يقوم مقام الحجر كل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة وقال ابن بطال لما نهى عنهما دل على أن ما عداهما بخلافهما وإلا لم يكن لتخصيصهما فائدة تدبر فإن قيل إنما نص عليهما تنبيها على أن ما عداهما في معناهما قلنا هذا لا يجوز لأن التنبيه إنما يفيد إذا كان في المنبه عليه معنى المنبه له وزيادة كقوله تعالى ( ولا تقل لهما أف ) وليس في سائر الطاهرات معناهما فلم يقع التنبيه عليهما انتهى قلت التعليل في العظم والروث إن كان هو كونهما من طعام الجن على ما سيجيء في رواية البخاري في المبعث في هذا الحديث أن أبا هريرة قال للنبي لما أن فرغ ما بال العظم والروث قال هما من طعام الجن فيلحق بهما سائر المطعومات للآدميين بطريق القياس وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم وإن كان هو النجاسة في الروث

(2/299)


فيلحق به كل نجس وفي العظم هو كونه لزجا فلا يزيل إزالة تامة فيلحق به ما في معناه كالزجاج الأملس وقال الخطابي قيل المعنى في ذلك أن العظم لزج لا يكاد يتماسك فيقلع النجاسة وينشف البلة وقيل أن العظم لا يكاد يعرى من بقية دسم قد علق به ونوع العظم قد يتأتى فيه الأكل لبني آدم لأن الرخو الرقيق منه قد يتمشش في حال الرفاهية والغليظ الصلب منه يدق ويستف منه عند المجاعة والشدة وقد حرم الاستنجاء بالمطعوم قلت هذان وجهان والثالث كونه طعام الجن وأما الروث فلأنه نجس كما ذكرناه أو لأنه طعام دواب الجن وقال الحافظ أبو نعيم في دلائل النبوة أن الجن سألوا هدية منه فأعطاهم العظم والروث فالعظم لهم والروث لدوابهم فإذا لا يستنجى بهما رأسا وأما لأنه طعام للجن أنفسهم روى أبو عبد الله الحاكم في الدلائل أن رسول الله قال لابن مسعود رضي الله تعالى عنه ليلة الجن أولئك جن نصيبين جاؤني فسألوني الزاد فمتعتهم بالعظم والروث فقال له وما يغني منهم ذلك يا رسول الله قال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ ولا وجدوا روثا إلا وجدوا فيه حبه الذي كان يوم أكل فلا يستنجي أحد لا بعظم ولا بروث وفي رواية أبي داود أنهم قالوا يا محمد انه أمتك لا يستنجوا بعظم ولا بروث أو حممة فإن الله تعالى جعل لنا رزقا فيها فنهى رسول الله عنه قلت الحممة بضم الحاء المهملة وفتح الميمين وهي الفحم وما احترق من الخشب والعظام ونحوها وجمعها حمم قوله بطرف ثيابي أي في جانب ثيابي وفي صحيح الإسماعيلي في طرف ملائي وقال الكرماني والثياب يحتمل أن يراد به الجمع وأن يراد به الجنس كما يقال فلان يركب الخيول قلت فيه نظر لأن ما ذكره إنما يمشي في الجمع المحلى بالألف واللام كما في المثال المذكور قوله وأعرضت عنه كذا في أكثر الروايات وفي رواية الكشميهني واعترضت بزيادة التاء المثناة من فوق بعد العين قوله فلما قضى أي رسول الله والمفعول محذوف تقديره فلما قضى حاجته قوله أتبعه بهن أي بالأحجار وهمزة أتبعه همزة قطع والضمير المنصوب فيه يرجع إلى القضاء الذي يدل عليه قوله فلما قضى وكنى بذلك عن الاستنجاء
( بيان استنباط الأحكام ) الأول فيه جواز استنجاء بالأحجار وفيه الرد على من أنكر ذلك كما بيناه مستقصى الثاني فيه مشروعية الاستنجاء وقد اختلف العلماء فيه فمنهم من قال بوجوبه واشتراطه في صحة الصلاة وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأبو داود ومالك في رواية ومنهم من قال بأنه سنة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك في رواية والمزني من أصحاب الشافعي واحتجوا في ذلك بما رواه أبو داود حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال أخبرنا عيسى بن يونس عن ثور عن الحصين الحمراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة و السلام قال من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج الحديث وأخرجه أحمد أيضا في مسنده حدثنا شريح حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن الحصين كذا قال عن أبي سعيد الخير وكان من أصحاب عمر عن أبي هريرة قال قال رسول الله إلى آخره نحوه وأخرجه الطحاوي في الآثار حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا يحيى بن حسن قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا ثور بن يزيد عن حصين الحمراني عن أبي سعيد الخير عن أبي هريرة إلى آخره نحوه فالحديث صحيح ورجاله ثقات فإن قلت قال أبو عمرو بن حزم والبيهقي ليس إسناده بالقائم مجهولان يعنون حصينا فيه الحمراني وأبا سعيد الخير قلت هذا كلام ساقط لأن أبا زرعة الدمشقي قال في حصين هذا شيخ معروف وقال يعقوب بن سفيان في تاريخه لا أعلم إلا خيرا وقال أبو حاتم الرازي شيخ وذكره ابن حبان في الثقات وأما أبو سعيد الخير فقد قال أبو داود ويعقوب بن سفيان والعسكري وابن بنت منيع في آخرين أنه من الصحابة والحديث أخرجه ابن حبان أيضا في صحيحه وذكر أبا سعيد في كتاب الصحابة وسماه عامرا وسماه البغوي عمرا وسماه صاحب التهذيب زيادا وسماه البخاري سعدا وقالوا أيضا أنه كدم البراغيث لأنه نجاسة لا تجب إزالة أثرها فكذا عينها لا يجب إزالتها بالماء فلا يجب بغيره وقال المزني لأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني فإن قلت استدلالهم بالحديث غير تام لأن المراد لا حرج في ترك الإيتار أي الزائد على ثلاثة أحجار وليس المراد ترك أصل الاستنجاء وقال الخطابي معنى الحديث التمييز بين الماء الذي هو الأصل

(2/300)


وبين الأحجار التي هي للترخيص لكنه إذا استجمر بالحجارة فليجعل وترا وإلا فلا حرج إلى تركه إلى غيره وليس معناه ترك التعبد أصلا بدليل حديث سلمان نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار قلت الشارع نفى الحرج عن تارك الاستنجاء فدل على أنه ليس بواجب وكذلك ترك الإيتار لا يضر لأن ترك أصله لما لم يكن مانعا فما ظنك بترك وصفه فدل الحديث على انتفاء المجموع فإن قلت قال الخطابي فيه وجه آخر وهو رفع الحرج في الزيادة على الثلاث وذلك أن مجاوزة الثلاث في الماء عدوان وترك للسنة والزيادة في الأحجار ليست بعدوان وإن صارت شفعا قلت هذا الوجه لا يفهم من هذا الكلام على ما لا يخفى على الفطن وأيضا مجاوزة الثلاث في الماء كيف تكون عدوانا إذا لم تحصل الطهارة بالثلاث والزيادة في الأحجار وإن كانت شفعا كيف لا يصير عدوانا وقد نص على الإيتار فافهم وأهل المقالة الأولى احتجوا بظاهر الأوامر الواردة في حديث أبي هريرة وليستنج بثلاثة أحجار وفي حديث عائشة الذي أخرجه ابن ماجة وأحمد أن رسول الله قال إذا ذهب أحدهم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن وأحاديث غيرهما وأجيب بأن الأمر يحتمل أن يكون على وجه الاستحباب والمحتمل لا يصلح حجة إلا بمرجح لأحد المعاني وفيما ذكر أهل المقالة الثانية أيضا أعمال الأحاديث كلها وفيما قاله هؤلاء إهمال لبعضها والعمل بالكل أولى على ما لا يخفى الثالث أن الأحجار لا تتعين للاستنجاء بل يقوم مقامها كل جامد طاهر قالع غير محترم وتنصيصه عليه الصلاة و السلام عليها لكونها الغالب الميسر وجودها بلا مشقة ولا كلفة في تحصيلها كما ذكرناه مبسوطا الرابع فيه النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث واختلف العلماء فيه فقال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والظاهرية لا يجوز الاستنجاء بالعظام واحتجوا فيه بظاهر الحديث وقال ابن قدامة في المغني والخشب والخروق وكل ما أنقى به كالأحجار إلا الروث والعظام والطعام مقتاتا أو غير مقتات فلا يجوز الاستنجاء به ولا بالروث والعظام طاهرا كان أو غير طاهر وبه قال الثوري والشافعي وإسحاق وقال ابن حزم في المحلى وممن قال لا يجزىء بالعظام ولا باليمين الشافعي وأبو سليمان وقال القاضي واختلفت الرواية عن مالك في كراهية هذا يعني الاستنجاء بالعظم والمشهور عنه النهي عن الاستنجاء به على ما جاء في الحديث وعنه أيضا أنه أجاز ذلك وقال ما سمعت في ذلك بنهي عام وذهب بعض البغداديين إلى جواز ذلك إذا وقع بمكان وهو قول أبي حنيفة وفي البدائع فإن فعل ذلك يعني الاستنجاء بالعظم يعتد به عندنا فيكون مقيما سنة ومرتكبا كراهية قلت ذكر ابن جرير الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له عظم يستنجي به ثم يتوضأ ويصلي وشذ ابن جرير فأجاز الاستنجاء بكل طاهر ونجس ويكره بالذهب والفضة عند أبي حنيفة وعند الشافعي في قول لا يكره وكره بعض العلماء الاستنجاء بعشرة أشياء العظم والرجيع والروث والطعام والفحم والزجاج والورق والخرق وورق الشجر والسعتر ولو استنجي بها أجزأه مع الكراهة وقال بعض الشافعية يجوز الاستنجاء بالعظم إن كان طاهرا لا زهومة عليه لحصول المقصود ولو أحرق العظم الطاهر بالنار وخرج عن حال العظم فوجهان عند الشافعية حكاهما الماوردي أحدهما يجوز الاستنجاء به لأن النار أحالته والثاني لا لعموم النهي عن الرمة وهي العظم البالي ولا فرق بين البلي بالنار أو بمرور الزمان وهذا أصح الخامس فيه كراهة الاستنجاء بجميع المطعومات فإنه عليه الصلاة و السلام نبه بالعظم على ذلك ويلتحق بها المحترمات كأجزاء الحيوان وأوراق كتب العلم وغير ذلك السادس فيه أعداد الأحجار للاستنجاء كي لا يحتاج إلى طلبها بعد قيامه فلا يأمن من التلوث السابع فيه جواز اتباع السادات بغير إذنهم الثامن فيه استخدام المتبوعين الاتباع التاسع فيه استحباب الإعراض عن قاضي الحاجة العاشر فيه جواز الرواية بالمعنى حيث قال أو نحوه
( باب لا يستنجى بروث )
باب مرفوع منون خبر مبتدأ محذوف وقوله لا يستنجى على صيغة المجهول وليس في بعض النسخ ذكر الباب وإنما ذكر حديث عبد الله مع حديث أبي هريرة وفي بعض النسخ باب الاستنجاء بروث والمناسبة بين البابين ظاهرة

(2/301)


22 - ( حدثنا أبو نعيم قال حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول أتى النبي الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده فأخذت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذا ركس )
مطابقة الحديث للترجمة في قوله وألقى الروثة وقال هذا ركس لأن إلقاءه إنما كان لأنه لا يستنجى به
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول أبو نعيم بضم النون الفضل بن دكين وقد مر الثاني زهير بن معاوية الجعفي الكوفي وقد مر الثالث أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وقد مر في باب الصلاة من الإيمان الرابع عبد الرحمن بن الأسود أبو حفص النخعي كوفي عالم عامل روى عن أبيه وعائشة وعنه الأعمش وغيره كان يصلي كل يوم سبعمائة ركعة وكان يصلي العشاء والفجر بوضوء واحد مات سنة تسع وتسعين وفي البخاري أيضا عبد الرحمن بن الأسود عبد يغوث زهري تابعي وليس فيه غيرهما وفي شيوخ الترمذي والنسائي عبد الرحمن بن الأسود الوراق وليس في الكتب الستة عبد الرحمن بن الأسود غير هؤلاء ووقع في كتاب الداودي وابن التين أن عبد الرحمن الواقع في رواية البخاري هو ابن عبد يغوث وهو وهم فاحش منهما إذ الأسود الزهري لم يسلم فضلا أن يعيش حتى يروي عن عبد الله بن مسعود الخامس الأسود بن يزيد من الزيادة ابن قيس الكوفي النخعي وقد مر في باب من ترك بعض الاختيار في كتاب العلم السادس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رواته كلهم ثقات كوفيون ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم أبو إسحق وعبد الرحمن بن الأسود وأبوه الأسود بن يزيد ومنها نفى أبو إسحق روايته ههنا عن أبي عبيدة وتصريحه بأنه لا يروي هذا الحديث ههنا إلا عن عبد الرحمن بن الأسود وهو معنى قوله قال ليس أبو عبيدة ذكره أي قال أبو إسحق ليس أبو عبيدة ذكره لي ولكن عبد الرحمن بن الأسود هو الذي ذكره لي بدليل قوله في الرواية الآتية المعلقة حدثني عبد الرحمن وقال بعضهم وإنما عدل أبو إسحق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن الرواية عن أبي عبيدة أعلى له لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة قلت قول أبي إسحق هذا يحتمل أن يكون نفيا لحديثه وإثباتا لحديث عبد الرحمن ويحتمل أن يكون إثباتا لحديثه أيضا وأنه كان غالبا يحدثه به عن أبي عبيدة فقال يوما ليس هو حدثني وحده ولكن عبد الرحمن أيضا وقال الكرابيسي في كتاب المدلسين أبو إسحق يقول في هذا الحديث مرة حدثني عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله ومرة حدثني علقمة عن عبد الله ومرة حدثني أبو عبيدة عن عبد الله ومرة يقول ليس أبو عبيدة حدثنيه وإنما حدثني عبد الرحمن عن عبد الله وهذا دليل واضح أنه رواه عن عبد الرحمن بن الأسود سماعا فافهم وأما قول هذا القائل لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه فمردود بما ذكر في المعجم الأوسط للطبراني من حديث زياد بن سعد عن أبي الزبير قال حدثني يونس بن عتاب الكوفي سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر أنه سمع أباه يقول كنت مع النبي عليه الصلاة و السلام في سفر الحديث وبما أخرج الحاكم في مستدركه حديث أبي إسحق عن أبي عبيدة عن أبيه في ذكر يوسف عليه السلام وصحح إسناده وربما حسن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه منها لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ومنها كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرصف ومنها قوله ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ) ومن شرط الحديث الحسن أن يكون متصل الإسناد عند المحدثين
( ذكر رجال هذا الحديث ) وهو صحيح كما ترى إذ لو لم يكن صحيحا لما أخرجه ههنا ويؤيده أن ابن المديني لما سئل عنه لم يقض فيه بشيء فلو كان منقطعا أو مدلسا لبينه فإن قلت قال ابن الشاذكوني هذا الحديث مردود لأنه مدلس لأن السبيعي لم يصرح فيه بسماع ولم يأت فيه بصيغة معتبرة وما سمعت بتدليس أعجب من هذا ولا أخفى فقال أبو عبيدة لم يحدثني

(2/302)


ولكن عبد الرحمن عن فلان ولم يقل حدثني فجاز الحديث وسار قلت أبو إسحق سمعه من جماعة ولكنه كان غالبا إنما يحدث به عن أبي عبيدة فلما نشط يوما قال ليس أبو عبيدة الذي في ذهنكم أني حدثتكم عنه حدثني وحده ولكن عبد الرحمن بن الأسود ولعل البخاري لم يرد ذلك متعارضا وجعلهما إسنادين أو أسانيد فإن قلت قال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة اختلفوا في هذا الحديث والصحيح عندي حديث أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه وزعم الترمذي أن أصح الروايات عنده حديث قيس بن الربيع وإسرائيل عن أبي عبيدة عن عبد الله قال لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحق من هؤلاء وتابعه على ذلك قيس وزهير عن أبي إسحق ليس بذلك لأن سماعه منه بآخرة سمعت أحمد بن الحسن سمعت أحمد بن حنبل يقول إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحق ورواه زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله وهذا حديث فيه اضطراب قال وسألت الدارمي أي الروايات في هذا أصح عن أبي إسحق فلم يقض فيه بشيء وسألت محمدا عن هذا فلم يقض بشيء وكأنه رأى حديث زهير أشبه ووضعه في جامعه قلت كون حديث أبي عبيدة عن أبيه صحيحا عند أبي زرعة لا ينافي صحة طريق البخاري وأما ترجيح الترمذي حديث إسرائيل على حديث زهير فمعارض بما حكاه الإسماعيلي في صحيحه لأنه رواه من حديث يحيى بن سعيد ويحيى بن سعيد لا يرضى أن يأخذ عن زهير عن أبي إسحق ما ليس بسماع لأبي إسحق وقال الآجري سألت أبا داود عن زهير وإسرائيل في أبي إسحق فقال زهير فوق إسرائيل بكثير وتابعه إبراهيم بن يوسف عن أبيه وابن حماد الحنفي وأبو مريم وشريك وزكريا بن أبي زائدة فيما ذكره الدارقطني وإسرائيل اختلف عليه فرواه كرواية زهير ورواه عباد القطواني وخالد العبد عنه عن أبي إسحق عن علقمة عن عبد الله ورواه الحميدي عن ابن عيينة عنه عن أبي إسحق عن عبد الرحمن بن يزيد ذكره الدارقطني والعدوي في مسنده وزهير لم يختلف عليه واعتماده على متابعة قيس بن الربيع ليس بشيء لشدة ما رمي به من نكارة الحديث والضعف وإضرابه عن متابعة الثوري ويونس وهما هما ومن أكبر ما يؤاخذ به الترمذي أنه أضرب عن الحديث المتصل الصحيح إلى منقطع على ما زعمه فإنه قال أبو عبيدة لم يسمع من أبيه ولا يعرف اسمه وقال في جامعه حدثنا هناد وقتيبة قالا حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي عبيدة عن عبد الله خرج النبي لحاجة فقال التمس لي ثلاثة أحجار قال فأتيته بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى الروثة وقال إنها ركس وقد أجبنا عن قول من يقول أبو عبيدة لم يسمع من أبيه وكيف ما سمع وقد كان عمره سبع سنين حين مات أبوه عبد الله قاله غير واحد من أهل النقل وابن سبع سنين لا ينكر سماعه من الغرباء عند المحدثين فكيف من الآباء القاطنين وأما اسمه فقد ذكر في الكنى لمسلم والكنى لأبي أحمد وكتاب الثقات لابن حبان وغيرها أنه عامر والله أعلم وقيل اسمه كنيته وهو هذلي كوفي أخو عبد الرحمن وكان يفضل عليه كما قاله أحمد حدث عن عائشة رضي الله عنها وغيرها وحدث عن أبيه في السنن وعنه السبيعي وغيره مات ليلة دجيل
( بيان من أخرجه غيره ) هو من أفراد البخاري ولم يخرجه مسلم وأخرجه النسائي في الطهارة عن أحمد بن سليمان عن أبي نعيم به وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن خلاد عن يحيى بن سعيد عن زهير به
( بيان اللغات ) قوله الغائط أي الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة والمراد به معناه اللغوي قوله روثة في العباب الروثة واحدة الروث والأرواث وقد راث الفرس يروث وقال التيمي قيل الروثة إنما تكون للخيل والبغال والحمير قوله ركس بكسر الراء الرجس وبالفتح رد الشيء مقلوبا وقال النسائي في سننه الركس طعام الجن وقال الخطابي الركس الرجيع يعني قد رد عن حال الطهارة إلى حال النجاسة ويقال ارتكس الرجل في البلاء إذا رد فيه بعد الخلاص منه وقد جاء الرجس بمعنى الإثم والكفر والشرك كقوله تعالى ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) وقيل نحوه في قوله تعالى ( ليذهب عنكم الرجس ) أي ليطهركم من جميع هذه الخبائث وقد يجيء بمعنى العذاب والعمل الذي يوجبه كقوله ( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) وقيل بمعنى اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة وقال ابن التين الرجس والركس في هذا الحديث قيل النجس وقيل القذر وقال ابن بطال يمكن أن يكون معنى ركس رجس قال ولم أجد لأهل اللغة شرح هذه الكلمة والنبي

(2/303)


عليه الصلاة و السلام أعلم الأمة باللغة وقال الداودي يحتمل أن يريد بالركس النجس ويحتمل أن يريد لأنها طعام الجن وفي العباب الركس فعل بمعنى مفعول كما أن الرجيع من رجعته والرجس بالكسر والرجس بالتحريك والرجس مثال كتف القذر يقال رجس نجس ورجس نجس ورجس نجس اتباع وقال الأزهري الرجس اسم لكل ما استقذر من العمل ويقال الرجس المأثم
( بيان الإعراب ) قوله ذكره جملة في محل النصب لأنها خبر ليس قوله ولكن للاستدراك وقوله عبد الرحمن مرفوع بفعل محذوف تقديره ولكن حدثني عبد الرحمن قوله أنه أصله بأنه وقوله عبد الله مفعول لقوله سمع فقوله يقول جملة في محل النصب على الحال قوله الغائط منصوب بقوله أتى قوله أن آتيه كلمة أن مصدرية صلة للأمر أي أمرني بإتيان الأحجار وليست أن هذه مفسرة بخلاف أن في قوله أمرته أن يفعل فإنها تحتمل أن تكون صلة وأن تكون مفسرة قوله فوجدت بمعنى أصبت ولهذا اكتفى بمفعول واحد وهو حجرين قوله هذا ركس مبتدأ وخبر وقعت مقول القول فإن قلت المشار إليه يؤنث وهو قوله روثة فكيف ذكر الضمير قلت التذكير باعتبار تذكير الخبر كما في قوله تعالى ( هذا ربي ) وفي بعض النسخ هذه على الأصل
( بيان المعاني ) قوله والتمست الثالث أي طلبت الحجر الثالث قوله فلم أجده بالضمير المنصوب رواية الكشميهني وفي رواية غيره فلم أجد بدون الضمير قوله فأتيته بها أي أتيت النبي بالثلاثة من الحجرين والروثة وليس الضمير في بها عائدا إلى الروثة فقط قوله هذا ركس كذا وقع ههنا فقيل هو لغة في رجس بالجيم ويدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة في هذا الحديث فإنه عندهما بالجيم وقال ابن خزيمة حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا زياد بن الحسن بن فرات عن أبيه عن جده عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال أراد النبي أن يتبرز فقال ائتني بثلاثة أحجار فوجدت له حجرين وروثة حمار فأمسك الحجرين وطرح الروثة وقال هي رجس
( بيان استنباط الأحكام ) الأول فيه منع الاستنجاء بالروث والباب معقود عليه وقد مر الكلام فيه مستوفى في الباب الذي قبله وقال ابن خزيمة في الحديث الذي رواه الذي ذكرناه الآن فيه بيان أن أرواث الحمر نجسة وإذا كانت أرواث الحمر نجسة بحكم النبي عليه الصلاة و السلام كان حكم جميع أرواث ما لا يجوز أكل لحمها من ذوات الأربع مثل أرواث الحمر قلت قد اختلف العلماء في صفة نجاسة الأرواث فعند أبي حنيفة هي نجس مغلظ وبه قال زفر وعند أبي يوسف ومحمد نجس مخفف وقال مالك الروث طاهر الثاني فيه منع الاستنجاء بالنجس فإن الركس هو النجس كما ذكرناه الثالث قال الخطابي فيه إيجاب عدد الثلاث في الاستنجاء إذ كان معقولا أنه إنما استدعاها ليستنجي بها كلها وليس في قوله فأخذ الحجرين دليل على أنه اقتصر عليهما لجواز أن يكون بحضرته ثالث فيكون قد استوفاها عددا ويدل على ذلك خبر سلمان قال نهانا رسول الله أن نكتفي بدون ثلاثة أحجار وخبر أبي هريرة قال قال رسول الله ولا يستنجي بدون ثلاثة أحجار قال ولو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة فلما اشترط العدد لفظا وعلم الانقاء فيه معنى دل على إيجاب الأمرين ونظيره العدة بالإقراء فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد انتهى قلت لا نسلم أن فيه إيجاب عدد الثلاث بل كان ذلك للاحتياط لأن التطهير بواحد أو اثنين لم يكن محققا فلذلك نص على الثلاث لأن بالثلاث يحصل التطهير غالبا ونحن نقول أيضا إذا تحقق شخص أنه لا يطهر إلا بالثلاث يتعين عليه الثلاث والتعيين ليس لأجل التوفية فيه وإنما هو للانقاء الحاصل فيه حتى إذا احتاج إلى رابع أو خامس وهلم جرا يتعين عليه ذلك على أن الحديث متروك الظاهر فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع وقوله وليس في قوله فأخذ الحجرين دليل على أنه اقتصر عليهما ليس كذلك بل فيه دليل على ذلك لأنه لو كان الثلاث شرطا لطلب الثالث فحيث لم يطلب دل على ما قلناه وتعليله بقوله لجواز أن يكون بحضرته ثالث ممنوع لأن قعوده عليه الصلاة و السلام للغائط كان في مكان ليس فيه أحجار إذ لو كانت هناك أحجار لما قال له ائتني بثلاثة أحجار لأنه لا فائدة لطلب الأحجار وهي حاصلة عنده وهذا معلوم بالضرورة وقوله ولو كان المقصد الإنقاء فقط لخلا

(2/304)


اشتراط العدد عن الفائدة قلنا أن ذكر الثلاث لم يكن للاشتراط بل للاحتياط إلى آخر ما ذكرناه الآن قوله ونظيره العدة بالإقراء غير مسلم لأن العدد فيه شرط بنص القرآن والحديث ولم يعارضه نص آخر بخلاف العدد ههنا لأنه ورد من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج فهذا لما دل على ترك أصل الاستنجاء دل على ترك وصفه أيضا بالطريق الأولى وقال بعضهم استدل به الطحاوي على عدم اشتراط الثلاثة قال لأنه لو كان شرطا لطلب ثالثا كذا قاله وغفل عما أخرجه أحمد في مسنده من طريق معمر عن أبي إسحق عن علقمة عن ابن مسعود في هذا الحديث فإن فيه فألقى الروثة وقال أنها ركس ائتني بحجر ورجاله ثقات أثبات وقد تابع معمرا عليه أبو شيبة الواسطي أخرجه الدارقطني وتابعهما عمار بن زريق أحد الثقات عن أبي إسحق قلت لم يغفل الطحاوي عن ذلك وإنما الذي نسبه إلى الغفلة هو الغافل وكيف يغفل عن ذلك وقد ثبت عنده عدم سماع أبي إسحق عن علقمة فالحديث عنده منقطع والمحدث لا يرى العمل به وأبو شيبة الواسطي ضعيف فلا يعتبر بمتابعته فالذي يدعي صنعة الحديث كيف يرضى بهذا الكلام وقد قال أبو الحسن بن القصار المالكي روى أنه أتاه بثالث لكن لا يصح ولو صح فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم لأنه اقتصر في الموضعين على ثلاثة فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة وقول ابن حزم هذا باطل لأن النص ورد في الاستنجاء ومسح البول لا يسمى استنجاء باطل على ما لا يخفى ثم قال هذا القائل واستدلال الطحاوي أيضا فيه نظر لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة فلم يجدد الأمر بطلب الثالث أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات وذلك حاصل ولو بواحد والدليل على صحته أنه لو مسح بطرف واحد ثم رماه ثم جاء شخص آخر فمسح بطرفه الآخر لأجزأهما بلا خلاف قلت نظره مردود عليه لأن الطحاوي استدل بصريح النص لما ذهب إليه وبالاحتمال البعيد كيف يدفع هذا وقوله لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات ينافيه اشتراطهم العدد في الأحجار لأنهم مستدلون بظاهر قوله ولا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار وقوله وذلك حاصل ولو بواحد مخالف لصريح الحديث فهل رأيت من يرد بمخالفة ظاهر حديثه الذي يحتج به على من يحتج بظاهر الحديث بطريق الاستدلال الصحيح وهل هذا إلا مكابرة وتعنت عصمنا الله من ذلك ومن أمعن النظر في أحاديث الباب ودقق ذهنه في معانيها علم وتحقق أن الحديث حجة عليهم وأن المراد الانقاء لا التثليث وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حكاه العبدري وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك وداود وهو وجه للشافعية ايضا
( وقال إبراهيم بن يوسف عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن )
هذا موجود في غالب النسخ ذكره أبو مسعود وخلف وغيرهما عن البخاري وليس بموجود في بعضها وأراد البخاري بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحق دلس هذا الخبر كما حكى ذلك عن الشاذكوني كما ذكرناه فيما مضى فإنه صرح فيه بالتحديث وقد استدل الإسماعيلي أيضا على صحة سماع أبي إسحق لهذا الحديث من عبد الرحمن لكون يحيى القطان رواه عن زهير ثم قال ولا يرضى القطان أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحق كما ذكرناه وإبراهيم بن يوسف بن إسحق بن أبي إسحق السبيعي الهمداني الكوفي روى عن أبيه وجده وعنه أبو كريب وجماعة فيه لين أخرجوا له سوى ابن ماجه مات سنة ثمان وتسعين ومائة وأبو يوسف الكوفي الحافظ روى عن جده والشعبي وعنه ابن عيينة وغيره مات في زمن أبي جعفر المنصور ويقال توفي سنة سبع وخمسين ومائة وعبد الرحمن هو ابن الأسود المتقدم ذكره وقال الكرماني هذه متابعة ناقصة ذكرها البخاري تعليقا فإن قلت قد تكلم في إبراهيم قال عياش إبراهيم عن يحيى ليس بشيء وقال النسائي إبراهيم ليس بالقوي قلت يحتمل في المتابعات ما لا يحتمل في الأصول انتهى كلامه قلت لأجل متابعة يوسف المذكور حفيد أبي إسحق زهير بن معاوية رجح البخاري رواية زهير المذكورة وتابعهما أيضا شريك القاضي وزكريا بن أبي زائدة وغيرهما وتابع أبا إسحق على روايته عن عبد الرحمن المذكور ليث بن أبي سليم أخرجه ابن أبي شيبة وحديثه يستشهد به ولما اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبي عبيدة دل على أنه عارف بالطريقين وأن رواية عبد الرحمن عنده أرجح والله أعلم
( تم الجزء الثاني والحمد لله )

(2/305)


عمدة القاري شرح صحيح البخاري
للعلامة بدر الدين العيني
الجزء الثالث
22 -
( باب الوضوء مرة مرة )
أي هذا باب في بيان حكم الوضوء مرة مرة يعني لكل عضو من أعضاء الوضوء مرة واحدة
وجه المناسبة بينه وبين الأبواب التي قبله ظاهر وهو أن تلك الأبواب في بيان أحكام الاستنجاء وهذا في بيان حكم الوضوء ولا شك أن الوضوء يتلو الاستنجاء وقد بين إجمال ما في حديث هذا الباب في باب غسل الوجه واليدين بغرفة واحدة وكلاهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
157 - حدثنا ( محمد بن يوسف ) قال ( حدثناسفيان ) عن ( زيد بن أسلم ) عن ( عطاء بن يسار ) عن ( ابن عباس ) قال توضأ النبي مرة مرة
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم خمسة الأول محمد بن يوسف قال الكرماني المراد به هنا إما البيكندي وتقدم في باب ما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يتخولهم وإما الفريابي وتقدم في باب لا يمسك ذكره ثم قال الغالب أن البيكندي يروي عن سفيان بن عيينة والفريابي وتقدم في باب لا يمسك ذكره ثم قال الغال أن البيكندي يروي عن سفيان بن عيينة والفريابي عن سفيان الثوري ويحتمل أن يراد به الفريابي عن ابن عيينة لأن السفيانين كليهما شيخاه كما أن زيد بن أسلم شيخ السفيانين وكما أن ابني يوسف شيخا البخاري وقال بعضهم سفيان هو الثوري والراوي عنه الفريابي لا البيكندي قلت جزم هذا القائل بأن سفيان هو الثوري وأن محمد بن يوسف هو الفريابي لا دليل له عليه والاحتمال المذكور الذي ذكره الكرماني غير مدفوع فافهم وقال الكرماني أيضا فان قلت فهذا تدليس إذ فيه الاشتباه المؤدي إلى كون الراوي مجهولا فيلزم القدح في الإسناد قلت مثله لا يقدح فيه لأن أيا كان منهم فهو عدل ضابط بشرط البخاري لا يتفاوت الحكم باختلاف ذلك الثاني سفيان إما ابن عيينة وإما الثوري وقد ذكر لكن الراجح أنه الثوري لأن أبا نعيم صرح به في كتابه والله اعلم الثالث زيد بن أسلم التابعي المدني وقد مر الرابع عطاء بن يسار بفتح الياء والسين المهملة المخففة الخامس عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته أئمة أجلاء ثقات ومنها أن فيه رواية التابعي عن التابعي زيد بن أسلم عن عطاء
بيان من أخرجه غيره هذا مما تفرد به البخاري عن مسلم وأخرجه الأربعة فأبو داود عن مسدد عن يحيى عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال ألا أخبركم بوضوء رسول الله فتوضأ مرة مرة والترمذي عن محمد بن بشار عن يحيى به وعن قتيبة وهناد وأبي كريب ثلاثتهم عن وكيع عن سفيان به والنسائي عن محمد بن مثنى عن

(3/2)


يحيى به وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد الباهلي عن يحيى بإسناده توضأ بغرفة واحدة وأيضا الكل أخرجوه في كتاب الطهارة وقال الترمذي عقيب إخراجه وفي الباب عن عمر وجابر وبريدة وأبي رافع وابن الفاكه وحديث ابن عباس احسن شيء في الباب قلت لا جرم اقتصر عليه البخاري قال وروى رشدين بن سعد وغيره هذا الحديث عن الضحاك بن شرحبيل عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر مرفوعا به وليس بشيء والصحيح ما مروى ان عجلان وهشام بن سعد وسفيان الثوري وعبد العزيز بن محمد عن زيد عن عطاء عن ابن عباس ورواه عن سفيان جماعات غير شيخ البخاري منهم وكيع ونبه الدارقطني أيضا على أن ابن لهيعة ورشدين بن سعد روياه عن الضحاك أيضا كما سلف وأن عبد الله بن سنان خالفه فرواه عن زيد عن عبد الله بن عمر قال وكلاهما وهم والصواب زيد عن عطاء عن ابن عباس وفي ( مسند البزار ) ما أتى هذا إلا من الضحاك وقد أغفل في مسنده قصد الصواب قلت حديث عمر رضي الله تعالى عنه أخرجه ابن ماجه حدثنا أبو كريب حدثنا رشدين بن سعد أخبرنا الضحاك بن شرحبيل عن زيد بن سلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله في غزوة توضأ واحدة واحدة وأخرجه الطحاوي عن الربيع بن سليمان المؤذن عن أسد عن ابن لهيعة عن الضحاك بن شرحبيل عن زيد بن اسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله عليه الصلاة و السلام وتوضأ مرة مرة وحديث جابر أخرجه ابن ماجه أيضا عن ثابت بن ابي صفية قال سألت أبا جعفر قلت له حدثت عن جابر بن عبد الله ان النبي توضأ مرة مرة قال نعم الحديث وحديث بريدة أخرجه وحديث أبي رافع أخرجه الدارقطني في سننه حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن عمر بن الخطاب حدثنا الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عبيد الله بن ابي رافع عن ابيه قال رأيت رسول الله توضأ ثلاثا ثلاثا ورأيته توضأ مرة مرة وحديث ابن الفاكه أخرجه البغوي في ( معجمه ) حدثنا علي بن أبي الجعد حدثنا عدي ابن الفضل عن ابي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن ابن الفاكه قال رأيت رسول الله توضأ مرة مرة وفي الباب أيضا عن ابي بن كعب أخرجه ابن ماجه أن رسول الله دعا بماء فتوضأ مرة مرة الحديث
ذكر بقية الكلام قوله مرة نصب على الظرف أي توضأ في زمان واحد ولو كان ثمة غسلتان أو غسلات لكل عضو من أعضاء الوضوء لكان التوضؤ في زمانين أو أزمنة إذ لا بد لكل غسلة من زمان غير زمان الغسلة الأخرى أو منصوب على المصدر أي توضأ مرة من التوضيء أي غسل الأعضاء غسلة واحدة وكذا حكم المسح فان قلت فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون معناه توضأ رسول الله في جميع عمره مرة واحدة وهو ظاهر البطلان قلت لا يلزم بل تكرار لفظ مرة يقتضى التفصيل والتكرير أو نقول إن المراد أنه غسل في كل وضوء كل عضو مرة مرة لأن تكرار الوضوء من رسول الله معلوم بالضرورة من الدين هكذا قاله الكرماني قلت في الجواب الثاني نظر لأنه يلزم منه أن جميع وضوء النبي عليه الصلاة و السلام في عمره مرة مرة وليس كذلك على ما لا يخفي
واستدل ابن التين بهذا الحديث على عدم إيجاب تخليل اللحية لأنه إذا غسل وجهه مرة لا يبقى معه من الماء ما يخلل به قال وفيه رد على من قال فرض مغسول الوضوء ثلاث
23 -
( باب الوضوء مرتين مرتين )
أي هذا باب في الوضوء مرتين مرتين لكل عضو وقال صاحب ( التلويح ) قد روى البخاري بعد من حديث عمرو ابن يحيى عن ابيه عن عبد الله بن زيد ان النبي غسل يديه مرتين ومضمض واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وهو حديث واحد فلا يحسن استدلاله به في هذا الباب اللهم إلا لو قال إن بعض وضوئه كان مرتين وبعضه ثلاثا لكان حسنا قلت هذا الاعتراض غير وارد لأنه لا يمتنع تعدد القضية كيف والطريق إلى عبد الله بن زيد مختلف
وجه المناسبة بين البابين ظاهر لا يخفى

(3/3)


158 - حدثنا ( حسين بن عيسى ) قال حدثنا ( يونس بن محمد ) قال حدثنا ( فليح بن سليمان ) عن ( عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر وبن حزم ) عن ( عباد بن تميم ) عن ( عبد الله بن زيد ) أن النبي صلى الله عليه و سلم توضأ مرتين مرتين
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم ستة الأول الحسين بالتصغير بن موسى بن حمران بضم الحاء المهملة الطائي أبو علي القومسي بالقاف وبالمهلمة البسطامي الدامغاني سكن نيسابور وبها مات سنة سبع وأربعين ومائتين روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن خزيمة ثقة من أئمة العربية وهو من الأفراد ليس في الصحيحين من اسمه الحسين بن عيسى غيره وفي أبي داود ابن ماجه آخر حنفي كوفي أخو سليم القاري ضعيف وبسطام وسمنان والدامغان من قومس وقومس عمل مفرد بين الري وخراسان وبسطام بفتح الباء كذا في ( تقويم البلدان ) الثاني يونس بن محمد ابن مسلم أبو محمد المؤدب المعلم البغدادي الحافظ مات بعد المائتين سنة أو ثمان أو غير ذلك الثالث فليح بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة واسمه عبد الملك وفليح لقب له غلب عليه وقد مر في أول كتاب العلم الرابع عبد الله بن أبي بكر المدني أبو محمد الأنصاري التابعي توفي سنة خمس وثلاثين ومائة وفي بعض النسخ سقط لفظ محمد بين أبي بكر وعمرو الخامس عباد بتشديد الباء الموحدة بن تميم بن زيد بن عاصم الأنصاري واختلف في كونه صحابياالسادس عبد الله بن زيد بن عاصم المازني هو عم عباد وقد تقدما في باب لا يتوضأ من الشك حتى يستقين وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب رؤيا الأذان رضي الله تعالى عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن رواته ما بين نيسابوري وبغدادي ومدني وفليح ومن فوقه مدنيون ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي عبد الله بن ابي بكر عن عباد بن تميم ورواية صحبي عن صحابي على قول من يقول إن عبادا من الصحابة
بيان من أخرجه غيره وهو من أفراد البخاري ولم يخرجه غيره من الجماعة وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة ان النبي عليه الصلاة و السلام توضأ مرتين مرتين رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن ثوبان عبد عبد الله بن الفضل قال وفي الباب عن جابر وأغفل حديث عبد الله بن زيد قلت حديث جابر أخرجه ابن ماجه
ذكر بقية الكلام انتصاب مرتين مرتين على الوجه المذكور في مرة مرة وقال بعضهم وهذا الحديث مختصر من حديث عبد الله بن زيد المشهور في صفة وضوء النبي عليه الصلاة و السلام كما سيأتي بعد من حديث مالك وغيره ولكن ليس فيه الغسل مرتين مرتين إلا في اليدين إلى المرفقين وكان حق حديث عبد الله بن زيد أن يبوب له غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا قلت قد قال هذا القائل إن الحديث المذكور مجمل وإن حديث مالك مبين ومخرجهما مختلف فإذا كان كذلك لا يتضي بيان ما ذكره على أنه ليس في حديث عبد الله بن زيد أنه غسل بعض الأعضاء مرة مرة وإنما هذا في حديث غيره ولم يلتزم البخاري التبويب على الوجه المذكور وإن كان الأمر يقتضي بيان ما روي عنه عليه الصلاة و السلام أنه توضأ مرة مرة وما روي عنه أنه توضأ مرتين مرتين وما روي عنه أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وما روي عنه أنه توضأ بعض وضوئه مرة وبعضه ثلاثا وما روي عنه أنه توضأ بعض وضوئه مرتين مرتين وبعضه ثلاثا
24 -
( باب الوضوء ثلاثا ثلاثا )
أي هذا باب في بيان الوضوء ثلاثا ثلاثا لكل عضو
والمناسبة بين البابين ظاهرة
159 - حدثنا ( عبد العزيز بن عبد الله الاويسى ) قال حدثني ( إبراهيم بن سعد ) عن ( ابن شهاب ) أن ( عطاء بن يزيد ) أخبره أن ( حمران ) مولى ( عثمان ) أخبره أنه رأى عثمان بن عفان

(3/4)


دعا باناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ( ثم ) مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال قال رسول الله من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه
مطابقة الحدي للترجمة ظاهرة فإن فيه غسل الأعضاء المغسوله كلها ثلاث مرات
بيان رجاله وهم ستة الأول عبد العزيز الأويسي بضم الهمزة وقد مر في باب الحرص على الحديث في كتاب العلم الثاني إبراهيم بن سعد سبط عبد الرحمن ابن عوف وقد مر في باب تفاضل أهل الإيمان الثالث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وقد تكرر ذكره الرابع عطاه ابن يزيد التابعي وقد تقدم في باب وقد تقدم في باب لا يستقبل القبلة بغائط الخامس حمران بضم الحاء المهلمة وسكون الميم وبالراء ابن أبان بفتح الهمزة والياء الموحدة المخففة ابن خالد بن عمرو من سبي عين التمر سباه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه فوجده غلاما كيسا فوجهه إلى عثمان رضي الله عنه وأعتقه وكان كاتبه وحاجبه وولي نيسابور من الحجاج ذكره البخاري في ( ضعفائه ) وإحتج به في ( صحيحه ) وكذا مسلم والأربعة وقال ابن سعد كان كثير الحديث لم أرهم يحتجون بحديثه مات سنة خمس وسبعين أغرمه الحجاج مائة ألف لأجل الولاية السابقة ثم رد عليه ذلك بشفاعة عبد الملك السادس أمير المؤمنين عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أمه أروى بنت عمة رسول الله وهو أصغر من النبي عليه الصلاة و السلام ويسمى بذي النوري لأنه تزوج بنت رسول الله رقية فماتت عنده ثم أم كلثوم روي له عن رسول الله عليه الصلاة و السلام مائة حديث وسته وأربعون حديثا أخرج البخاري منها أحذد عشر استخلف أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين قتله الأسود التحبيبي بضم التاء المثناة من فوق وكسر الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبالياء الموحدة ودفن ليلة السبت بالبقيع وعمره اثنان وثمانون سنة وصلى عليه حكيم بن حزام وكثرت الأموال في خلافته حتى بيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف ونخلة بألف درهم وليس في الصحابة من اسمه عثمان بن عفان غيره
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والإخبار بصيغة الإفراد والعنعنة ومنها أن رواته كلهم مدنيون ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض ابن شهاب وعطاء وحمران
بيان تعدد موضعه ومن اخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري به وأخرجه ايضا في الصوم عن عبدان عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري به وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي الطاهر ابن السرح وحرملة بن يحيى كلاهما عن ابن وهب عن يونس وعن زهير بن حرب عن يعقوب بن إبراهيم بن سلامة عن أبيه ثلاثتهم عن الزهري به وأخرجه أبو داود فيه ععن الحسن بن علي عن عبد الرزاق عن معمر به وأخرجه النسائي فيه عن ابن مسكين واحمد بن عمرو بن السرح كلاهما عن ابن وهب به وعن سويد بن نصر عن ابن المبارك به وعن أحمد بن المغيرة عن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار عن شعيب بن أبي حمزة عن الزهري به
بيان اللغات قوله فأفرغ على يديه من أفرغت الإناء إفراغا وفرغته تفريغا إذا قلبت ما فيه والمعنى ههنا صب على يديه يقال فرغ الماء بالكسر إذا انصب وأفرغته أنا أي صببته وتفريغ الظروف إخلاؤها قوله فمضمض المضمضة تحريك الماء في الفم وقال النووي حقيقة المضمضمة وكما لها أن يجعل الماء في فمه ثم يديره فيه ثم يمجه وقال الزندوستي من أصحابنا أن يدخل إصبعه في فمه وأنفه والمبالغة فيهما سنة وقال الصدر الشهيد المبالغة في المضمضة الغرغرة وقد مضي تحقيق الكلام فيها فيما مضى قوله واستنثر قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون الاستنثار إخراج الماء من الأنف بعد الإستنشاق وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة الاستنثار هو الاستنشاق وقال النووي الصواب هو الأول ويدل عليه الرواية الأخرى استنشق واستنثر فجمع بينهما وقال أهل اللغة هو مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف وقال الخطابي

(3/5)


وغيره هي الأنف وقال الأزهري روى سلمة عن الفراء أنه يقال نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة في الطهار وقال ابن الاثير نثر ينثر بالكسر إذا امتخط واستنثر استفعل منه اي استنشق الماء ثم استخرج ما في الأنف فينثره وقيل هي من تحريك النثرة وهي طرف الأنف قلت الصواب ما قاله ابن الأعرابي أن المراد من قوله واستنثر الاستنشاق وقال النووي الصواب هو الأول وقوله يدل عليه الرواية الأخرى استنشق واستنثر لا يدل على ما ادعاه لأن المراد من الاستنثار في هذه الرواية الامتخاط وهو أن يمتخط بعد الاستنشاق وقال ابن سيده استنثر إذا استنشق الماء من ثم استخرج ذلك بنفس الأنف والنثرة الخيشوم وما والاه وتنشق واستنشق الماء في انفه صبه فيه وقال الجوهري الانتثار والاستنثار بمعنى وهو نثر ما في الأنف بالنفس وقال ابن طريق نثر الماء من أنفه دفعه وفي ( جامع ) القزاز نثرت الشيء أنثره وانثره نثرا إذا بددته وانت ناثر والشيء منثور قال والمتوضىء يستنشق إذا جذب الماء بريح أنفه ثم يستنثره وفي ( الغريبين ) يستنشق اي يبلغ الماء خياشيمه ويقال نثر وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف قوله وجهه الوجه ما يواجه الإنسان وهو من قصاص السعر إلى أسفل الذقن طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا قوله ثم مسح برأسه الرأس مشتمل على الناصية والقفا والفودين وذكر ابن جني أن الجمع أرؤس واءرس على القلب ورؤس وقال ابن السكيت وروس على الحذف وأنشد
( فيوما إلى أهلي ويوما إليكم
ويوما أحط الخيل من روس الجبال )
ورجل أراسي ورواسي عظيم الرأس وقال الأصمعي رواس كذلك وقال ابن سيده في ( المخصص ) وإذا قيل رأس فتخفيفه قياس ثابت يقال لرأس الانسان قلة والجمع قلل وقلال وقال أبو حاتم وهي القنة والجمع قنن والعلاوة وهي حكمة الإنسان وقادمه وملطاطه وهامته قوله غفر له الغفر والغفران الستر ومنه المغفر لأنه يغفر الرأس أي يستره وقال ابن الاثير أصل الغفر التغطية والمغفرة إلباس الله الغفر للمذنبين
بيان الإعراب قوله أخبره جملة في محل الرفع لأنه خبر أن قوله أن حمران أصله بأن حمران قوله مولى عثمان في محل النصب لأنه صفة لحمران وهو منصوب لأنه اسم أن ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون الزائدتين قوله انه رأى عثمان أصله بأنه قوله دعا بإناء جملة وقعت حالا بتقدير قد كما في قوله تعالى أو جاؤكم حصرت صدورهم ( النساء 90 ) ولفظه رأى بمعنى أبصر فلذلك اكتفى بمفعول واحد وهو عثمان قوله فأفرغ الفاء فيه فاء التفسير قوله ثلاث مرار كلام إضافي منصوب على أنه صفة المصدر محذوف أي إفراغا ثلاث مرات قوله فمضمض الفاء فيه فاء فصيحة وتقديره فأخذ الماء منه وأدخله في فيه فمضمض قوله ثلاثا نصب على أنه صفة لمصدر محذوف اي غسلا ثلاث مرات قوله ويديه عطف على قوله وجهه والتقدير وغسل يديه قوله من توضأ كلمة من موصولة معنى الشرط في محل الرفع على الابتداء وقوله توضأ جملة وقعت صلة للموصول قوله نحو وضوئى كلام إضافي منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره من توضأ وضوا نحو وضوئي قوله ثم صلى عطف على توضأ قوله لا يحدث فيهما نفسه جملة نافية في محل النصب على أنها صفة لركعتي قوله غفر له جملة في محل الرفع على الخبرية قوله ما تقدم في محل الرفع لأنه مفعول ناب عن الفاعل وكلمة من في قوله من ذنبه للبيان
بيان المعاني قوله دعا بإناء أي بظرف فيه الماء للوضوء وفي رواية شعيب الآتية قريبا دعا بوضوء بفتح الواو وهو اسم للماء المعد للتوضيء وكذا وقع في رواية مسلم من طريق يونس قوله ثلاث مرات وفي بعض النسخ ثلاث مرات قوله فمضمض واستنثر وفي رواية الكشميهني واستنشق بدل قوله واستنثر وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة وليس في طرق هذا الحديث تقييد المضمضة والاستنشاق بعدد غير طريق يونس عن الزهري فيما ذكره ابن المنذر وكذا فيما ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه فإن في أحدهما فتمضمض ثلاثا واستنثر ثلاثا وفي الآخر ثم تمضمض واستنشق ثلاثا قوله ثم غسل وجهه عطف بكلمة ثم لأنها تقتضي الترتيب والمهلة فان قلت ما الحكمة في تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق قلت ذكروا أن حكمة ذكل اعتبار أوصاف الماء لأن اللون يدرك بالبصر والطعم يدرك بالفم والريح يدرك بالأنف فقدم الأقوى منها وهو الطعم ثم الريح

(3/6)


ثم اللون قوله ويديه إلى المرفقين أي كل واحدة كما جاء هكذا مبينا في رواية معمر عن الزهري كما يجيء في كتاب الصوم وكذا في رواية مسلم من طريق يونس وفيهما تقديم اليمنى على اليسرى والتعبير في كل منهما بكلمة ثم وكذا في الرجلين أيضا قوله ثم مسح برأسه وفي الروايتين المذكورتين ثم مسح رأسه بلا باء الجر والفرق بينهما أن في الأول لا يقتضى استيعاب المسح بخلاف الثاني قوله نحو وضوئي هذا قال النووي إنما قال نحو وضوئي ولم يقل مثل لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره وفيه نظر لأنه جاء في رواية البخاري في الرقاق من طريق المعاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان رضي الله تعالى عنه ولفظه من توضأ مثل هذا الوضوء وجاء في رواية مسلم أيضا من طريق زيد بن أسلم عن حمران من توضأ مثل وضوئي هذا والتقدير مثل وضوئي وكل واحد من لفظة نحو ومثل من أداة التشبيه والتشبيه لا عموم له سواء قال نحو وضوئي هذا أو مثل وضوئي فلا يلزم ما ذكره النووي وقال بعضهم فالتعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازا ليس بشيء لأنه ثبت في اللغة مجىء نحو بمعنى مثل يقال هذا نحو ذاك أي مثله قوله لا يحدث فيهما أي في الركعتين قال القاضي عياض يويد بحديث النفس الحديث المجتلب والمكتسب وأما ما يقع في الخاطر غالبا فليس هو المراد وقال بعضهم هذا الذي يكون من غيره قصد يرجى أن تقبل معه الصلاة ويكون دون صلاة من لم يحدث نفسه بشيء لأن النبي إنما ضمن الغفران لمراعي ذلك لأنه قل من تسلم صلاته من حديث النفس وإنما حصلت له هذه المرتبة لمجاهدة نفسه من خطرات الشيطان ونفيها عنه ومحافظته عليها حتى لا يشتغل عنها طرفة عين وسلم من الشيطان باجتهاده وتفريغه قلبه قيل ويحتمل أن يكون المراد به إخلاص العمل لله تعالى ولا يكون لطلب الجاء وان يراد ترك العجب بأن لا يرى لنفسه منزلة رفيعة بأدائها بل ينبغي أن يحقر نفسه كي لا تغتر فتتكبر ويقال إن كان المراد به أن لا يخطر بباله شيء من أمور الدنيا فذلك صعب وإن كان المراد به أنه بعد خطوره به لا يستمر عليه فهو عمل المخلصين قلت التحقيق فيه أن حديث النفس قسمان ما يهجم عليها ويتعذر دفعها وما يسترسل معها ويمكن قطعه فيحمل الحديث عليه دون الأول لعسر اعتباره وقوله يحدث من باب التفعيل وهو يقتضي التكسب من أحاديث النفس ودفع هذا ممكن وأما ما يهجم من الخطرات والوساوس فإنه يتعذر دفعه فيعفى عنه ونقل القاضي عياض عن بعضهم بأن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا ورده النووي فقال الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غيره المستقرة ثم حديث النفس يعم الخواطر الدنيوية والأخروية والحديث محمول على المتعلق بالدنيا فقط وقد جاء في رواية في هذا الحديث ذكره الحكيم الترمذي في كتاب الصلاة تأليفه لا يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا ثم دعا إليه إلا استجيب له انتهى فإذا حدث نفسه فيما يتعلق بأمور الآخرة كالفكر في معاني المتلو من القرآن العزيز والمذكور من الدعوات والأذكار أو في أمر محمود أو مندوب إليه لا يضر ذلك وقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لأجهز الجيش وأنا في الصلاة أو كما قال قوله غفر له ما تقدم من ذنبه يعني من الصغائر دون الكبائر كذا هو مبين في مسلم وظاهر الحديث يعم جميع الذنوب ولكنه خص بالصغائر والكبائر إنما تكفر بالتوبة وكذلك مظالم العباد فإن قيل حديث عثمان رضي الله تعالى عنه الآخر الذي فيه خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره مرتب على الوضوء وحده فلو لم يكن المراد بما تقدم من ذنبه في هذا الحديث العموم في الصغائر والكبائر لكان الشيء مع غيره كالشيء لا مع غيره فإن فيه الوضوء والصلاة وفي الأول الوضوء وحده وذلك لا يجوز أجيب بأن قوله خرجت خطاياه لا يدل على خروج جميع ما تقدم له من الخطايا فيكون بالنسبة إلى يومه أو إلى وقت دون وقت وأما قوله ما تقدم من ذنبه فهو عام بمعناه وليس له بعض متيقن كالثلاثة في الجمع أعني الخطايا فيحمل على العموم في الصغائر وقال بعضهم وهو في حق من له كبائر وصغائر ومن ليس له إلا صغائر كفرت عنه ومن ليس له إلا كبائر خففت عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته بنظير ذلك قلت الأقسام الثلاثة الأخيرة غير صحيحة أما الذي ليس له إلا صغائر فله كبائر أيضا لأن كل صغيرة تحتها صغيرة فهي كبيرة أما الذي ليس له إلا كبائر فله صغائر لأن كل كبيرة تحتها صغيرة وإلا لا يكون

(3/7)


كبيرة وأما الذي ليس له إلا صغائر فله كبائر أيضا لأن ما فوق الصغيرة التي ليس تحتها صغيرة فهي كبائر فافهم
بيان استنباط الأحكام الأول أن هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء والأصل في الواجب غسل الأعضاء مرة مرة والزيادة عليها سنة لأن الأحاديث الصحيحة وردت بالغسل ثلاثا ثلاثا ومرة مرة ومرتين مرتين وبعض الأعضاء ثلاثا ثلاثا وبعضها مرتين مرتين وبعضها مرة مرة فالاختلاف على هذه الصفة دليل الجواز في الكل فإن الثلاث هي الكمال والواحدة تجزىء قد مر الكلام فيه مستوفى وصفة الوضوء على وجوه
الاول فيه غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ولو لم يكن عقيب النوم وهذا مستحب بلا خلاف وفيه الإفراغ على اليدين معا وجاء في رواية أخرى افرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما وهو قدر مشترك بين غسلهما معا مجموعتين أو متفرقتين والفقهاء اختلفوا في ايهما افضل
الثاني في المضمضة والاستنشاق وهما سنتان في الوضوء وكان عطاء والزهري وابن أبي ليلى وحماد وإسحاق يقولون يعيد إذا ترك المضمضة في الوضوء وقال الحسن وعطاء في آخر قوليه والزهري وقتادة وربيعة ويحيى الانصاري ومالك والاوزاعي والشافعي لا يعيد وقال احمد يعيد في الاستنشاق خاصة ولا يعيد من ترك المضمضة وبه قال ابو عبيد وابو ثور وقال ابو حنيفة والثوري يعيد إن تركها في الجنابة ولا يعيد في الوضوء وقال ابن المنذر وبقول أحمد أقول وقال ابن حزم هذا هو الحق لأن المضمضة ليست فرضا وإن تركها فوضوءه تام وصلاته تامة عمدا تركها أو نسيانا لانه لم يصح فيها عن النبي عليه الصلاة و السلام أمر إنما هي فعل فعله رسول الله وأفعاله ليست فرضا وإنما فيها الائتساء به عليه الصلاة و السلام قلت وفيه نظر لأن الأمر بالمضمضة صحيح على شرطه أخرجه أبو داود بسند احتج ابن حزم برجاله وبأصل الحديث ولفظ ابي داود من حديث عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه مرفوعا اذا توضأت فمضمض وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وخرجه ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود في ( المنتقى ) وقال البغوي في ( شرح السنة ) صحيح وصحح أسناده الطبري في كتابه ( تهذيب الآثار ) والدولابى في جمعه وابن القطان في آخرين وقال الحاكم صحيح ولم يخرجاه وهو في جملة ما قلنا إنهما أعرضا عن الصحابي الذي لا يروى عنه غير الواحد وقد احتجا جميعا ببعض هذا الحديث وله شاهد من حديث ابن عباس انتهى كلامه وفيه نظر لأنهما لم يشترطا ما ذكره في كتابيهما أحاديث جماعة بهذه المثابة منهم المسيب بن حزم وأبو قيس بن أبي حازم ومرادس وربيعة بن كعب الأسلمي ولئن سلمنا قوله كان لقيط هذا خارجا عما ذكره لرواية جماعة عنه منهم ابن أخيه وكيع بن حدس وعمرو بن أوس يرفعه وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه فذكره أبو نعيم الأصبهاني من حديث الربيع بن بدر عن ابن جريج عن عطاء عنه يرفعه مضمضوا واستنشقو وقال حديث غريب من حديث ابن جريج ولا أعلم رواه عنه غير الربيع وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة و السلام أمر بالمضمضة والاستنشاق وصحح أسناده وأخرج أيضا من حديث ابن جريج عن سليمان ابن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه وقال الدارقطني الصواب ابن جريج عن سليمان مرسلا وفي لفظ عنده مرفوعا من توضأ فليمضمض وضعفه والمضمضة مقدمة على الاستنشاق قال النووي وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط وجهان وفي كيفيتهما خمسة أوجه الأول أن يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات وهذا في الصحيح وغيره الثاني أن يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثا ويستنشق منها ثلاثا رواه علي بن أبي طالب عن النبي وهو عند ابن خزيمة وابن حبان ورواه أيضا وائل ابن حجر بسند فيه ضعف وهو عند البزار الثالث أن يجمع بينهما بغرفة وهو أن يتمضمض منها ثم يستنشق ثم الثانية كذلك والثالثة رواه عبد الله بن زيد عن النبي عند الترمذي وقال حسن غريب وخرجه أيضا من حديث ابن عباس وقال وهو أحسن شيء في الباب وأصح الرابع أن يفصل بينهما بغرفتين يتمضمض بثلاث ويستنشق بثلاث وهو الذي اختاره أصحابنا رحمهم الله واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي حدثنا هناد وقتيبة قالا ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن ابي حية قال رأيت عليا رضي الله تعالى عنه توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا

(3/8)


وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه مرة ثم غسل قدمية إلى الكعبين ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم ثم قال احببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله وقال هذا حديث حسن صحيح فان قلت لم يحك فيه أن كل واحدة من المضامض والاستنشاقات بماء واحد بل حكى أنه تمضمض ثلاثا قلت مدلوله ظاهرا ما ذكرناه وهو أن يتمضمض ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا ثم يستنشق كذلك وهو رواية البويطي عن الشافعي فإنه روى عنه أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق وفي رواية غيره عنه في ( الأم ) بفرق غرفة يتمضمض منها ويستنشق ثم يغرف غرفة يتمضمض فيها ويستنشق ثم يغرف ثالثة ويستنشق فيجمع في كل غرفتين بين المضمضة والاستنشاق واختلف نصه في الكيفيتين وهو نص مختصر المزني أن الجمع أفضل ونص السيوطي أن الفضل أفضل ونقله الترمذيعن الشافعي النووي قال صاحب ( المهذب ) القول بالجمع أكثر في كلام الشافعي وهو أيضا أكثر في الأحاديث الصحيحة ووجه الفصل بينهما كما هو مذهب أصحابنا الحنفية ما رواه الطبراني عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده كعب بن عمرو اليمامي أن رسول الله توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا فأخذ لكل واحدة ماء جديدا وكذا روى عنه أبو داود في ( سننه ) وسكت عنه وهو دليل رضاه بالصحة والجواب عما ورد في الحديث فتمضمض واستنشق من كف واحد أنه محتمل لأنه يحتمل أنه تمضمض واستنشق بكف واحد بماء واحد ويحتمل أنه فعل ذلك بكف واحد بمياه والمحتمل لا يقوم به حجة أو يرد هذا المحتمل إلى المحكم الذي ذكرناه توفيقا بين الدليلينن وقد يقال إن المراد استعمال الكف الواحد بدون الاستعانة بالكفين كما في الوجه وقد يقال إنه فعلهما باليد اليمنى ردا على قول من يقول يستعمل في الاستنشاق اليد اليسرى لأن الأنف موضع الأذى كموضع الاستنجاء كذا في ( المبسوط ) وفيه نظر لا يخفى والأحسن أن يقال إن كل ما روي عن ذلك في هذا الباب هو محمول على الجواز
الوجه الثالث في غسل الوجه وهو فرض بالنص بلا خلاف وفيه تثليث غسله والإجماع قائم على سنيته
الوجه الرابع في غسل اليدين الى المرفقين والكلام فيه كالكلام في الوجه وقد بينا حد المرفق وهو أنه موصل الذراع في العضد ولكن اختلف قول الشافعي هل هو اسم لإبرة الذراع أو لمجموع عظم رأس العضد مع الإبرة على قولين وبنى على ذلك أنه لو سل الذراع من العضد هل يجب غسل رأس العضد أو يستحب فيه قولان أشهرهما وجوبه واختلفوا وأيضا في وجوب إدخال المرفقين في الغسل على قولين فذهبت الأئمة الأربعة كما عزاه ابن هبيرة إليهم والجمهور إلى الوجوب وذهب زفر وأبو بكر بن داود إلى عدم الوجوب ورواه أشهب عن مالك وزيفه القاضي عبد الوهاب ومنشأ الخلاف من كلمة إلى وقد حققنا الكلام فيه فيما مضى
الوجه الخامس في مسح الرأس والكلام فيه على انواع الأول في أن ظاهر الحديث يقتضى استيعاب الرأس بالمسح لأن اسم الرأس حقيقة في العضو لكن الاستيعاب هل هو على سبيل الوجوب او الندب فيه قولان للعلماء فمذهب الشافعي أن الواجب ما يقع عليه الاسم ولو بعض شعرة ومشهور مذهب مالك وأحمد أن الواجب مسح الجميع ومشهور مذهب ابي حنيفة أن الواجب مسح ربع الرأس وقد مر الكلام فيه مبسوطا في أول كتاب الوضوء النوع الثاني أن قوله ثم مسح برأسه يقتضي مرة واحدة كذا فهمه غير واحد من العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة مالك وأحمد وقال الشافعي يستحب التثليث لغيرها من الأعضاء وهو مشهور مذهبه وقد وردت أحاديث صحيحة بالمسح مرة واحدة وقال أبو داود أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا قالوا وفيها مسح رأسه ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره وقال ابو عبيد القاسم بن سلام لا نعلم أحدا من السلف جاء عنه استعمال الثلاث إلا ابراهيم التيمي قلت فيه نظر لأن ابن أبي شيبة حكى ذلك عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير وعطاء وزاذان وميسرة أنهم كانوا إذا توضؤا مسحوا رؤوسهم ثلاثا وذكر ابن السكن أيضا عن مصرف بن عمرو ووردت أحاديث كثيرة بالمسح ثلاثا ففي ( سنن ابي داود ) بسند صحيح من حديث عبد الرحمن بن وردان عن حمران وفيه ومسح رأسه ثلاثا وفي ( سنن ابن ماجه ) ما يدل على أن سائر وضوئه عليه الصلاة و السلام كان ثلاثا والرأس داخلة فيه وهو ما رواه بسند صحيح عن محمود بن خالد ثنا

(3/9)


الوليد بن مسلم عن ثوبان عن عبدة بن أبي لبابة عن شقيق بن سلمة قال رأيت عثمان وعليا رضي الله تعالى عنهما يتوضآن ثلاثا ثلاثا ويقولان هكذا كان وضوء رسول الله عليه الصلاة و السلام وفي ( علل ) الترمذي وسأل البخاري عن حديث سعيد بن الحارث بن خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد أن عثمان رضي الله عنه توضأ ثلاثا ثلاثا ثم رفعه فقال هو حديث حسن وقال الترمذي هو غريب من هذا الوجه وفي ( مسند ) أحمد بن منيع عمن رأى عثمان رضي الله عنه دعا بوضوء وعند الزبير وسعد بن ابي وقاص فتوضأ ثلاثا ثم قال أنشدكما الله أتعلمان أن النبي كان يتوضأ كما توضأت قالا نعم وفي كتاب ( الظهور ) لأبي عبيد بن سلام وعنده طلحة وعلي والزبير وسعد رضي الله عنهم فذكره وفي ( صحيح ) ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه توضأ ثلاثا ثلاثا ورفع ذلك إلى النبي وفي ( سنن ابي داود ) من حديث علي رضي الله عنه رفعه ومسح برأسه ثلاثا وسنده صحيحح وفي ( سنن الدارقطني ) بسند فيه البيلماني عن عمر رضي الله عنه ووصف وضوء النبي قال ومسح برأسه ثلاثا وفي ( مسند البزار ) بطريق صحيح عن ابن المثنى عن حجاج بن منهال عن همام عن عامر الأحول عن عطاء عن ابي هريرة رضي الله عنه ان النبي توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه بأحسن من هذا الإسناد وذكره الطبري في التهذيب وصحح إسناده وفي ( سنن ابن ماجه ) بسند لا بأس به عن عائشة وأبي هريرة أن النبي توضأ ثلاثا ثلاثا وفي كتاب أبي عبيد عن أبي الورقاء وهو ثقة عند ابن المديني وابن شاهين عن عبد الله بن أبي أوفي أنه توضأ ثلاثا ثلاثا قال رأيت النبي يفعل هكذا وفي ( سنن ابن ماجه ) أيضا بسند لا بأس به عن ابي مالك الأشعري كان رسول الله يتوضأ ثلاثا ثلاثا وعنده أيضا بسند لابأس به من حديث الربيع بنت معوذ توضأ رسول الله ثلاثا ثلاثا وفي ( مسند ابن السكن ) من حديث مصرف بن عمرو ثم مسح عليه الصلاة و السلام على رأسه ثلاثا وظاهر أذنيه ولحيته ورقبته ثلاثا وفي كتاب ( الدلائل ) لثابت بن القاسم السرقسطي بسند لا بأس به من حديث أبي أمامة أن رسول الله توضأ ثلاثا ثلاثا وفي ( الأوسط ) للطبراني من حديث أبي رافع مرفوعا مسح برأسه وأذنيه وغسل رجليه ثلاثا وقال لا يروى عن أبي رافع إلا بهذا الإسناد تفر به الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الله بن أبي رافع عنه وفي كتاب ( المفرد ) لأبي داود من حديث علي بن ابي حملة عن أبيه عن أمير المؤمنين عبد الملك حدثني أبو خالد عن معاوية رضي الله عنه رأيت النبي توضأ ثلاثا ثلاثا وفي ( الأوسط ) من حديث أنس قال وضأت النبي فتوضأ ثلاثا ثلاثا وخلل لحيته مرتين أو ثلاثا وقال لم يروه عن إبراهيم بن أبي عبلة يعني عن أنس إلا قتادة بن الفضل الرهاوي تفرد به الزبير بن محمد وروى الدارقطني في ( سننه ) عن محمد بن الواسطي عن شعيب بن أيوب عن أبي يحيى الحماني عن أبي حنيفة عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه توضأ الحديث وفيه ومسح برأسه ثلاثا ثم قال هكذا رواه أبو حنيفة عن علقمة بن خالد وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات فرووه عن خالد بن علقمة فقالوا فيه ومسح رأسه مرة واحدة ومع خلافة إياهم قال إن السنة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة قلت الزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما من مثل أبي حنيفة وأما قوله فقد خالف في حكم المسح فغير صحيح لأن تكرار المسح كسنون عند أبي حنيفة أيضا صرح بذلك صاحب الهداية ولكن بهاء واحدة وقد رودت الأحاديث أيضا في المسح مرتين منها ما رواه ابن ماجه بسند لا بأس به عن الربيع توضأ النبي ومسح على رأسه مرتين وقال الترمذي هو حديث حسن وقال ابن عبد البر وبه قال ابن سيرين ومنها ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن زيد ومسح برأسه مرتين وسنده صحيح النوع الثالث في كيفية المسح رويت فيها أحاديث مختلفة فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه وعند ابن أبي شيبة من حديث الربيع بدأ بمؤخره ثم رديديه على ناصيته وعند الطبراني بدأ بمؤخر رأسه ثم جره إلى قفاه ثم جره إلى مؤخره وعند ابي داود يبدأ بمؤخرة ثم بمقدمه وبأذنيه كليهما وفي لفظ ومسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته وفي لفظ مسح رأسه وما أقبل وما أدبر وصدغيه وعند البزار من حديث بكار بن عبد العزيز

(3/10)


عن أبيه عن ابي بكرة يرفعه توضأ ثلاثا ثلاثا وفيه مسح برأسه يقول بيده من مقدمه إلى مؤخره ومن مؤخره إلى مقدمه وبكار ليس به بأس وعند ابن قانع من حديث ابي هريرة وضع يديه على النصف من رأسه ثم جرهما إلى مقدم رأسه ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه وجرهما إلى صدغيه وعند أبي داود من حديث أنس أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه وفي كتاب ابن السكن فمسح باطن لحيته وقفاه وفي ( معجم ) البغوي وكتاب ابن أبي خيثمة مسح رأسه إلى سالفته وفي كتاب النسائي عن عائشة رضي الله عنها وصفت وضوءه ووضعت يدها في مقدم رأسها ثم مسحت إلى مؤخره ثم مدت بيديها بأذنيها ثم مدت على الخدين وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يمسح رأسه هكذا ووضع أيوب كفه وسط رأسه ثم أمرها إلى مقدم رأسه وفي ( المحلى ) صحيحا عن ابن عمر كان يمسح اليافوخ فقط وفي ( المصنف ) أن ابراهيم كان يمسح على يافوخه وروى أيضا في المسح ما هو كالغسل ففي ( سنن أبي داود ) من حديث أبي إسحاق عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن عبيد الله الخولاني عن ابن عباس وصف وضوء علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وأخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فصبها على ناصيته فتركها تسيل على وجهه وفيه أيضا من حديث معاوية مرفوعا فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر وفيه أيضا من حديث ذر بن حبيش أنه سمع عليا رضي الله عنه وسئل عن وضوء رسول الله فذكر الحديث قال ومسح على رأسه حتى الماء يقطر وقال ابن الحصار في هذا غسل الرأس بدل مسحه ويرد بهذا على من قال لو كرر المسح لصار غسلا فخرج عن وظيفة الرأس
الوجه السادس في غسل الرجلين والكلام فيه كالكلام في اليدين وقد مر الكلام فيه مبسوطا في أوائل كتاب الوضوء
الحكم الثاني فيه جواز الاستعانة في إحصار الماء وهو إجماع من غير كراهة
الحكم الثالث فيه استحباب الركعتين بعد الوضوء ويفعل كل وقت إلا في الأوقات المنهية وقالت
يفعل كل وقت حتى وقت النهي وقالت المالكية ليست هذه من السنن وقالت الشافعية هل تحصل هذه الفضيلة بركعة الظاهر المنع وفي جريان الخلاف فيه وفي التحية ونظائره نظر
الحكم الرابع الثواب الموعود به مرتب على أمرين الأول وضوؤه على النحو المذكور الثاني صلاته ركعتين عقيبه بالوضوء المذكور في الحديث والمرتب على مجموع أمرين لا يلزم ترتبه على أحدهما إلا بدليل خارج وقد يكون للشيء فضيلة بوجود أحد جزئيه فيصح كلام من أدخل هذا الحديث في فضل الوضوء فقط لحصول مطلق الثواب لا الثواب المخصوص المترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور
الخامس فيه إثبات حديث النفس وهو مذهب اهل الحق
السادس فيه الترتيب بين المسنون والمفروض وهما المضمضة وغسل الوجه وبعضهم رأى الترتيب في المفروض دون المسنون وهو مذهب مالك واختلف أصحابه في الترتيب في الوضوء على ثلاثة أقوال الوجوب والندب وهو المشهور عندهم الاستحباب ومذهب الشافعية وجوبه وخالفهم المزني فقال لا يجب واختاره ابن المنذر والبندنيجي وحكاه البغوي عن أكثر المشايخ وحكاه قولا قديما وعزاه إلى صاحب ( التقريب ) وقال إمام الحرمين لم ينقل أحد قط أنه نكس وضوءه فاطرد الكتاب والسنة على وجوب الترتيب وفيه نظر لأنه لا يلزم من ذلك الوجوب
160 - وعن ( إبراهيم ) قال قال ( صالح بن كيسان ) قال ( ابن شهاب ولكن عروة ) يحدث عن ( حمران ) فلما توضأ عثمان قال ألا أحدثكم حديثا لولا آية ما حدثتكموه سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول لا يتوضأ رجل يحسن وضوءه ويصلى الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة حتى يصليها قال عروة الآية إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات
قالت جماعة من الشراح هذا من تعليقات البخاري عن إبراهيم بصيغة التمريض وقال ابو نعيم الحافظ لم يذكر البخاري شيخه فيه ولا أدري هو معقب بحديث إبراهيم بن سعيد عن الزهري نفسه أو أخرجه عن إبراهيم بلا سماع وقال

(3/11)


بعضهم وزعموا أنه معلق وليس كذلك فقد أخرجه مسلم والإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد بالإسنادين معا وإذا كانا جميعا عند يعقوب فلا مانع أن يكونا عند الأويسي ثم وجدت الحديث الثاني عند أبي عوانة في صحيحه من حديث الأويسي المذكور فصح ما قلته قلت لا يلزم من إخراج مسلم والإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم عن أبيه ابراهيم بن سعد موصولا أن يكون كذلك عند البخاري غاية ما في الباب أنه يحتمل أن يكون معقبا بحديث إبراهيم الأول فيكون موصولا وبمجرد الاحتمال لا يتعين نفي كونه معلقا والحال أن صورته صورة التعليق وإليه أقرب وكذا لا يلزم من كونه عند أبي عوانة من حديث الأويسي أن يكون موصولا عند البخاري لاحتمال عدم السماع منه في هذا على ما لا يخفى وأما مسلم فقد قال حدثنا زهير حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابي عن صالح به وأما الإسماعيلي فأخرجه عن ابن ناجية حدثنا فضيل بن سهل وعبيد الله بن سعد قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم فذكره وزعم الدارقطني أن عثمان رضي الله عنه رواه عنه أيضا عمرو بن سعيد بن العاصي وابن أبي مليكة وابو علقمة وأبو أنس وشقيق وسلمة ورواه مالك والليث عن هشام عن أبيه عن حمران ورواه حسين بن محمد المروزي عن شعبة عن هشام عن أبيه عن سليمان بن يسار عن عثمان ورواه حمزة بن زياد عن شعبة عن أبان أبيه عن أبيه
بيان رجاله وهم خمسة الأول إبراهيم بن سعد المذكور في الحديث السابق الثاني صالح بن كيسان بفتح الكاف مر ذكره في آخر قصة هرقل الثالث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الرابع عروة بن الزبير بن العوام تقدم في أول كتاب الوحي الخامس حمران بن أبان
بيان لطائف اسناده منها أن فيه العنعنة وليس فيه صيغة التحديث ولا الإخبار وإنما فيه الإخبار بلفظ قال ومنها أن هؤلاء كلهم مدنيون ومنها أن فيه أربعة تابعيين وهم صالح وابن شهاب وعروة وحمران ومنها أن فيه رواية الأكابر عن الأصاغر فإن صالحا أكبر سنا من الزهري ومنها أن إبراهيم ههنا يروي عن ابن شهاب بالواسطة وهو صالح وروى عنه في أول الباب بلا واسطة قوله ولكن عروة يحدث استدراك من ابن شهاب وأشار به إلى أن شيخي ابن شهاب في هذا الحديث وهما عطاء بن يزيد وعروة بن الزبير اختلفا في روايتهما عن حمران عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فحدث به عطاء على وجه وعروة على وجه وليس ذلك باختلاف لأنهما حديثان متغايران وقد رواهما معا عن حمران معاذ بن عبد الرحمن فأخرج البخاري من طريقه نحو سياق عطاء ومسلم من طريقه نحو سياق عروة وأخرجه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه
بيان الإعراب والمعاني قوله عن حمران فلما توضأ وفي بعض النسخ عن حمران قال فلما توضأ وقوله فلما توضأ عطف على محذوف تقديره عن حمران أنه رأى عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه إلى أن قال ثم غسل رجليه إلى الكعبين فلما توضأ قال إلى آخره قوله لأحدثنكم جواب قسم محذوف قوله حديثا نصب على أنه مفعول ثان لقوله لأحدثنكم قوله لولا لربط امتناع الثانية لوجود الأولى نحو لولا زيد لأكرمتك اي لولا زيد موجود لأكرمتك قوله آية مبتدا وخبره محذوف وحذفه ههنا واجب كما علم في موضعه والتقدير لولا آية ثابتة في القرآن وفي رواية مسلم لولا آية في كتاب الله تعالى وقال عياض لولا آية هكذا هو بالمد وبالياء المثناة من تحت ورواه الباجي لولا أنه بالنون يعني لولا أن معنى ما أحدثكم به في كتاب الله تعالى ما حدثتكم وفي ( المطالع ) قول عثمان رضي الله تعالى عنه لولا أنه في كتاب الله تعالى بالنور في رواية يحيى وجماعة معه ذكره ابن ماهان في مسلم وعند ابن مصعب وابن وهب وآخرين من رواة الموطأ لولا آية وهي رواية الجلودي في مسلم قال مالك الآية إن الحسنات يذهبن السيئات ( هود 114 ) وقال عروة في كتاب مسلم إن الذين يكتمون ( البقرة 159 و 174 ) الآية والصواب قول عروة يعني لئلا يتكل الناس فكأن النهي عن الكتمان أوجب عليه التحديث به مخافة الكتمان قوله ما حدثتكموه جواب لولا واللام محذوفة منه ومعناه لولا أن الله تعالى أوجب على من علم علما إبلاغه لما كنت حريصا على تحديثكم ولما كنت متكثرا بتحديثكم قوله

(3/12)


يقول جملة في محل النصب على الحال قوله فيحسن من الإحسان ومعنى إحسان الوضوء الإتيان به تاما بصفته وآدابه وتكميل سننه وهو بالرفع عطف على قوله لا يتوضأ وكلمة الفاء ههنا بمعنى ثم لأن إحسان الوضوء ليس متأخرا عن الوضوء حتى يعطف عليه بالفاء التعقيبية وإنما موقعها موقع ثم التي لبيان المرتبة وشرفها دلالة على أن الإحسان في الوضوء والإجادة من محافظة السنن ومراعاة الأداب أفضل وأكمل من أداء ما وجب مطلقا ولا شك أن الوضوء المحسن فيه أعلى رتبة من الغير المحسن فيه قوله ويصلي الصلاة المكتوبة وفي رواية لمسلم فيصلي هذه الصلوات الخمس قوله إلا غفر له التقدير لا يتوضأ رجل إلا رجل غفر له فالمستثنى محذوف لأن الفعل لا يقع مستثنى أو التقدير لا يتوضأ رجل في حال إلا في حال المغفرة فيكون الاستثناء من أعم عام الأحوال قوله وبين الصلاة أي التي يليها كما صرح به مسلم في رواية هشام بن عروة قوله حتى يصليها معناه حتى يفرغ منها وقال بعضهم أي يشرع في الصلاة الثانية قلت هذا معنى فاسد لأن قوله ما بينه وبين الصلاة يحتمل أن يراد به بين الشروع في الصلاة وبين الفراغ عنها ولما كان المراد الفراغ عنها أشار إليه بقولهوحتى يصليها ولهذا لم يكتف بقوله بين الصلاة لأنه لا يغني عن ذكر حتى يصليها لما ذكرنا فإن قلت لفظة حتى غاية لماذا قلت لحصل المقدر العامل في الظرف إذ الغفران لا غاية له قوله قال عروة الآية أراد أن الآية في سورة البقرة إلى قوله اللاعنون ( البقرة 159 ) كما صرح به مسلم وقد روى عن مالك هذا الحديث في ( الموطأ ) عن هشام بن عروة ولم يقع في روايته تعيين الآية فقال من قبل نفسه أراه يريد أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ( هود 114 )
بيان استنباط الاحكام الأول فيه أن الفرض على العالم تبليغ ما عنده من العلم لأن الله تعالى قد توعد الذين يكتمون ما أنزل الله باللعنة والآية وإن كانت نزلت في أهل الكتاب ولكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب فدخل فيها كل من علم علما تعبد الله العباد بمعرفته لزمه من عدم تبليغه ما لزم أهل الكتاب منه الثاني فيه أن الإخلاص لله تعالى في العبادة وترك الشغل بأسباب الدنيا يوجب من الله عليه الغفران ويتقبلها من عبده الثالث فيه أن ظاهر الحديث على أن المغفرة المذكورة لا تحصل إلا بالوصف المذكور وإحسانه والصلاة في ( الصحيح ) من حديث ابي هريرة إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه ففيه أن الخطايا تخرج من أول الوضوء حتى يفرغ من الوضوء نقيا من الذنوب وليس فيه ذكر الصلاة فيحتمل أن يحمل حديث ابي هريرة عليها لكن يبعده أن في رواية لمسلم من حديث عثمان وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف الأشخاص فشخص يحصل له ذلك عند الوضوء وآخر عند تمام الصلاة الرابع أن المراد بهذا وأمثاله غفران الصغائر كما مر فيما مضى وجاء في ( صحيح ) مسلم ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخضوعها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وفي الحديث الآخر والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذ اجتنبت الكبائر لا يقال إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان وكذا صيام عرفة يكفر سنتين ويوم عاشوراء كفارة سنة وإذا وافق تأمينة تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه لأن المراد أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره وإن لم يصادف صغيرة كتبت له حسنات ورفعت له درجات وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجى أن يخفف منها وقال النووي رجونا أن يخفف من الكبائر والله تعالى أعلم
25 -
( باب الاستنثار في الوضوء )
أي هذا باب في بيان الاستنثار في الوضوء والاستنثار استفعال من النثر بالنون والثاء المثلثة والمراد به الاستنشاق وقد بسطنا الكلام فيه في الباب الذي قبله
ووجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في هذا الباب بعض المذكور في الباب الأول
ذكره عثمان وعبد الله بن زيد وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي
أي ذكر الاستنثار في الوضوء عثمان بن عفان وعبد الله بن زيد بن عاصم وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم والمعنى أن هؤلاء رووا الاستنثار في الوضوء أما الذي رواه عثمان رضي الله تعالى عنه فقد أخرجه موصولا في الباب الذي

(3/13)


قبله وأما الذي رواه عبد الله بن زيد فقد أخرجه موصولا في باب مسح الرأس كله وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه موصولا في باب غسل الوجه من غرفة وقال بعضهم وليس فيه ذكر الاستنثار وكان المصنف أشار بذلك إلى ما رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديثه مرفوعا استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا ولأبي داود الطيالسي إذا توضأ أحدكم واستنثر فليفعل ذلك مرتين أو ثلاثا وإسناده حسن قلت ليس الأمر كما ذكره بل في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري ذكر الاستنثار فإن في بعض النسخ ذكر واستنثر موضع قوله واستنشق وقوله وكأنه أشار بذلك إلى ما رواه أحمد إلى آخره بعيد على ما لا يخفى وحديث ابي داود أخرجه ابن ماجه أيضا وذكر الخلال عن أحمد أنه قال في إسناده شيء وذكره الحاكم في الشواهد وابن الجارود في المنتقى وقال صاحب ( التلويح ) وكان ينبغي للبخاري إذا عدرواة الاستنثار أن يذكر بعد حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه حديث أبي سعيد الخدري من صحيح مسلم وحديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه من ( صحيح ) ابن حبان وحديث وائل بن حجر وسنده جيد عند البزار وحديث لقيط بن صبرة وقد تقدم وكذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وحديث البراء بن عازب رويناه في كتاب ( الحلية ) لأبي نعيم بسند جيد وحديث سلمة بن قيس قال الترمذي حديث حسن صحيح وحديث أبي ثعلبة الخشني رواه كامل بن طلحة الجحدري عن مالك عن الزهري عن أبي إدريس عنه قال ابو احمد الحاكم أخطأ فيه كامل وحديث المقدام بن معدي كرب بسند جيد عند ابي داود قلت لم يظهر لي وجه قوله وكان ينبغي فإن البخاري ما التزم بذكر أحاديث الباب ولا بتخريج كل حديث صحيح وكم من صحيح عند غيره فهو ليس بصحيح عنده
161 - حدثنا ( عبدان ) قال أخبرنا ( عبد الله ) قال أخبرنا ( يونس ) عن ( الزهري ) قال أخبرني ( أبو إدريس ) أنه سمع ( أبا هريرة ) عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) أنه قال من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر
( الحديث 161 - طرفه في 162 )
مطابقة الحديث في قوله من توضأ فليستنثر
بيان رجاله وهم ستة الأول عبدان هو لقب ابن عبد الله بن عثمان المروزي الثاني عبد الله بن المبارك الثالث يونس بن يزيد الأيلي الرابع محمد بن مسلم الزهري الخامس أبو إدريس عائذ الله بالهمزة والذال المعجمة ابن عبد الله الخولاني بالمعجمة التابعي الجليل القدر الكبير الشأن كان قاضيا بدمشق لمعاوية مات سنة ثمانين السادس أبو هريرة رضي الله تعالى عنه فالأربعة الأول تقدم ذكرهم بهذا الترتيب في كتاب الوحي وأبو إدريس مر ذكره في كتاب الإيمان
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الجمة والإفراد والسماع ومنها أن رواته ما بين مروزي وأيلي ومدني وشامي ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي الزهري عن أبي إدريس
بيان من أخرجه غيره أخرجه مسلم أيضا في الطهارة عن يحيى بن يحيى عن مالك عن الزهري به وعن سعيد بن منصور عن حسان بن إبراهيم وعن حرملة ابن يحيى عن ابن وهب كلاهما عن يونس عن الزهري عن أبي إدريس عن أبي هريرة وأبي سعيد كلاهما عن النبي وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة وعن إسحاق بن منصور عن ابن مهدي وابن ماجه أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد ابن الحباب وداود بن عبد الله الجعفري أربعتهم عن مالك به وقال ابن الفلكي رواه كامل بن طلحة الجحدري عن مالك عن الزهري عن أبي إدريس عن أبي ثعلبة الخشني قال ابو احمد الحافظ إن كاملا أخطأ فيه
بيان إعرابه ومعناه قوله من توضأ كلمة من موصولة تتضمن معنى الشرط وقوله فليستنثر جواب الشرط فلذلك دخلته الفاء وكذلك قوله ومن استجمر فليوتر قوله فليستنثر أي فليخرج الماء من الأنف بعد الاستنشاق مع ما في الأنف من مخاط وغبار وشبهه قيل ذلك لما فيه من المعونة على القراءة وتنقية مجرى النفس الذي به التلاوة وبإزالة ما فيه من التفل تصح مجاري الحروف ويقال الحكمة فيه التنظيف وطرد الشيطان لأنه روى في رواية عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أخرجها البخاري في بدء الخلق إذا استيقظ أحدكم من منامه فليتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه قوله ومن استجمر من الاستجمار وهو مسح محل البول والغائط بالجمار وهي الأحجار الصغار ويقال

(3/14)


الاستطابة والاستجمار والإستنجاء لتطهير محل الغائط والبول والاستجمار مختص بالمسح بالأحجار والاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء وبالأحجار وقال ابن حبيب وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يتأول الاستجمار هنا على إجمار الثياب بالمجمر ونحن نستحب الوتر في الوجهين جميعا يقال في هذا تجمر واستجمر فيأخذ ثلاث قطع من الطيب أو يتطيب مرة واحدة لما بعد الأولى وحكي عن مالك أيضا والأظهر الأول ويقال إنما سمي به التمسح بالجمار التي هي الأحجار الصغار لأنه يطيب المحل كما يطيبه الاستجمار بالبخور ومنه سميت جمار الحج وهي الحصيات التي يرمي بها قوله فليوتر أي فليجعل الحجارة التي يستنجى بها وترا إما واحدة أو ثلاثا أو خمسا وقال الكرماني المراد بالإيتار أن يكون عدة المسحات ثلاثا أو خمسا أو فوق ذلك من الأوتار قلت لم يذكر الواحد مع أنه يطلق عليه الإيتار هروبا عن أن لا يكون الحديث حجة عليهم على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى
بيان استنباط الاحكام الأول فيه مطلوبية الاستنثار في الوضوء والإجماع قائم على عدم وجوبه والمستحب أن يستنثر بيده اليسرى وقد بوب عليه النسائي ويكره أن يكون بغير يده حكي ذلك عن مالك أيضا لكونه يشبه فعل الدابة وقيل لا يكره فان قلت السنة في الاستنثار ثلاث مثل الاستنشاق أم لا قلت قد ورد في رواية الحميدي في ( مسنده ) عن سفيان عن ابي الزناد ولفظه إذا استنثر فليستنثر وترا وقوله وترا يشمل الواحد والثلاث وما فوقهما من الأوتار وورد في رواية البخاري فليستنثر ثلاثا كما ذكرناها ويمكن أن تكون هذه الرواية مبينة لتلك الرواية فتكون السنة فيه أن تكون ثلاثا كالاستنشاق فافهم الثاني من فسر الاستنثار بالاستنشاق ادعى أن الاستنشاق واجب وقال النووي فيه دلالة لمذهب من يقول إن الاستنشاق واجب لمطلق الأمر ومن لم يوجبه يحمل الأمر على الندب بدليل أن المأمور به حقيقة وهو الاستنثار ليس بواجب بالاتفاق وقال ابن بطال الاستنثار هو دفع الماء الحاصل في الأنف بالاستنشاق ولم يذكر ههنا الاستنشاق لأن ذكره الاستنثار دليل عليه إذ لا يكون إلا منه وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر الحديث وحمل أكثرهم على الندب واستدلوا بأن غسله باطن الوجه غير مأخوذ علينا في الوضوء قلت الذين أوجبوا الاستنشاق هم أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر واحتجوا بظاهر الأمر ولكنه للندب عند الجمهور بدليل ما رواه الترمذي محسنا والحاكم مصححا من قوله للأعرابي توضأ كما أمرك الله تعالى فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الإستنشاق وقال بعضهم وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء فقد أمر الله تعالى باتباع نبينه ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة وهذا يرد على من لم يوجب المضمضة أيضا وقد ثبت الأمر بها أيضا في ( سنن أبي داود ) بإسناد صحيح قلت القرنية الحالية والمقالية مناطقة صريحا بأن المراد من قوله كما أمرك الله تعالى الأمر المذكور في آية الوضوء وليس فيها ما يدل على وجوب الاستنشاق ولا على المضمضة فإن استدل على هذا القائل على وجوبها بمواظبة النبي عليهما من غير ترك فإنه يلزمه أن يقول بوجوب التسمية أيضا لأنه لم ينقل أنه ترك التسمية فيه ومع هذا فهو سنة أو مستحبة عند إمام هذا القائل الثالث فيه مطلوبية الإيتار في الاستنجاء قال الكرماني مذهبنا أن استيفاء الثلاث واجب فإن حصل الإبقاء به فلا زيادة إلا وجبت الزيادة ثم إن حصل بوتر فلا زيادة وإن حصل بشفع استحب الإيتار وقال الخطابي فيه دليل على وجوب عدد الثلاث إذ معلوم أنه لم يرد به الوتر الذي هو وأحد لأنه زيادة صفة على الاسم والاسم لا يحصل بأقل من واحد فعلم أنه قصد به ما زاد على الواحد وأدناه الثلاث قلت ظاهر الحديث حجة لأبي حنيفة وأصحابه فيما ذهبوا إليه من أن الاستنجاء ليس فيه عدد مسنون لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث والحديث دال على الايتار فقط فإن قلت تعيين الثلاث من نهيه عليه الصلاة و السلام عن أن يستنجي بأقل من ثلاث أحجار قلت لما دل حديث أبي هريرة من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج على عدم اشتراط العيين حمل هذا على أن النهي فيه كان لأجل الاحتياط لأن التطهير غالبا إنما يحصل بالثلاث ونحن أيضا نقول إذا تحقق شخص أنه لا يطهر إلا بالثلاث يتعين عليه الثلاث والتعيين ليس لأجل التوفية فيه وإنما هو للانقاء الحاصل فيه حتى إذا احتاج إلى رابع وخامس وهلم جرا يتعين عليه ذلك فافهم

(3/15)


26 -
( باب الاستجمار وترا )
أي هذا باب في بيان حكم الاستجمار وترا وقد مر تفسير الاستجمار في الباب السابق والوتر خلاف الشفع وانتصابه على الحال
وجه المناسبة بين البابين من حديث إن المذكور في الباب السابق حكمان أحدهما الاستنثار والآخر الاستجمار وترا وكان الباب مقصورا على الحكم الأول وهذا الباب المذكور فيه ثلاثة أشياء أحدهما الاستجمار وترا فاقتضت المناسبة أن يعقد بابا على الحكم الآخر الذي عقد لقرينه ولم يعقد له لأن ما فيه حكمان أو أكثر ذكر بعضها تلو بعض من وجوه المناسبة ولا يلزم أن تكون المناسبة في الذكر بين الشيئين من كل وجه سيما في كتاب يشتمل على أبواب كثيرة والمقصود منها عقد التراجم فاندفع بهذا كلام من يقول تخليل هذا الباب بين أبواب الوضوء وهو باب الاستنجاء ومرتبته التقديم على أبواب الوضوء غير موجه وجواب الكرماني بقوله معظم نظر البخاري إلى نقل الحديث وإلى ما يتعلق بتصحيحه غير مهتم بتحسين الوضع وتزيين ترتيب الأبواب لأن أمره سهل غير مرضي ولا هو عذر يقبل منه وكذا قول بعضهم لأن أبواب الاستطابة لم تتميز في هذا الكتاب عن أبواب صفة الوضوء لتلازمها ويحتمل أن يكون ذكل ممن دون المصنف
162 - حدثنا ( عبد الله بن يوسف ) قال أخبرنا ( مالك ) عن ( أبي الزناد ) عن ( الاعرج ) عن ( أبي هريرة ) أن رسول الله ( ) قال إذا توضأأحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فان أحدكم لا يدري أين باتت يده
( انظر الحديث 161 )
مطابقة الحديث للترجمة في قوله ومن استجمر فليوتر وهذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام وعقد الترجمة على الاستجمار الذي هو أحد الأحكام للوجه الذي ذكرناه
بيان رجاله وهم خمسة وعبد الله بن يوسف بن علي التنيسي تقدم ذكره في باب الوحي والبقية تقدم ذكرهم جميعا في باب حب الرسول من الإيمان وأبو الزناد بكسر الزاي وبالنون عبد الله بن ذكوان والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن رواته كلهم مدنيون ما خلا عبد الله ومنها ما قاله البخاري أصح أسانيد أبي هريرة مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن القعنبي عن مالك وأخرجه النسائي فيه أيضا عن الحسين بن عيسى البسطامي عن معين بن عيسى عن مالك وأخرجه مسلم من طريق آخر حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر التكراوي قالا حدثنا بشر بن المفضل عن خالد بن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن النبي قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يذده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده وفي لفظ إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم ليستنثر وفي لفظ فلا يغمس يده في الأناء حتى يغسلها ثلاثا وفي لفظ اذا استيقظ أحدكم فليفرغ على يديه ثلاث مرات قبل أن يدخل يده في إنائه فإنه لا يدري فيما باتت يده وأخرجه أبو داود أيضا من طريق خر حدثنا مسدد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي رزين وأبي صالح عن أبي هريرة قال رسول الله إذا قام أحدكم من الليل يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده وأخرجه الترمذي من وجه آخر حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي قال إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده وأخرجه النسائي من وجه آخر أنبأنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن الزهري عن سلمة عن أبي هريرة أن النبي

(3/16)


عليه الصلاة و السلام قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده وأخرجه ابن ماجه أيضا حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما حدثاه أن أبا هريرة كان يقول قال رسول الله عليه الصلاة و السلام إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا فإن أحدكم لا يدري فيم باتت يده وأخرجه الطحاوي في ( معاني الآثار ) حدثنا سليمان بن شعيب قال حدثنا بشر بن بكير قال حدثني الأوزاعي وحدثنا الحسين بن نصر قال حدثنا الفريابي قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا ابن شهاب قال حدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة كان يقول إذا قام احدكم من الليل إلى آخره مثل لفظ ابن ماجه غير ان في لفظ الطحاوي فإنه لا يدري أحدكم فيم باتت يده وأخرجه الدارقطني أيضا بإسناد حسن ولفظه اين باتت تطوف يده وفي ( الأوسط ) للطبراني ويسمي قبل أن يدخلها وقال لم يروه عن هشام يعني عن ابي الزناد إلا عبد الله بن يحيى بن عروة تفرد به إبراهيم بن المنذر ولا قال أحد ممن رواه عن أبي الزناد ويسمي إلا هشام بن عروة وفي ( جامع ) عبد الله بن وهب المصري صاحب مالك حتى يغسل يده أو يفرغ فيها فإنه لا يدري حيث باتت يده وفي ( علل ) ابن ابي حاتم الرازي فليغرف على يده ثلاث غرفات وفي لفظ ثم ليغترف بيمينه من إنائه وعند البيهقي أين باتت يده منه وعند ابن عدي من رواية الحسن عن أبي هريرة مرفوعا فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فليرق ذلك الماء وفي سنن الكبحي الكبير حتى يصب عليها صبة أو صبتين وفي لفظ على ما باتت يده وهذا الحديث روي عن جابر وابن عمر رضي الله عنهم أيضا أما حديث جابر فرواه الدارقطني من حديث أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله إذا قام أحدكم من الليل فأراد أن يتوضأ فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها فإنه لا يدري أين باتت يده ولا على ما وضعها إسناده حسن وأما حديث ابن عمر فرواه الدارقطني أيضا من حديث ابن شهاب عن سالم عن عبد الله عن أبيه قال قال رسول الله إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده منه أو أين طافت يده فقال له رجل أرأيت إن كان حوضا فحصبه ابن عمر وقال أخبرك عن رسول الله وتقول ارأيت إن كان حوضا إسناده حسن وحديث ابي الزبير عن عائشة مرفوعا نحوه
بيان اللغات والإعراب قوله فيجعل في انفه تقديره فليجعل في أنفه ماء فحذف ماء الذي هو المفعول لدلالة الكلام عليه وهكذا هو رواية الأكثرين بحذف ماء وفي رواية ابي ذر فليجعل في أنفه ماء بدون الحذف وكذا اختلفت رواة ( الموطأ ) في إسقاطه وذكره وثبت ذكره لمسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد و الفاء في فليجعل جواب الشرط أعني إذا وقال بعض الشارحين ومعنى فليجعل فليلق قلت جعل بهذا المعنى لم يثبت في اللغة والأولى أن يقال إنه بمعنى صير كما في قولك جعلته كذا أي صيرته قوله ثم لينتثر على وزن ليفتعل من باب الافتعال هكذا رواية أبي ذر والأصيلي وفي رواية غيرهما ثم لينثر بسكون النون وضم الثاء المثلثة من باب الثلاثي المجرد وكذا جاءت الروايتان في ( الموطأ ) قال الفراء يقال الرجل وانتشر والنتشر إذا حرك النشرة وهي طرف الأنف في الطهارة وقد مر الكلام فيه مبسوطا وهذه الجملة معطوفة على قوله فيلجعل وقوله ومن استجمر جملة شرطية وقوله فليوتر جواب الشرط وقد مضى الكلام فيه مستوفى قوله وإذا استيقظ الا ستيقاظ بمعنى التيقظ وهو لازم وكلمة إذا للشرط وجوابه قوله فليغسل يده وقوله قبل نصب على الظرف وكلمة أن مصدرية قوله في وضوئه بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به وفي رواية الكشميهني قبل أن يدخلها في الإناء وهو ظرف الماء الذي يعد للوضوء وهي رواية مسلم من طرق وفي رواية ابن خزيمة في إنائه أو وضوئه على التردد قوله فإن أحدكم الفاء فيه للتعليل قوله أين باتت كلمة أين سؤال عن مكان إذا قلت أين زيد فإنما تسأل عن مكانه وإنما بني إما لتضمنه معنى حرف الاستفهام أو المجازاة لأنك إذا قلت أين زيد فكأنك قلت أفي الدار أم في السوق ام في المسجد ام في غيرها وإذا قلت أين تجلس إجلس فمعناه إن تجلس في الدار أجلس فيها وإن تجلس في المسجد أجلس فيه

(3/17)


بيان المعاني قوله إذا توضأ معناه إذا أراد أن يتوضأ قوله وإذا استيقظ عطف على قوله إذا توضا أحدكم قال بعضهم واقتضى سياقه أنه حديث واحد وليس هو كذلك في ( الموطأ ) وقد أخرجه أبو نعيم في ( المستخرج من الموطأ ) رواية عبد الله بن يوسف شيخ البخاري مفرقا وكذا هو في ( موطأ يحيى بن بكير ) وغيره وكذا فرقه الإسماعيلي من حديث مالك وكذا أخرج مسلم الحديث الأول من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد والثاني من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن ابي الزناد انتهى قلت لا يلزم ذلك كله أن لا يكون الحديث واحدا وقد يجوز أن يروي حديث واحد مقطعا من طرق مختلفة فمثل ذلك وإن كان حديثين أو أكثر بحسب الظاهر فهو في نفس الأمر حديث واحد والظاهر مع سياق البخاري في كونه حديثا واحدا قوله قبل أن يدخلها وفي رواية مسلم وابن خزيمة وغيرهما من طرق مختلفة فلا يغمس يده فلا في الإناء حتى يغسلها ووقع في رواية البزار فلا يعمسن بنون التأكيدة المشددة فإنه رواه من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في طهوره حتى يفرغ عليها الحديث ولم يقع هذا إلا في رواية البزار والرواية التي فيها الغمس أبين في المراد من الروايات التي فيها الإدخال لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه الكراهة كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن تلامس يده المساء قوله فإن أحدكم قال البيضاوي فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة لأن الشارع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات فإنه يبعث ملبيا بعد نهيهم عن تطييبه فنبه على علة النهي وهي كونه محرما قوله أين باتت يده أي من جسده وقال النووي قال الشافعي معنى لا يدري أين باتت يده أن أهل الحجار كانوا يستنجون بالحجارة وبلادهم حارة فإذا نام أحدهم عرق فر يأمن من النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة أو على قملة أو قذر وغير ذلك وقال الباجي ما قاله يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم لجواز ذلك عليه وأجيب عنه بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليددون المحل قلت فيه نظر لأن اليد إذا عرقت فالمحل بطريق الأولى على ما لا يخفي فلا وجه حينئذ لاختصاص اليد به وقول من قال إنه مختص بالمحل ينافيه ما رواه ابن خزيمة وغيره من طريق محمد بن الوليد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة في هذا الحديث قال في آخره أين باتت يده منه وأصله في مسلم دون قوله منه قال الدارقطني تفرد بها شعبة وقال البيهقي تفرد بها محمد بن الوليد قلت فيه نظر لأن ابن منده ذكر هذا اللفظ أيضا من حديث خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال وكذلك رواه محمد بن الوليد عن غندر ومحمد بن يحيى عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة عن خالد قال وما أراهما بمحفوظين بهذه الزيادة إلا أن رواة هذه الزيادة ثقات مقبولون وبنحوه قاله الدارقطني
بيان استنباط الأحكام الأول استدل به أصحابنا أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات وذلك لأن النبي عليه الصلاة و السلام أمر القائم من الليل بإفراغ الماء على يده مرتين أو ثلاثا وذلك لأنهم كانوا يتغوطون ويبولون ولا يستنجون بالماء وربما كانت أيديهم تصيب المواضع النجسة فتتنجس فإذا كانت الطهارة تحصل بهذا العدد من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات وكان أولى وأحرى أن تحصل مما هو دونهما من النجاسات الثاني استدل به أصحابنا على أن غسل اليدين قبل الشروع في الوضوء سنة بيان ذلك أن أول الحديث يقتضي وجوب الغسل للنهي عن إدخال اليد في الإناء قبل الغسل وآخره يقتضي استحباب الغسل للتعليل بقوله فإنه لا يدري اين باتت يده يعني في مكان طاهر من بدنه أو نجس فلما انتفى الوجوب لمانع في التعليل المنصوص ثبتت السنية لأنها دون الوجوب وقال الخطابي الأمر فيه أمر استحباب لا أمر إيجاب وذلك لأنه قد علقه بالشك والأمر المضمن بالشك لا يكون واجبا وأصل الماء الطهارة وكذلك بدن الانسان وإذا ثبتت الطهارة يقينا لم تزل بأمر مشكوك فيه قلت مذهب عامة أهل العلم أن ذلك على الاستحباب وله أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها وأن الماء طاهر ما لم يتيقن نجاسة يده وممن روي عنه ذلك عبيدة وابن سيرين وابراهيم النخعي وسعيد بن جبير وسالم والبراء بن عازب والأعمش فيما ذكره البخاري وقال ابن المنذر قال أحمد إذا انتبه من النوم فأدخل يده في الإناء قبل الغسل أعجب إلى أن يريق ذلك الماء إذا كان من نوم الليل ولا يهراق في قول

(3/18)


عطاء ومالك والاوزاعي والشافعي وأبي عبيدة واختلفوا في المستيقظ من النوم بالنهار فقال الحسن البصري نوم النهار ونوم الليل واحد في غمس اليد وسهل أحمد في نوم النهار ونهى عن ذلك إذا قام من نوم الليل قال أبو بكر وغسل اليدين من ابتداء الوضوء ليس بفرض وذهب داود الطبري إلى إيجاب ذلك وأن الماء يجزيه إن لم تكن اليد مغسولة وقال ابن حزم وسواء تباعد ما بين نومه ووضوئه أو لم يتباعد فلو صب على يديه من إناء دون أن يدخل يده فيه لزم غسل يده أيضا ثلاثا إن قام من نومه وقال ابن القاسم غسلهما عبادة وقال أشهب خشية النجاسة وفي ( الأحكام ) لابن بزيزة اختلف الفقهاء في غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء فذهب قوم إلى أن ذلك من سنن الوضوء وقيل إنه مستحب وبه صدر ابن الجلاب في تفريعه وقيل بإيجاب ذلك مطلقا وهو مذهب داود وأصحابه وقيل بإيجابه في نوم الليل دون نوم النهار وبه قال أحمد وقال وهل تغسلان مجتمتعين أو متفرقتين ففيه قولان مبنيان على اختلاف ألفاظ الحديث الواردة في ذلك ففي بعض الطرق فغسل يديه مرتين مرتين وذلك يقتضي الإفراد وفي بعض طرقه فغسل يديه مرتين وذلك يقتضي الجمع انتهى فان قلت كان ينبغي أن لا ينفي السنية لأنهم كانوا يتوضؤن من الأتوار فلذلك أمرهم عليه الصلاة و السلام بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء وأما في هذا الزمان فقد تغير ذلك قلت السنة لما وقعت سنة في الابتداء بقيت ودامت وإن لم يبق ذلك المعنى لأن الأحكام إنما يحتاج إلى أسبابها حقيقة في ابتداء وجودها لا في بقائها لأن الأسباب تبقى حكما وإن لم تبق حقيقة لأن للشارع ولاية الإيجاد والإعدام فجعلت الأسباب الشرعية بمنزلة الجواهر في بقائها حكما وهذا كالرمل في الحج ونحوه
الثالث استدل بإطلاق قوله عليه الصلاة و السلام من نومه من غير تقييد على أن غمس اليدين في إناء الوضوء مكروه قبل غسلهما سواء كان عقيب نوم الليل أو نوم النهار وخص أحمد الكراهة بنوم الليل لقوله أين باتت يده والمبيت لا يكون إلا ليلا ولأن الإنسان لا ينكشف لنوم النهار كما ينكشف لنوم الليل لقوله أين باتت يده والمبيت لا يكون إلا ليلا فتطوف يده في أطراف بدنه كما تطوف يد النائم ليلا فربما أصابت موضع العذرة وقد يكون هناك لوث من أثر النجاسة ويؤيد ذلك ما في رواية ابي داود ساق أسنادها مسلم إذا قام أحدكم من الليل وكذا الترمذي من وجه آخر صحيح وفي رواية لأبي عوانة ساق مسلم إسنادها اذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح وأجابوا بأن العلة تقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل وتخصيص نوم الليل بالذكر للغلبة وقال النووي ومذهبنا أن هذا الحكم ليس مخصوصا بالقيام من النوم بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد فمتى شك في نجاستها يستحب غسلها سواء قام من النوم ليلا أو نهارا أو لم يقم منه لأنه عليه الصلاة و السلام نبه على العلة بقوله فإنه لا يدري ومعناه لا يأمن من النجاسة على يده وهذا عام لاحتمال وجود النجاسة في النوم فيهما وفي اليقظة
الرابع إن قوله في الاناء محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة كالكوز أو كبيرة كالجب ومعه آنية صغيرة أما إذا كانت الآنية كبيرة وليست معه آنية صغيرة فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة حتى لو أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الاناء دون الكف ويرفع الماء من الجب ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض فيفعل كذلك مرات ثم يدخل يده اليمنى بالغا ما بلغ في الإناء إن شاء وهذ الذي ذكره أصحابنا وقال النووي وأما إذا كان الماء في إناء كبير بحيث لا يمكن الصب منه وليس معه إناء صغير يغترف به فطريقة أن يأخذ الماء بفيه ثم يغسل به كفيه أو يأخذه بطرف ثوبه النظيف أو يستعين بغيره قلت لو فرضنا أنه عجز عن أخذه بفمه ولم يعتمد على طهارة ثوبه ولم يجد من يستعين به ماذا يفعل وما قاله أصحابنا أوسع وأحسن
الخامس يستفاد منه أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة وإن لم تغيره وهذه حجة قوية لأصحابنا في نجاسة القلتين لوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره وإلا لا يكون للنهي فائدة
السادس يستفاد منه استحباب غسل النجاسات ثلاثا لأن إذا مر به في المتوهمة ففي المحققة أولى ولم يرد شيء فوق الثلاث إلا في ولوغ الكلب وسيجيء إن شاء الله تعالى أنه عليه السلام أوجب فيه الثلاث وخير فيما زاد
السابع فيه أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل ولا يؤثر فيها الرش فإنه عليه الصلاة و السلام أمر بالغسل ولم يأمر بالرش
الثامن فيه استحباب الأخذ بالاحتياط في أبواب العبادات
التاسع إن الماء يتنجس بورود النجاسة عليه وهذا بالإجماع وأما ورود الماء على النجاسة فكذلك عند الشافعي وقال النووي في هذا الحديث والفرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه وأنها إذا وردت عليه نجسته وإذا ورد عليها أزالها وتقريره

(3/19)


أنه قد نهى عن إدخال اليدين في الإناء لاحتمال النجاسة وذلك يقتضي أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه وأمر بغسلها بإفراغ الماء عليها للتطهير وذلك يقتضي أن ملاقاتها الماء على هذا الوجه غير مفسد بمجرد الملاقاة وإلا لما حصل المقصود من التطهير قلت سلمنا أن ملاقاتهما على هذا الوجه غير مفسد بمجرد الملاقاة للضرورة ولكن لا نسلم أنه يبقى طاهرا بعد أن أزال النجاسة وقال النووي أيضا وفيه دلالة على أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجسته وإن قلت ولم تغيره فإنها تنجسه لأن الذي تعلق باليد ولا يرى قليل جدا وكانت عادتهم استعمال الأواني الصغيرة التي تقصر عن القلتين بل لا تقاربها وقال القشيري وفيه نظر عند لأن مقتضى الحديث أن ورود النجاسة على الماء يؤثر فيه ومطلق التأثير أعم من التأثير بالتنجيس ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثير ولا يلزم ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس
العاشر فيه استحباب استعمال الكنايات في المواضع التي فيها استهجان ولهذا قال عليه الصلاة و السلام فإنه لا يدري أين باتت يده ولم يقل فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة ونحو ذلك وإن كان هذا معنى قوله وهذا إذا علم أن السامع يفهم بالكناية المقصود فإن لم يكن كذلك فلا بد من التصريح لينتفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحا به
الحادي عشر إن قوله في الإناء وإن كان عاما لكن القرينة دلت على أنه إناء الماء بدليل قوله في هذه الرواية في وضوئه ولكن الحكم لا يختلف بينه وبين غيره من الأشياء الرطبة
الثاني عشر إن موضع الاستنجاء لا يطهر بالمسح بالأحجار بل يبقى نجسا معفوا عنه في حق الصلاة حتى إذا أصاب موضع المسح بلل وابتل به سراويله أو قميصه ينجسه
الثالث عشر قوله فليغسل يده يتناول ما إذا كانت يده مطلقة أو مشدودة بشيء أو في جراب أو كان النائم عليه سراويله أو لم يكن لعموم اللفظ
الرابع عشر إن قوله فإن أحدكم خطاب للعقلاء البالغين المسلمين فإن كان القائم من النوم صبيا أو مجنونا أو كافرا فذكر في ( المغني ) أن فيه وجهين أحدهما أنه كالمسلم البالغ العاقل لأنه لا يدري أين باتت يده والثاني أنه لا يؤثر غمسه شيئا لأن المنع من الغمس إنما يثبت بالخطاب ولا خطاب في حق هؤلاء
الخامس عشر فيه إضافة النوم إلى ضمير أحدكم وذلك ليخرج نومه فإنه تنام عينه دون قلبه
السادس عشر قوله من نومه يفيد خروج الغفلة ونحوها
السابع عشر اختلفوا في أن علة الأمر التنجيس أو التعبد فمنهم من قال وهو قول الجمهور إن ذلك لاحتمال النجاسة ومقتضاه إلحاق من يشك في ذلك ولو كان مستيقظا ومفهومه أن من درى أين باتت يده كمن لف عليها خرقة مثلا فاستيقظ وهو على حالها فلا كراهة وإن كان غسلها مستحبا كما في المستيقظ ومنهم من قال ومنهم مالك بأن ذلك للتعبد فعلى قولهم لا يفرق بين شاك ومتيقن
الثامن عشر قال أبو عمر فيه إيجاب الوضوء من النوم
التاسع عشر قيل فيه تقوية من يقول بالوضوء من مس الذكر حكاه أبو عوانة في صحيحه عن ابن عيينة وفيه بعد جدا
العشرون ما قاله الخفاف من الشافعية إن القليل من الماء لا يصير مستعملا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء وفيه بعد أيضا والله أعلم
27 -
( باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين )
أي هذا باب في بيان حكم غسلم الرجلين في الوضوء قوله ولا يمسح على القدمين يعني إذا كانتا عاريتين قال القشيري فهم البخاري من هذا الحديث أن القدمين لا يمسحان بل يغسلان وهو عندي غير جيد لأنه مفسر في الرواية الأخرى إن الاعقاب كانت تلوح لم يمسها الماء ولا شك أن هذا موجب للوعيد بالاتفاق والذين استدلوا على أن المسح غير مجزىء إنما اعتبروا لفظه فقط فقد رتب الوعيد على مسمى المسح وليس فيها ترك بعض الوضوء والصواب إذا جمعت الطرق أن يستدل ببعضها على بعض ويجمع ما يمكن جمعه فيه ليظهر المراد ولو إستدل في غسل الرجلين بحديث إذا توضأ المسلم فغسل رجليه خرجت كل خطيئة بطشت بها رجلاه فهذا يدل على أن الرجل فرضها الغسل لأنه لو كان فرضها المسح لم يكن في غسلها ثواب ألا ترى أن الرأس الذي فرضها المسح لا ثواب في غسلها قلت لا دخل في ذلك على البخاري لأنه فهم منه أن

(3/20)


الإنكار عليهم إنما كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل فلأجل ذلك قال ولا يمسح على القدمين
فان قلت ما وجه المناسبة بين البابين قلت قد مر أن الباب السابق ذكر عقيب الذي قبله للمعنى الذي ذكرناه فيكون هذا الباب في الحقيقة يتلو الباب الذي قبله والمناسبة بينهما ظاهرة لأن كلا منهما مشتمل على حكم من أحكام الوضوء
163 - حدثنا ( موسى ) قال حدثنا ( أبو عوانة ) عن ( أبي بشر ) عن ( يوسف بن ماهك ) عن ( عبد الله بن عمر ) وقال تخلف النبي عنا في سفرة سافرناها فادركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادي بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا
( انظر الحديث 60 وطرفه )
مطابقة الحديث للترجمة تفهم من إنكار النبي مسحهم على أرجلهم لأنه ما أنكر عليهم بالوعيد إلا لكونهم لم يستوفوا غسل الرجلين
بيان رجاله وهم خمسة قد ذكروا كلهم وموسى هو ابن إسماعيل التبوذكي قد مر في باب من قال الإيمان هو العمل وأبو عوانة بفتح العين المهملة هو الوضاح اليشكري وأبو بشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة جعفر بن أبي وحشية الواسطي وماهك روي بكسر الهاء وفتحها منصرفا وعبد الله بن عمرو بن العاص القرشي وهذا الإسناد والحديث بعينهما قد تقدما في باب من رفع صوته بالعلم وفي باب من أعاد الحديث ثلاثا في كتاب العلم بلا تفاوت بينه وبينهما إلا في الراوي الأول فإنه موسى ههنا وثمة في الباب الأول ابو النعمان وفي الباب الثاني مسدد
وقد ذكرنا في باب من رفع صوته بالعلم لطائف إسناده وتعدد موضعه ومن أخرجه غيره وبيان اللغات والإعراب والمعاني وبيان وجه الاستنباط فنذكر ههنا ما لم نذكره هناك
قوله سافرناها هو رواية كريمة وليس هو بثابت في رواية غيره وظاهره أن عبد الله بن عمرو كان في تلك السفرة ووقع في رواية لمسلم أنها كانت من مكة إلى المدينة ولم يقع ذلك لعبد الله محققا إلا في حجة الوداع أما غزوة الفتح فقد كان فيها لكن ما رجع النبي فيها إلى المدينة بل من مكة من الجعرانة ويحتمل أن تكون عمرة القاضاء فإنن هجرة عبد الله بن عمرو كانت في ذلك الوقت او قريبا منه قوله فأدركنا بفتح الكاف أي لحق بنا رسول الله عليه الصلاة و السلام قوله وقد أرهقنا العصر بفتح الهاء والقاف من الإرهاق والعصر مرفوع به لأنه فاعل هكذا رواية ابي ذر وفي رواية بإسكان القاف ونصب العصر على المفعولية ويقوي الأول رواية الأصيلي وقد أرهقتنا بتأنيث الفعل وبرفع الصلاة على الفاعلية قوله ويل للأعقاب من النار قد قلنا إن ويل مرفوع بالابتداء وإن كان نكرة لأنه دعاء واختلف في معناه على أقوال أظهرها ما رواه ابن حبان في ( صحيحه ) من حديث ابي سعيد مرفوعا ويل واد في جهنم والألف واللام في الأعقاب للعهد لأن المراد المرئية من ذلك وهذا حجة على من يتمسك به في إجزاء المسح لأنه لم يوجب مسح العقب وقال الطحاوي لما أخرهم بتعميم غسل الرجلين حتى لا يبقى منها لمعة دل على أن فرضها الغسل واعترض عليه ابن المنير بأن التعميم لا يستلزم الغسل فالرأس تعم بالمسح وليس فرضها الغسل قلت هذا لا يرد عليه أصلا لأن كلامه فيما يغسل فأمره بالتعميم يدل على فريضة الغسل في المغسول والرأس ليس بمغسول فافهم
وقد تواترت الأخبار عن النبي عليه الصلاة و السلام في صفة وضوئه أنه غسل رجليه وهو المبين لأمر الله تعالى وقد قال في حديث عمرو بن عنبسة الذي رواه ابن خزيمة وغيره مطولا في فضل الوضوء ثم يغسل قدمية كما أمره الله تعالى ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وانس رضي الله تعالى عنهم وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى أنه قال اجتمع أصحاب رسول الله على غسل القدمين والله أعلم
28 -
( باب المضمضة في الوضوء )
أي هذا باب في بيان المضمضة في الوضوء
والمناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما مشتمل على حكم من أحكام الوضوء
قاله ابن عباس وعبد الله بن زيد رضي الله عنهم عن النبي
هذا تعليق منه ولكنه أخرج حديث ابن عباس موصولا في باب غسل الوجب باليدين وكذا حديث عبد الله بن

(3/21)


زيد بن عاصم أخرجه موصولا في باب غسل الرجلين إلى الكعبين على ما يأتي عن قريب فإن قلت إلى ما يرجع الضمير في قاله قلت يرجع إلى المضمضة وهو في الأصل مصدر يستوي فيه التذكير والتأنيث أو يكون تذكير الضمير باعتبار المذكور فان قلت مقول القول ينبغي أن يكون جملة وههنا مفرد قلت القول ههنا بمعنى الحكاية كما في قلت شعرا وقلت قصيدة والمعنى حكاه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولا حاجة إلى التقدير بقولك أي قال بالمضمضة ابن عباس كما ذهب إليه الكرماني فافهم
164 - حدثنا ( أبو اليمان ) قال أخبرنا ( شعيب ) عن ( الزهري ) قال أخبرني ( عطاء بن يزيد ) عن ( حمران ) مولى ( عثمان بن عفان ) أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل كل رجل ثلاثا ثم قال رأيت النبي يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه
( انظر الحديث 159 واطرافه )
مطابقة الحديث للترجمة في قوله ثم تمضمض
بيان رجاله وهم خمسة الأول أبو اليمان الحكم بن نافع الثاني شعيب بن ابي حمزة الثالث محمد بن مسلم الزهري الرابع عطاء بن يزيد من الزيادة الخامس حمران بن أبان والكل قد ذكروا
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة ومنها أن فيه رواية حمصي عن حمصي وهما الأولان والبقية مدنيون
وبقية الكلام سلفت في باب الوضوء ثلاثا ثلاثا وقال الكرماني ولا تفاوت بينهما أي بين الحديثين إلا بزيادة لفظ واستنشق ههنا وزيادة رأيت النبي يتوضؤ نحو وضوئي هذا قلت ليس كذلك بل التفاوت بينهما في غير ما ذكره أيضا فإن هناك دعا بإناء وههنا دعا بوضوء وهن فأفرغ على كفيه ثلاث مرارا وههنا فافرغ علي يديه من إنائه وهناك فغسلهما ثم ادخلهما وههنا فغسلهما ثلاث مرات وهناك ثم أدخل يمينه في الإناء وهنا في الوضوء وهناك فمضمض وههنا ثم تمضمض وهناك ثم غسل رجليه وههنا ثم غسل كل رجل وهذه رواية المستملي والحموي وفي رواية الأصيلي والكشميهني ثم غسل كل رجل وفي رواية ابن عساكر كلتا رجليه وهي الرواية التي اعتمدها صاحب ( العمدة ) وفي نسخة كل رجليه والكل يرجع إلى معنى واحد غير أن رواية كل رجله تفيد تعميم كل رجل بالغسل قوله غفر الله له هذه رواية المستملي وفي رواية غيره غفر له على بناء المجهول وزاد مسلم في رواية يونس في هذا الحديث قال الزهري كان علماؤنا يقولون هذا الوضوء اسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة
29 -
( باب غسل الاعقاب )
أي هذا باب في بيان غسل الأعقاب وهي جمع عقب بفتح العين المهملة وكسر القاف مثال كبد وهو العظم المتأخر الذي يمسك مؤخر شراك النعل وقد مر تحقيق الكلام فيه
والمناسبة بين البابين ظاهرة وهي أن كل واحد منهما في حكم من أحكام الوضوء
وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ
الكلام فيه على أنواع الأول أن هذا تعليق أخرجه ابن شيبة في ( مصنفه ) بسند صحيح موصولا عن هشيم عن خالد عن ابن سيرين وكذا أخرجه البخاري موصولا في ( التاريخ ) عن موسى بن إسماعيل عن مهدي بن ميمون عنه أنه كان إذا توضأ حرك خاتمه فإن قيل روي عن ابن سيرين أنه أدار الخاتم في إصبعه قيل لعل ذلك حالة أخرى

(3/22)


له كان واسعا يدخل الماء برقته إليه
الثاني مذاهب العلماء فيه فقال أصحابنا الحنفية تحريك الخاتم الضيق من سنن الوضوء لأنه في معنى تخليل الأصابع وإن كان واسعا لا يحتاج إلى تحريك وبهذا التفصيل قال الشافعي وأحمد قال ابن المنذر وبه أقول قال وكان ابن سيرين وعمرو بن دينار وعروة وعمر بن عبد العزيز والحسن وابن عيينة وأبو ثور يحركونه في الوضوء قلت ذكر في ( مصنف ) ابن أبي شيبة هكذا عن أبي تميم الجيشاني وعبد الله بن هبيرة السبائي وميمون ابن مهران وكان حماد يقول في الخاتم أزاله قال ابن المنذر خص فيه مالك والأوزاعي وروي ذلك عن سالم وقد روى ابن ماجه حديثا فيه ضعف عن أبي رافع كان عليه الصلاة و السلام إذا توضأ حرك خاتمه وقال البيهقي والاعتماد في هذا الباب على أن الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا توضأ حرك خاتمه وحكي أيضا عن ابن عمر وعائشة بنت سعد بن أبي وقاص وفي ( غريب الحديث ) لابن قتيبة من طريق ابن لهيعة عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال لرجل يتوضأ عليك بالمنشلة قال يعني موضع الخاتم من الإصبع قلت المنشلة بفتح الميم وسكون النون وفتح الشين المعجمة واللام
الثالث قوله وكان ابن سيرين الواو فيه للاستفتاح وابن سيرين هو محمد بن سيرين من أكابر التابعين وهو كلام إضافي إسم كان وقوله يغسل موضع الخاتم جملة في محل النصب على أنها خبر كان فان قلت كان للماضي ويغسل للمضارع فكيف يجتمعان قلت يغسل للاستمرار أو لحكاية حال الماضي على سبيل الاستحضار قوله اذا توضأ يجوز أن تكون إذا للشرط وأن تكون للظرف فقوله كان جزاء الشرط إذا كان إذا للشرط وهو العامل فيه إذا كان للظرف ويجوز أن يكون قوله يغسل والأول أوجه
الرابع وجه دخول هذا في هذا الباب من حيث إنه يحتمل أن يكون أراد بذلك أنه لو أدار الخاتم وهو في إصبعه لكان ذلك بمنزلة الممسوح وفرض الأصبع الغسل فقاس المسح في الأصبع على مسح الرجلينن فإنه قد فهم من الحديث المسح على ما مر وبوب عليه كما سلف
165 - حدثنا ( آدم بن أبي إياس ) قال حدثنا ( شعبة ) قال حدثنا ( محمد بن زياد ) قال سمعت ( أبا هريرة ) وكان يمر بنا والناس يتوضؤن من المطهرة قال أسبغوا الوضوء فان أبا القاسم قال ويل للأعقاب من النار
مطابقة الحديث للترجمة في قوله ويل للأعقاب من النار
بيان رجاله وهم اربعة الأول آدم بن أبي إياس بكسر الهمزة وتخفيف الياء آخر الحروف وقد مر الثاني شعبة بن الحجاج وقد تقدم الثالث محمد بن زياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف أبو الحارث الجمحي المدني الأصل سكن البصرة مولى عثمان بن مظعون بالظاء المعجمة تابعي ثقة روى له الجماعة الرابع أبو هريرة رضي الله تعالى عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والسماع ومنها أنه من رباعيات البخاري ومنها أن رواته ما بين خراساني وبصري ومدني
بيان من أخرجه غيره أخرجه مسلم في الطهارة عن قتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب ثلاثتهم عن وكيع عن شعبة وأخرجه النسائي فيه أيضا عن قتيبة عن يزيد بن زريع وعن مؤمل بن هشام عن إسماعيل ابن علية كلاهما عن وكيع عن شعبة
بيان اللغات قوله المطهرة بكسر الميم وفتحها الأداوة والفتح أعلى ويجمع على مظاهر وفي الحديث السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) قوله أسبغوا الوضوء من الإسباغ وهو إبلاغه مواضعه وإيفاء كل عضو حقه والتركيب يدل على تمام الشيء وكماله قوله للأعقاب جمع عقب وقد مر تفسيره مستوفى
بيان الإعراب قوله وكان يمر بنا جملة وقعت حالا من مفعول سمعت وهو قوله أبا هريرة والضمير في كان يرجع إليه وهو اسمه وقوله يمر بنا جملة في محل النصب على أنها خبر له قوله والناس مبتدأ و يتوضؤن خبره والجملة حال من فاعل كان وهو إما من الأحوال المتداخلة وأما من الأحوال المترادفة قوله فقال إلى آخره قائله أبو هريرة ويروي قال بدون الفاء فإن

(3/23)


قلت ما وجه اعرابه على الوجهين قلت وجه وجود الفاء أن تكون الفاء تفسيرية لأنها تفسر قال المحذوفة بعد قوله أبا هريرة لان تقدير الكلام سمعت أبا هريرة قال وكان يمر بنا إلى آخره وإنما قلنا ذلك لأن أبا هريرة مفعول سمعت وشرط وقوع الذات مفعول فعل السماع أن يكون مقيدا بالقول ونحوه كقوله تعالى سمعنا مناديا ينادي ( آل عمران 193 ) ووجه عدم الفاء أن يكون قال حالا من ابي هريرة والتقدير سمعت أبا هريرة حال كونه قائلا أسبغوا الوضوء قوله فإن أبا القاسم الفاء للتعليل و أبو القاسم كنية رسول الله قوله قال جملة في محل الرفع على أنها خبر أن قوله ويل للاعقاب من النار مقول القول وإعرابه مر غير مرة مع سائر أبحاثه
30 -
( باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين )
أي هذا باب في بيان حكم غسل الرجلين حال كونهما في النعلين
والمناسبة بين البابين ظاهرة وهي أن كلا منهما في بيان حكم غسل الرجلين حال كونهما في النعلين لأن الباب الأول في غسل الأعقاب وهي من الرجلين
166 - حدثنا ( عبد الله بن يوسف ) قال أخبرنا ( مالك ) عن ( سعيد المقبري ) عن ( عبيد بن جريح ) أنه قال لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها قال وما هي يا ابن جريج قال رأيتك لا تمس من الاركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية قال عبد الله أم الاركان فاني لم أر رسول الله يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فاني رأيت رسول الله يلبس النعل التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فانا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فاني رأيت رسول الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها وأما الاهلال فاني لم أر رسول الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته
مطابقة الحديث للترجمة في قوله ويتوضأ فيها فإن ظاهره كان عليه الصلاة و السلام يغسل رجليه وهما في نعلين لأن قوله فيها أي في النعال ظرف لقوله يتوضأ وبهذا يرد على من زعم ليس في الحديث الذي ذكره تصريح بذلك وإنما هو من قوله يتوضأ فيها لأن الأصل في الوضوء الغسل قلت ما يريد هذا من التصريح أقوى من هذا وقوله ولأن فيها يدل على الغسل ولو أريد المسح لقال عليها وهذا التعليل يرد عليه قوله ليس في الحديث الذي ذكره تصريح بذلك وهذا من العجائب حيث ادعى عدم التصريح ثم أقام دليلا عليه وقال الإسماعيلي فيما ذكره البخاري في النعلين والوضوء فيهما نظر قلت وفي نظره نظر ووجهه ما قررناه الآن قوله ولا يمسح على النعلين أشار بذلك إلى نفي ما روي عن علي وغيره من الصحابة أنهم مسحوا على نعالهم ثم صلوا وروي في ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة في الوضوء لكن ضعفه عبد الرحمن بن مهدي وغيره وروي عن ابن عمر أنه كان إذا توضأ ونعلاه في قدمية مسح ظهور نعليه بيديه ويقول كان رسول الله يصنع هكذا أخرجه الطحاوي والبزار وروي في حديث رواه علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع أنه كان جالسا عند النبي عليه الصلاة و السلام وفيه ومسح برأسه ورجليه أخرجه الطحاوي والطبراني في ( الكبير ) والجواب عن حديث ابن عمر أنه كان في وضوء متطوع به لا في وضوء واجب عليه وعن حديث رفاعة أن المراد أنه مسح برأسه وخفيه على رجليه واستدل الطحاوي على عدم الإجزاء بالإجماع على أن الخفين إذا تخرقا حتى يبدو القدمان أن المسح لا يجزىء عليهما قال فكذلك النعلان لأنهما لا يغيبان

(3/24)


القدمين قال بعضهم هذا استدلال صحيح ولكنه منازع في نقل الإجماع المذكور وقلت غير منازع فيه لأن مذهب الجمهور أن مخالفة الأقل لا تضر الإجماع ولا يشترط فيه عدد التواتر عند الجمهور وروي الطحاوي حدثنا فهد قال حدثنا محمد ابن سعيد قال حدثنا عبد السلام عن عبد الملك قال قلت لعطاء أبلغك عن أحد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة و السلام انه مسح على القدمين قال لا
بيان رجاله وهم خمسة كلهم ذكروا ما خلا عبيد بن جريج كلاهما مصغر والجرج وعاء يشبه الخرج وهو مدني ثقة مولى ابن تميم وليس بينه وبين عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج نسب وقد يظن أن هذا عمه وليس كذلك
بيان لطائف اسناده منها أنهم كلهم مدنيون ومنها أن فيه رواية الأقران لأن عبيدا وسعيدا تابعيان من طبقة واحدة ومنها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن القعنبي عن مالك وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك وأبو داود في الحج وأخرجه الترمذي في شمائله وأخرجه النسائي في الطهارة وابن ماجه في اللباس فالنسائي عن كريب عن ابن إدريس عن مالك وابن ماجه عن أبي بكر بن ابي شيبة
بيان اللغات والإعراب قوله لا تمس من مسست أمس بكسر الماضي وفتح المستقبل مسا ومسيسا وهو الذي اختاره ثعلب في مسست أمس بكسر الماضي في الفصيح وفي ( الصحاح ) و ( أفعال ) ابن القطاع عن أبي عبيدة والمطرزي في شرحه عن ابن الأعرابي وابن فارس في ( مجمله ) وابن السكيت في ( كتاب الإصلاح ) مسست بالكسر ومسست بالفتح وبالكسر أفصح وحكاه أيضا ابن سيده وحكي أيضا عن ابن جني أمسه إياه عداه إلى مفعولين وعن سيبويه قالوا مسست الشيء وفي ( الجامع ) للقزاز ماسسته أيضا مماسة ومساسا ومساسا بكسر الميم وفتحها وفي ( نوادر ) يونس ماسسته وزعم ابن درستويه في كتاب ( تصحيح الفصيح ) أن مسست بالفتح خطأ مما تلحن فيه العامة قوله اليمانيين تثنية يمان بتخفيف الياء هذا هو الأفصح الذي اختاره ثعلب ولم يذكر ابن فارس غيره وذكر المطرزي في كتابه ( غرائب أسماء الشعر ) عن ثعلب عن سلمة عن الفراء عن الكسائي قال العرب تقول في النسبة إلى اليمن رجل يمان ويمني ويماني وفي ( الكتاب الجامع ) النسبة إلى اليمن يمان على غير قياس والقياس يمني وفي ( المحكم ) يمان على نادر المعدول وألفه عوض عن الياء لأنه يدل على ما تدل عليه الياء وبنحوه ذكره في ( المغرب ) وفي ( الصحاح ) قال سيبويه وبعضهم يقول يماني بالتشديد قال أمية بن خلف
( يمانيا بطل يشد كيرا
وينفخ دائما لهب الشواظ )
وقوم يمانية ويمانون مثل ثمانية وثمانون وفي كتاب ( التيجان ) لابن هشام سميت اليمن يمنا بيعرب واسمه يمن بن قحطان ابن عامر وهو هود عليه الصلاة و السلام فلذلك قيل أرض يمن وهو أول من قال الشعر ووزنه وفي ( معجم ) ابن عبيد سمي اليمن قبل أن تعرف الكعبة المشرفة لأنه عن يمين الشمس وقال ابو عبيد قال بعضهم سميت بذلك لأنها عن يمين الكعبة وقيل سميت بيمن بن قحطان وفي ( الزاهر ) لابن الانباري وقد أيمن ويامن إذا اتى اليمن وفي كتاب الرشاطي سمي اليمن ليمنه وهو يعزى لقطرب قوله السبتية نشبة إلى سبت بكسر السين وسكون الباء الموحدة وفي آخره تاء مثناة من فوق وهو جلد البقر المدبوغ بالقرظ وقال ابو عمر وكل مدبوغ فهو سبت وقال ابو زيد هي السبت مدبوغة وغير مدبوغة وقيل السبتية التي تشعر عليها وقيل التي عليها الشعر وفي الحكم خص بعضهم به جلود البقر مدبوغة أو غير مدبوغة وفي ( التهذيب ) للأزهري إنما سميت سبتية لأن شعرها قد سبت عنها أي خلق وأزيل يقال سبت رأسه إذا حلقه وفي ( النبات ) لأبي حنيفة السبت معرب من سبت وفي ( الغريبين ) سميت سبتة لأنها انسبتت بالدباغ اي لانت وفي كتاب ابن التين عن الداودي نسبته إلى سوق السبت وقيل هي سود لا شعر فيها قوله أهل من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية وفي ( المغرب ) كل شيء ارتفع صوته فقد استهل وقال ابو الخطاب كل متكلم رافع الصوت أو خافضه فهو مهل ومستهل وقال صاحب ( العين ) يقال أهل بعمرة أو بحجة اي أحرم بها وجرى على ألسنتهم لأنهم أكثر ما كانوا يحجون إذا أهل الهلال وإهلال الهلال واستهلاله رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته واستهلال الصبي تصويته عند ولادته وأهل الهلال إذا طلع وأهل واستهل إذا أبصر وأهللته إذا أبصرته

(3/25)


واما الإعراب فقوله رأيتك جملة من الفعل والفاعل والمفعول وقوله تصنع جملة من الفعل والفاعل في محل النصب على انها مفعول ثان وأربعا مفعول تصنع وكذلك الكلام في رأيتك الثاني والثالث وأما رأيتك والخامس فإنه يحتمل أن يكون بمعنى الإبصار وبمعنى العلم وقوله كنت يحتمل أن تكون تامة أو ناقصة و بمكة ظرف لغو أو مستقر وقوله إذا في الموضعين يحتمل أن تكونا شرطيتين وأن تكونا ظرفيتين وأن تكون الأولى شرطية والثانية ظرفية وبالعكس قوله أهل يجوز أن يكون حالا قاله الكرماني ولم يبين وجهه وليس هو إلا جزاء إذا الأول وإذا الثاني مفسر له ويجوز أن يكون أهل جزاء إذا الثاني على مذهب الكوفيين لأنهم جوزوا تقديمه على الشرط قوله حتى يكون يوم التروية يجوز في كان أن تكون تامة وأن تكون ناقصة فإن كانت تامة يكون يوم مرفوعا لأنه إسم كان وإن كانت ناقصة تكون خبر كان قال الكرماني فإن قلت ذكر في جواب كل واحد من رأيتك الأربع فعلا رآه منه فما هو ههنا يعني في رأيتك الخامس وكان القياس أن يقول رأيتك لم تهل حتى كان يوم التروية قلت أما أن يكون محذوفا والمذكور دليل عليه وإما أن تكون الشرطية قائمة مقامه قلت هذا السؤال لا وجه له وما وجه القياس الذي ذكره
بيان المعاني قوله أربعا أي أربع خصال قوله لم أر أحدا من اصحابك يصنعها يحتمل أن يكون مراده لا يصنعن أحد غيرك مجتمعة وإن كان يصنع بعضها وفي بعض النسخ من اصحابنا أي من اصحاب رسول الله وفي بعض النسخ ومن أصحابك قوله من الأركان أي من أركان الكعبة الأربعة واليمانيين الركن اليماني والركن اليماني الذي فيه الحجر الأسود ويقال له الركن العراقي لكونه إلى جهة العراق والذي قبله يماني لأنه من جهة اليمن ويقال لهما اليمانيان تغليبا لأحد الاسمين وهما باقيان على قواعد إبراهيم فان قلت لم لا قالوا الأسودين ويأتي فيه التغليب أيضا قلت لو قيل كذلك ربما كان يشتبه على بعض العوام أن في كل من هذين الركنين الحجر الأسود وكان يفهم التثنية ولا يفهم التغليب لقصور فهمه بخلاف اليمانيين قوله يلبس بفتح الباء لأنه من باب فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل من باب علم يعلم وأما الذي بفتح الباء في الماضي فمضارعه بكسر الباء من باب ضرب يضرب فمصدر الأول اللبس بضم اللام ومصدر الثاني اللبس بالفتح وهو الخلط قوله تصبغ بضم الباء الموحدة وفتحها لغتان مشهورتان قال الكرماني قلت فيه ثلاث لغات ذكرها ابن سيده في ( المحكم ) يقال صبغ الثوب والشيب ونحوهما يصبغه ويصبغه فالكسر عن اللحياني صبغا وصبغا وصبغة وأما الصبغة بالكسر فالمرة من الصبغ وصبغه بالتشديد أي لونه عن ابي حنيفة قوله حتى كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة واختلفوا في سبب التسمية بذلك على قولين حكاهما الماوردي وغيره أحدهما لأن الناس يروون فيه من الماء من زمزم لأنه لم يكن بمنى ولا بعرفة ماء والثاني أنه اليوم الذي رأى فيه آدم حواء قلت وفيه قول أخر وهو أن جبريل عليه الصلاة و السلام ارى فيه إبراهيم أول المناسك وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سمي بذلك لأن ابراهيم عليه الصلاة و السلام أتاه الوحي في منامه أن يذبح ابنه فتروى في نفسه من الله تعالى هذا أم من الشيطان فأصبح صائما فلما كان ليلة عرفة أتاه الوحي فعرف أنه الحق من ربه فسميت عرفة رواه البيهقي في ( فضائل الاوقات ) من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه ثم قال هكذا قال في هذه الرواية وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام لما ابتلي بذبح ابنه أتاه جبريل عليه الصلاة و السلام فأراه مناسك الحج ثم ذهب به إلى عرفة قال وقال ابن عباس سميت عرفة لأن جبريل قال لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام هل عرفت قال نعم فمن ثم سميت عرفة قوله حتى تنبعث به راحلته يقال بعثت الناقة أثرتها فانبعثت هي وبعثه فانبعث في السير أي أسرع والمعنى هنا استواؤها قائمة وفي الحقيقة هو كناية عن ابتداء الشروع في أفعال الحج والراحلة هي المركب من الإبل ذكرا كان أو انثى قوله ولم تهل أنت حتى كان وفي رواية مسلم حتى تكون قوله قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما لأنه هو المسؤول من جهة عبيد بن جريج قوله فإني أحب أن أصنع وفي رواية الكشميهني والباقين فأنا أحب كالتي قبلها

(3/26)


بيان استنباط الاحكام الأول أن فيه مس الركنين اليمانيين قال القاضي عياض اتفق الفقهاء اليوم على أن الركنين الشاميين وهما مقابلا اليمانيين لا يستلمان وإنما كان الخلاف فيه في العصر الأول بين بعض الصحابة وبعض التابعين ثم ذهب الخلاف وتخصيص الركنين اليمانين بالاستلام لأنهما كانا على قواعد إبراهيم بخلاف الركنين الآخرين لأنهما ليسا على قواعد ابراهيم ولما ردهما عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على قواعد إبراهيم استلمها أيضا لو بني الآن كذلك استلمت كلها اقتداء به صرح به القاضي عياض وركن الحجر الأسود خص بشيئين الاستلام والتقبيل والركن الآخر خص بالاستلام فقط والآخران لا يقبلان ولا يستلمان وكان بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين يمسحهما على وجه الاستحباب وقال ابن عبد البر روي عن جابر وأنس وابن الزبير والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها وعن عروة مثل ذلك واختلف عن معاوية وابن عباس في ذلك وقال أحدهما ليس بشيء من البيت مهجورا والصحيح عن ابن عباس أنه كان يقول إلا الركن الأسود واليماني وهما المعروفان باليمانيين ولما رأى عبيد بن جريج جماعة يفعلون على خلاف ابن عمر سأله عن ذلك
الثاني في حكم النعال السبتيه قال ابو عمر لا أعلم خلافا في جواز لبسها في غير المقابر وحكي عن ابن عمر أنه روى عن رسول الله أنه لبسها وإنما كره قوم لبسها في المقابر لقوله لذلك الماشي بين المقابر ألق سبيتك وقال قوم يجوز ذلك ولو كان في المقابر لقوله اذا وقع الميت في قبره انه يسمع قرع نعالهم وقال الحكيم الترمذي في ( نوادر الاصول ) إن النبي إنما قال لذلك الرجل إلق سبتيتك لأن الميت كان يسأل فلما صر نعل ذلك الرجل شغله عن جواب الملكين فكاد يهلك لولا أن ثبته الله تعالى
الثالث الصبغ بالصفرة ولفظ الحديث يشمل صبغ الثياب وصبغ الشعر واختلفوا في المراد منهما فقال القاضي عياض الأظهر أن المراد ضبغ الثياب لأنه أخبر أنه صبغ ولم يقل إنه صبغ شعره قلت جاءت آثار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بين فيها تصفير ابن عمر لحيته واحتج بأنه عليه الصلاة و السلام كان يصفر لحيته بالورس والزعفران أخرجه أبو داود وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه به بأنه عليه الصلاة و السلام كان يصبغ بهما ثيابه حتى عمامته وكان أكثر الصحابة والتابعين يخضب بالصفرة منهم أبو هريرة وآخرون ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه الرابع فيه حكم الإهلال واختلف فيه فعند البعض الأفضل أن يهل لاستقبال ذي الحجة وعند الشافعي الأفضل أن يحرم إذا انبعثت راحلته وبه قال مالك وأحمد وقال ابو حنيفة رضي الله تعالى عنه يحرم عقيب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته وقبل قيامه وفيه حديث من رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال بعض الشراح وهو ضعيف قلت حديث ابن عباس رواه أبو داود حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا يعقوب يعني ابن ابراهيم قال حدثنا ابي عن ابن اسحاق قال حدثنا خصيف ابن عبد الرحمن الجزري عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس يا ابن العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله في إهلال رسول الله حين أوجب فقال إني لأعلم الناس بذلك إنها إنما كانت من رسول الله حجة واحدة فمن معنا هناك اختلفوا خرج رسول الله حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا إنما أهل رسول الله حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله فلما علا شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا إنما أهل حين علا شرف البيداء وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته وأهل حين علا شرف البيداء قال سعيد فمن أخذ بقول ابن عباس أهل في مصلاة إذا فرغ من ركعتيه وأخرج الحاكم في ( مستدركه ) نحوه ثم قال هذا الحديث صحيح على شرط مسلم مفسر في الباب ولم يخرجاه وأخرجه الطحاوي ثم قال وبين ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الوجه الذي منه جاء الاختلاف وأن إهلال النبي الذي ابتدأ بالحج ودخل به فيه كان في مصلاة فبهذا نأخذ فينبغي للرجل إذا أراد الإحرام أن يصلي ركعتين ثم يحرم في دبرهما كما فعل رسول الله وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وقد ذكر الطحاوي هذا بعد أن ذكر اختلاف العلماء فروى أولا عن ابن عباس أن رسول الله صلى بذي الخليفة

(3/27)


ثم أتى براحلته فركبها فلما استوت به البيداء أهل ثم قال فذهب قوم إلى هذا فاستحبوا الإحرام من اليبداء لإحرام النبي عليه الصلاة و السلام منها وأراد بالقوم هؤلاء الأوزاعي وعطاء وقتادة وخالفهم في ذلك آخرون وأراد بهم الأئمة الاربعة وأكثر أصحابهم فإنهم قالوا سنة الإحرام أن يكون من ذي الحليفة وفي ( شرح الموطأ ) استحب مالك وأكثر الفقهاء أن يهل الراكب إذا استوت به راحلته قائمة واستحب أبو حنيفة أن يكون إهلاله عقب الصلاة إذا سلم منها وقال الشافعي يهل إذا أخذت ناقته في المشي وحين كان يركب راحلته قائمة كما يفعله كثير من الحجاج اليوم وقال عياض جاء في رواية اهل رسول الله عليه الصلاة و السلام إذا استوت الناقة وفي رواية أخرى حتى استوت به راحلته وفي أخرى حتى تنبعث به ناقته وكل ذلك متفق عليه ثم قال الطحاوي أجاب هؤلاء عما قاله أهل المقالة الاولى من استحباب الإحرام من البيداء وحاصله لا نسلم أن إحرامه عليه الصلاة و السلام من البيداء يدل على استحباب ذلك وأنه فضيلة اختارها رسول الله لأنه يجوز أن يكون ذلك لا القصد أن للاحرام منها فضيلة على الإحرام من غيرها وقد فعل عليه الصلاة و السلام في حجته في مواضع لا لفضل قصده ومن ذلك نزوله بالمحصب وروى عطاء عن ابن عباس قال ليس المحصب بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله عليه الصلاة و السلام فلما حصب رسول الله عليه السلام ولم يكن ذلك لأنه سنة فكذلك يجوز أن يكون إحرامه من البيداء كذلك قال وأنكر قوم أن يكون رسول الله أحرم من البيداء وقالوا ما أحرم إلا من المسجد وأراد بالقوم هؤلاء الزهري وعبد الملك بن جريج وعبد الله بن وهب ورووا في ذلك ما رواه مالك عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه أنه قال بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله عليه الصلاة و السلام أنه أهل منها ما أهل رسول الله عليه الصلاة و السلام إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة أخرجه الطحاوي عن يزيد بن سنان عن عبد الله بن مسلم عن مالك عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه وأخرجه الترمذي أيضا فان قلت كيف يجوز لابن عمر أن يطلق الكذب على الصحابة قلت الكذب يجيء بمعنى الخطأ لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب كما أن ضد الكذب الصدق وافترقا من حيث النية والقصد لأن الكاذب يعلم أن الذي يقوله كذب والمخطىء لا يعلم ولا يظن به أنه كان ينسب الصحابة إلى الكذب قال الطحاوي فلما جاء هذا الاختلاف بين ابن عباس الوجه الذي جاء منه الاختلاف كما ذكرنا آنفا
31 -
( باب التيمن في الوضوء والغسل )
أي هذا باب في باين التيمن في الوضوء والغسل والتيمن هو الأخذ باليمين
والمناسبة بين الأبواب ظاهرة من حيث إن الأبواب الماضية في أحكام الوضوء والتيمن أيضا من أحكامه ولا سيما بينه وبين الباب الذي قبله لأنه في غسل الرجلين وفيه التيمن أيضا سنة أو مستحب
167 - حدثنا ( مسدد ) قال حدثنا ( إسماعيل ) قال حدثنا ( خالد ) عن ( حفصة بنت سيرين ) عن أم ( عطية ) قالت قال النبي لهن في غسل ابنته ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها
مطابقة الحديث للترجمة في قوله بميامنها لأن الامر بالتيمن في التغسيل والتوضئة كليهما مستفاد من عموم اللفظ
بيان رجاله وهم خمسة الأول مسدد بن مسرهد وقد ذكر الثاني اسماعيل هو ابن علية وقد مر الثالث خالد الحذاء وقد مضى الرابع حفصة بنت سيرين الأنصارية أخت محمد بن سيرين الخامس أم عطية بنت كعب ويقال بنت الحارث الأنصارية واسمها نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وفي آخره هاء وحكي فتح النون مع كسر السين يعني يحيى بن معين ولها صحبة ورواية تعد في أهل البصرة وكانت تغسل الموتى وتمرض المرضى وتداوي الجرحى وتغزو مع رسول الله عليه الصلاة و السلام غزت معه سبع غزوات وشهدت خيبر

(3/28)


وكان علي رضي الله تعالى عنه يقيل عندها وكانت تنتف إبطه بورسة لها أربعون حديثا اتفقا على سبعة أو ستة وللبخاري حديث ولمسلم آخر روى لها الجماعة
بيان لطائف اسناده منها أن رواته كلهم بصريون ومنها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن فيه رواية التابعية عن الصحابية
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الجنائز عن محمد بن عبد الوهاب الثقفي وعن حامد بن عمر عن حماد بن زيد كلاهما عن أيوب به وحديث الثقفي أتم وأخرجه مسلم والنسائي جميعا فيه عن قتيبة عن حماد بن زيد به وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن الثقفي به
بيان المعاني قوله لهن أي لأم عطية ولمن معها قوله في غسل ابنته أي صفة غسل ابنته قيل اسمها أم كلثوم زوج عثمان بن عفان غسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب وشهدت أم عطية غسلها وذكرت قوله عليه السلام في كيفية غسلها وفي ( صحيح مسلم ) أنها زينب رضي الله تعالى عنها بنت رسول الله وماتت في السنة الثانية ولما نقل القاضي عياض عن بعض أهل السير أنها أم كلثوم قال الصواب زينب كما صرح به مسلم في روايته وقد يجمع بينهما بأنها غسلت زينب وحضرت غسل أم كلثوم وذكر المنذري في حواشيه أن أم كلثوم توفيت ورسول الله ببدر غائب وغلط في ذلك فتلك رقية ولما دفن أم كلثوم قال عليه الصلاة و السلام دفن البنات من المكرمات والعجب من الكرماني أنه يقول قال النووي في ( تهذيب الأسماء ) إن المغسولة اسمها زينب وهذا مسلم قد صرح به فكأنه ما كان ينظر فيه حتى نسب ذاك إلى النووي
بيان استنباط الأحكام الأول استحباب الوضوء في أو غسل الميت عملا بقوله ومواضع الوضوء منها ونقل النووي عن ابي حنيفة عدم إستحبابه قلت هذا غير صحيح ففي كتبنا مثل ( القدوري ) و ( الهداية ) يذكر ذلك قال في ( الهداية ) لأن ذلك من سنة الغسل غير أنه لا يمضمض ولا يستنشق لأن إخراج الماء من فمه متعذر وهل يتوضأ في الغسلة الأولى أو الثانية أو فيهما فيه خلاف للمالكية حكاه القرطبي
الثاني استحباب تقديم الميامن في غسل الميت ويلحق به الطهارات وبه تشعر ترجمة البخاري وكذا أنواع الفضائل والأحاديث فيه كثيرة وبالاستحباب قال أكثر العلماء وقال ابن حزم ولا بد من البدء بالميامن وقال ابن سيرين يبدأ بمواضع الوضوء ثم بالميامن وقال أبو قلابة يبدأ بالرأس ثم باللحية ثم بالميامن
الثالث فيه فضل اليمين على الشمال ألا ترى قوله عليه الصلاة و السلام حاكيا عن ربه وكلتا يديه يمين وقال تعالى فاما من أوتي كتابه بيمينه ( سورة الحاقة الآية 19 وسورة الانشقاق الآية 7 ) وهم أهل الجنة
168 - حدثنا ( حفص بن عمر ) قال حدثنا ( شعبة ) قال أخبرني ( أشعث بن سليم ) قال سمعت أبي عن ( مسروق ) عن ( عائشة ) قالت كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله
فيه المطابقة للترجمة لأن فيه إعجابه عليه الصلاة و السلام في شأنه كله وهو بعمومه يتناول استحباب التيامن في كل شيء في الوضوء والغسل والتغسيل وغير ذلك
أما المناسبة بين الحديثين فظاهرة
بيان رجاله وهم ستة الأول حفص ابن عمر الحوضي البصري الثبت الحجة قال احمد لا يؤخذ عليه حرف مات سنة خمس وعشرين ومائتين بالبصرة وليس في البخاري حفص بن عمر غيره وفي السنن مفرقا جماعات الثاني شعبة بن الحجاج وقد مر ذكره الثالث أشعث بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة وفي آخره ثاء مثلثة ابن سليم بالتصغير من ثقات شيوخ الكوفيين وهو الرابع من الرواة وهو سليم بن الأسود المحاربي بضم الميم الكوفي أبو الشعثاء وشهرته بكنيته أكثر من اسمه الخامس مسروق بن الأجدع الكوفي أبو عائشة أسلم قبل وفاة النبي وأدرك الصدر الأول من الصحابة وكانت عائشة أم المؤمنين قد تبنت مسروقا فسمى ابنته عائشة فكني بأبي عائشة وقد مر في باب علامات المنافق السادس أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

(3/29)


بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي ومنها أن فيه رواية الابن عن الأب ومنها أن فيه كبيرين قرينين من اتباع التابعين وهما أشعث وشعبة ومنها أن فيه كبيرين قرينين من كبار التابعين وهما سليم ومسروق
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن سليمان ابن حرب وفي اللباس عن أبي الوليد وحجاج بن المنهال وفي الأطعمة عن عبدان عن عبد الله بن المبارك خمستهم عن شعبة عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه به وأخرجه مسلم في الطهارة عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه شعبة به وعن يحيى بن يحيى عن أبي الأحوص عن أشعث به وأخرجه أبو داود في اللباس عن حفص بن عمر وسلمة بن إبراهيم كلاهما عن شعبة به وأخرجه الترمذي في آخر الصلاة عن هناد بن السري عن أبي الأحوص به وقال حسن صحيح وفي الشمائل عن أبي موسى عن غندر عن شعبة به وأخرجه النسائي في الطهارة وفي الزينة عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث وعن سويد بن نصر عن ابن المبارك كلاهما عن شعبة به وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن هناد به وعن سفيان بن وكيع عن عمر بن عبيد عن أشعث به
بيان اللغات قوله يعجبه من الإعجاب يقال أعجبني هذا الشيء لحسنه والعجيب الأمر الذي يتعجب منه وكذلك العجاب بالضم والتخفيف وبالتشديد أكثر منه وكذلك الأعجوبة وعجبت من كذا وتعجبت منه واستعجبت بمعنى والمصدر العجب بفتحتين وأما العجب بضم العين وسكون الجيم فهو اسم من أعجب فلان بنفسه فهو معجب بفتح الجيم برأيه وبنفسه وأما العجب بفتح العين وسكون الجيم فهو أصل الذنب قوله التيمن هو الأخذ باليمين في الأشياء قوله تنعله أي في لبسه النعل وهي التي تلبس في المشي تسمى الآن تأسومه قاله ابن الاثير وهي مؤنثة يقال نعلت وأنتعلت إذا لبست النعل وانعلب الخيل بالهمزة ومنه الحديث إن غسان تنعل خيلها وفي روايات البخاري كلها في تنعله بفتح التاء المثناة من فوق وفتح النون وتشديد العين وهكذا ذكره الحميدي والحافظ عبد الحق في كتابيهما ( الجمع بين الصحيحين ) وفي رواية مسلم في نعله على إفراد النعل وفي بعض الروايات نعليه بالتثنية وقال النووي وهما صحيحان ولم ير في شيء من نسخ بلادنا غير هذين الوجهين قلت الروايات كلها صحيحة قوله وترجله أي في تمشيطه الشعر وهو تسريحه وهو أعم من أن يكون في الرأس وفي اللحية وقال بعضهم وهو تسريحه ودهنه قلت اللفظ لا يدل على الدهن فهذا التفسير من عنده ولم يفسره أهل اللغة كذلك وفي ( المغرب ) للمطرزي رجل شعره أي أرسله بالمرجل وهو المشط وترجل فعل ذلك بنفسه ويقال شعر رجل ورجل وهو السبوطة والجعودة وقد رجل رجلا ورجله هو ورجل رجل الشعر ورجل وجمعها أرجال ورجال ذكره ابن سيده في ( المحكم ) فانظر هل ترى شيئا فيه هذه المواد يدل على الدهن والمرجل بكسر الميم المشط وكذلك المسرح بالكسر ذكره في ( الغريبين ) قوله وطهوره قال الكرماني هو بصم الطاء ولا يجوز فتحها هنا قلت لا نسلم هذا على الإطلاق لأن الخليل والأصمعي وابا حاتم السجستاني والأزهري وآخرين ذهبوا إلى أن الطهور بالفتح في الفعل الذي هو المصدر والماء الذي يتطهر به وقال صاحب ( المطالع ) وحكي الضم فيهما والفرق المذكور نقله ابن الأنباري عن جماعة من أهل اللغة فإذا كان كذلك فقول الكرماني ولا يجوز فتحها غير صحيح على الإطلاق قوله في شأنه الشأن هو الحال والخطب وأصله الشأن بالهمزة الساكنة في وسطه ولكنها سهلت بقلبها ألفا لكثرة استعماله والشأن أيضا واحد الشؤون وهي مواصل قبائل الرأس وملتقاها ومنها تجيء الدموع
بيان الإعراب قوله يعجبه فعل ومفعول و التيمن فاعله والجملة في محل النصب على أنها خبر كان قوله في تنعله في محل النصب على الحال من الضمير المنصوب الذي في يعجبه والتقدير كان يعجبه التيمن حال كونه لابسا النعل ويجوز أن يكون من التيمن أي يعجبه التيمن حال كون التيمن في تنعله قوله وترجله عطف على تنعله و ظهوره عطف على ترجله قوله في شأنه بدل من الثلاثة المذكورة قبله بدل الاشتمال والشرط في بدل الاشتمال أن يكون المبدل منه مشتملا على الثاني أي متقاضيا له بوجه ما وههنا كذلك على ما لا يخفي وإذا لم يكن المبدل منه مشتملا على الثاني يكون بدل الغلط وإنما قيل لهذا بدل الاشتمال من حيث اشتمال المتبوع على التابع لا كاشتمال الظرف

(3/30)


على المظروف بل من حيث كونه دالا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما والعجب من الكرماني حيث نفى كونه بدل الاشتمال لكون الشرط أن يكون بينهما ملابسة بغير الجزئية والكلية وههنا الشرط منتف ثم يقول ما قولك فيه ثم يجيب بأنه بدل الاشتمال وههنا الملابسة موجودة ومع هذا قوله لكون الشرط إلى آخره ليس على الإطلاق لأنه يدخل فيه بعض الغلط نحو جاءني زيد غلامه أو حماره ولقيت زيدا أخاه ولا شك في كونها بدل الغلط ومن العجيب أيضا أنه قال ولا يجوز أن يكون بدل الغلط لأنه لا يقع في فصيح الكلام ثم قال أو هو بدل الغلط وقد يقع في الكلام الفصيح قليلا ولا منافاة بين الغلط والبلاغة قلت لا يقع بدل الغلط الصرف ولا بدل النسيان في كلام الفصحاء وإنما يقع بدل البداء في كلام الشعراء للمبالغة والتفنن وبدل البداء أن يذكر المبدل منه عن قصد وتعمد ثم يتدارك بالثاني ويدل الصرف وهو يدل على غلط صريح فيما إذا أردت أن تقول جاءني حمار فيسبقك لسانك إلى رجل ثم تداركت الغلط فقلت حمار وبدل النسيان أن تتعمد ذكر ما هو غلط ولا يسبقك لسانك إلى ذكره لكن تنسى المقصود ثم بعد ذلك تتداركه بذكر المقصود فمن هذا عرفت أن أنواع بدل الغلط ثلاثة فإن قلت في رواية ابي الوقت وفي شأنه بإثبات الواو قلت على هذا يكون عطف العام على الخاص وهو ظاهر فان قلت هل يجوز أن تقدر الواو وفي الرواية الخالية عن الواو قلت جوزه بعض النحاة إذا قامت قرينة عليه وقال بعضهم ناقلا عن الكرماني من غير تصريح به قوله في شأنه كله بدون الواو متعلق بيعجبه لا بالتيمن أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله إلى آخره أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا ولا في فراغة ولا شغله ونحو ذلك قلت كلام الناقل والمنقول منه ساقط لأنه يلزم منه أن يكون إعجابه التيمن في هذه الثلاثة مخصوصة في حالاته كلها وليس كذلك بل كان يعجبه التيمن في كل الأشياء في جميع الحالات ألا ترى أنه أكد الشأن بمؤكد والشأن بمعنى الحال والمعنى في جميع حالاته ثم قال هذا الناقل وقال الطيبي في قوله في شأنه بدل من قوله في تنعله بإعادة العامل وكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل والترجل لتعلقه بالرأس والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة فكأنه نبه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل قلت هذا لم يتأمل كلام الطيبي لأن كلامه ليس على رواية البخاري وإنما هو على رواية مسلم وهي كان رسول الله عليه الصلاة و السلام يحب التيمن في شأنه كله في تنعله وترجله لأن صاحب المشكاة نقل عبارة مسلم وقال الطيبي في شرحه بهذه العبارة أقول قوله في طهوره وترجله وتنعله بدل من قوله في شأنه بإعادة العامل ولعله إنما بدأ فيها بذكر الطهور لأنه فتح لأبواب الطاعات كلها وثنى بذكر الترجل وهو يتعلق بالرأس وثلث بالتنعل وهو مختص بالرجل ليشمل جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل والعجب من هذا الناقل أنه لما نقل كلام الطيبي على رواية مسلم ثم قال ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله في شأنه كله على قوله في تنعله إلى آخره قال فيكون بدل البعض من الكل فكأنه ظن أن كلام الطيبي من الرواية التي فيها ذكر الشان متأخرا كما هي رواية البخاري هنا ثم قال ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله في شأنه وهذا كما ترى فيه خبط ظاهر
بيان المعاني قوله التيمن لفظ مشترك ترك بين الابتداء باليمين وبين تعاطي الشيء باليمين وبين التبرك وبين قصد اليمن ولكن القرينة دلت على أن المراد المعنى الأول قوله في تنعله إلى آخره زاد أبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة وسواكه وفي رواية لأبي داود كان يحب التيامن ما استطاع في شأنه وفي رواية للبخاري أيضا عن شعبة ما استطاع فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع وفي رواية ابن حبان كان يحب التيامن في كل شيء حتى في الترجل والانتعال وفي رواية ابن منده كان يحب التيامن في الوضوء والانتعال قوله كله تأكيد لقوله في شأنه فإن قلت ما وجه التأكيد وقد استحب التياسر في بعض الأفعال كدخول الخلاء ونحوه قلت هذا عام مخصوص بالأدلة الخارجية قال الكرماني وما من عام إلا وقد خص إلا والله بكل شيء عليم ( البقرة 282 النساء 2176 النور 35 و 64 الحجرات 16 التغابن 11 ) قلت إن أراد به أنه يقبل التخصيص أو يحتمله فمسلم وإن أراد بالإطلاق ففيه نظر وقال الشيخ محيي الدين هذه قاعدة مستمرة في الشرع وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب والسراويل والخف ودخول المسجد والسواك والاكتحال وتقليم الأظافر وقص الشارب وترجيل الشعر ونتف

(3/31)


الابط وحلق الراس والسلام من الصلاة وغسل أعضاء الطهارة والخروج إلى الخلاء والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن فيه وأما ما كان بضده كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والخف وما أشبه ذلك فيستحب التياسر فيه ويقال حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصودا وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إما تروك وإما غير مقصودة
بيان استنباط الأحكام الأول فيه الدلالة على شرف اليمين وقد مر في معنى الحديث السابق الثاني فيه استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الرتجل والغسل والحلق فإن قلت هو من باب الإزالة فكان ينبغي أن يبدأ بالأيسر قلت لا بل هو من باب التزيين والتجميل الثالث فيه استحباب البداية في التنعل والتخفف كذلك الرابع فيه استحباب البداءة باليمين في الوضوء وقال ابن المنذر أجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره في وضوئه قبل يمينه وروينا عن علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا لا تبالي بأي شيء بدأت زاد الدارقطني أبا هريرة ونقل المرتضى الشيعة عن الشافعي في ( القديم ) وجوب تقديم اليمين على اليسرى ونسب المرتضى في ذلك إلى الغلط فكأنه ظن أن ذلك لازم من وجوب الترتيب عند الشافعي وقال قع النوويقع أجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل وتم وضوؤه والمراد من قوله العلماء أهل السنة لأن مذهب الشيعة الوجوب وقد صحف العمراني في ( البيان ) والبندنيجي في ( التجريد ) الشيعة بالشين المعجمة بالسبعة من العدد في نسبتها القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة وفي كلام الرافعي أيضا ما يوهم أن أحمد بن حنبل قال بوجوبه وليس كذلك لأن صاحب ( المغني ) قال لا نعلم في عدم الوجوب خلافا فإن قلت روى أبو داود والترمذي بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم وفي أكثر طرقه بأيامنكم جمع أيمن إذا لبستم وإذا توضأتم قلت الأمر فيه للاستحباب وقال النووي واعلم أن الابتداء باليسار وإن كان مجزئا فهو مكروه نص عليه الشافعي رضي الله عنه في ( الام ) وقال ايضا ثم اعلم أن من الأعضاء في والوضوء ما لا يستحب فيه التيامن وهو الأذنان والكفان والخدان بل يطهران دفعة واحدة فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه قدم اليمين ومما روي في هذا الباب عن ابن عمر قال خير المسجد المقام ثم ميامن المسجد وقال سعيد بن المسيب يصلي في الشق الأيمن من المسجد وكان إبراهيم يعجبه أن يقوم عن يمين الإمام وكان أنس يصلي في الشق الأيمن وكذا عن الحسن وابن سيرين
32 -
( باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة )
أي هذا باب في بيان التماس الوضوء إذا حانت الصلاة والوضوء بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به قوله اذا حانت أي قربت يقال حان حينه أي قرب وقته
وجه المناسبة بين البابين ما يأتي إلا بالجر الثقيل وهو أن المذكور في الباب السابق طلب التيمن لأجل الوضوء والغسل وههنا طلب الماء لأجل الوضوء
وقالت عائشة حضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزل التيمم
مطابقة الحديث للترجمة في قوله فالتمس الماء وفي قوله فالتمس الناس الوضوء وهذا تعليق صحيح لأنه أخرجه في كتابه مسندا في مواضع شتى وهو قطعة من حديثها في قصة نزول آية التيمم ذكره في كتاب التيمم قوله حضرت الصبح القياس حضر الصبح لأنه مذكر والتأنيث باعتبار صلاة الصبح قوله فالتمس بضم التاء على صيغة المجهول قوله فنزل التيمم أي فنزلت آية التيمم وإسناد النزول إلى التيمم مجاز عقلي
169 - حدثنا ( عبد الله بن يوسف ) قال أخبرنا ( مالك ) عن ( إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) عن ( أنس بن مالك ) أنه قال رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس

(3/32)


الناس الوضوء فلم يجدوه فأوتي رسول الله بوضوء فوضع رسول الله في ذلك الاناء يده وأمر الناس أن يتوضؤا منه قال فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضؤا من عند آخرهم
وجه مطابقته للترجمة ما ذكرناه
بيان رجاله وهم أربعة قد ذكروا كلهم وهو من رباعيات البخاري وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن رواته ما بين تنيسي ومدني وبصري فعبد الله بن يوسف شامي نزل تنيس بلدة بساحل البحر الملح بالقرب من دمياط واليوم خراب ومالك بن أنس وإسحاق مدنيان وأنس بن مالك يعد من أهل البصرة ومنها أن إسناده قريب إلى النبي عليه الصلاة و السلام
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة عن القعنبي وأخرجه مسلم في الفضائل عن إسحاق بن موسى الأنصاري عن معن وعن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح عن ابن وهب وأخرجه الترمذي في المناقب عن إسحاق بن موسى عن معن وأخرجه النسائي في الطهارة عن قتيبة خمستهم عنه به وقال الترمذي حديث حسن صحيح
بيان لغاته وإعرابه قوله حانت بالحاء المهملة أي قرب وقت صلاة العصر وزاد قتادة وهو بالزوراء وهو سوق بالمدينة قوله فالتمس الناس الالتماس الطلب قوله الوضوء بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به وكذا قوله فاتوا رسول الله بوضوء بالفتح قوله ينبع فيه ثلاث لغات ضم الباء الموحدة وكسرها وفتحها ومعناه يخرج مثل ما يخرج من العين قوله من بين أصابعه جمع أصبع فيه لغات إصبع بكسر الهمزة وضمها والباء مفتوحة فيهما ولك أن تتبع الضمة الضمة والكسرة الكسرة
وأما الإعراب فقوله رأيت رسول الله بمعنى أبصرت فلذلك اقتصر على مفعول واحد قوله وحانت الواو فيه للحال والتقدير والحال أنه قد حانت صلاة العصر قوله فلم يجدوه بالضمير المنصوب رواية الكشميهني وفي رواية غيره فلم يجدوا بدون الضمير وهو من الوجدان بمعنى الإصابة قوله فاتوا رسول الله والصحيح من الرواية فأتي رسول الله بصيغة المجهول قوله في ذلك الإناء متعلق بقوله فوضع و يده منصوب به قوله أن يتوضؤا أي بان يتوضؤا و أن مصدرية اي بالتوضىء منه أي من ذلك الإناء قوله قال الضمير فيه يرجع إلى أنس رضي الله تعالى عنه قوله ينبع جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير الذي هو فيه الذي يرجع إلى الماء وهي في محل النصب على الحال وقد علم أن الجملة أن الجملة الفعلية إذا وقعت حالا تأتي بلا واو إذا كان فعلها مضارعا فإن قلت لم لا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا لرأيت قلت قد قلت لك إن رأيت هنا بمعنى أبصرت فلا تقتضي إلا مفعولا واحدا قوله حتى توضؤا قال الكرماني حتى للتدريج ومن للبيان أي توضأ الناس حتى توضأ الذين من عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم ثم نقل عن النووي أن من في من عند آخرهم بمعنى إلى وهي لغة ثم قال أقول ورود من بمعنى إلى شاذ قل ما يقع في فصيح الكلام قلت حتى ههنا حرف ابتداء يعني حرف يبتدأ بعده جملة أي تستأنف فتكون إسمية أو فعلية والفعلية يكون فعلها ماضيا ومضارعا ومثال الإسمية قول جرير
فما زالت القتلى تمج دماؤها
بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
ومثال الفعلية التي فعلها ماض حتى عفوا ( الأعراف 95 ) و حتى توضؤا ومثال الفعلية التي فعلها مضارع حتى يقول الرسول ( البقرة 214 ) في قراءة نافع قوله من للبيان قلت إنما تكون من للبيان إذا كان فيما قبلها إبهام ولا إبهام ههنا لأن التقدير وأمر الناس أن يتوضؤا فتوضؤا حتى توضأ من عند آخرهم على ان من التي للبيان كثيرا ما يقع بعد ما ومهما الإفراط إبها مهما نحو ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ( فاطر 2 ) ومهما تأتنا به من آية ( الأعراف 132 ) ومع هذا أنكر قوم مجىء من لبيان الجنس والظاهر ان من ههنا للغاية توضأ الناس ابتداء من أولهم حتى انتهوا إلى آخرهم على أن من تأتي على خمسة عشر وجها

(3/33)


والغالب عليها أن تكون للغاية حتى ادعى قوم أن سائر معانيها راجعة إليها ولم أجد في هذه المعاني الخمسة عشرة مجيء من بمعنى إلى وادعى الكرماني أنها لغة قوم ولم يبين ذلك ثم أدعى أنه شاذ قلت إن استعمل بمعنى الى في كون كل منهما للغاية لأن من لابتداء الغاية و إلى لانتهاء الغاية يجوز ذلك لأن الحروف ينوب بعضها عن بعض والمراد بالغاية في قولهم ابتداء الغاية وانتهاء الغاية جميع المسافة إذ لا معنى لابتداء الغاية وانتهاء الغاية فيكون معنى الحديث حتى توضؤوا وانتهوا إلى آخرهم ولم يبق منهم أحد والشخص هو آخرهم داخل في هذا الحكم لأن السياق يقتضى العموم والمبالغة فإن قلت عند ظرف خاص واسم للحضور الحسي فالعموم من أين يأتي قلت عند هنا تجعل لمطلق الظرفية حتى تكون بمعنى في كأنه قال حتى توضأ الذين هم في آخرهم وأنس رضي الله تعالى عنه داخل في عموم لفظ الناس ولكن الأصوليين اختلفوا في أن المخاطب بكسر الطاء داخل في عموم متعلق خطابه أمرا أو نهيا أو خبرا أم غير داخل والجمهور على أنه داخل
بيان المعاني قوله فأتوا رسول الله بوضوء وفي بعض الروايات فأتي بقدح رحراح وفي بعضها زجاج وفي بعضها جفنة وفي بعضها ميضأة وفي بعضها مزادة وفي رواية ابن المبارك فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير وروى المهلب أنه كان مقدار وضوء رجل واحد قوله وامر الناس وكانوا خمس عشرة ومائة وفي بعض الروايات ثمانمائة وفي بعضها زهاء ثلاثمائة وفي بعضها ثمانين وفي بعضها سبعين قوله ينبع من تحت أصابعه وفي بعض الروايات يفور من بين أصابعه وفي بعضها يتفجر من أصابعه كأمثال العيون وفي بعضها سكب ماء في ركوة ووضع إصبعه وبسطها وغسلها في الماء وهذه المعجزة أعظم من تفجر الحجر بالماء وقال المزني نبع الماء بين أصابعه أعظم مما أوتيه موسى عليه الصلاة و السلام حين ضرب بعصاه الحجر في الأرض لأن الماء معهود أن يتفجر من الحجارة وليس بمعهود أن يتفجر من بين الأصابع وقال غيره وأما من لحم ودم فلم يعهد من غيره وقال القاضي عياض وهذه القضية رواها الثقات من العدد الكثير عن الجم الغفير عن الكافة متصلا عمن حدث بها من جملة الصحابة وأخبارهم أن ذلك كان في مواطن اجتماع الكثير منهم من محافل المسلمين ومجمع العساكر ولم يرو واحد من الصحابة مخالفة للراوي فيما رواه ولا إنكار عما ذكر عنهم أنهم رأوه كما رآه فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق منهم إذ هم المنزهون عن السكوت على الباطل والمداهنة في كذب وليس هناك رغبة ولا رهبة تمنعهم فهذا النوع كله ملحق بالقطعي من معجزاته عليه الصلاة و السلام وفيه رد على ابن بطال حيث قال في شرحه هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس رضي الله تعالى عنه وذلك والله تعالى أعلم لطول عمره ويطلب الناس العلو في السند
بيان استنباط الأحكام الأول فيه عدم وجوب طلب الماء للتطهر قبل دخول الوقت لأن النبي عليه الصلاة و السلام لم ينكر عليهم التأخير فدل على الجواز وذكر ابن بطال أن إجماع الامة على أنه إن توضأ قبل الوقت فحسن ولا يجوز التيمم عند أهل الحجاز قبل دخول الوقت وأجازه العراقيون الثاني أن فيه دليلا على وجوب المواساة عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه الثالث فيه دليل على أن الصلاة لا تجب إلا بدخول الوقت الرابع يستحب التماس الماى لمن كان على غير طهارة وعند دخول الوقت يجب الخامس فيه رد على من ينكر المعجزة من الملاحدة السادس إستنبط المهلب منه أن الأملاك ترتفع عند الضرورة لأنه لما أتي رسول الله عليه الصلاة و السلام بالماء لم يكن أحد أحق به من غيره بل كانوا فيه سواء ونوقش فيه وإنما تجب المواساة عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه
33 -
( باب الماء الذي يغسل به شعر الانسان )
أي هذا باب في بيان الماء الذي يغسل به شعر بني آدم
والمناسبة بين البابين من حيث إن في الباب الأول التماس الناس الوضوء ولا يلتمس للوضوء إلا الماء الطاهر وفي هذا الباب غسل شعر الإنسان وشعر الانسان طاهر فالماء الذي يغسل به طاهر فعلم أن في كل من البابين اشتمال على حكم الماء الطاهر
وكان عطاء لا يرى به بأسا أن يتخذ منها الخيوط والحبال

(3/34)


هذا التعليق وصله محمد بن إسحاق الفاكهي في ( أخبار مكة ) بسند صحيح إلى عطاء بن أبي رباح أنه كان لا يرى بأسا بالانتفاع بشعور الناس التي تحلق بمني ولم يقف الكرماني على هذا حتى قال الظاهر أن عطاء هو ابن أبي رباح قوله ان يتخذ بفتح أن بدلا من الضمير المجرور في به كما في قوله مررت به المسكين أي لا يرى بأسا باتخاذ الخيوط من الشعر وفي بعض النسخ لم يوجد لفظ به وهو ظاهر قوله الخيوط جمع خيط و الحبال جمع حبل والفرق بينهما بالرقة والغلظ ويروى عن عطاء أن نجس الشعر وقال ابن بطال أراد البخاري بهذه الترجمة رد قول الشافعي إن شعر الانسان إذا فارق الجسد نجس وإذا وقع في الماء نجسه إذ لو كان نجسا لما جاز اتخاذه خيوطا وحبالا ومذهب أبي حنيفة أنه طاهر وكذا شعر الميتة والأجزاء الصلبة التي لا دم فيها كالقرون والعظم والسن والحافر والظلف والخف والشعر والوبر والصوف والعصب والريش والأنفحة الصلبة قاله في ( البدائع ) وكذا من الآدمي على الأصح ذكره في ( المحيط ) و ( التحفة ) وفي ( قاضيخان ) على الصحيح ليست بنجسة عندنا وقد وافقنا على صوفها ووبرها وشعرها وريشها مالك وأحمد وإسحاق والمزني وهو مذهب عمر بن عبد العزيز والحسن وحماد وداود في العظم أيضا وقال النووي في ( شرح المهذب ) حكى العبدري عن الحسن وعطاء والأوزاعي والليث إنها تنجس بالموت لكن تطهر بالغسل وعن القاضي ابي الطيب الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظلف تحلها الحياة وتنجس بالموت هذا هو المذهب وهو الذي رواه المزني والبويطي والربيع وحرملة عن الشافعي وروى ابراهيم البكري عن المزني عن الشافعي أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي وحكاه أيضا الماوردي عن ابن شريح عن القاسم الأنماطي عن المزني عن الشافعي وحكى الربيع الجيزي عن الشافعي أن الشعر تابع للجلد يطهر بطهارته وينجس بنجاسته قال وأما شعر النبي عليه الصلاة و السلام فالمذهب الصحيح القطع بطهارته وقال الإسماعيلي في الشعر خلاف فإن عطاء يروى عنه أنه نجسه قلت يشير بذلك إلى أن استدلال البخاري بما روى عن عطاء في طهارة الماء الذي يغسل به الشعر نظر ثم قال ورأى ابن المبارك رجلا أخذ شعرة من لحيته ثم جعلها في فيه فقال له مه أترد الميتة إلى فيك فاما شعر رسول الله فهو مكرم معظم خارج عن هذا قلت قول الماوردي واما شعر النبي فالمذهب الصحيح القطع بطهارته يدل على أن لهم قولا بغير ذلك فنعوذ بالله من ذلك القول وقد اخترق بعض الشافعية وكاد أن يخرج عن دائرة الإسلام حيث قال وفي شعر النبي وجهان وحاشا شعر النبي عليه الصلاة و السلام من ذلك وكيف قال هذا وقد قيل بطهارة فضلاته فضلا عن شعره الكريم وقد قال الماوردي إنما قسم النبي عليه الصلاة و السلام شرعه للتبرك ولا يتوقف التبرك على كونه طاهرا قلت هذا أشنع من ذلك وقال كثير من الشافعية نحو ذلك ثم قالوا الذي أخذ كان يسيرا معفوا عنه قلت هذا أقبح من الكل وغرضهم من ذلك تمشية مذهبهم في تنجيس شعر بني آدم فلما أورد عليهم شعر النبي عليه الصلاة و السلام أولوا هذه التأويلات الفاسدة وقال بعض شراح البخاري في بوله وذنه وجهان والأليق الطهارة وذكر القاضي حسين في العذرة وجهين وأنكر بعضهم على الغزالي حكايتهما فيها وزعم نجاستها بالاتفاق قلت يا للغزالي من هفوات حتى في تعلقات النبي عليه الصلاة و السلام وقد وردت أحاديث كثيرة أن جماعة شربوا دم النبي عليه الصلاة و السلام منهم أبو طيبة الحجام وغلام من قريش حجم النبي عليه الصلاة و السلام وعبد الله بن الزبير شرب دم النبي عليه الصلاة و السلام رواه البزار والطبراني والحاكم والبيهقي وأبو نعيم في ( الحلية ) ويروى عن علي رضي الله تعالى عنه أنه شرب دم النبي عليه الصلاة و السلام وروي أيضا أن أم أيمن شربت بول النبي رواه الحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم وأخرج الطبراني في ( الأوسط ) في رواية سلمى امرأة ابي رافع أنها شربت بعض ماء غسل به رسول الله عليه الصلاة و السلام فقال لها حرم الله بدنك على النار وقال بعضهم الحق أن حكم النبي عليه الصلاة و السلام كحكم جميع المكلفين في الأحكام التكليفية إلا فيما يخص بدليل قلت يلزم من هذا أن يكون الناس مساويين للنبي عليه الصلاة و السلام ولا يقول بذلك إلا جاهل غبي وأين مرتبته من مراتب الناس ولا يلزم أن يكون دليل الخصوص بالنقل دائما والعقل له مدخل في تميز النبي عليه الصلاة و السلام من غيره في مثل هذه الأشياء وأنا اعتقد أنه لا يقاس عليه غيره وإن قالوا غير ذلك فاذني عنه صماء

(3/35)


وسؤر الكلاب وممرها في المسجد
وسؤر الكلاب بالجر عطف على قوله الماء والتقدير وباب سؤر الكلاب يعني ما حكمه وفي بعض النسخ جمعهما في موضع واحد وفي بعضها ذكروا كلها بعد قوله وممرها وفي المسجد وفي بعضها ساقط وقصد البخاري بذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤر الكلب وقال الإسماعيلي أرى أبا عبد الله عنى نحو تطهير الكلب حيا وأباح سؤره لما ذكره من هذه الأخبار وهي لعمري صحيحة إلا أن في الاستدلال بها على طهارة الكلب نظرا والسؤر بالهمزة بقية الماء التي يبقيها الشارب وقال ثعلب هو ما بقي من الشراب وغيره وقال ابن درستويه والعامة لا تهمزه وترك الهمزة ليس بخطأ ولكن الهمزة أفصح وأعرف وفي ( الواعي ) السؤر والسأر البقية من الشيء وقال أبو هلال العسكري في كتاب ( البقايا ) هو ما يبقى في الإناء من الشراب بعد ما شرب يقال منه اسأر إسآرا وهو مسئر وجاء سأر بالتشديد في المبالغة
وقال الزهري إذا ولغ الكلب في إناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به
قول الزهري هذا رواه الوليد بن مسلم في مصنفه عن الأوزاعي وغيره عنه ولفظه سمعت الزهري في إناء ولغ فيه كلب فلم يجد ماء غيره قال يتوضأ به اخرجه أبن عبد البر في التمهيد من ذريقه بسند صحيح واسم الزهري محمد بن مسلم بن شهاب قوله ولغ اي الكلب والقرينة تدل عليه وجاء في بعض الروايات إذا ولغ الكلب بذكره صريحا ولغ ماض من الولغ وهو من الكلاب والسباع كلها هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه فيه وعن ثعلب تحريكا قليلا أو كثيرا قاله المطرزي وقال مكي في شرحه فإن كان غير مائع قيل لعقه ولحسه قال المطرزي فإن كان الإناء فارغا يقال لحسه فإن كان فيه شيء يقال ولغ وقال ابن درستويه معنى ولغ لطع بلسانه شرب فيه أو لم يشرب كان فيه ماء أو لم يكن وفي ( الصحاح ) ولغ الكلب بشرابنا وفي شرابنا ومن شرابنا وقال ابن خالويه ولغ يلغ ولغا وولغانا وولغ ولغا وولغا وولغانا وولوغا ولا يقال ولغ في شيء من جوارحه سوى لسانه وقال ابن جني الولغ في الأصل شرب السباع بألسنتها ثم كثر فصار الشرب مطلقا وذكر المطرزي أنه يقال ولغ بكسر اللام وهي لغة غير فصيحة ومستقبله يلغ بفتح اللام وكسرها وقال ابن القطاع سكن بعضهم اللام فقال ولغ قوله ليس له أي لمن أراد أن يتوضأ قوله وضوء بفتح الواو أي الماء الذي يتوضأ به قوله غيره أي غير ما ولغ فيه فيجوز فيه الرفع والنصب والجملة المنفية حال وقوله يتوضأ جواب الشرط قوله به أي بالماء وفي بعض النسخ بها فيؤول الإناء بالمطهرة أو الإداوة فالمعنى يتوضأ بالماء الذي فيها
وقال سفيان هذا الفقه بعينه يقول الله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا ماء وفي النفس منه شيء يتوضأ به ويتيمم
سفيان هذا هو الثوري لأن الوليد بن مسلم لما روى هذا الأثر الذي رواه الزهري ذكر عقيبه بقوله فذكرت ذلك لسفيان الثوري فقال هذا والله الفقه بعينه ولولا هذا التصريح لكان المتبادر إلى الذهن أنه سفيان بن عيينة لكونه معروفا بالرواية عن الزهري دون الثوري قوله هذا الفقه بعينه أراد أن الحكم بأنه يتوضأ به هو المستفاد من قوله تعالى فلم تجدوا ماء ( النساء 43 المائدة 6 ) لأن قوله ( ماء ) نكرة في سياق النفي فتعم ولا تحض إلا لدليل وسمي الثوري الأخذ بدلالة العموم قفهافإن قلت لما كان الاستدلال بالعموم فقها وكان مذكورا في القرآن فلم قال وفي النفس منه شيء أي دغدغه ولم ءأى التيمم بعد الوضوء به قلت ربما يكون ذلك لعدم ظهور دلالته أو لوجود معارض له أما من القرآن أو غير ذلك فلذلك قال يتوضأ به ويتيمم لأن الماء الذي يشك فيه اكالمعدوم وقال الكرماني رحمه الله ولا يخفى أن الواو بمعنى ثم إذا التيمم بعد التوضىء قطعا قلت لا نسلم ذلك فإن هذا الوضع لا يشترط الترتيب بل الشرط الجمع بينهما سواء قدم الوضوء أو أخره قوله ( فلم تجدوا ماء ) هذا نص القرآن ووقع في رواية ابي الحسن القابسي عن ابي زيد المروزي في حكاية قول سفيان يقول الله تعالى فان لم تجدوا ماء ( النساء 43 المائدة 6 ) وكذا حكاه أبو نعيم في ( المستخرج ) على البخاري وقال القابسي قد ثبت ذلك في الأحكام لإسماعيل القاضي يعنى

(3/36)


بإسناده إلى سفيان قال وما أعرف من قرأ بذلك وقال بعضهم لعل الثوري رواه بالمعنى قلت لا يصح هذا أصلا لأنه قلب كلام الله تعالى والظاهر أنه سهو أو وقع غلطا
170 - حدثنا ( مالك بن إسماعيل ) قال حدثنا ( إسرائيل ) عن ( عاصم ) عن ( ابن سيرين ) قال قلت لعبيدة عندنا من شعر النبي أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس فقال لان تكون عندي شعرة منه أحب من الدنيا وما فيها
( الحديث 170 - طرفه في 171 )
الكلام فيه من وجوه الأول في رجاله وهم خمسة الأول مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي الحافظ الحجة العابد روى عنه مسلم والأربعة بواسطة مات في سنة تسع عشرة ومائتين وليس في الكتب الستة مالك بن إسماعيل سواه الثاني إسرائيل ابن يونس وقد تقدم الثالث عاصم بن سليمان الأحوال البصري الثقة الحافظ مات سنة اثنتين وأربعين ومائة الرابع محمد بن سيرين وقد تقدم الخامس عبيدة بفتح العين وكسر الباء الموحدة وفي آخره هاء ابن عمرو ويقال ابن قيس بن عمرو السلماني بفتح السين وسكون اللام المرادي الكوفي أسلم في حياة النبي عليه الصلاة و السلام ولم يلقه وقال العجلي هو كوفي تابعي ثقة جاهلي أسلم قبل وفاة رسول الله بسنتين وكان أعور وقال سفيان بن عيينة كان عبيدة يوازي شريحا في العلم والقضاء وقال ابن نمير كان شريح إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى عبيدة روى له الجماعة مات سنة اثنتين وسبعين وقيل ثلاث
الثاني في لطائف إسناده منها أن رواته ما بين بصري وكوفي ومنها أن فيه التحديث والعنعنة والقول ومنها أن فيه رواية التابعي عن التابعي
الثالث أخرجه الإسماعيلي وفي روايته أحب إلي من كل صفراء وبيضاء
الرابع في معناه واعرابه قوله عندنا من شعر النبي عليه الصلاة و السلام أي عندنا شيء من شعر ويحتمل أن تكون من للتبعيض والتقدير بعض شعر النبي عليه الصلاة و السلام فيكون بعض مبتدأ وقوله عندنا خبره ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفا أي عندنا شيء من شعر النبي عليه الصلاة و السلام أو عندنا من شعر النبي عليه السلام شيء قوله اصبناه من قبل انس أي حصل لنا من جهة أنس ابن مالك رضي الله عنه وقوله أو للتشكيك قوله لأن تكون اللام فيه لام الابتداء للتأكيد و أن مصدرية و تكون ناقصة ويحتمل أن تكون تامة والتقدير كون شعرة عند من شعر النبي عليه الصلاة و السلام أحب إلي من الدنيا وما فيها من متاعها
الخامس في حكم المستنبط منه وهو أنه لما جاز أتخاذ شعر النبي عليه الصلاة و السلام والتبرك به لطارته ونظافته دل على أن مطلق الشعر طاهر ألا تى أن خالد بن الوليد رضي الله عنه جعل في قلنسوته من شعر رسول الله عليه السلام فكان يدخل بها في الحرب ويستنصر ببركته فسقطت عنه يوم اليمامة فاشتد عليها شدة وأنكر عليه الصحابة فقال إني لم افعل ذلك لقيمة القلنسوة لكن كرهت أن تقع بأيدي المشركين وفيها من شعر النبي عليه الصلاة و السلام ثم إن البخاري استدل به على أن الشعر طاهر وإلا لما حفظوه ولا تمنى عبيدة أن تكون عنده شعرة واحدة منه وإذا كان طاهرا فالماء الذي يغسل به طاهر وهو مطابق لترجمة الباب ولما وضعه البخاري في الماء الذي يغسل به شعر الإنسان ذكر هذا الأثر مطابقا للترجمة ودليلا لما ادعاه ثم ذكر حديثا آخر مرفوعا على ما يأتي الآن
171 - حدثنا ( محمد بن عبد الرحيم ) قال أخبرنا ( سعيد بن سليمان ) قال حدثنا ( عباد ) عن ( ابن عون ) عن ( ابن سيرين ) عن ( أنس ) أن رسول الله ( ) لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره
( انظر الحديث 170 )
هذا هو الدليل الثاني لما ادعاه البخاري من طهارة الشعر وطهارة الماء الذي يغسل به المطابق للترجمة الأولى وهي قوله طهارة الماء الذي يغسل به شعر الانسان
بيان رجاله وهم سبعة الأول محمد بن عبد الرحيم صاعقة تقدم الثاني سعيد بن سليمان الضبي البزار أبو عثمان سعدويه الحافظ الواسطي روى عنه البخاري وأبو داود حج ستين حجة مات سنة خمس وعشرين ومائتين عن مائة سنة الثالث عباد بتشديد الباء الموحدة هو ابن العوام الواسطي أبو سهل

(3/37)


مات سنة خمس وثمانين ومائة ثقة صدوق عن أحمد أنه مضطرب الحديث وقال محمد بن سعد كان يتشيع فأخذه هارون فحبسه زمانا ثم خلى عنه وأقام ببغداد الرابع ابن عون بفتح الغين المهملة وفي آخر نون هو عبد الله بن عون تابعي سيد قراء زمانه وقد تقدم في باب قول النبي عليه الصلاة و السلام رب مبلغ الخامس محمد بن سيرين وقد تكرر ذكره السادس أنس بن مالك رضي الله عنه السابع أبو طلحة الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس رضي الله عنه واسم ابي طلحة زيد بن سهل بن الأسود النجاري شهد العقبة وبدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله عليه الصلاة و السلام مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه عثمان بن عفان
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بغدادي وهو شيخ البخاري وواسطي وبصري ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي فالأول عبد الله بن عون وفي مسلم وللنسائي عبد الله بن عون بن أمير مصر وليس في الكتب الستة غيرهما ومع هذه اللطائف إسناده نازل لان البخاري سمع من شيخ شيخه سعيد بن سليمان بل سمع من ابن عاصم وغيره من أصحاب ابن عون فيقع بينه وبين ابن عون واحد وهنا بينه وبينه ثلاثة أنفس
بيان من اخراجه غيره لم يخرجه أحد من الستة غيره بهذه العبارة وهذا السند وهو أيضا أخرجه هنا في كتابه فقط وأخرجه أبو عوانة في صحيحه ولفظه إن رسول الله أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى ابي طلحة الشق الأيمن ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس ورواه مسلم من طريق ابن عيينة عن هشام بن حسان عن ابن سيرين بلفظ لما رمى الجمرة ونحر نسكه ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال إقسمه بين الناس وله من رواية حفص بن غياث عن هشام أنه قسم الأيمن فيمن يليه وفي لفظ فوزعه بين الناس الشعرة والشعرتين وأعطي الأيسر أم سليم وفي لفظ أبا طلحة فإن قلت في هذه الروايات تناقض ظاهر قلت لا تناقض بل يجمع بينهما بأنه ناول أبا طلحة كلا من الشقين فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره بين الناس وأما الايسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره عليه الصلاة و السلام أيضا زاد أحمد في رواية له لتجعله في طيبها
بيان استنباط الاحكام من الاحاديث المذكورة الأول أن فيه المواساة بين الأصحاب في العطية والهبة الثاني المواساة لا تستلزم المساواة الثالث فيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره الرابع فيه أن حلق الرأس سنة أو مستحبة اقتداء بفعله عليه الصلاة و السلام الخامس فيه أن الشعر طاهر السادس أن فيه التبرك بشعر النبي عليه الصلاة و السلام السابع أن فيه جواز اقتناء الشعر فإن قلت من كان الحالق لرسول الله عليه الصلاة و السلام قلت اختلفوا فيه قيل هو خراش بن امية وهو بكسر الخاء المعجمة وفي آخره شين معجمة أيضا وقيل معمر بن عبد الله وهو الصحيح وكان خراش هو الحالق بالحديبية
172 - حدثنا ( عبد الله بن يوسف ) عن ( مالك ) عن ( أبي الزناد ) عن ( الاعرج ) عن ( أبي هريرة ) قال إن رسول الله قال إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا
لما ذكر البخاري في هذا الباب حكمين ثانيهما في سؤر الكلب أتي بدليل من الخديث المرفوع وهو أيضا مطابق للترجمة بيان رجاله وهم خمسة كلهم ذكروا غير مرة ومالك هو ابن أنس وأبو زناد بكسر الزاي المعجمة بعدها النون واسمه عبد الله بن ذكوان والأعرج اسمه عبد الرحمن بن هرمز
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن رواته كلهم أئمة أجلاء ومنها أن رواته ما بين تنيسي ومدني
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى وأخرجه أبو داود فيه أيضا عن الحارث بن مسكين عن عبد الرحمن بن القاسم وأخرجه النسائي فيه أيضا عن قتيبة وأخرجه ابن ماجه أيضا عن محمد بن يحيى عن روح بن عبادة خمستهم عن مالك به وأخرجه مسلم أيضا من حديث الأعمش عن ابن رزين وابي صالح عن ابي هريرة بلفظ إذا ولغ بدل شرب ومن حديث

(3/38)


محمد بن سيرين عن أبي هريرة طهور إناء أحدكم إذا ولع فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب وإذا ولغت فيه الهرة غسله مرة واحدة وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدد وأخرجه الترمذي فيه عن سوار بن عبد الله العنبري كلاهما عن معتمر بن سليمان به ووقفه مسدد ورفعه سواه وقال الترمذي حديث حسن صحيح وقال أبو داود ذكر الهر موقوف وقال البيهقي مدرج
بيان المعاني قوله إذا شرب الكلب كذا هو في ( الموطأ ) والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور اصحابه عنه إذا ولغ وهو المعروف في اللغة وقال الكرماني ضمن شرب معنى ولغ فعدي تعديته يقال ولغ الكلب من شرابنا كما يقال في شرابنا ويقال ولغ شرابنا أيضا قلت الشارع أفصح الفصحاء وروي عنه شرب و ولغ لتقاربهما في المعنى ولا حاجة إلى هذا التكلف فان قلت الشرب أخص من الولوغ فلا يقوم مقامه قلت لا نسلم عدم قيام الأخص مقام الأعم لأن الخاص له دلالة على العام اللازم كلفظ الإنسان له دلالة على مفهوم الحيوان بالتضمن لأنه جزء مفهومه وكذا له دلالة على مفهوم الماشي بالقوة بالالتزام لكونه خارجا عن معنى الإنسان لازما له فعلى هذا يجوز أن يذكر الشرب ويرادبه الولوغ وادعى ابن عبد البر أن لفظة شرب لم يروه إلا مالك وأن غيره رواه بلفظ ولغ وليس كذلك فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن ابي هريرة بلفظ إذا شرب لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ إذا ولغ كذا أخرجه مسلم وغيره من طريق عنه وقد رواه عن ابي الزناد شيخ مالك بلفظ إذا شرب وروي أيضا عن مالك بلفظ إذا ولغ أخرجه أبو عبيد في ( كتاب الطهور ) له عن إسماعيل بن عمر عنه ومن طريقه أورده الإسماعيلي وكذا أخرجه الدارقطني في ( الموطأ ) له من طريق أبي علي الحنفي
بيان استنباط الاحكام الأول فيه دلالة على نجاسة الكلب لأن الطهارة لا تكون إلا عن حدث أو نجس والأول منتف فتعين الثاني فإن قلت استدل البخاري في هذا الباب المشتمل على الحكمين على الحكم الثاني وهو سؤر الكلب بالأثر الذي رواه عن الزهري والثوري ثم استدل بهذا الحديث المرفوع فما وجه دلالة هذا على ما ادعاه والحال أن الحديث يدل على خلاف ما يقوله قلت أجاب عنه من ينصره ويتغالى فيه بأن سؤر الكلب طاهر وأن الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه أمر تعبدي فلا يدل على نجاسته قلت هذا بعيد جدا لأن دلالة ظاهر الحديث على خلاف ما ذكروه على أنا ولئن سلمنا أنه يحتمل أن يكون الامر لنجاسته ويحتمل أن يكون للتعبد ولكن رجح الأول ما رواه مسلم طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب وروايته أيضا إذا ولغ الكلب في إناء احدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات ولو كان سؤره طاهرا لما أمر بإراقته والذي قالوه نصرة للبخاري بغير ما يذكر عن المالكية فان قلت من قال إن البخاري ذهب إلى ما نسبوه له قلت قال ابن بطال في شرحه ذكر البخاري أربعة أحاديث في الكلب وغرضه من ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره أقول كلام ابن بطال ليس بحجة فلم لا يجوز أن يكون غرضه بيان مذاهب الناس فبين في هذا الباب مسألتين أولاهما الماء الذي يغسل به الشعر والثانية سؤر الكلاب بل الظاهر هذا والدليل عليه أنه قال في المسألة الثانية وسؤر الكلاب واقتصر على هذه اللفظة ولم يقل وطهارة سؤر الكلاب
الثاني فيه نجاسة الإناء ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره ولا بين الكلب البدوي والحضري لعموم اللفظ وللمالكية فيه أربعة أقوال طهارته ونجاسته وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره والفرق بين الحضري والبدوي وقال الرافعي في ( شرحه الكبير ) وعند مالك لا يغسل في غير الولوغ لأن الكلب طاهر عنده والغسل من الولوغ تعبدي وقال الخطابي إذا ثبت أن لسانه الذي يتناول به الماء نجس علم أن سائر أجزائه في النجاسة بمثابة لسانه فأي جزء من بدنه مسه وجب تطهيره
الثالث فيه دليل على أن الماء النجس يجب تطهير الإناء منه
الرابع قال الكرماني فيه دليل على تحريم بيع الكلب إذ كان نجس الذات فصارت كسائر النجاسات قلت يجوز بيعه عند اصحابنا لأنه منتفع به حراسة واصطيادا قال الله تعالى وما علمتم من الجوارح

(3/39)


مكلبين ( المائدة 4 ) فإن قلت نهى رسول الله عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن قلت هذا كان في زمن كان النبي عليه الصلاة و السلام أمر فيه بقتل الكلاب وكان الانتفاع بها يومئذ محرما ثم بعد ذلك رخص في الانتفاع بها وروى الطحاوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما وقضى في كلب ماشية بكبش وعنه عن عطاء لا بأس بثمن الكلب فهذا قول عطاء رضي الله عنه وروي عن النبي أن ثمن الكلب من السحت وعنه عن ابن شهاب أنه إذا قتل الكلب المعلم فإنه تقوم قيمته فيغرمه الذي قتله فهذا الزهري يقول هذا وقد روي عن ابي بكر بن عبد الرحمن أن ثمن الكلب من السحت وعنه عن مغيرة عن إبراهيم قال لا بأس بثمن كلب الصيد وروي عن مالك إجازة بيع كلب الصيد والزرع والماشية ولا خلاف عنه أن من قتل كلب صيد أو ماشية فإنه يجب عليه قيمته وعن عثمان رضي الله عنه أنه أجاز الكلب الضاري في المهر وجعل على قاتله عشرين من الإبل ذكره أبو عمر في ( التمهيد ) ح
الخامس استدلت به الشافعية على وجوب غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات ولا فرق عندهم بين ولوغه وغيره وبين بوله وروثه ودمه وعرقه ونحو ذلك ولو ولغ كلاب أو كلب واحد مرات في إناء فيه ثلاثة أوجه الصحيح يكفي للجميع سبع مرات والثاني أنه يجب لكل واحد سبع والثالث أنه يكفي لولغات الكلب الواحد سبع ويجب لكل كلب سبع ولو وقعت نجاسة أخرى فيما ولغ فيه كفى عن الجميع سبع ولو كانت نجاسة الكلب دمه فلم تزل عينه إلا بست غسلات مثلا فهل يحسب ذلك ست غسلات أم غسلة واحدة أم لا يحسب من السبع أصلا فيه أيضا ثلاثة أوجه أصحها واحدة قال الكرماني فإن قلت ظاهر لفظ الحديث يدل على أنه لو كان الماء الذي في الإناء قلتين ولم تتغير أوصافه لكثرته كان الولوغ فيه منجسا أيضا لكن الفقهاء لم يقولوا به قلت لا نسلم أن ظاهره دل عليه إذ الغالب في أوانيهم أنها ما كانت تسع القلتين فبلفظ الإناء خرج عنه قلتان وما فوقه قلت إذا كان الإناء يسع القلتين أو أكثر فماذا يكون حكمه والإناء لا يطلق إلا على ما لا يسع فيه إلا ما دون القلتين واللفظ أعم من ذلك
السادس انه ورد في هذا الحديث سبعا أي سبع مرات وفي رواية سبع مرات أولاهن بالتراب وفي رواية أولاهن أو أخراهن وفي رواية سبع مرات السابعة بتراب وفي رواية سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب وقال النووي وأما رواية وغفروه الثامنة بالتراب فمذهبنا ومذهب الجماهير إذا المراد إغسلوه سبعا واحدة منهن بتراب مع الماء فكان التراب قائما مقام غسله فسميت ثامنة وقال بعضهم خالف ظاهر هذا الحديث المالكية والحنفية أما المالكية فلم يقولوا بالتتريب أصلا مع إيجابهم السبع على المشهور عندهم وأجيب عن ذلك بأن التتريب لم يقع في رواية مالك على أن الأمر بالتسبيع عنده للندب لكون الكلب طاهرا عنده فإن عورض بالرواية التي روى عنه أنه نجس أجيب بأن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فلا يجب التسبيع للنجاسة بل للتعبد فإن عورض بما رواه مسلم عن ابي هريرة طهور إناء أحدكم أجيب بإن الطهارة تطلق على غير ذلك كما في خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ( التوبة 103 ) و السواك مطهرة للفم فإن عورض بأن اللفظ الشرعي إذا دار بين الحقيقة اللغوية والشرعية حملت على الشرعية إلا إذا قام دليل أجيب بأن ذلك عند عدم الدليل وهنا يحتمل أن يكون من قبيل قوله عليه الصلاة و السلام التيمم طهور المسلم وبعض المالكية قالوا الأمر بالغسل من ولوغه في الكلب المنهي عن اتخاذه دون المأذون فيه فإن عورض بعدم القرينة في ذلك أجيب بأن الأذن في مواضع جواز الاتخاذ قرينة وبعضهم قالوا إن ذلك مخصوص بالكلب الكلب والحكمة فيه من جهة الطب لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منها قوله صبوا علي من سبع قرب ومنها قوله من تصبح بسبع تمرات فإن عورض بأن الكلب الكلب لا يقرب الماء فكيف يأمر بالغسل من ولوغه اجيب بأنه لا يقرب بعد استحكام ذلك اما في ابتدائه فلا يمتنع فان عورض بمنع استلزام التخصيص بلا دليل والتعليل بالتنجيس أولى لأنه في معنى المنصوص وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب لأنه رجس رواه محمد بن نضر المروزي بأسناد صحيح ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه أجيب بأنه يحتمل أن يكون هذا الإطلاق مثل إطلاق الرجس على الميسر والانصاب
واما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع ولا التتريب قلت لم يقولوا بذلك لأن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه الذي روى السبع روي عنه غسل الإناء مرة من ولوغ

(3/40)


الكلب ثلاثا فعلا وقولا مرفوعا وموقوفا من طريقين الأول أخرجه الدارقطني بإسناد صحيح من حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة قال إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات قال الشيخ تقي الدين في الإمام هذا إسناد صحيح الطريق الثاني أخرجه ابن عدي في ( الكامل ) عن الحسين بن علي الكرابيسي قال حدثنا إسحاق الأزرق حدثنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات ثم أخرجه عن عمر بن شبة أيضا حدثنا إسحاق الأزرق به موقوفا ولم يرفعه غير الكرابيسي قلت قال البيهقي تفرد به عبد الملك من أصحاب عطاء ثم عطاء من أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء وأصحاب ابي هريرة يروونه سبع مرات وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابي هريرة في الثلاث وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف الثقات ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج ولم يحتج به البخاري في ( صحيحه ) قلت عبد الملك أخرج له مسلم في صحيحه وقال أحمد والثوري هو من الحفاظ وعن الثوري هو ثقة فقيه متقن وقال أحمد بن عبد الله ثقة ثبت في الحديث ويقال كان الثوري يسميه الميزان وأما الكرابيسي فقد قال ابن عدي قال لنا أحمد بن الحسن الكرابيسي يسأل منه والكرابيسي له كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس في المسائل وذكر فيها أخبارا كثيرة وكان حافظا لها ولم أجد له حديثا منكرا والذي حمل عليه أحمد بن حنبل فإنما هو من أجل اللفظ بالقرآن فأما في الحديث فلم أر به بأسا واما الطحاوي فقال بعد أن روى الموقوف عن عبد الملك بن ابي سليمان عن عطاء عن ابي هريرة فثبت بذلك نسخ السبع لأن أبا هريرة هو راوي السبع والراوي إذا عمل بخلاف روايته أو أفتى بخلافها لا يبقى حجة لأن الصحابي لا يحل له أن يسمع من النبي شيئا ويفتي أو يعمل بخلافة إذ تسقط به عدالته ولا تقبل روايته وإنا نحسن الظن بأبي هريرة فدل على نسخ ما رواه وقد عارض هذا القائل بأن الحنفية خالفوا ظاهر هذا الحديث بقوله يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاد ندبية السبع لا وجوبها أو كان نسي ما رواه ومع الاحتمال لا يثبت النسخ ورد بأن هذا إساءة الظن بابي هريرة والاحتمال الناشىء من غير دليل لا يعتد به وادعاء الطحاوي النسخ مبرهن بما رواه بإسناده عن ابن سيرين أنه كان إذا حدث عن ابي هريرة فقيل له عن النبي فقال كل حديث ابي هريرة عن النبي عليه الصلاة و السلام ثم قال الطحاوي ولو وجب العمل برواية السبع ولا يجعل منسوخا لكان ما روي عن عبد الله بن مغفل في ذلك من النبي عليه الصلاة و السلام أولى مما رواه أبو هريرة لأنه زاد عليه وعفروه الثامنة بالتراب والزائد أولى من الناقص وكان ينبغي لهذا المخالف أن يقول لا يطهر إلا بأن يغسل ثمان مرات الثامنة بالتراب ليأخذ بالحديثين جميعا فإن ترك حديث ابن مغفل فقد لزمه ما لزمه خصمه في ترك السبع ومع هذا لم يأخذ بالتعفير الثابت في الصحيح مطلقا قيل إنه منسوخ
فإن عارض هذا القائل بما قاله البيهقي بأن أبا هريرة أحفظ من روى في دهره فروايته أولى أجيب بالمنع بل رواية ابن المغفل أولى لأنه أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب قال الحسن البصري إلينا يفقهون الناس وهو من أصحاب الشجرة وهو أفقه من أبي هريرة والأخذ بروايته أحوط ولهذا ذهب إليه الحسن البصري وحديثه هذا أخرجه ابن منده من طريق شعبة وقال اسناده مجمع على صحته ورواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وروي عن أبي هريرة إذا ولغ السنور في الإناء يغسل سبع مرات ولم يعملوا به فكل جواب لهم عن ذلك فهو جوابنا عما زاد على الثلاث فإن عارض هذا القائل بأنه ثبت أن أبا هريرة افتى بالغسل سبعا ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر اما النظر فظاهر واما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن ابن سيرين عنه وهذا من أصح الأسانيد واما المخالفة فمن رواية عبد الملك ابن أبي سليمان عن عطاء عنه وهو دون الأول في القوة بكثير أجيب بأن قوله ثبت أن أبا هريرة افتى بالغسل سبعا يحتاج إلى البيان ومجرد الدعوى لا تسمع ولئن سلمنا ذلك فقد يحتمل أن يكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده فلما ظهر أفتى بالثلاث وأما دعوى الرجحان فغير صحيحه لا من حيث النظر ولا من حيث قوة الإسناد لأن رجال كل منهما رجال الصحيح كما بيناه عن قريب وأما من حيث النظر فإن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب

(3/41)


ولم يعتد بالسبع فيكون الولوغ من باب أولى
وإن عارض هذا القائل بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا تكون أشد منها في تغليظ الحكم أجيب بمنع عدم الملازمة فإن تغليظ الحكم في ولوغ الكلب إما تعبدي وإما محمول على من غلب على ظنه أن نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها وأما أنهم نهوا عن اتخاذه فلم ينتهوا فغلظ عليهم بذلك وقال بعض أصحابنا كان الأمر بالسبع عند الأمر بقتل الكلاب فلما نهى عن قتلها نسخ الامر بالغسل سبعا وإن عارض هذا القائل بأن الأمر بالقتل كان في أوائل الهجرة والأمر بالغسل متأخر جدا لأن من رواية ابي هريرة وعبد الله بن مغفل وكان إسلامهما سنة سبع أجيب بأن كون الأمر بقتل الكلام في أوائل الهجرة يحتاج إلى دليل قطعي ولئن سلمنا ذلك فكان يمكن أن يكون أبو هريرة قد سمع ذلك من صحابي أنه أخبره أن النبي عليه الصلاة و السلام لما نهى عن قتل الكلاب نسخ الأمر بالغسل سبعا من غير تأخير فرواه أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة و السلام لاعتماده على صدق المروي عنه لأن الصحابة كلهم عدول وكذلك عبد الله بن المغفل وقال بعض أصحابنا عملت الشافعية بحديث أبي هريرة وتركوا العمل بحديث ابن المغفل وكان يلزمهم العمل بذلك ويوجبوا ثماني غسلات وعارض هذا القائل بأنه لا يلزم من كون الشافعية لا يقولون بحديث ابن مغفل ان يتركوا العمل بالحديث أصلا ورأسا لأن اعتذار الشافعية عن ذلك إن كان متجها فذاك وإلا فكل من الفريقين ملوم في ترك العمل به وأجيب بأن زيادة الثقة مقبولة ولا سيما من صحابي فقيه وتركها لا وجه له فالحديثان في نفس الأمر كالواحد والعمل ببعض الحديث وترك بعضه لا يجوز واعتذارهم غير متجه لذلك المعنى ولا يلام الحنفية في ذلك لأنهم عملوا بالحديث الناسخ وتركوا العمل بالمنسوخ وقال بعض الحنفية وقع الإجماع على خلافه في العمل وعارض هذا القائل بأنه ثبت القول بذلك عن الحسن وبه قال أحمد في رواية وأجيب بأن مخالفة الأقل لا تمنع انعقاد الإجماع وهو مذهب كثير من الأصوليين وقالوا عن الشافعي أنه قال حديث ابن مغفل لم أقف على صحته قلنا هذا ليس بعذر وقد وقف جماعة كثيرون على صحته ولا يلزم من عدم ثبوته عند الشافعي ترك العمل به عند غيره
173 - حدثنا ( إسحاق ) قال أخبرنا ( عبد الصمد ) قال حدثنا ( عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ) قال سمعت أبي عن ( أبي صالح ) عن ( أبي هريرة ) عن النبي أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة
هذا من الأحاديث التي احتج بها البخاري على طهارة سؤر الكلب على ما يأتي في الأحكام
بيان رجاله وهم ستة الأول أسحاق بن منصور الكوسج على ما جزم به أبو نعيم في ( المستخرج ) وقال الكلاباذى والجياني اسحاق بن منصور وإسحاق بن إبراهيم يرويان عن عبد الصمد وقال الكرماني إسحاق هذا هو ابن إبراهيم قلت إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج الحافظ أبو يعقوب التيمي المروزي نزيل نيسابور قال مسلم ثقة مأمون أحد الأئمة مات في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين ومائين روى عنه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأما إسحاق بن إبراهيم بن العلاء أبو يعقوب الحمصي روى عنه البخاري في الأدب وقال النسائي ليس بثقة وإسحاق بن ابراهيم بن أبي إسرائيل أبو يعقوب المروزي روى عنه البخاري أيضا في الأدب وعن يحيى ثقة وإسحاق بن إبراهيم البغوي لؤلؤ ابن عم أحمد بن منيع روى عنه البخاري ووثقه الدارقطني وجماعة وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الإمام أبو يعقوب الحنظلي النيسابوري الدارقطني المروزي الأصل المعروف بابن راهويه أحد الأعلام روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي الثاني عبد الصمد بن عبد الوارث تقدم الثالث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المزني العدوي مولى ابن عمر بن الخطاب تكلموا فيه لكنه صدوق وهو من أفراد البخاري عن مسلم وروى له أبو داود والترمذي والنسائي الرابع أبوه عبد الله ابن دينار مولى ابن عمر التابعي وليس في كتب الستة سواه نعم في ابن ماجه عبد الله بن دينار الحمصي وليس بقوي الخامس ابو صالح الزيات ذكوان وقد تقدم السادس أبو هريرة رضي الله تعالى عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث

(3/42)


والإخبار والسماع والعنعنة ومنها أن رواته ما بين مروزي وبصري ومدني ومنها أن فيه تابعين وهما عبد الله بن دينار وأبو صالح
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره هذا الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع في الشرب والمظالم والأدب وأخرجه أيضا من طريق ابن سيرين بينما كلب يطيف بركة كاد يقتله العطش إذ رأته بغي فنزعت موقها فسبقته فغفر لها أخرجه في ذكر بني إسرائيل وأخرجه مسلم في الحيوان وأخرجه أبو داود في الجهاد
بيان اللغات والإعراب قوله يأكل الثرى بفتح الثاء المثلثة والراء مقصور وهو التراب الندي قاله الجوهري وصاحب ( الغريبين ) وفي ( المحكم ) الثرى التراب وقيل التراب الذي إذا بل يصير طينا لازبا والجمع اثرى وفي ( مجمع الغرائب ) أصل الثرى الندى ولذلك قيل للعرق ثرى ومعنى يأكل الثرى يلعق التراب قوله من العطش أي من أجل العطش فإن قلت يأكل الثرى ما محله من الإعراب قلت نصب إما حال من كلبا أو صفة له قال الكرماني قلت لا يجوز أن يكون حالا لأن الشرط أن يكون ذو الحال معرفة وههنا نكرة ولا يجوز أيضا أن يكون مفعولا ثانيا لأن الرؤية بمعنى الإبصار قوله فجعل من أفعال المقاربة وهي ما وضع لدنو الخبر رجاء أو حصولا أو أخذا فيه والضمير فيه اسمه وقوله يغرف جملة خبره أي طفق يغرف له
بيان المعاني قوله حتى أرواه اي جعله ريان قوله فشكر الله له والشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح والمراد ههنا مجرد الثناء اي فاثنى الله تعالى عليه أو المراد منه الجزاء إذ الشكر نوع من الجزاء أي فجزاه الله تعالى فان قلت إدخال الجنة هو نفس الجزاء فما معنى الثناء قلت هو من باب عطف الخاص على العام أو الفاء تفسرية نحو فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ( البقرة 54 ) على ما فسر به من أن القتل كان نفس نوبتهم فإن قلت هذه القصة متى وقعت قلت هذه من الوقائع التي وقعت في زمن بني اسرائيل فلذلك قال إن رجلا ولم يسم
بيان استنباط الأحكام الأول فيه الإحسان إلى كل حيوان بسقيه أو نحوه وهذا في الحيوان المحترم وهو ما لا يؤمر بقتله ولا يناقض هذا ما أمرنا بقتله أو أبيح قتله فإن ذلك إنما شرع لمصلحة راجحة ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة الثاني فيه حرمة الإساءة إليه وإثم فاعله فإنه ضد الإحسان المؤجر عليه وقد دخلت تلك المرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت الثالث قال بعض المالكية أراد البخاري بإيراد هذا الحديث طهارة سؤر الكلب لأن الرجل ملأ خفه وسقاه به ولا شك أن سؤره بقي فيه وأجيب بانه ليس فيه أن الكلب شرب الماء من الخف إذ قد يجوز أن يكون غرفه به ثم صب في مكان غيره أو يمكن أن يكون غسل خفه إن كان سقاه فيه وعلى تقدير أن يكون سقاه فيه لا يلزمنا هذا لأن هذا كان في شريعة غيرنا على ما رواه النسائي عن أبي هريرة وقال الكرماني أقول فيه دغدغة إذ لا يعلم منه أنه كان في زمن بعثة رسول الله أو كان قبلها أو كان بعدها قبل ثبوت حكم سؤر الكلاب أو أنه لم يلبس بعد ذلك أو غسله قلت لا حاجة إلى هذا الترديد فإنه روي عن ابي هريرة أنه كان في شريعة غيرنا على ما ذكرنا الرابع يفهم منه وجوب نفقة البهائم المملوكة على مالكها بالإجماع
174 - وقال ( أحمد بن شبيب ) حدثنا أبي عن ( يونس ) عن ( ابن شهاب ) قال ( حدثنى حمزة بن عبد الله ) عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك
هذا الذي ذكره البخاري معلقا احتج به في طهارة الكلب وطهارة سؤره وجواز ممره في المسجد
بيان رجاله وهم ستة الأول أحمد بن شبيب بفتح الشين المعجمة وكسر الباء الموحدة ابن سعيد التميمي البصري شيخ البخاري ولم يخرج له غيره أصله من البصرة نزل مكة مات بعد المائتين ووالده أخرج له النسائي وهو صدوق الثاني أبوه شبيب المذكور وكان من أصحاب يونس وكان يختلف في التجارة إلى مصر وكتابه كتاب صحيح الثالث يونس بن يزيد الأيلي وقد تقدم الرابع ابن شهاب محمد بن مسلم الزهري تقدم الخامس حمزة بالحاء المهملة والزاي ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أبو عمارة القرشي العدوي المدني التابعي ثقة قليل الحديث روى له الجماعة السادس ابوه عبد الله بن عمر

(3/43)


بيان لطائف اسناده منها أن فيه القول والتحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بصري وأيلي ومدني ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي
بيان من أخرجه غيره أخرجه أبو داود حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبد الله بن وهب قال اخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله وكنت شابا فتى عزبا وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك وأخرجه الإسماعيلي حدثنا ابو يعلى حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب اخبرني يونس عن ابن شهاب حدثنى حمزة بلفظ كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر ورواه أبو نعيم عن أبي إسحاق بن محمد حدثنا موسى بن سعيد عن أحمد بن شبيب وقال رواه البخاري بلا سماع
بيان المعنى والإعراب قوله كانت الكلاب تقبل وتدبر وفي رواية أبي داود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي أيضا كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر بزياد تبول قبل تقبل وتدبر وستقف على معنى هذه الزيادة قوله تقبل جملة في محل النصب على الخبرية إن جعلت كانت ناقصة وإن جعلت تامة بمعنى وجدت كان محل الجملة النصب على الحال قوله في المسجد حال أيضا والتقدير حال كون الإقبال والإدبار في المسجد والألف واللام فيه للعهد اي في مسجد رسول الله قوله فلم يكونوا يرشون من رش الماء وحكى ابن التين عن الداودي أنه أبدل قوله يرشون بلفظ يرتقبون بإسكان الراء وفتح التاء المثناة من فوق وكسر القاف بعدها باء موحدة وفسر معناه بقوله ولا يخشون فصحف اللفظ وأبعد في التفسير لأن معنى الارتقاب الانتظار وأما نفي الخوف من نفي الارتقاب فهو تفسير ببعض لوازمه قوله من ذلك أي من المسجد وهو إشارة إلى البعيد في المرتبة أي ذلك المسجد العظيم البعيد درجته عن فهم الناس
بيان استنباط الأحكام الأول احتج به البخاري على طهارة بول الكلب كما ذكرنا عن قريب فإن هذا التركيب يشعر باستمرار الإقبال والإدبار ولفظ في زمان رسول الله عليه الصلاة و السلام دال على عموم جميع الأزمنة إذ اسم الجنس المضاف من الألفاظ العامة وفي فلم يكونوا يرشون مبالغة ليس في قولك فلم يرشوا به بدون لفظ الكون كما في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم ( الأنفال 33 ) حيث لم يقل وما يعذبهم الله وكذا في لفظ الرش حيث اختاره على لفظ الغسل لأن الرش ليس فيه جريان الماء بخلاف الغسل فإنه يشترط فيه الجريان فنفي الرش يكون أبلغ من نفي الغسل ولفظ شيئا أيضا عام لأنه نكرة وقعت في سياق النفي وهذا كله للمبالغة في طهارة سؤره إذ في مثل هذه الصورة الغالب أن لعابه يصل إلى بعض أجزاء المسجد فإذا قرر الرسول عليه الصلاة و السلام ذلك ولم يأمره بغسله قط علم أنه طاهر وهذا كله من ناصري البخاري والجواب أن نقول لا دلالة على ذلك والذي ذكروه إنما كان لأن طهارة المسجد متيقنة غير مشكوك فيها واليقين لا يرفع بالظن فضلا عن الشك وعلى تقدير دلالته فدلالته لا تعارض منطوق الحديث الناطق صريحا بإيجاب الغسل حيث قال فليغسله سبعا وأما على رواية من روي كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر فلا حجة فيه لمن استدل به على طهارة الكلاب للاتفاق على نجاسة بولها وتقرير هذا أن إقبالها وإدبارها في المسجد ثم لا يرش فالذي في روايته تبول يذهب إلى طهارة بولها وكان المسجد لم يكن يغلق وكانت تتردد وعساها كانت تبول إلا أن علم بولها فيه لم يكن عند النبي ولا عند اصحابه ولا عند الراوي أي موضع هو ولو كان علم لأمر بما أمر في بول الأعرابي فدل ذلك أن بول ما سواه في حكم النجاسة سواء وقال الخطابي يتأول على أنها كانت لا تبول في المسجد بل في مواطنها وتقبل وتدبر في المسجد عابرة إذ لا يجوز أن تترك الكلاب تبات في المسجد حتى تمتهنه وتبول فيه وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات نادرة ولم يكن على المسجد أبواب تمنع من عبورها فيه قلت إنما تأول الخطابي بهذا التأويل حتى لا يكون الحديث حجة للحنفية في قولهم لأن أصحابنا استدلوا به على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء فذهب أثرها تطهر في حق الصلاة خلافا للشافعي واحمد وزفر والدليل على ذلك أن أبا داود وضع لهذا الحديث باب طهور الأرض إذا يبست وأيضا قوله فلم يكونوا يرشون شيئا إذ عدم الرش يدل على جفاف الأرض وطهارتها ومن أكبر موانع تأويله أن قوله في المسجد ليس ظرفا لقوله وتقبل وتدبر وحده وإنما هو ظرف لقوله تبول وما بعده كلها فافهم

(3/44)


ويقال الأوجه في هذا أن يقال كان ذلك في ابتداء الإسلام على أصل الإباحة ثم ورد الأمر بتكريم المسجد وتطهيره وجعل الأبواب على المساجد
الثاني أن ابن بطال قال فيه إن الكلب طاهر لأن إقبالها وإدبارها في الأغلب يقتضي أن تجر فيه أنوفها وتلحس الماء وفتات الطعام لأنه كان مبيت الغرباء والوفود وكانوا يأكلون فيه وكان مسكن أهل الصفة ولو كان الكلب نجسا لمنع من دخول المسجد لاتفاق المسلمين على أن الأنجاس تجنب المساجد والجواب عنه ما ذكرنا
الثالث احتج به أصحابنا على طهارة الأرض بجفاف النجاسة عليها كما ذكرناه
175 - ( حدثنى حفص بن عمر ) قال حدثنا ( شعبة ) عن ( ابن أبي السفر ) عن ( الشعبي ) عن ( عدي بن حاتم ) قال سألت النبي صلى الله عليه و سلم فقال إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل وإذا أكل فلا تأكل فانما أمسكه على نفسه قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر قال فلا تأكل فانما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر
أخرج البخاري هذا الحديث ليستدل به لمذهبه في طهارة سؤر الكلب وهو مطابق لقوله وسؤر الكلب في أول الباب
بيان رجاله وهم خمسة الأول حفص بن عمر الثاني شعبة بن الحجاج الثالث ابن أبي السفر بفتح السين المهملة وفتح الفاء اسمه عبد الله وأبو السفر اسمه سعيد بن محمد ويقال أحمد الهمداني الكوفي الرابع الشعبي واسمه عامر كلهم ذكروا الخامس عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي أبو طريف بفتح الطاء الجواد بن الجواد قدم على النبي في سنة سبع روي له عن رسول الله ستة وستون حديثا ذكر البخاري ومسلم منها ثلاثة وانفرد مسلم بحديثين نزل الكوفة ومات بها زمن المختار وهو ابن عشرين ومائة سنة ويقال مات بقرقيسيا وكان أعور وقال أبو حاتم السجستاني في ( كتاب المعمرين ) قالوا عاش عدي بن حاتم مائة وثمانين سنة
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي ومنها أن كلهم أئمة أجلاء
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في البيوع والصيد والذبائح وأخرجه مسلم في الصيد عن أبي بكر بن أبي شيبة وأخرجه أبو داود فيه عن هناد بن السري وأخرجه ابن ماجه فيه عن علي بن المنذر
بيان الإعراب والمعنى قوله قال أي عدي قوله سألت النبي جملة من الفعل والفاعل والمفعول ذكر المسؤول عنه ولم يذكر المسؤول واكتفى بالجواب لأنه كان يحتمل أن يكون علم أصل الإباحة ولكنه حصل عنده شك في بعض أمور الصيد فاكتفى بالجواب والتقدير سألت النبي عن حكم صيد الكلاب وقد صرح البخاري به في روايته الأخرى في كتاب الصيد ويحتمل أن يكون قام عنده مانع من الإباحة التي علم أصلها وقال بعضهم حذف لفظ السؤال اكتفاء بدلالة الجواب قلت المحذوف ليس لفظ السؤال وإنما المحذوف لفظ المسؤول كما قلنا قوله قال فقال فاعل قال الأولى هو عدي وفاعل فقال هو النبي قوله كلبك المعلم قال الكرماني المعلم هو الذي ينزجر بالزجر ويسترسل بالإرسال ولا يأكل من الصيد لإمرة بل مرارا قلت كون الكلب معلما مفوض إلى رأي المعلم عن ابي حنيفة لانه يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال وعند ابي يوسف ومحمد بترك اكله ثلاث مرات وعند الشافعي بالعرف وعند مالك بالانزجار وأما اشتراط التعلم فلقوله تعالى وما علمتم من الجوارح ( المائدة 4 ) قوله فقتل أي فقتل الكلب الصيد وطوى ذكر المفعول للعلم به قوله فلا تأكل أي الصيد الذي أكل منه الكلب وعلل بقوله فإنما أمسكه على نفسه و الفاء فيه للتعليل قوله قلت قائله عدي هو سؤال آخر
بيان استنباط الأحكام الأول أن البخاري احتج به لمذهبه في طهارة سؤر الكلب وذلك لأنه عليه الصلاة و السلام أذن لعدي رضي الله عنه في أكل ما صاده الكلب ولم يقيد ذلك بغسل موضع فمه ومن ثم قال مالك كيف يؤكل صيده ويكون لعابه نجسا وأجاب الإسماعيلي بأن الحديث سيق لتعريف أن قتله ذكاته وليس فيه إثبات نجاسته ولا نفيها ولذلك لم يقل له إغسل الدم إذا خرج من جرح نابه وفيه نظر لأنه يحتمل أن يكون وكل إليه ذلك كما تقرر عنده من وجوب غسل

(3/45)


الدم ويدفع ذلك بأن المقام مقام التعريف ولو كان ذلك واجبا لبينه عليه الصلاة و السلام وقال الكرماني وجه ارتباط هذا الحديث بالترجمة على ما في بعض النسخ من لفظ وأكلها بعد لفظ المسجد كما ذكر مالك عند قوله وسؤر الكلاب وممرها في المسجد
الثاني أن في إطلاق الكلب دلالة لإباحة صيد جميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها وقال أحمد لا يحل صيد الكلب الأسود لأنه شيطان وإطلاق الحديث حجة عليه
الثالث أن التسمية شرط لقوله عليه الصلاة و السلام فإنما سميت على كلبك اي ذكرت اسم الله تعالى على كلبك عند إرساله وعلم من ذلك أنه لا بد من شروط أربعة حتى يحل الصيد الأول الإرسال والثاني كونه معلما والثالث الإمساك على صاحبه بأن لا يأكل منه والرابع أن يذكر اسم الله عليه عند الإرسال واختلف العلماء في التسمية فذهب الشافعي إلى أنها سنة فلو تركها عمدا أو سهوا يحل الصيد والحديث حجة عليه وقالت الظاهرية التسمية واجبة فلو تركها سهوا أو عمدا لم يحل وقال ابو حنيفة لو تركها عمدا لم يحل ولو تركها سهوا يحل وسيجىء مزيد الكلام فيه في كتاب الذبائح
الرابع فيه إباحة الاصطياد للاكتساب والحاجة والانتفاع به بالأكل وغيره ودفع الشر والضرر واختلفوا فيمن صاد للهو والتنزه فأباحه بعضهم وحرمه الأكثرون وقال مالك إن فعله ليذكيه فمكروه وإن فعله من عير نية التذكية فحرام لأنه فساد في الأرض وإتلاف نفس
الخامس فيه التصريح بمنع أكل ما أكل منه الكلب
السادس فيه أن مقتضى الحديث عدم الفرق بين كون المعلم بكسر اللام ممن تحل ذكاته أو لا وذكر ابن حزم في ( المحلى ) عن قوم اشتراط كونه ممن تحل ذكاته وقال قوم لا يحل صيد جارح علمه من لا يحل أكل ما ذكاه وروي في ذلك آثار منها عن يحيى بن عاصم عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كره صيد باز المجوسي وصقره ومنها عن ابن الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه قال لا يؤكل صيد المجوسي ولا ما أصابه سهمه ومنها عن خصيف قال قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تأكل ما صيد بكلب المجوسي وان سميت فإنه من تعليم المجوسي قال تعالى تعلمونهن مما علمكم الله ( المائدة 4 ) وجاء هذا القول عن عطاء ومجاهد والنخعي ومحمد وابن علي وهو قول سفيان الثوري
السابع فيه أن الإرسال شرط حتى لو استرسل بنفسه يمنع من أكل صيده وقالت الشافعية ولو أرسل كلبا حيث لا صيد فاعترضه صيد فأخذه لم يحل على المشهور عندنا وقيل يحل ثم إعلم أن الصيد حقيقة في المتوحش فلو استأنس ففيه خلاف العلماء على ما ياتي في كتاب الصيد إن شاء الله تعالى
الثامن الحديث صريح في منع ما أكل منه الكلب وفي حديث أبي ثعلبة الخشني في سنن أبي داود بإسناد حسن كله وإن أكل منه الكلب قلت التوفيق بين الحديث بأن يجعل حديث أبي ثعلبة أصلا في الإباحة وأن يكون النهي في حديث عدي بن حاتم على معنى التنزيه دون التحريم قاله الخطابي وقال أيضا ويحتمل أن يكون الأصل في ذلك حديث عدي ويكون النهي عن التحريم الثابت فيكون المراد بقوله وإن أكل منه الكلب فيما مضى من الزمان وتقدم منه لا في هذه الحالة وذلك لأن من الفقهاء من ذهب الى أنه إذا أكل الكلب المعلم من الصيد مرة بعد أن كان لا يأكل فإنه يحرم كل صيد كان قد اصطاده فكأنه قال كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم إذا لم يكن قد أكل منه في هذه الحالة قلت هذا الذي ذكره هو قول ابي حنيفة وأول بهذا التأويل ليكون الحديث حجة عليه وليس الأمر كذلك فإن في ( الصحيحين ) إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه
34 -
( باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين القبل والدبر )
أي هذا باب في بيان قول من لم ير الوضوء إلا من المخرجين وهو تثنية مخرج بفتح الميم وبين ذلك بطريق عطف البيان بقوله القبل والدبر ويجوز أن يكون جرهما بطريق البدل والقبل يتناول الذكر والفرج وقال الكرماني فإن قلت للوضوء أسباب أخر مثل النوم وغيره فكيف حصر عليهما قلت الحصر إنما هو بالنظر إلى اعتقاد الخصم إذ هو رد لما اعتقده والاستثناء مفرغ فمعناه من لم ير الوضوء من مخرج من مخارج البدن إلا من هذين المخرجين وهو رد لمن راى أن الخارج من البدن بالفصد مثلا ناقض الوضوء فكأنه قال من لم ير الوضوء إلا من المخرجين لا من مخرج آخر كالفصد كما هو اعتقاد الشافعي قلت فيه مناقشة من وجوه الأول أنه جعل مثل النوم سببا للوضوء وليس كذلك لأن

(3/46)


النوم ونحوه سبب لانتقاض الوضوء لا للوضوء والذي يكون سببا لنفي شيء كيف يكون سببا لإثباته الثاني قوله بالنظر إلى اعتقاد الخصم ليس كذلك وإنما هو حصر بالنظر إلى اعتقاد خصم الخصم والخصم لا يدعي الحصر على المخرجين الثالث إن قوله فمعناه من لم ير الوضوء من مخرج إلى آخره يرده حكم من طعن في سرته وخرج البول والعذرة تنتقض الطهارة عند الخصم أيضا فعلمنا من هذا أن احكم الخارج من القبل والدبر وغيرهما سواء في الحكم فلا يتفاوت
ثم المناسبة بين البابين أن الباب السابق في نفي النجاسة عن شعر الإنسان وعن سؤر الكلب وفي هذا الباب نفي انتقاض الوضوء من الخارج من غير المخرجين وأدنى المناسبة كافية
لقول الله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط
هذا لا يصلح أن يكون دليلا لما ادعاه من الحصر على الخارج من المخرجين لأن عندهم ينتقض الوضوء من لمس النساء ومس الفرج فإذا الحصر باطل وقال الكرماني الغائط المطمئن من الأرض فيتناول القبل والدبر إذ هو كناية عن الخارج من السبيلين مطلقا قلت تناوله القبل والدبر لا يستلزم حصر الحكم على الخارج منهما فالآية لا تدل على ذلك لان الله تعالى أخبر أن الوضوء أو التيمم عند فقد الماء يجب بالخارج من السبيلين وليس فيه ما يدل على الحصر فقال بعضهم هذا دليل الوضوء مما يخرج من المخرجين قلت نحن نسلم ذلك ولكن لا نسلم دعواك أيها القائل إن هذا حصر على الخارج منهما وقال أيضا أو لامستم النساء ( النساء 43 المائدة 6 ) دليل الوضوء من ملامسة النساء قلت الملامسة كناية عن الجماع وقال ابن عباس المس واللمس والغشيان والإتيان والقربان والمباشرة الجماع لكنه عز و جل حي كريم يعفو ويكني فكنى باللمس عن الجماع كما كنى بالغائط عن قضاء الحاجة ومذهب علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبيدة السلماني بفتح العين المهملة وعبيدة الضبي بضم العين وعطاء وطاوس والحسن البصري والشعبي والثوري والأوزاعي أن اللمس والملامسة كناية عن الجماع وهو الذي صح عن عمر بن الخطاب أيضا على ما نقله أبو بكر بن العربي وابن الجزري فحينئذ بطل قول هذا القائل وقوله او لامستم النساء ( النساء 43 المائدة 6 ) دليل الوضوء بل هو دليل الغسل وقال أيضا وفي معناه مس الذكر قلت هذا أبعد من الأول فإن كانت الملامسة بمعنى الجماع كيف يكون مس الذكر مثله فيلزم من ذلك أن يجب الغسل على من مس ذكره وقوله مع صحة الحديث اي في مس الذكر قلت وإن كان الحديث فيه صحيحا قلنا أحاديث وأخبار ترفع حكم هذا كما قررنا في موضعه في غير هذا الكتاب
وقال عطاء فيمن يخرج من دبره الدود أو من ذكره نحو القملة يعيد الوضوء
عطاء هو ابن ابي رباح وهذا تعليق وصله ابن ابي شيبة في ( مصنفه ) بإسناد صحيح وقال حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن عطاء فذكره وقال ابن المنذر أجمعوا على أنه ينقض خروج الغائط من الدبر والبول من القبل والريح من الدبر والمذي قال ودم الاستحاضة ينقض في قول عامة العلماء الأربعة قال واختلفوا في الدود يخرج من الدبر فكان عطاء ابن ابي رباح والحسن وحماد بن أبي سليمان وأبو مجلز والحكم وسفيان والثوري والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور يرون منه الوضوء وقال قتادة ومالك لا وضوء فيه روروي ذلك عن النخعي وقال مالك لا وضوء في الدم يخرج من الدبر انتهى ونقلت الشافعية عن مالك أن النادر لا ينقض والنادر كالمذي يدوم لا بشهوة فإن كان بها فليس بنادر وكذا نقل ابن بطال عنه فقال وعند مالك أن ما خرج من المخرجين معتادا ناقض وما خرج نادرا على وجه المرض لا يقض الوضوء كالاستحاضة وسلس البول ابو والمذي والحجر والدود والدم وقال ابن حزم المذي والبول والغائط من أي موضع خرجن من الدبر أو الإحليل أو المثانة أو البطن أو غير ذلك من الجسد أو الفم ناقض للوضوء لعموم أمره عليه الصلاة و السلام بالوضوء منها ولم يخص موضعا دون موضع وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والريح الخارجة من ذكر الرجل وقبل المرأة لا ينقض الوضوء عندنا هكذا ذكره الكرخي عن أصحابنا إلا أن تكون المرأة مفضاة وهي التي صار مسلك بولها ووطئها واحدا أو التي صار مسلك الغائط والوطء منها واحدا وعن الكرخي إن الريح

(3/47)


لا يخرج من الذكر وإنما هو اختلاج وقيل إن كانت الريح منتنة يجب الوضوء وإلا فلا وفي ( الذخيرة ) والدودة الخارجة من قبل المرأة على هذه الأقوال وفي ( القدوري ) توجب الوضوء وفي الذكر لا تنقض وإن خرجت الدودة من الفم او الأنف أو الأذن لا تنقض
وقال جابر بن عبد الله إذا ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء
هذا التعليق وصله البيهقي في ( المعرفة ) عن أبي عبد الله الحافظ حدثنا أبو الحسن بن ماتي حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي سفيان مرفوعا سئل جابر فذكره ورواه أبو شيبة قاضي واسط عن يزيد بن أبي خالد عن أبي سفيان مرفوعا واختلف عليه في سننه والموقوف هو الصحيح ورفعه ضعيف قال البيهقي وروينا عن عبد الله ابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأبي أمامة الباهلي ما يدل على ذلك وهو قول الفقهاء السبعة وقال الشعبي وعطاء والزهري وهو إجماع فيما ذكره ابن بطال وغيره وإنما الخلاف هل ينقض الوضوء فذهب مالك والليث والشافعي إلى أنه لا ينقض وذهب النخعي والحسن إلى أنه ينقض الوضوء والصلاة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي مستدلين بالحديث الذي رواه الدارقطني عن ابي المليح عن أبيه بينا نحن نصلي خلف رسول الله عليه الصلاة و السلام إذا أقبل رجل ضرير البصر فوقع في حفرة فقال رسول الله من ضحك منكم فليعد الوضوء والصلاة ورواه أيضا من حديث أنس وعمران بن حصين وأبي هريرة وضعفها كلها قلت مذهب أبي حنيفة ليس كما ذكره وإنما مذهبه مثل ما روي عن جابر أن الضحك يبطل الصلاة ولا يبطل الوضوء والقهقهة تبطلهما جميعا والتبسم لا يبطلهما والضحك ما يكون مسموعا له دون جيرانه والقهقهة ما يكون مسموعا له ولجيرانه والتبسم ما لا صوت فيه ولا تأثير له دون واحد منهما فان قال كيف استدلت الحنيفة بالحديث الذي رواه الدارقطني وليس فيه إلا الضحك دون القهقهة قلت المراد من قوله من ضحك منكم قهقهة يدل عليه ما رواه ابن عمر قال قال رسول الله من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء والصلاة رواه ابن عدي في ( الكامل ) من حديث بقية حدثنا أبي عمرو بن قيس عن عطاء عن ابن عمر والأحاديث يفسر بعضها بعضا فان قيل قال ابن الجوزي هذا حديث لا يصح فإن بقية من عادته التدليس قلت المدلس إذا صرح بالتحديث وكان صدوقا زالت تهمة التدليس وبقية صرح بالتحديث وهو صدوق
ولنا في هذا الباب أحد عشر حديثا عن رسول الله منها أربعة مرسلة وسبعة مسندة
فأول المراسيل حديث ابي العالية الرياحي رواه عنه عبد الرزاق عن قتادة عن ابي العالية وهو عدل ثقة أن أعمى تردى في بئر والنبي يصلي بأصحابه فضحك بعض من كان يصلي معه عليه الصلاة و السلام فأمر النبي عليه السلام من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة وأخرجه الدارقطني من جهة عبد الرزاق بسنده وعبد الرزاق فمن فوقه من رجال الصحيح وأبو العالية اسمه رفيع ابن مهران الرياحي البصري أدرك الجاهلية وأسلم بعد موت النبي عليه الصلاة و السلام بسنتين ودخل على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وصلى خلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وروى عن جماعة من الصحابة ووثقه يحيى وأبو زرعة وأبو حاتم وروى له الجماعة وقال ابن رشد المالكي هو مرسل صحيح ولم يقل الشافعي إلا بإرساله والمرسل عندنا حجة وكذا عند مالك قاله أبو بكر ابن العربي وكذا عن أحمد حكى ذلك ابن الجوزي في التحقيق وروي ذلك أيضا من طرق سبعة متصلة ذكرها جماعة منهم ابن الجوزى والثاني من المراسيل مرسل الحسن البصري رواه الدارقطني بإسناده إليه وهو أيضا مرسل صحيح والثالث مرسل النخعي رواه أبو معاوية عن الأعمش عن النخعي قال جاء رجل ضرير البصر والنبي عليه الصلاة و السلام يصلي الحديث والرابع مرسل معبد الجهني روي عنه من طرق
وأول المسانيد حديث عبد الله بن عمر وقد ذكرناه والثاني حديث أنس بن مالك رواه الدارقطني من طرق والثالث حديث أبي هريرة من رواية أبي أمية عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال إذا قهقهه في الصلاة أعاد الوضوء وأعاد الصلاة رواه الدارقطني والرابع حديث عمران بن حصين عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه

(3/48)


قال من ضحك في الصلاة قرقرة فليعد الوضوء والخامس حديث جابر أخرجه الدارقطني والسادس حديث ابي المليح بن أسامة أخرجه الدارقطني أيضا والسابع حديث رجل من الأنصار أن رسول الله عليه الصلاة و السلام كان يصلي فمر رجل في بصره سوء فتردى في بئر وضحك طوائف من القوم فأمر رسول الله من كان ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة رواه الدارقطني وقال بعضهم حاكيا عن ابن المنذر أجمعوا على أنه لا ينقض خارج الصلاة واختلفوا إذا وقع فيها فخالف من قال بالقياس الجلي وتمسكوا بحديث لا يصح وحاشا أصحاب رسول الله عليه الصلاة و السلام الذين هم خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله سبحانه خلف رسول الله عليه الصلاة و السلام قلت هذا القائل أعجبه هذا الكلام المشوب بالطعن على الأئمة الكبار وفساده ظاهر من وجوده الأول كيف يجوز التمسك بالقياس مع وجود الأخبار المشتملة على مراسيل مع كونها حجة عندهم والثاني قوله تمسكوا بحديث لا يصح وليس الأمر كذلك بل تمسكوا بالأحاديث التي ذكرناها وإن كان بعضهم قد ضعف منها فبكثرتها واختلاف طرقها ومتونها ورواتها تتعاضد وتتقوى على ما لا يخفى ومع هذا فإن الرواة الذين فيها من الضعفاء على زعم الخصم لا يسلمه من يعمل بأحاديثهم ولم يسلم أحد من التكلم فيه والثالث قوله حاشا من أصحاب رسول الله إلى آخره ليس بحجة في ترك العمل في الأخبار المذكورة وكان يصلي خلف النبي الصحابة وغيرهم من المنافقين والأعراب الجهال وهذا من باب حسن الظن بهم وإلا فليس الضحك كبيرة وهم ليسوا من الصغائر بمعصومين ولا عن الكبائر على تقدير كونه كبيرة ومع هذا وقع من الأحداث في حضرة النبي ما هو أشد من هذا وقال القائل المذكور بعد نقله كلام ابن المنذر الذي ذكرناه على أنهم لم يأخذوا بمفهوم الخبر المروي في الضحك بل خصوه بالقهقهة قلت هذا كلام من لا ذوق له من دقائق التراكيب وكيف لم يأخذوا بمفهوم الخبر المروي في الضحك ولو لم يأخذوا ما قالوا الضحك يفسد الصلاة ولا خصوه بالقهقهة فإن لفظه القهقهة ذكر صريحا كما جاء في حديث ابن عمر صريحا وجاء أيضا لفظ القرقرة في حديث عمران بن حصين وقد ذكرناهما قريبا وقد ذكرنا أن الأحاديث يفسر بعضها بعضا
وقال الحسن إن أخذ من شعره وأظفاره أو خلع خفيه فلا وضوء عليه
أي قال الحسن البصري رضي الله عنه وهذه مسألتان ذكرهما بالتعليق التعليق الأول وهو قوله ان اخذ من شعره أو اظفاره أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحيح موصولا وبه قال أهل الحجاز والعراق وعن ابي العالية والحكم وحماد ومجاهد إيجاب الوضوء في ذلك وقال عطاء والشافعي والنخعي يمسه الماء وقال اصحابنا الحنفية ولو حلق رأسة بعد الوضوء أو جز شاربه أو قلم ظفره أو قشط خفه بعد مسحه فلا إعادة عليه وقال ابن جرير وعليه الإعادة وقال إبراهيم عليه إمرار الماء على ذلك الموضع والتعليق الثاني وصله ابن ابي شيبة بإسناد صحيح عن هشام عن يونس عنه قوله او خلع خفيه قيد بالخلع لأنه إذا أخذ من خفيه بمعنى قشط من موضع المسح فلا وضوء عليه وأما لو خلع خفيه بعد المسح عليهما ففيه أربعة أقوال فقال مكحول والنخعي وابن أبي ليلى والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق يستأنف الوضوء وبه قال الشافعي في القول القديم والقول الثاني يغسل رجليه مكانه فإن لم يفعل استأنف الوضوء وبه قال مالك والليث والثالث يغسلهما إذا أراد الوضوء وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في ( الجديد ) والمزني وأبو ثور والرابع لا شيء عليه ويغسل كما هو وبه قال الحسن وقتادة وروي مثله عن النخعي
وقال أبو هريرة لا وضوء من حدث
هذا التعليق وصله إسماعيل القاضي في ( الأحكام ) بإسناد صحيح من حديث مجاهد عنه موقوفا ورواه أبو عبيد في كتاب ( الطهور ) بلفظ لا وضوء إلا من حدث أو صوت أو ريح وقال بعضهم ورواه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق شعبة عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعا قلت الذي رواه أبو داود غير ما روي عن ابي هريرة وخلافة على ما تقف عليه الآن وقال الكرماني معنى لا وضوء إلا من حدث لا وضوء إلا من الخارج من السبيلين قلت الحدث أعم من هذا وكل واحد من الإغماء والنوم والجنون حدث وجميع الأئمة يقولون لا وضوء إلا من حدث فإن اعتمد الكرماني في هذا

(3/49)


التفسير على حديث أبي داود المرفوع فلا يساعده ذلك لأن لفظ حديث أبي داود عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أو لم يحدث فأشكل عليه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فالحدث هنا خاص وهو سماع الصوت أو وجدان الريح وأثر أبي هريرة عام في سائر الأحداث لأن قوله من حدث لفظ عام لا يختص بحدث دون حدث
ويذكر عن جابر أن النبي كان في غزوة ذات الرقاع فرمي رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته
الكلام فيه على أنواع
الأول أن هذا الحديث وصله ابن إسحاق في المغازي قال حدثني صدقة بن يسار عن عقيل ابن جابر عن ابيه قال خرجنا مع رسول الله يعني في غزوة ذات الرقاع فأصاب رجل أمرأة رجل من المشركين فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دما في أصحاب محمد فخرج يتبع أثر النبي فنزل النبي منزلا فقال من رجل يكلؤنا فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار قال كونا بفم الشعب قال فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأنصاري يصلي وأتى الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم فرماه بسهم فوضعه فيه ونزعه حتى مضى ثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ثم انتبه صاحبه فلما عرف أنه قد نذروا به هرب ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن اقطعها
الثاني أن هذا الحديث صحيح أخرجه ابن حبان في ( صحيحه ) والحاكم في ( مستدركه ) وصححه ابن خزيمة في ( صحيحه ) وأحمد في ( مسنده ) والدارقطني في ( سننه ) كلهم من طريق إسحاق فإن قلت إذا كان كذلك فلم لم يجزم به البخاري قلت قال الكرماني ذكره بصيغة التمريض لأنه غير مجزوم به بخلاف قوله قال جابر في الحديث الذي مضى هنا لأن قال ونحوه تعليق بصيغة التصحيح مجزوما به قلت فيه نظر لأن الحديث الذي قال فيه قال جابر لا يقاوم الحديث على ما وقفت عليه وكان على قوله ينبغي ان يكون الأمر بالعكس وقال بعضهم لم يجزم به لكونه مختصرا قلت هذا أبعد من تعليل الكرماني فإن كون الحديث مختصرا لا يستلزم أن يذكر بصيغة التمريض والصواب فيه أن يقال لأجل الاختلاف في ابن إسحاق
الثالث في رجاله وهم صدقة بن يسار الجزري سكن مكة قال ابن معين ثقة وقال ابو حاتم صالح روى له مسلم والنسائي وابن ماجه أيضا وعقيل بفتح العين ابن جابر الأنصاري الصحابي ولم يعرف له راو غير صدقة وجابر بن عبد الله بن عمر والأنصاري
الرابع في لغاته ومعناه قوله في غزوة ذات الرقاع سميت بإسم شجرة هناك وقيل باسم جبل هناك فيه بياض وسواد وحمرة يقال له الرقاع فسميت به وقيل سميت به لرقاع كانت في ألويتهم وقيل سميت بذلك لأن أقدامهم نقبت فلفوا عليها الخرق وهذا هو الصحيح لأن أبا موسى حاضر ذلك مشاهدة وقد أخبر به وكانت غزوة ذات الرقاع في سنة أربع من الهجرة وذكر البخاري أنها كانت بعد خيبر لأن أبا موسى جاء بعد خيبر قوله حتى أهريق أي أريق والهاء فيه زائدة قوله أثر النبي عليه الصلاة و السلام بفتح الهمزة والثاء المثلثة ويجوز بكسرها وسكون الثاء قوله من رجل كلمة من استفهامية أي أي رجل يكلؤنا اي يحرسنا من كلأ يكلأ كلاءة من باب فتح يفتح كلأته أكلؤه فأنا كالىء وهو مكلوء وقد تخفف همزة الكلاءة وتقلب ياء فيقال كلاية قوله فانتدب يقال ندبه للأمر فانتدب له اي دعا له فأجاب والرجلان هما عمار بن ياسر وعباد بن بشر ويقال الأنصاري وهو عمارة بن حزم والمشهور الأول قوله الشعب بكسر الشين الطريق في الجبل وجمعه شعاب قوله وقام الأنصاري وهو عباد بن بشر قوله ربيئة بفتح الراء وكسر الباء الموحدة هو العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه من ربأ يربأ من باب فتح يفتح قوله فرماه الضمير المرفوع يرجع إلى المشرك والمنصوب إلى الأنصاري قوله حتى مضى ثلاثة أسهم اي حتى كمل ثلاثة أسهم قوله قد نذروا به بفتح النون وكسر الذال المعجمة أي علموا وأحسوا بمكانه قوله ألا انبهتني كلمة ألا بفتح الهمزة والتخفيف بمعنى الإنكار فكأنه أنكر عليه عدم إنباهه ويجوز بالفتح والتشديد ويكون بمعنى هلا بمعنى اللوم والعتب على ترك الإنباه قوله كنت في سورة أقرؤها وكانت سورة الكهف حكاه البيهقي قوله فنزفه الدم

(3/50)


في رواية البخاري بفتح الزاي وبالفاء قال الجوهري يقال نزفه الدم إذا خرج منه دم كثير حتى يضعف فهو نزيف ومنزوف وقال ابن التين هكذا رويناه والدي عند أهل اللغة نزف دمه على صيغة المجهول أين سال دمه وقال ابن جني أنزفت البئر وأنزفت هي جاء مخالفا للعادة وفي ( المحكم ) أنزفت البئر نزحت وقال ابن طريق تميم تقول أنزفت وقيس تقول نزفت ونزفه الحجام ينزفه وينزفه أخرج دمه كله ونزفه الدم وإن شئت قلت أنزفه وحكى الفراء أنزفت البئر ذهب ماؤها
الخامس في استنباط الاحكام منه احتج الشافعي ومن معه بهذا الحديث أن خروج الدم وسيلانه من غير السبيلين لا ينقض الوضوء فإنه لو كان ناقضا للطهارة لكانت صلاة الأنصاري به تفسد أول ما أصابه الرمية ولم يكن يجوز له بعد ذلك أن يركع ويسجد وهو محدث واحتج أصحابنا الحنفية بأحاديث كثيرة أقواها وأصحها ما رواه البخاري في ( صحيحه ) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي عليه الصلاة و السلام فقال يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة قال لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم قال هشام قال أبي ثم توضيء لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت لا يقال قوله ثم توضيء لكل صلاة من كلام عروة لأن الترمذي لم يجعله من كلام عروة وصححه وأما احتجاج الشافعي ومن معه بذلك الحديث فمشكل جدا لأن الدم إذا سال أصاب بدنه وجلده وربما أصاب ثيابه ومن نزل عليه الدماء مع إصابة شيء من ذلك وإن كان يسيرا لا تصح صلاته عندهم ولئن قالوا إن الدم كان يخرج من الجراحة على سبيل الزرق حتى لا يصيب شيئا من ظاهر بدنة إن كان كذلك فهو أمر عجيب وهو بعيد جدا وقال الخطابي لست أدري كيف يصح الاستدلال به والدم إذا سال يصيب بدنه وربما أصاب ثيابه ومع إصابة شيء من ذلك وإن كان يسيرا لا تصح صلاته وقال بعضهم ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه فالظاهر أن البخاري كان يرى أن خروج الدم في الصلاة لا يبطل بدليل أنه ذكر عقيب هذا الحديث اثر الحسن البصري قال ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم قلت هذا أعجب من الكل وأبعد من العقل وكيف يجوز هذا القائل نسبة جواز الصلاة مع خروج الدم فيها مع غير دليل قوي إلى البخاري وأثر الحسن لا يدل على شيء من ذلك أصلا لأنه لا يلزم من قوله يصلون في جراحاتهم أن يكون الدم خارجا وقتئذ ومن له جراحة لا يترك الصلاة لأجلها بل يصلي وجراحته إما معصبة بشيء أو مربوطة بجبيرة ومع ذلك لو خرج شيء من ذلك تفسد صلاته بمجرد الخروج ولا بد من سيلانه ووصوله إلى موضع يلحقه حكم التطهير
وقال الحسن ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم
اي قال الحسن البصري ومعناه يصلون في جراحاتهم من غير سيلان الدم والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) عن هشام عن يونس عن الحسن أنه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلا هذا الذي روي عن الحسن بإسناد صحيح هو مذهب الحنفية وحجة لهم على الخصم فبطل بذلك قول القائل المذكور ولو لم يظهر الجواب إلى آخره ولم يكن المراد من أثر الحسن ما ذهب إليه فهمه بل وهمه فذلك مع علمه ووقوفه على الذي رواه ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) المذكور تركه ولم يذكره لكونه يرد عليه ما ذهب إليه ويبطل ما اعتمد عليه وليس هذا شأن المنصفين وإنما هذا دأب المعاندين المعتصبين الذي يدقون الحديد البارد على السندان
وقال طاوس ومحمد بن علي وأهل الحجاز ليس في الدم وضوء
طاوس هو ابن كيسان اليماني الحميري أحد الأعلام التابعين وخيار عباد الله الصالحين قال يحيى بن معين اسمه ذكوان وسمي طاوسا لأنه كان طاوس القراء ووصل أثره ابن ابي شيبة بإسناد صحيح عن عبيد الله بن موسى عن حنظلة عن طاوس أنه كان لا يرى في الدم السائل وضوء يغسل منه الدم ثم حبسه وهذا ليس بحجة لهم لأنهم لا يرون العمل بفعل التابعي ولا هو حجة على الحنفية من وجهين الأول أنه لا يدل على أن طاوسا كان يصلي والدم سائل والثاني وإن سلمنا ذلك فالمنقول عن أبي حنيفة أنه كان يقول التابعون رجال ونحن رجال يزاحموننا ونزاحمهم والمعنى أن أحدا منهم إذا أدى

(3/51)


اجتهاده إلى شيء لا يلزمنا الأخذ به بل نجتهد كما اجتهد هو فما أدى اجتهادنا إليه عملنا به وتركنا اجتهاده واما محمد بن علي فهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين الهاشمي المدني أبو جعفر المعروف بالباقر سمي به لأنه بقر العلم أي شقه بحيث عرف حقائقه وهو أحد الأعلام التابعين الأجلاء وروى هذا موصولا في ( فوائد ) الحافظ أبي بشر المعروف بسمويه من طريق الأعمش قال سألت أبا جعفر الباقر عن الرعاف فقال لو سال نهر من دم ما أعدت منه الوضوء وقال الكرماني ويحتمل أن يكون محمد بن علي هذا محمد بن عليه المشهور بابن الحنيفة والظاهر الاول واعلم أن جميع ما ذكر في هذا الباب ليس بحجة على الحنفية فإن كان من أقوال الصحابة فكل واحد له تأويل ومحمل صحيح وإن كان من قول التابعين فليس بحجة عليهم لما ذكرنا عن ابي حنيفة الآن وأما عطاء فهو ابن أبي رباح وأثره وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه قوله وأهل الحجاز من عطف العام على الخاص لأن طاوسا ومحمد بن علي وعطاء حجازيون وغير هؤلاء الثلاثة مثل سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والفقهاء السبعة من أهل المدينة ومالك والشافعي وآخرون وخالفهم أبو حنيفة واستدل بما رواه الدارقطني إلا أن يكون دما سائلا وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين قال ابو عمر وبه قال الثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وإن كان الدم يسيرا غير خارج ولا سائل فإنه لا ينقض الوضوء عند جميعهم وما أعلم أحدا أوجب الوضوء من يسير الدم إلا مجاهدا وحده
وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها الدم ولم يتوضا
وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح حدثنا عبد الوهاب حدثنا سليمان بن التيمي عن بكر قال رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه فخرج منها شيء من دم فحكه بين إصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ البثرة بفتح الباء الموحدة وسكون الثاء المثلثة ويجوز فتحها وهو خراج صغير يقال بثر وجهه وهذا الأثر حجة للحنفية لأن الدم الخارج بالعصر لا ينقض الوضوء عندهم لأنه مخرج والنقض يضاف إلى الخارج دون المخرج كما هو مقرر في كتبهم فإن فرح أحد من الخصوم أنه حجة على الحنفية فهي فرحة غير مستمرة
وبزق ابن أبي أوفى دما فمضى في صلاته
ابن أبي أوفى اسمه عبد الله وأبو أوفى اسمه علقمة بن الحارث الصحابي بن الصحابي شهد بيعة الرضوان وما بعدها من المشاهد وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة سنة سبع وثمانين وقد كف بصره وهو أحد من رآه أبو حنيفة من الصحابة وروى عنه ولا يلتفت إلى قول المنكر المتعصب وكان عمر أبي حنيفة حينئذ سبع سنين وهو سن التمييز هذا على الصحيح إن مولد أبي حنيفة سنة ثمانين وعلى قول من قال سنة سبعين يكون عمره حينئذ سبعة عشر سنة ويستبعد جدا أن يكون صحابي مقيما ببلدة وفي أهلها من لا يكون رآه وأصحابه أخبر بحاله وهم ثقات في أنفسهم قوله بزق بالزاي والسين والصاد بمعنى واحد وهذا الأثر وصله سفيان الثوري وفي ( جامعه ) عن عطاء بن السائب أنه رآه يفعل ذلك ورواه ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) بسند جيد عن عبد الوهاب الثقفي عن عطاء بن السائب قال رأيت ابن أبي أوفى بزق دما هو يصلي ثم مضى في صلاته وهذا ليس بحجة لهم علينا لأن الدم الذي يخرج من الفم إن كان من جوفه فلا ينقض وضوءه وإن كان من بين أسنانه فالاعتبار للغلبة بالبزاق والدم ولم يتعرض الراوي لذلك فلم يبق حجة والحكم بالغلبة له أصل وروى ابن أبي شيبة عن الحسن في رجل بزق فرأى في بزاقه دما أنه لم يرد ذلك شيئا حتى يكون عبيطا وروي عن ابن سيرين أنه ربما بزق فيقول لرجل أنظر هل تغير الريق فإن تغير بزق الثانية فان كان في الثانية متغيرا فإنه يتوضأ وإن لم يكن في الثانية متغيرا لم ير وضوأ قلت التغير لا يكون إلا بالغلبة
وقال ابن عمر والحسن فيمن يحتجم ليس عليه إلا غسل محاجمه

(3/52)


عبد الله بن عمر والحسن البصري وهذان رواهما ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) حدثنا ابن نمير حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا احتجم غسل أثر محاجمه وحدثنا حفص عن أشعث عن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يقولان بغسل أثر المحاجم ولما ذكر ابن بطال في شرحه أثر ابن عمر والحسن قال هكذا رواه المستملي وحده بإثبات إلا ورواه الكشميهني وأكثر الرواة بغير إلا ثم قال ورواية المستملي هي الصواب وكذا قال الكرماني ومقصودهم من تصحيح هذه الرواية إلزام الحنفية ولا يصعد ذلك معهم لأن جماعة من الصحابة رأوا فيه الغسل منهم ابن عباس وعبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وروته عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه الصلاة و السلام رواه ابن أبي شيبة بأسانيد جياد وهو مذهب مجاهد أيضا وأيضا فالدم الذي يخرج من موضع الحجامة مخرج وليس بخارج والنقض يتعلق بالخارج كما ذكرنا فإذا احتجم وخرج الدم في المحجم بمص الحجام ولم يسل ولم يلحق إلى موضع يلحقه حكم التطهير فعلى الأصل المذكور لا ينتقض وضوؤه ولكن لا بد من غسل موضع الحجامة والمقصود إزالة ذلك من موضع الحجامة بأي شيء كان ولا يتعين الماء وفي ( المحلى ) في أثر ابن عمر غسله بحصاة فقط وعن الليث يجزيه أن يمسحه ويصلي ولا يغسله فهذا يدل على أن المراد إزالة ذلك قوله محاجمه جمع محجمة بفتح الميم مكان الحجامة وبكسر الميم اسم القارورة والمراد ههنا الأول
176 - حدثنا ( آدم بن أبي إياس ) قال حدثنا ( ابن أبي ذئب ) عن ( سعيد المقبري ) عن ( أبي هريرة ) قال قال النبي لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث فقال رجل أعجمي ما الحدث يا أبا هريرة قال الصوت يعني الضرطة
اقول إن كان البخاري أخرج هذا الحديث ههنا للرد على أحد ممن هو معود بالرد عليه فغير مناسب لأن حكم هذا الحديث مجمع عليه وليس فيه خلاف وإن كان لأجل مطابقته لترجمة الباب فليس كذلك أيضا لأنه داخل فيمن يرى الوضوء من المخرجين وقال بعض الشراح والبخاري ساقه لأجل تفسير أبي هريرة بالضرطة وهو إجماع قلت لم يتأمل هذا ما قاله لأن الباب ما عقد له ولا له مناسبة هنا
بيان رجاله وهم أربعة كلهم قد ذكروا وابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب واسمه هشام بن شعبة وسعيد بن أبي سعيد المقبرى بضم الباء وفتحها وقيل بكسرها أيضا
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم مدنيون إلا آدم فإنه أيضا دخل المدينة
بيان المعنى والإعراب قوله لا يزال العبد في صلاة اي في ثواب صلاة قوله في صلاة خبر لا يزال قوله ما كان في مسجد وفي رواية الكشميهني ما دام في مسجد قوله ينتظر إما خبر للفعل الناقص وإما حال و في المسجد خبره وإنما نكر الصلاة وعرف المسجد لأنه قصد بالتنكير التنويع ليعلم أن المراد نوع صلاته التي ينتظرها مثلا لو كان في انتظار صلاة الظهر كان في صلاة الظهر وفي انتظار العصر كان في صلاة العصر وهلم جرا وأما تعريف المسجد فظاهر لأن المراد به هو المسجد الذي هو فيه وهذا الكلام فيه الإضمار تقديره لا يزال العبد في ثواب صلاة ينتظرها ما دام ينتظرها والقرينة لفظ الانتظار ولو كان يجري على ظاهره لم يكن له أن يتكلم ولا أن يأتي بما لا يجوز في الصلاة قوله ما لم يحدث أي ما لم يأت بالحدث وكلمة ما مصدرية زمانية والتقدير مدة دوام عدم الحدث كما قوله تعالى ما دمت ( مريم 31 ) أي مدة دوامي حيا ( مريم 31 ) فحذف الظرف وخلفته ما وصلتها قوله أعجمي نسبة إلى الأعجم كذا قيل وهو الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب والعجم خلاف العرب والواحد أعجمي وقال ابن الاثير كل من لا يقدر على الكلام فهو اعجم ومستعجم وقال الجوهري لا نقل رجل أعجمي فتنسبه إلى نفسه إلا أن يكون أعجم وأعجمي بمعنى مثل دوار ودواري قلت فهم من كلامه أن الياء في أعجمي ليست للنسبة كما قال بعضهم وإنما هي للمبالغة قوله فقال رجل إلى آخره مدرج من سعيد
بيان اسنتباط الاحكام الأول فيه فضل انتظار الصلاة لأن انتظار العبادة عبادة الثاني فيه أن من يتعاطى أسباب

(3/53)


الصلاة يسمى مصليا الثالث فيه أن هذه الفضيلة المذكورة لمن لا يحدث وقوله ما لم يحدث أعم من أن يكون فساء او ضراطا أو غيرهم من نواقض الوضوء من المجمع عليه والمختلف فيه وقال الكرماني فإن قلت الحدث ليس منحصرا في الضرطة قلت المراد الضرطة ونحوها من الفساء وسائر الخارجات من السبيلين وإنما خصص بها لأن الغالب أن الخارج منهما في المسجد لا يزيد عليها قلت السؤال عام والجواب خاص وينبغي أن يطابق الجواب والسؤال ولكن فهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن مقصود هذا السائل الحدث الخاص وهو الذي يقع في المسجد حالة الانتظار والعادة أن ذلك لا يكون إلا الضرطة فوقع الجواب طبق السؤال وإلا فأسباب النقض كثيرة
177 - حدثنا ( أبو الوليد ) قال حدثنا ( ابن عيينة ) عن ( الزهري ) عن ( عباد بن تميم ) عن ( عمه ) عن النبي ( ) قال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا
( انظر الحديث 137 وطرفه )
قال بعضهم أورد البخاري هذا الحديث هنا لظهور دلالته على حصر النقض بما يخرج من السبيلين قلت هذا قطعة من حديث عبد الله بن زيد وهو جواب للرجل الذي شكى إلى النبي أنه يجد الشيء في الصلاة حتى يخيل إليه فقال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وهو جواب مطابق للسؤال لأن سؤاله عن هذا وهو في حالة الصلاة وفي حالة الصلاة لا يوجد غالبا إلا ضراط أو فساء فأجاب بأنه لا ينصرف حتى يجد أحد هذين الشيئين وليس هذا حصر النقض بما يخرج من السبيلين فالقائل المذكور وإن كان أراد بهذا الكلام نصرة البخاري وتوجيه وضع هذا الحديث في هذا الباب لما ذكره فليس بشيء
بيان رجاله وهم خمسة الأول أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي هذا الذي قاله الأكثرون وفيهم هشام بن عمار ويكنى بأبي الوليد وروي أيضا عن ابن عيينة ويروي عنه البخاري أيضا فيحتمل أن يكون هذا الثاني سفيان بن عيينة الثالث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الرابع عباد بتشديد الباء الموحدة ابن تميم الأنصاري الخامس عمه عبد الله بن زيد المازني رضي الله تعالى عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته أئمة أجلاء ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة أيضا عن علي بن عبد الله وأبي الوليد فرقهما وفي البيوع عن أبي نعيم وأخرجه مسلم في الطهارة عن ابي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وعمرو الناقد وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة ومحمد ابن أحمد بن أبي خلف وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة ومحمد بن منصور وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن صباح عشرتهم عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعباد بن تميم عن عمه عن عبد الله بن زيد به
بيان المعاني والإعراب قوله لا ينصرف أي المصلي عن صلاته لأن تمام الحديث شكى إلى النبي الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وفي رواية لا ينفلت بمعنى لا ينصرف وكلمة حتى للغاية وكلمة ان مقدرة بعدها وإنما ذكر شيئين وهما سماع الصوت ووجدان الرائحة حتى يتناول الأصم والأخشم وقد استوفينا الكلام فيه في باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن
178 - حدثنا ( قتيبة بن سعيد ) قال حدثنا ( جرير ) عن ( الاعمش ) عن ( منذر أبي يعلى الثوري ) عن ( محمد بن الحنفية ) قال قال علي كنت رجلا مداء فاستحييت أن أسأل رسول الله فأمرت المقداد بن الاسود فسأله فقال فيه الوضوء
( انظر الحديث 132 وطرفه )
تقدم الكلام فيه مستوفى في آخر كتاب العلم وجرير هو ابن عبد الحميد والأعمش هو سليمان بن مهران وذكر الكل فيما مضى وقال بعضهم أورد البخاري في هذا الباب هذا الحديث لدلالته على إيجاب الوضوء من المذي وهو خارج من أحد المخرجين قلت هذا مجمع عليه وليس له مطابقة للترجمة فافهم
ورواه شعبة عن الاعمش

(3/54)


أي روى هذا الحديث شعبة بن الحجاج عن سليمان الأعمش عن منذر إلى آخره وأخرجه النسائي عن محمد بن علي بن خالد عن شعبة عن الأعمش به والمذاء على وزن فعال بالتشديد يعني كثير المذي
179 - حدثنا ( سعد بن حفص ) قال حدثنا ( شيبان ) عن ( يحي ) عن ( أبي سلمة ) أن ( عطاء بن يسار ) أخبره أن ( زيد بن خالد ) أخبره أنه ( سأل عثمان بن عفان ) رضي الله عنه قلت أرأيت إذا جامع فلم يمن قال عثمان يتوضأكما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره قال عثمان سمعته من رسول الله فسألت عن ذلك عليا والزبير وطلحة وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك
( الحديث 179 - طرفه في 292 )
قال الكرماني فإن قلت ما وجه مناسبته للترجمة قلت هو مناسب لجزء من الترجمة إذ هو يدل على وجوب الوضوء من الخارج من المخرج المعتاد نعم لا يدل على الجزء الآخر وهو عدم الوجوب في غيره ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل الترجمة بل لو دل البعض على البعض بحيث لا يدل كل ما في الباب على كل الترجمة لصح التعبير بها قلت نعم لا يلزم أن يدل كل حديث في البا إلى آخره لكن الحديث منسوخ بالإجماع فلا يناسبه الترجمة لأن الباب معقود فيمن لم ير الوضوء إلا من المخرجين وههنا لا خلاف فيه
بيان رجاله المذكورين فيه وهم أحد عشر رجلا الأول سعد بن حفص أبو محمد الطلحي بالمهملتين الكوفي الثاني شيبان بن عبد الرحمن النحوي أبو معاوية الثالث يحيى بن أبي كثير البصري التابعي الرابع أبو سلمة بفتح اللام عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف التابعي وكل هؤلاء تقدموا في باب كتابة العلم الخامس عطاء بن يسار بفتح الياء آخر الحروف وبالسين المهملة المدني مر في باب كفران العشير السادس زيد بن خالد الجهني المدني الصحابي تقدم في باب الغضب في الموعظة السابع عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه تقدم في باب الوضوء ثلاثا والأربعة الباقية هم الصحابة المشهورون
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار والسؤال والقول ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين إثنان من كبار التابعين وهما أبو سلمة وعطاء والثالث تابعي صغير وهو يحيى بن أبي كثير والثلاثة على نسق واحد ومنها أن فيه صحابيين يروى أحدهما عن الآخر وهما زيد بن ابي خالد وعثمان بن عفان ومنها أن رواته ما بين كوفي وبصري ومدني
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره وأخرجه البخاري هنا عن سعد بن حفص عن شيبان وأخرجه أيضا عن أبي معمر عن عبد الوارث عن حسين المعلم كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن يسار عنه به زاد في حديث حسين عن يحيى قال وأخبرني أبو سلمة ان عروة بن الزبير أخبره أن أيوب الأنصاري أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله عليه الصلاة و السلام وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن زهير بن حرب وعبد بن حميد وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ثلاثتهم عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه عن حسين المعلم به وذكر الزيارة التي في آخره عن عبد الوارث ابن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه عن جده
بيان المعنى والإعراب قوله قلت بصيغة المتكلم وإنما لم يقل قال كما قال إنه سأل لأن فيه نوع من محاسن الكلام لأن فيه اعتبارين وهما عبارتان عن أمر واحد ففي الأول نظر إلى جانب الغيبة وفي الثاني إلى جانب المتكلم قوله أرأيت معناه أخبرني ومفعوله محذوف تقديره أرأيت أنه يتوضؤ قوله فلم يمن بضم الياء آخر الحروف من الإمناء عليه الرواية وفيه لغة ثانية فتح الياء وثالثة ضم الياء مع فتح الميم وتشديد النون يقال منى وأمنى ومنى ثلاث لغات والوسطى أشهر وأفصح وبها جاء القرآن قال الله تعالى افرأيتم ما تمنون ( الواقعة 58 ) قوله يتوضأ أمره بالوضوء احتياطا لأن الغالب خروج المذي من المجامع وإن لم يشعر به قوله كما يتوضأ للصلاة احترز به عن الوضوء اللغوي قوله ويغسل ذكره أمره بذلك لتنجسه بالمذي ولا يقال الغسل مقدم على التوضيء فلم أخره لأنا نقول الواو ولا تدل على الترتيب بل للجمع المطلق فلو توضأ قبله يجوز ولا ينتقض وضوؤه قوله سمعت أي سمعت المذكور كله من رسول الله عليه الصلاة

(3/55)


والسلام قوله فسألت عن ذلك مقول زيد لا مقول عثمان رضي الله تعالى عنه قوله فامروه الضمير المرفوع فيه راجع إلى هؤلاء الصحابة الأربعة علي والزبير وطلحة وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم والضمير المنصوب فيه راجع إلى المجامع فإن قلت لم يمض ذكر المجامع قلت قوله إذا جامع اي الرجل يدل على المجامع ضمنا من قبل قوله تعالى أعدلوا هو اقرب للتقوى ( المائدة 8 ) اي العدل أقرب دل عليه اعدلوا قوله بذلك أي بأنه يتوضأ ويغسل ذكره
بيان استنباط الأحكام الأول فيه وجوب الوضوء على من يجامع امرأته ولا ينزل الثاني فيه وجوب غسل ذكره واختلفوا هل يجب غسل كل الذكر أو غسل ما أصابه المذي فقال مالك بالاول وقال الشافعي بالثاني قلت اختلف أصحاب مالك منهم من أوجب غسل الذكر كله لظاهر الخبر ومنهم من أوجب غسل مخرج المذي وحده وعن الزهري لا يغسل مالك منهم من أوجب غسل الذكر كله لظاهر الخبر ومنهم من أوجب غسل المذي وحده وعن الزهري لا يغسل الانثيين من المذي إلا أن يكون أصابهما شيء وقال الأثرم وعلى هذا مذهب ابي عبد الله سمعته لا يرى في المذي إلا الوضوء ولا يرى فيه الغسل وهذا قول أكثر أهل العلم وفي ( المعنى ) لابن قدامة المذي ينقض الوضوء وهو ما يخرج لزجا متسبسبا عند الشهوة فيكون على رأس الذكر واختلفت الرواية في حكمه فروي أنه لا يوجب الاستنجاء والوضوء والرواية الثانية يجب غسل الذكر والانثيين مع الوضوء وقال الطحاوي لم يكن قوله عليه الصلاة و السلام يغسل مذاكيره لإيجاب الغسل ولكنه ليتقلص اي ليرتفع وينزوي المذي فلا يخرج والدليل عليه ما جاء في ( صحيح مسلم ) توضأ وانضح فرجك وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وبه قال الشافعي ومالك في رواية وأحمد في رواية
فائدة إعلم أن حديث علي رضي الله تعالى عنه كنت رجلا مذاء وهو المذكور قبل هذا الحديث وفي موضع آخر من ( صحيح البخاري ) فكنت أستحى أن اسأل رسول الله عليه الصلاة و السلام لمكان ابنته فقال ليغسل ذكره ويتوضأ وقال ابن عباس قال علي رضي الله تعالى عنه أرسلنا المقداد إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام فسأله عن المذي الذي يخرج من الإنسان كيف يفعل فقال عليه الصلاة و السلام توضأ وانضح فرجك وفي ( صحيح ابن حبان ) من حديث أبي عبد الرحمن عن علي كنت رجلا مذاء فسألت النبي عليه الصلاة و السلام فقال إذا رأيت الماء فاغسل ذكرك ورواه الطبراني في ( الأوسط ) من حديث حصين بن عبد الرحمن عن حصين بن قبيصة عنه كنت رجلا مذاء فسألت النبي فقال الحديث قال ابو القاسم لم يروه عن حصين إلا زائدة تفرد به إسماعيل بن عمرو ورواه غير إسماعيل عن أبي حصين عن حصين بن قبيصة وعند ابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي سئل رسول الله عن المذي وفي ( مسند ) أحمد عن عبد الله حدثني أبو محمد شيبان حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن عن علي كنت رجلا مذاء فسألت النبي عليه الصلاة و السلام عن ذلك الحديث وفيه أيضا من حديث هانىء بن هانىء عن علي فأمرت المقداد فسأل النبي عليه الصلاة و السلام فضحك فقال فيه الوضوء وفي ( سنن الكجي ) كل فحل يمذي وليس فيه إلا الطهور وفي ( صحيح ابن خزيمة ) من حديث الدكين عن حصين عنه بلفظ فذكرت ذلك للنبي عليه الصلاة و السلام أو ذكر له وفي ( صحيح الحافظ ابي عوانة ) من حديث عبيدة عنه يغسل انثييه وذكره ويتوضأ وضوء للصلاة وفي هذا رد لما ذكره أبو داود عن أحمد ما قال غسل الأنثيين إلا هشام بن عروة في حديثه
وأما الاحاديث كلها فليس فيها ذا وفي ( صحيح ابن حبان ) من حديث رافع بن خديج أن عليا أمر عمارا أن يسأل النبي عليه الصلاة و السلام فقال يغسل مذاكيره وفي ( صحيح ابن خزيمة ) أخبرنا يونس عن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه عن سالم بن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن المقداد أنه سأل النبي عليه الصلاة و السلام عن الرجل يدنو من امرأته فلا ينزل قال إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه زاد ابن حبان عن عطاء أخبرني عايش ابن أنس قال تذاكر علي وعمار والمقداد المذي فقال علي إني رجل مذاء فسألا عن ذلك النبي عليه الصلاة و السلام قال عايش فسأله أحد الرجلين عمار أو المقداد قال عطاء وسماه عايش فنسيته قال أبو عمر رواية يحيى عن مالك فلينضح فرجه وفي رواية ابن بكير والقعنبي وابن وهب فليغسل فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة وهذا هو الصحيح وبه رواه عبد الرزاق عن مالك كما رواه يحيى ولينضح فرجه ولو صحت رواية يحيى ومن تابعه كانت مجملة تفسرها رواية غيره

(3/56)


لأن النضح يكون في لسان العرب مرة الغسل ومرة الرش وفيه نظر لما تقدم من عند ابن ماجه وكذلك رواه أبو داود في ( سننه ) عن القعنبي وذكر الدارقطني في كتاب ( أحاديث الموطأ ) أن أبا مصعب وأحمد بن إسماعيل المدني وأبي وهب وعبد الله بن يونس ويحيى بن بكير والشافعي وابن القاسم وعتبة بن عبد الله وأبا علي الحنفي وإسحاق بن عيسى والقاسم ابن يزيد رووه عن مالك بلفظ فلينضح إلا ابن وهب فان في بعض ألفاظه فليغسل فلو كان أبو عمر عكس قوله لكان صوابا من فعله وقال ابن حبان قد يتوهم بعض المستمعين لهذه الأخبار أن بينها تضادا وتهاترا وليس كذلك لأنه يحتمل أن يكون علي أمر عمارا أن يسأله فسأله ثم أمر المقداد أن يسأله فسأله ثم سأل هو بنفسه والدليل على صحة ما ذكرت أن متن كل خبر بخلاف متن الآخر ففي خبر عبد الرحمن إذا رأيت الماء فاغسل ذكرك وإذا رأيت المني فاغتسل وفي خبر إياس بن خليفة عن عمار يغسل مذاكيره ويتوضأ وليس فيه ذكر المني وخبر المقداد مستأنف ينبئك أنه ليس بالسؤالين اللذين ذكرناهما لأن فيه سؤالا عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه فإن عندي ابنته فذلك ما وصفنا على أن هذه أسئلة متباينة في مواضع مختلفة لعلل موجودة
وقال صاحب ( التلويح ) وقد ورد في حديث حسن الإسناد أن النبي عليه الصلاة و السلام هو السائل له ثم رواه بإسناده إلى أن قال علي رضي الله تعالى عنه رآني النبي عليه الصلاة و السلام وقد شحبت فقال يا علي قد شحبت قلت شحبت من اغتسال الماء وأنا رجل مذاء فاذا رأيت منه شيئا اغتسلت قال لا تغتسل يا علي ثم قال صاحب ( التلويح ) فيحتمل أن يكون علي رضي الله عنه لما بعث من بعث رآه عليه الصلاة و السلام في غضون البعثة شاحبا ونزل على جوابه عن ذلك بمنزلة السؤال ابتداء تجوزا وفي ( سنن البيهقي الكبير ) من حديث ابن جريج عن عطاء أن عليا رضي الله تعالى عنه كان يدخل في إحليله الفيلة من كثرة المذي وفي حديث حسان بن عبد الرحمن الضبعي عند ابي موسى المديني في معرفة الصحابة بسند لا بأس به قال عليه الصلاة و السلام لو اغتسلتم من المذي كان أشد عليكم من الحيض وفي حديث ابن عباس عند الدارقطني وقال لا يصح أن رجلا قال يا رسول الله إني كلما توضأت سال فقال إذا توضأت فسال من قرنك إلى قدمك فلا وضوء عليك
180 - حدثنا ( إسحاق ) هو ( ابن منصور ) قال أخبرنا ( النضر ) قال أخبرنا ( شعبة ) عن ( الحكم ) عن ( ذكوان أبي صالح ) عن ( أبي سعيد الخدري ) أن رسول الله أرسل إلى رجل من الانصار فجاء ورأسه يقطر فقال النبي لعلنا أعجلناك فقال نعم فقال رسول الله إذا اعجلت أو قحطت فعليك الوضوء
هذا الحديث لا يناسب ترجمة الباب إلا أن بعض الشراح قال أقل حال هذا الحديث حصول المذي لمن جامع ولم يمن فصدق عليه وجوب الوضوء من الخارج من أحد السبيلين ولكن يعكر عليه إجماع أهل العلم وأئمة الفتوى على وجوب الغسل من مجاوزة الختانن الختان لأمر الشارع بذلك وهو زيادة على ما في هذا الحديث فيجب الأخذ بها
بيان رجاله وهم ستة الأول إسحاق بن منصور هذه رواية الأصيلي وفي رواية كريمة وغيرها إسحاق كذا بلا ذكر منصور وفي رواية ابي ذر حدثنا إسحاق بن منصور بن بهرام بفتح الباء الموحدة وهو المعروف بالكوسج المروزي مر في باب فضل من علم وهو الأصح نص عليه أبو نعيم رحمه الله في ( المستخرج ) الثاني النضر بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن شميل بضم الشين المعجمة ابن والحسن المازني البصري تقدم في آخر باب حمل العنزة في الاستنجاء الثالث شعبة بن الحجاج الرابع الحكم بفتح الحاء المهملة وفتح الكاف ابن عتيبة تصغير عتبة الباب تقدم في باب السمر بالعلم الخامس أبو صالح ذكوان الزيات المدني تقدم في باب أمور الإيمان وغيره السادس أبو سعيد الخدري سعد بن مالك الأنصاري
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار ومنها أن رواته ما بن مروزي وبصري وواسطي وكوفي ومدني
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ليس له تعدد وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن ابي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار ثلاثتهم عن غندر عن شعبة به وأخرجه ابن ماجه عن ابي بكر بن أبي شيبة وابن بشار به

(3/57)


بيان المعنى والإعراب قوله أرسل إلى رجل من الأنصار ولمسلم وغيره مر على رجل فيحمل على أنه مر به فأرسل إليه وسمى مسلم هذا الرجل في روايته من طريق أخرى عن ابي سعيد عتبان بكسر العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق بعدها باء موحدة ولفظه من رواية شريك بن أبي نمر عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال خرجت مع النبي عليه الصلاة و السلام إلى قبا حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله على باب عتبان فخرج يجر إزاره فقال النبي أعجلنا الرجل فذكر الحديث بمعناه وعتبان المذكور هو ابن مالك الأنصاري الخزرجي السالمي البدري وإن لم يذكره ابن إسحاق فيهم وكذا نسبه تقي بن مخلد في روايته لهذا الحديث من هذا الوجه ووقع في رواية في ( صحيح ابي عوانة ) أنه ابن عتبة والأول أصح ورواه ابن إسحاق في ( المغازي ) عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن جده لكنه قال فهتف برجل من أصحابه يقال له صالح فإن حمل على تعدد الوقعة وإلا فطريق مسلم أصح وقد وقعت القصة أيضا لرافع بن خديج وغيره أخرجه أحمد وغيره ولكن الأقرب في تفسير المبهم الذي في البخاري أنه عتبان والله اعلم قوله فجاء أي الرجل المدعو قوله ورأسه يقطر جملة إسمية وقعت حالا من الضمير الذي في جاء ومعنى يقطر ينزل من الماء قطرة قطرة من أثر الاغتسال وإسناد القطر إلى الرأس مجاز من قبل سال الوادي قوله لعلنا كلمة لعل هنا لإفادة التحقيق فمعناه قد أعجلناك وقوله فقال نعم مقرر له ولا يمكن أن يكون لعل هنا على بابه للترجي والترجي لا يحتاج إلى جواب وهنا قد أجاب الرجل بقوله نعم و أعجلناك من الإعجال يقال أعجله إعجالا وعجله تعجيلا إذا استحثه ومعناه اعجلناك عن فراغ شغلك وحاجتك عن الجماع قوله إذا أعجلت على بناء المجهول وفي أصل أبي ذر إذا عجلت بفتح العين وكسر الجيم المخففة وفي رواية إذا أعجلت بالتشديد على صيغة المجهول قوله أو قحطت بضم القاف وكسر الحاء المهملة قال ابن الجوزي أصحاب الحديث يقولون قحطت بفتح القاف وقال لنا شيخنا عبد الله بن احمد النحوي الصواب ضم القاف وفي ( صحيح مسلم ) أقحطت بفتح الهمزة والحاء وفي رواية ابن بشار بضم الهمزة وكسر الحاء والروايتان صحيحتان ومعنى الإقحاط هنا عدم الإنزال في الجماع وهو استعارة من قحوط المطر وهو انحباسه وقحوط الأرض وهو عدم إخراجها النبات وحكى الفراء قحط المطر بالكسر وفي ( المحكم ) الفتح أعلى وقحط الناس بالكسر لا غير وأقحطوا وكرهها بعضهم ولا يقال قحطوا ولا أقحطوا وحكى أبو حنيفة قحط القوم وفي ( أمالي ) الهجري أقحط الناس وقال التميمي وقع في الكتاب قحطت والمشهور أقحطت بالألف يقال للذي أعجل في الإنزال في الجماع ففارق ولم ينزل الماء أو جامع فلم يأته الماء أقحط قال الكرماني فعلى هذا التقدير لا يكون لقوله أعجلت فائدة اللهم إلا أن يقال إنه من باب عطف العام على الخاص فإن قلت كلمة أو ما معناها ههنا هل هو شك من روى أو تنويع الحكم عن رسول الله قلت الظاهر أنه من كلامه عليه الصلاة و السلام ومراده بيان أن عدم الإنزال سواء كان بأمر خارج عن ذات الشخص أو كان من ذاته لا فرق بينهما في الحكم في أن الوضوء عليه فيهما قوله فعليك الوضوء يجوز في الوضوء الرفع والنصب أما الرفع فعلى أنه مبتدأ وخبره قوله عليك والنصب على أن مفعول عليك لأنه إسم فعل نحو عليك زيدا ومعناه فالزم الوضوء
بيان استنباط الأحكام الأول فيه جواز الأخذ بالقرائن لأن الصحابي لما أبضأ عن الإجابة مدة الاغتسال خالف المعهود منه وهو سرعة الإجابة للنبي عليه الصلاة و السلام فلما رأى عليه أثر الغسل دل على أنه كان مشغولا بجماع الثاني يستحب الدوام على الطهارة لكون النبي عليه الصلاة و السلام لم ينكر عليه تأخير إجابته وكأن ذلك كان قبل إيجابها إذ الواجب لا يؤخر للمستحب الثالث أن هذا الحكم منسوخ ولم يق بعدم نسخه إلا من روى عن هشام بن عروة والأعمش وسفيان بن عيينة وداود وادعى القاضي عياض أنه لا يعلم من قال به بعد خلاف الصحابة إلا الأعمش وداود وقال النووي إعلم أن الأمة مجمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال وعلى وجوبه بالإنزال وكانت جماعة من الصحابة على أنه لا يجب إلا بالإنزال ثم رجع بعضهم وانعقد الإجماع بعد الآخرين وفي ( المحلى ) وممن رأى أن لا غسل من الإيلاج في الفرج إن لم يكن إنزال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ورافع بن خديج وأبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وأبو أيوب الأنصاري وابن عباس والنعمان بن

(3/58)


بشير وزيد بن ثابت وجمهور الأنصار وعطاء بن أبي رباح وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهشام بن عروة والأعمش وبعض أصحاب الظاهر وقال ابن حزم وروي إيجاب الغسل عن عائشة أم المؤمنين وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عمر وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وابن مسعود وابن عباس والمهاجرين قلت وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وبعض أصحاب الظاهر والنخعي والثوري
تابعه وهب
أي تابع النضر بن شميل وهب بن جرير ابن حازم ووصل هذه المتابعة أبو العباس السراج في مسنده عن زياد بن أيوب
قال حدثنا شعبة قال أبو عبد الله ولم يقل غندر ويحيى عن شعبة الوضوء
قوله قال حدثنا شعبة وفي بعض النسخ حدثنا شعبة بدونه لفظ قال وهو المراد سواء ذكر أو لا أي قال وهب حدثنا شعبة عن الحكم عن ذكوان إلى آخره بمثل ما ذكر وفي رواية وهب عن شعبة أخرجها الطحاوي قال أخبرنا يزيد قال حدثنا وهب قال حدثنا شعبة عن الحاكم عن ذكوان أبي صالح عن أبي سعيد الخدري الحديث قوله ولم يقل من كلام البخاري أي لم يقل غندر وهو محمد بن جعفر ويحيى بن سعيد القطان الوضوء يعني رويا هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد والمتن لكن لم يقولا فيه لفظ الوضوء بل قالا فعليك فقط بحذف المبتدأ وجاز ذلك لقيام القرينة عليه والمقدر عن القرينة كالملفوظ كذا قاله الكرماني وقال بعضهم لكن لم يقولا فيه عليك الوضوء وأما يحيى فهو كما قاله قد أخرجه أحمد في ( مسنده ) عنه ولفظه فليس عليك غسل وأما غندر فقد أخرجه أحمد أيضا في مسنده عنه لكنه ذكر الوضوء ولفظه فلا غسل عليك عليك الوضوء وهكذا أخرجه مسلم وابن ماجه والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عنه وكذا ذكر أكثر أصحاب شعبة كأبي داود الطيالسي وغيره عنه وكأن بعض مشايخ البخاري حدثه به عن يحيى وغندر معا فساقه له على لفظ يحيى والله اعلم قلت أما الكلام الكرماني فلا وجه له لأن معنى قوله عليك على ما قرره يحتمل أن يكون عليك الغسل ويحتمل أن يكون عليك الوضوء والاحتمال الأول غير صحيح لأن في رواية يحيى في مسند أحمد التصريح بقوله فليس عليك غسل والاحتمال الثاني هو الصحيح لأن في رواية غندر عليك الوضوء فحينئذ قوله لم يقل غندرو يحيى عن شعبة الوضوء معناه لم يذكرا لفظ عليك الوضوء وهذا كما رأيت في رواية أحمد عن يحيى ليس فيها عليك الوضوء وإنما لفظه فليس عليك غسل فان قلت كيف قال البخاري لم يقولا عن شعبة الوضوء فهذا في رواية غندر ذكر عليك الوضوء قلت كأنه سمع من بعض مشايخه أنه حدثه عن يحيى وغندر كليهما فساق شيخه له على لفظ يحيى ولم يسقه على لفظ غندر فهذا تقرير ما قاله بعضهم ولكن فيه نظر على ما لا يخفى
35 -
( باب الرجل يوضىء صاحبه )
أي هذا باب في بيان حكم من يوضىء غيره قوله يوضىء بالتشديد والهمزة في آخره من وضأ يوضىء من باب التفعيل
والمناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما مشتمل على حكم من أحكام الوضوء
181 - ( حدثنى محمد بن سلام ) قال أخبرنا ( يزيد بن هارون ) عن ( يحيى ) عن ( موسى بن عقبة ) عن ( كريب ) مولى ( ابن عباس ) عن ( اسامة بن زيد ) أن رسول الله لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته قال اسامة بن زيد فجعلت أصب عليه ويتوضا فقلت يا رسول الله أتصلي فقال المصلى أمامك
( انظر الحديث 139 وطرفه )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم ستة الأول هو محمد بن سلام كما هو في رواية كريمة وسلام بتخفيف اللام وقيل بالتشديد والأول أصح وقد مر في كتاب الإيمان الثاني يزييد بن هارون أحد الأعلام مر في باب

(3/59)


التبرز في البيوت الثالث يحيى بن سعيد الأنصاري مر في كتاب الوحي الرابع موسى بن عقبة الأسدي المدني التابعي تقدم في إسباغ الوضوء الخامس كريب مولى ابن عباس التابعي تقدم أيضا في إسباغ الوضوء السادس أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن فيه رواية ثلاثة من التابعين في نسق واحد وهم يحيى وموسى وكريب وهو من أوساط التابعين ومنها أن رواته ما بين بيكندي وواسطي ومدني ووقع لابن المنير في هذا الاسناد وهم فإنه قال فيه ابن عباس عن أسامة بن زيد وليس من رواية ابن عباس وإنما هو من رواية كريب مولى ابن عباس عن أسامة
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة عن القعنبي وعن ابن سلام وأخرجه في الحج عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن موسى بن عقبة في الحج أيضا عن مسدد عن حماد بن زيد عن يحيى عن موسى وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به وعن محمد بن رمح عن ليث بن سعد عن يحيى بن سعيد به وعن إسحاق عن يحيى بن آدم عن زهير كلاهما عن إبراهيم بن عقبة وعن إسحاق عن وكيع عن سفيان عن محمد بن عقبة كلاهما عن كريب به وأخرجه أبو داود في الطهارة عن القعنبي به وأخرجه النسائي فيه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن إبراهيم بن عقبة به وعن أحمد بن سليمان عن يزيد بن هارون به وعن قتيبة عن مالك به عن قتيبة عن حماد بن زيد عن إبراهيم بن عقبة به مختصرا
بيان المعنى والإعراب قوله لما أفاض أي لما رجع أو دفع قوله من عرفة أي من وقوف عرفة لأن عرفة اسم الزمان والدفع كان من عرفات لأنه اسم المكان وقيل جاء عرفة أيضا اسما للمكان فعلى هذا لا يحتاج إلى التقدير وقال الجوهري قول الناس نزلنا عرفة شبيه بمولد وليس بعربي محض قوله عدل إلى الشعب أي توجه إليه والشعب بكسر الشين الطريق في الجبل قوله أصب بضم الصاد ومفعوله محذوف والجملة خبر جعلت لأنه من أفعال المقاربة قوله يتوضأ جملة موضعها النصب على الحال وجاز وقوع الفعل المضارع المثبت حالا مع الواو وقال الزمخشري قوله تعالى ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ( النساء 19 ) حال وكذا ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( المائدة 84 ) ويجوز أن يقدر مبتدأ ويتوضأ خبره والتقدير وهو يتوضأ فحينئذ تكون جملة إسمية أو تكون الواو للعطف قوله قال وفي رواية فقال بفاء العطف اي قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قوله المصلى أي مكان الصلاة أمامك بفتح الميم الثانية لأنه ظرف أي قدامك
بيان استنباط الأحكام منها ما قاله النووي فيه دليل على جواز الاستعانة في الوضوء وهي على ثلاثة أقسام أحدها أن يستعين في إحضار الماء فلا كراهية فيه الثاني أن يستعين في غسل الأعضاء ويباشر الأجنبي بنفسه غسل الأعضاء فهذا مكروه إلا لحاجة الثالث أن يصب عليه فهذا مكروه في أحد الوجهين والأولى تركه قلت فيه حزازة لأن ما فعل رسول الله عليه الصلاة و السلام لا يقال فيه الأولى تركه لأنه عليه الصلاة و السلام لا يتحرى إلا ما فعله أولى ثم إذا قيل الأولى تركه كيف ينازع في كراهته وليس حقيقة المكروه إلا ذلك كذا قاله الكرماني قلت هذا حقيقة المكروه كراهة التنزيه لا المكروه كراهة التحريم وقال ابن بطال واستدل البخاري من صب الماء عليه أنه يجوز للرجل أن يوضئه غيره لأنه لما لزم المتوضىء اغتراف الماء من الإناء بأعضائه جاز له أن يكفيه ذلك غيره بدليل صب أسامة والاغتراف بعض أعمال الوضوء فكذلك يجوز سائر أعماله وهذا من باب القربات التي يجوز أن يعملها الرجل عن غيره بخلاف الصلاة ولما أجمعوا أنه جائز للمريض أن يوضئه غيره وييممه إذا لم يستطع ولا يجوز أن يصلي عنه إذا لم يستطع ذدل أن حكم الوضوء بخلاف حكم الصلاة قال وهذا الباب رد لما روي عن جماعة أنهم قالوا نكره أن يشركنا في الوضوء أحد فإن قلت البخاري لم يبين في هذا المسألة الجواز ولا عدمه قلت إذا عقد الباب أفلا يعلم منه جوازه وإن لم يصرح به وقال ابن المنير قاس البخاري توضئة الرجل غيره على صبه عليه لاجتماعهما في الإعانة قلت هذا قياس بالفارق والفرق ظاهر وروي عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما أنهما نهيا أن يستقى لهما الماء لوضوئهما وقالا نكره أن يشركنا في

(3/60)


الوضوء أحد ورويا ذلك عن النبي عليه الصلاة و السلام قلت الحديث هو قوله عليه الصلاة و السلام أنا لا أستعين في وضوئي بأحد قاله لعمر رضي الله عنه وقد بادر ليصب الماء على يديه قال النووي في ( شرح المهذب ) هذا حديث باطل لا أصل له وذكره الماوردي في ( الحاوي ) بسياق آخر فقال روي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه هم بصب الماء على يد رسول الله عليه الصلاة و السلام فقال أنا لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد وهذا الحديث لا أصل له والذي وقع على زعم الراوي كان لعمر رضي الله عنه دون أبي بكر وروي عن ابن عمر أنه قال ما أبالي أعانني رجل على طهوري او على ركوعي وسجودي وثبت عن ابن عمر خلاف ما ذكر عنه فروى شعبة عن أبي بشر عن مجاهد أنه كان يسكب على ابن عمر الماء فيغسل رجليه وهذ أصح عن ابن عمر إذا راوي المنع رجل اسمه أيفع وهو مجهول والحديث عن علي رضي الله عنه لا يصح لأن راويه النضر بن منصور عن ابي الجنوب عنه وهما غير حجة في الدين ولا يعتد بنقلهما وقال البزار في كتاب ( السنن ) لا نعلمه يروى عن النبي إلا من هذا الوجه يعني من حديث النضر عن أبي الجنوب عقبة بن علقمة وقال عثمان بن سعيد فيما ذكره ابن عدي قلت ليحيى ما حال هذا السند فقال هؤلاء حمالة الحطب وتمام الحديث أخرجه البزار في كتاب الطهارة وأبو يعلى في مسنده من طريق النضر بن منصور عن أبي الجنوب قال رأيت عليا رضي الله عنه يستقي الماء لطهوره فبادرت استقى له فقال مه يا أبا الجنوب فإني رايت رسول الله يستقي الماء لوضوئه فبادرت استقى له فقال مه يا أبا الحسن فإني رأيت رسول الله يستقي الماء لوضوئه فبادرت أستقي له فقال مه يا عمر فإني لا أريد أن يعينني على وضوئي أحد وقال الطبري صح عن ابن عباس أنه صب على يدي عمر رضي الله عنه الوضوء بطريق مكة شرفها الله تعالى حين سأله عن المرأتين اللتين تظاهرتا وقيل صب ابن عباس على يدي عمر أقرب للمعونة من استقاء الماء ومحال أن يمنع عمر رضي الله تعالى عنه استقاء الماء وبييح صب الماء عليه للوضوء مع سماعه من النبي الكراهة قلت لقائل أن يقول إن أسامة تبرع بالصب وكذا غيره أمر منه لهم فان قلت هل يجوز أن يستدعي الإنسان الصب من غيره بأمر قلت نعم لما روي الترمذي محسنا من حديث ابن عقيل عن الربيع قالت أتيت رسول الله بميضأة فقال اسكبي فسكبت فذكرت وضوءه عليه الصلاة و السلام رواه الحاكم في ( المستدرك ) قال ولم يحتج البخاري بابن عقيل وهو مستقيم الحديث متقدم في الشرف وروى ابن ماجه بسند صحيح على شرط ابن حبان من حديث صفوان بن عسال قال صببت على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الماء في السفر والحضر في الوضوء وعنده أيضا بسند معلل عن أم عياش وكانت أمه لرقية بنت رسول الله قالت كنت أوضىء رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنا قائمة وهو قاعد وممن كان يستعين على وضوئه بغيره من السلف عثمان رضي الله تعالى عنه قال الحسن رأيته يصب عليه من إبريق وفعله عبد الرحمن بن أبزى والضحاك ابن مزاحم وقال أبو الضحى ولا بأس للمريض أن يوضئه الحائض وبقية الأحكام ذكرناها في باب إسباغ الوضوء
182 - حدثنا ( عمرو بن علي ) قال حدثنا ( عبد الوهاب ) قال سمعت ( يحيى بن سعيد ) قال أخبرني ( سعد بن إبراهيم ) أن ( نافع بن جبير بن مطعم ) أخبره أنه سمع ( عروة بن المغيرة بن شعبة ) يحدث عن ( المغيرة بن شعبة ) أنه كان مع رسول الله في سفر وأنه ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضا فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ومسح على الخفين
ذكر البخاري هذا الحديث هنا لأجل الاستدلال على الإعانة في الوضوء
بيان رجاله وهم سبعة الأول عمرو بن علي الفلاس أحد الحفاظ الأعلام البصريين الثاني عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي البصري الثالث يحيى بن سعيد الأنصاري التابعي الرابع سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي التابعي قاضي المدينة الخامس نافع

(3/61)


بن جبير بن مطعم القرشي النوفلي المدني التابعي السادس عروة بن المغيرة الثقفي الكوفي السابع المغيرة بضم الميم تقدم في آخر كتاب الإيمان وهو باللام مثل الحارث في أنه علم يدخله لام التعريف على سبيل الجواز لا مثل النجم للثريا فإن التعريف باللام لازم فيه فإن قلت لماذا يدخلون اللام في مثل المغيرة وما فائدته قلت للمح الوصفية
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار كذلك والسماع والعنعنة وراعى البخاري ألفاظ الشيوخ بعينها حيث فرق بين التحديث والإخبار والسماع ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني ومنها أن فيه أربعة من التابعين يروى بعضهم عن بعض وهو من أحسن اللطائف اثنان منهم تابعيان صغيران وهما يحيى وسعد واثنان تابعيان وسطان وهما نافع بن جبير وعروة بن المغيرة وهم من نسق واحد وفيه رواية الأقران في موضعين الأول في الصغيرين والثاني في الوسطين
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة أيضا عن عمرو بن خالد عن الليث عن يحيى بن سعيد وفي المغازي عن يحيى بن بكير عن الليث وفي الطهارة أيضا وفي اللباس عن أبي نعيم عن زكريا بن ابي زائدة عن الشعبي عنه به وأخرجه مسلم في الطهارة عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن الليث عن يحيى بن سعيد به وعن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي به وعن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عنه به مختصرا وأخرجه أبو داود في الطهارة عن أحمد بن صالح عن ابن وهب عن يونس عن الزهري نحوه ولم يذكر قصة الصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وعن مسدد عن عيسى بن يونس عن أبيه عن الشعبي به وأخرجه النسائي منه عن سليمان بن داود والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن وهب عن مالك ويونس وعمرو بن الحارث ثلاثتهم عن الزهري به إلا أن مالكا لم يذكر عروة بن المغيرة وعن محمد بن إبراهيم عن غندر عن بشر بن الفضل عن ابن عون عن الشعبي به وهو أتم وعن قتيبة به مختصرا وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن رمح به
بيان المعنى والإعراب قوله أنه كان أي أن المغيرة كان مع رسول الله عليه الصلاة و السلام وأدى عروة كلام أبيه بعبارة نفسه وإلا فمقتضى الحال أن يقول قال إني كنت مع رسول الله عليه الصلاة و السلام وكذا قوله وأن المغيرة جعل والضمير في و أنه وفي له للرسول عليه الصلاة و السلام قوله جعل أي طفق من أفعال المقاربة قوله هو يتوضأ جملة إسمية وقعت حالا قوله فغسل الفاء فيه هي الفاء التي تدخل بين المجمل والمفصل لأن المفصل كأنه يعقب المجمل كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ( البقرة 226 227 ) لتفصيل قوله تعالى اللذين يؤلون من نسائهم ( البقرة 226 ) فإن قلت لم قال فغسل ماضيا ولم يقل بلفظ المضارع ليناسب لفظ يتوضأ قلت الماضي هو الأصل وعدل في يتوضأ إلى المضارع حكاية عن الحال الماضية قوله ومسح برأسه ومسح على الخفين إنما ذكر في الأول حرف الإلصاق لأنه الأصل وفي الثاني كلمة على نظرا إلى الاستعلاء كما يقال مسح إلى الكعب نظرا إلى الانتهاء وبحسب المقاصد تختلف صلات الأفعال فإن قلت لم كرر لفظ مسح ولم يكرر لفظ غسل قلت لأنه يريد بذكر المسح على الخفين بيان تأسيس قاعدة شرعية فصرح استقلالا بالمسح عليهما بخلاف قضية الغسل فإنها مقررة بنص القرآن
بيان ابستنباط الأحكام منها جواز الاستعانة بغيره في الوضوء لكن من يدعي أن الكراهة مختصة بغير المشقة والاحتياج لا يتم له الاستدلال بهذا الحديث لأنه كان في السفر الثاني فيه حكم مسح الرأس الثالث فيه جواز المسح على الخفين وبقية الكلام بعضها مضى وبعضها يأتي في باب المسح على الخفين الرابع فيه من الأدب خدمة الصغير للكبير ولو كان لا يأمر بذلك
36 -
( باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره )
أي هذا باب في بيان حكم قراءة القرآن بعد الحدث قال بعضهم أي الحدث الأصغر قلت الحدث أعم من الأصغر والأكبر وقراءة القرآن بعد الأصغر تجوز دون الأكبر وكأن هذا القائل إنما خصص الحدث بالأصغر نظرا إلى أن البخاري تعرض هنا إلى حكم قراءة القرآن بعد الحدث الأصغر دون الأكبر ولكن جرت عادته أن يبوب الباب بترجمة ثم يذكر

(3/62)


فيه جزءا مما تشتمل عليه تلك الترجمة وههنا كذلك قوله وغيره قال بعضهم أي من مظان الحدث وقال الكرماني أي غير القرآن من السلام وسائر الأذكار قلت أما قول هذا القائل من مظان الحدث فليس بشيء لأن عود الضمير لا يصح إلا إلى شيء مذكور لفظا وتقديرا بدلالة القرينة اللفظية أو الحالية ولم يبين أيضا مظان الحدث ومظنة الحدث أيضا على نوعين أحدهما مثل الحدث والآخر ليس مثله فإن كان مراده النوع الأول فهو داخل في قوله بعد الحدث وإن كان الثاني فهو خارج عن الباب فإذا لا وجه لما قاله على ما لا يخفى وأما قول الكرماني أي غير القرآن فهو الوجه ولكن قوله من السلام وسائر الأذكار لا وجه له في التمثيل لأن المحدث إذا جاز له قراءة القرآن فالسلام وسائر الأذكار بالطريق الأولى أن يجوز ولو قال غير القرآن مثل كتابة القرآن لكان أوجه وأشمل للقولي والفعلي على أن تعليق البخاري قول منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي مشتمل على القسمين أحدهما قراءة القرآن بعد الحدث والثاني كتابة الرسائل في حالة الحدث
ثم المناسة بين البابين ظاهرة من وجه أن في الباب الأول حكم التوضئة وفي هذا الوضوء وهذا القدر كاف فافهم
وقال منصور عن إبراهيم لا بأس بالقراءة في الحمام وبكتب الرسالة على غير وضوء
منصور هو ابن المعتمر السلمي الكوفي تقدم في باب من جعل لأهل العلم أياما وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي الكوفي القعنبي مر في باب ظلم دون ظلم وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن منصور مثله وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور قال سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام فقال لم يبن للقراءة وقال بعضهم هذا يخالف رواية أبي عوانة قلت لا مخالفة بينهما لأن قولهم لم يبن للقراءة إخبار بما هو الواقع في نفسه فلا يدل على الكراهة ولا على عدمها أو نقول عن إبراهيم روايتان وفي رواية يكره وفي رواية لا يكره وقد روى سعيد بن منصور أيضا عن محمد بن أبان عن حماد بن أبي سليمان قال سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام فقال يكره ذلك فان قلت لم ذكر البخاري الأثر الذي فيه ذكر الحمام والتبويب أعم من هذا قلت لأن الغالب أن أهل الحمام أصحاب الأحداث
واختلفوا في قراءة القرآن في الحمام فعن ابي حنيفة أنه يكره وعن محمد بن الحسن أنه لا يكره وبه قال مالك وقال بعضهم لأنه ليس فيه دليل خاص قلت إنما كره أبو حنيفة قراءة القرآن في الحمام لأن حكمه حكم بيت الخلاء لأنه موضع النجاسة والماء المستعمل في الحمام نجس عنده وعند محمد طاهر فلذلك لم يكرهها قوله وبكتب الرسالة أي وبكتابة الرسالة لأن الكتب مصدر دخلت عليه الباء حرف الجر وهو معطوف على قوله لا بأس بالقراءة والتقدير ولا بأس بكتب الرسالة على غير وضوء وهذه في رواية كريمة وفي رواية غيرها ويكتب الرسالة على صيغة المجهول من المضارع والوجه الأول أوجه وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن الثوري أيضا عن منصور قال سألت إبراهيم أأكتب الرسالة على غير وضوء قال نعم وقال بعضهم وتبين بهذا أن قوله على غير وضوء يتعلق بالكتابة لا بالقراء في الحمام قلت لا نسلم ذلك فإن قوله وبكتب الرسالة على الوجهين يتعلق على قوله بالقراءة وقوله وعلى غير وضوء يتعلق بالمعطوف عليه لأنهما كشيء واحد وقال أصحابنا يكره للجنب أو الحائض أن يكتب الكتاب الذي في بعض سطوره آية من القرآن وإن كانا لا يقرآن شيئا لأنهما منهيان عن مس القرآن وفي الكتابة مس لأنه يكتب بالقلم وهو في يده وهو صورة المس وفي ( المحيط ) لا بأس لهما بكتابة المصحف إذا كانت الصحيفة على الأرض عند أبي يوسف لأنه لا يمس القرآن بيده وإنما يكتب حرفا فحرفا وليس الحرف الواحد بقرآن وقال محمد أجب إلى أن لا يكتب لأنه في الحكم ماس للحروف وهي بكليتها قرآن ومشايخ بخاري أخذوا بقول محمد كذا في ( الذخيرة )
وقال حماد عن إبراهيم إن كان عليهم إزار فسلم وإلا فلا تسلم
حماد هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة وشيخ أبي حنيفة رضي الله عنه وإبراهيم هو النخعي وهذا التعليق وصله الثوري في ( جامعه ) عنه قوله عليهم أي على أهل الحمام العراة المتطهرين وقال بعضهم اي على من في الحمام والمراد الجنس قلت

(3/63)


قوله من في الحمام يتناول العراء فيه والقاعدين بثيابهم في مسلخ الحمام وقول إبراهيم مختص بالعراة حيث قال إن كان عليهم إزار فنسلم عليهم و إلا أي وإن لم يكن عليهم إزار فلا نسلم فكيف يطلق هذا القائل كلامه على من في الحمام على سبيل العموم والسلام على القاعدين بثيابهم لا خلاف فيه
183 - حدثنا ( إسماعيل ) قال ( حدثنى مالك ) عن ( مخرمة بن سليمان ) عن ( كريب ) مولى ( ابن عباس ) أن ( عبد الله بن عباس ) أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي وهي خالته فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله وأهله في طولها فنام رسول الله حنتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الايات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلي شن معلقة فتوضأ منها فاحسن وضوءه ثم قام يصلي قال ابن عباس فقمت فصنعت مثل ما صيع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ باذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح
قيل مطابقة الحديث للترجمة في قراءة القرآن بعد الحدث وهو أنه قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران بعد قيامه من نومه قبل وضوئه قلت كيف يقال هذا ونومه لا ينقض وضوءه وقال بعضهم الأظهر أن مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة قلت هذا أبعد من ذاك لأنا لا نسلم وجود ذلك على التحقيق ولئن سلمنا ذلك فمراده من الملامسة اللمس باليد أو الجماع فإن كان الأول فلا ينقض الوضوء أصلا سيما في حقه عليه السلام وإن كان الثاني فيحتاج إلى الاغتسال ولم يوجد هذا أصلا في هذه القصة والظاهر أن البخاري وضع هذا الحديث في هذا الباب بناء على ظاهر الحديث حيث توضأ بعد قيامه من النوم وإلا مناسبة في وضعه هذا الحديث ههنا فافهم
بيان رجاله وهم خمسة الأول إسماعيل بن أبي أويس الأصبحي الثاني مالك بن أنس خال إسماعيل المذكور الثالث مخرمة بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء ابن سليمان الوالي المدني الرابع كريب مولى ابن عباس الخامس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والإخبار ومنها أن رواته مدنيون ومنها أن فيه الراوي عن خاله وهو رواية إسماعيل عن خاله مالك
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا الأصيلي في الصلاة عن عبد الله بن يوسف وفي الوتر عن القعنبي وفي التفسير عن قتيبة وعن علي بن عبد الله وفي الصلاة أيضا عن أحمد عن ابن وهب وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك به وعن هارون ابن سعيد عن ابن وهب به وعن محمد بن سلمة عن ابن وهب وعن محمد بن رافع وأخرجه أبو داود عن القعنبي وعن عبد الملك بن شعيب وأخرجه الترمذي في الشمائل عن قتيبة به وعن إسحاق بن موسى وعن محمد بن عبد الله وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن خلاد عن معن به
بيان لغاته قوله في عرض الوسادة بفتح العين وسكون الراء وقال السفاقسي ضم العين غير صحيح ورويناه بفتحها عن جماعة وقال ابو عبد الملك روي بفتح العين وهو ضد الطول وبالضم الجانب والفتح أكثر وقال الداودي عرضها بضم العين وأنكره أبو الوليد وقال لو كان كما قال لقال توسد النبي وأهله طول الوسادة وتوسد ابن عباس عرضها فقوله فاضطجع في عرضها يقتضي أن يكون العرض محلا لاضطجاعه ولا يصح ذلك إلا أن يكون فراشا وفي ( المطالع )

(3/64)


الفتح عند أكثر مشايخنا ووقع عن جماعة منهم الداودي وحاتم الطرابلسي والأصيليل بضم العين والأول أظهر قال النووي هو الصحيح والوساد المتكأ قال ابن سيده وقد توسد ووسده إياه وفي ( المجمل ) جمع الوسادة وسائد والوسادة ما يتوسد عن الموم والجمع وسد وفي ( الصحاح ) الوساد والوسادة المخدة والجمع وسائد ووسد وزعم ابن التين أن الوساد الفراش الذي ينام عليه فكأن اضطجاع ابن عباس في عرضها عند رؤوسها أو أرجلهما كذا قال أبو الوليد قال النووي وهذا باطل قوله الى شن بفتح الشين المعجمة وتشديد النون وهو وعاء الماء إذا كان من أدم فأخلق وجمعه شنان بكسر الشين المعجمة وتشديد النون قوله بأذني بضم الهمزة وسكون الذال المعجمة قوله يفتلها أي يدلكها ويعركها قوله ثم خرج أي من الججرة إلى المسجد فصلى الصبح أي بالجماعة
بيان المعاني والإعراب قوله فاضطجعت أي وضعت الجنب على الأرض وكان مقتضى الظاهر أن يقول اضطجع بصورة الماضي الغائب كما قال إنه بات أو قال بت كما قال فاضطجعت بصورة المتكلم فيهما ولكنه قصد بذلك التفنن في الكلام وهو نوع من أنواع الالتفات فإن قلت من هو القاصد لذلك قلت كريب لأنه هو الذي نقل كلام ابن عباس والظاهر أن اختلاف العبارتين من ابن عباس ومن كريب لأنه كريبا أخبر أولا عن ابن عباس أنه باتت ليلة عند ميمونة ثم أضمر لفظ قال قبل قوله فاضطجعت فيكون الكلام على أسلوب واحد قوله حتى للغاية قوله أو قبله ظرف لقوله استيقظ إن قلنا إن اذا ظرفية اي حتى استيقظ وقت انتصاف الليل أو قبل انتصافه وكلمة أو للتشكيك أو يكون متعلقا بفعل مقدر إن قلنا إن إذا شرطية و استيقظ جزاؤها والتقدير حتى إذا استنصف الليل أو كان قبل الانتصاف استيقظ قوله فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده وفي بعض النسخ فجعل يمسح النوم ففي الوجه الأول يكون يمسح التي هي جملة من الفعل والفاعل في محل النصب على الحال من الضمير الذي في فجلس وفي الوجه الثاني تكون الجملة خبر فجعل لأنه من أفعال المقاربة ومسح النوم من العينين من باب إطلاق اسم الحال على المحل لأن المسح لا يقع إلا على العينين والنوم لا يمسح وقال بعضهم أو أثر النوم من باب إطلاق إسم السبب على المسبب قلت أثر النوم من النوم لأنه بقيته فكيف يكون من هذا الباب قوله ثم قرأ العشر الآيات بإضافة العشر إلى الآيات ويجوز دخول لام التعريف على العدد عند الإضافة نحو الثلاثة الأثواب وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف قوله الخواتم بالنصب لأنه صفة العشر وهو جمع خاتمة أي أواخر سورة آل عمران وهو قوله تعالى إن في خلق السموات والأرض ( آل عمران 190 ) الى آخر السورة فإن قلت ذكر في هذا الحديث الذي تقدم في باب التخفيف هكذا فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا بتذكير وصف الشن وتوصيف الوضوء بالخفة وههنا أنث الوصف حيث قال معلقة وقال فأحسن وضوءه والمراد به الإتمام والإتيان بجميع المندوبات فما وجه الجمع بينهما قلت الشن يذكر ويؤنث والتذكير باعتبار لفظه أو باعتبار الأدم أو الجلد والتأنيث باعتبار القربة وإتمام الوضوء لا ينافي التخفيف لأنه يجوز أن يكون أتى بجميع المندوبات مع التخفيف أو هذا كان في وقت وذاك في وقت آخر قوله فصنعت مثل ما صنع أي قال ابن عباس فصنعت مثل ما صنع النبي أي توضأت نحوا مما توضأ كما صرح به في باب التخفيف ويحتمل أن يريد به أعم من ذلك فيشمل النوم حتى انتصاف الليل ومسح العينين عن النوم وقراءة العشر الآيات والقيام إلى الشن والوضوء وإحسانه قوله يفتلها جملة وقعت حالا وأما فتله أذنه إما للتنبيه عن الغفلة وإما لإظهار المحبة كذا قاله الكرماني قلت لم يكن فتله أذنه إلا لأجل أنه لما وقف وقف بجنبه اليسار فأخذ أذنه وعركها وأداره إلى يمينه قوله فصلى ركعتين لفظ ركعتين ست مرات فيكون المجموع اثني عشر ركعة قوله ثم أوتر قال الكرماني أي جاء بركعة أخرى فردة قلت لم لا يجوز أن يكون معنى قوله أوتر صلى ثلاث ركعات لأنها وترا ايضا بل الأوجه هذا لأنه ورد النهي عن البتيراء وهو التنفل بركعة واحدة ثم إعلم أن قوله فصلى ركعتين إلى قوله ثم اوتر تقييد وتفسير للمطلق الذي ذكر في باب التخفيف حيث قال هناك فصلى ما شاء الله
بيان استنباط الأحكام الأول قال ابن بطال فيه رد على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لمن لم يكن جنبا وهي الحجة الكافية في ذلك لأنه عليه الصلاة و السلام قرأ العشر الآيات بعد قيامه من النوم قبل الوضوء وقال الكرماني

(3/65)


أقول ليس ذلك حجة كافية لأن قلب رسول الله عليه الصلاة و السلام لا ينام ولا ينتقض وضوؤه به وكذا رد عليه ابن المنير ثم قال وأما كونه توضأ عقيب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ واستحسن بعضهم كلامه بالنسبة إلى كلام ابن بطال حيث قال بعد قيامه من النوم ثم قال لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في كونه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم نعم إن وقع شعر به بخلاف غيره وما أدعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه قلت قوله ولا يلزم من كون نومه إلى آخره غير مسلم وكيف يمنع عدم الملازمة بل يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث في حالة النوم لان هذا من خصائصه فيلزم من قول هذا القائل أن لا يفرق بين نوم النبي ونوم غيره وقوله وما أدعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه قلت هذا عند عدم قيام الدليل على ذلك وههنا قام الدليل بأن وضوءه لم يكن لأجل الحدث وهو قوله عليه الصلاة و السلام تنام عيناي ولا ينام قلبي وحينئذ يكون تجديد وضوئه لأجل طلب زيادة النور حيث قال الوضوء نور على نور الثاني فيه جواز الاضطجاع عند المحرم وإن كان زوجها عندها الثالث فيه استحباب صلاة الليل وقراءة الآيات المذكورة بعد الانتباه من النوم الرابع فيه جواز عرك أذن الصغير لأجل التأديب أو لأجل المحبة الخامس فيه استحباب مجيء المؤذن إلى الإمام وإعلامه بإقامة الصلاة السادس فيه تخفيف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح مع مراعاة أدائها وغير ذلك من الأحكام التي مضى ذكر بعضها وسيأتي بعضها أيضا في كتاب الوتر إن شاء الله تعالى
37 -
( باب من لم ير الوضوء إلا من الغشي المثقل )
أي هذا باب في بيان من لم ير الوضوء إلا من الغشي بفتح الغين المعجمة وسكون الشين المعجمة وفي آخره ياء آخر الحروف يقال غشى عليه غشية وغشيانا فهو مغشي عليه والغشى مرض يعرض من طول التعب والوقوف وهو ضرب من الإغماء إلا أنه أخف منه وقال صاحب ( العين ) غشي عليه ذهب عقله وفي القرآن كالذي يغشى عليه من الموت ( الأحزاب 19 ) وقال الله تعالى فاغشيناهم فهم لا يبصرون ( يس 9 ) قوله المثقل بضم الميم من أثقل يثقل إثقالا فهو مثقل بكسر القاف للفاعل وبفتحها للمفعول وهو ضد الخفيف فان قلت كيف يجوز هذا الحصر وللوضوء أسباب أخر غير الغشي قلت أينما يقع مثل هذا الحصر فالمراد أنه رد لاعتقاد السامع حقيقة أو ادعاء فكأن ههنا من يعتقد وجوب الوضوء من الغشي مطلقا سواء كان مثقلا أو غير مثقل وأشركهما في الحكم فالمتكلم حصر على أحد النوعين من الغشي فأفرده بالحكم مزيلا للشركة ومثله يسمى قصر الإفراد ومعناه أنه لا يتوضأ إلا من الغشي المثقل لا من الغشي الغير المثقل وليس المعنى أنه يتوضأ توضأ من الغشي المثقل لا من سبب من أسباب الحدث وجواب آخر أنه استثناء مفرغ فلا بد من تقدير المستثنى منه مناسبا له فتقديره من لم ير الوضوء من الغشي إلا من الغشي المثقل
والمناسبة بين البابين من حيث إن في الباب السابق عدم لزوم الوضوء عن القراءة وههنا عدم لزومه عند الغشي الغير المثقل
184 - حدثنا ( إسماعيل ) قال ( حدثنى مالك ) عن ( هشام بن عروة ) عن ( امرأته فاطمة ) عن ( جدتها أسماء بنت أبي بكر ) أنها قالت أتيت عائشة زوج النبي حين خسفت الشمس فاذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت ما لناس فأشارت بيدها نحو السماء وقالت سبحان الله فقلت آية فأشارت أي نعم فقمت حتى تجلاني الغشي وجعلت أصب فوق رأسي ماء فلما انصرف رسول الله حمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور

(3/66)


مثل أو قريبا من فتنة الدجال لا أدري أي ذلك قالت أسماء يؤتي أحدكم فيقال ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فاجبنا وآمنا واتبعنا فيقال نم صالحا فقد علمنا إن كنت لمؤمنا وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة في قوله حتى تجلاني الغشي لأنه لو كان مثقلا لكان إنتقض الوضوء منها لأنه كالإغماء حينئذ والدليل على أنه لم يكن مثقلا لأنها صبت الماء على رأسها ليزول الغشي وذلك يدل على أن حواسها كانت حاضرة وهو يدل على عدم انتقاض وضوئها
بيان رجاله وهم ستة الأول إسماعيل بن أبي أويس وقد مر عن قريب الثاني مالك بن أنس الثالث هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القريشي والرابع فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام الخامس جدتها أسماء على وزن حمراء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم وزوجة الزبير بن العوام وفي بعض النسخ عن جدته بتذكير الضمير وكلاهما صحيحان بلا تفاوت في المعنى لأن أسماء جدة لهشام ولفاطمة كليهما وتقدم ذكر الثلاثة في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد السادس عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وبصيغة الإفراد والعنعنة والقول ومنها أن رواته كلهم مدنيون ومنها أن فيه رواية الأقران هشام وامرأته فاطمة
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في خمسة مواضع في الطهارة عن إسماعيل وفي الكسوف عن عبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن القعنبي ثلاثتهم عن مالك وفي العلم عن موسى بن إسماعيل عن وهيب وفي الجهاد وقال محمود حدثنا أبو أسامة ثلاثتهم عن هشام بن عروة به وفي السمر عن يحيى ابن سليمان عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن هشام به مختصرا وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة به وعن أبي بكر وأبي كريب كلاهما عن أبي أسامة نحوه وقد مر الكلام في هذا الحديث مستوفى في كتاب العلم في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس وكانت ترجمة الباب فيه
38 -
( باب مسح الرأس كله )
أي هذا باب في بيان حكم مسح كل الرأس في الوضوء ولفظ كله موجود عندهم إلا في رواية المستملي فإنه ساقط
والمناسبة بين البابين أن الباب الأول مترجم بترك الوضوء من الغشي إلا إذا كان مثقلا وهذا الباب يشتمل على مسح جميع الرأس وهو جزء من الوضوء
لقول الله تعالى وامسحوا بروسكم
احتج البخاري في وجوب مسح جميع الرأس بقوله تعالى وامسحو برؤوسكم ( المائدة 6 ) واحتجاجه به إنما يتم إذا كانت الباء زائدة كما ذهب إليه مالك رحمه الله تعالى
وقال ابن المسيب المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها
أي قال ابن المسيب رضي الله تعالى عنه ووصله ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الكريم يعنى ابن مالك عن سعيد بن المسيب المرأة والرجل في مسح الرأس سواء قوله بمنزلة الرجل أي في وجوب مسح جميع الرأس هكذا فسره الكرماني ومع هذا يحتمل أن يكون مراده أنه بمنزلة الرجل في وجوب أصل المسح فحينئذ هذا الأثر لا يساعد البخاري في تبويبه لمسح كل الرأس ونقل عن أحمد أنه قال يكفي المرأة مسح مقدم رأسها

(3/67)


وسئل مالك أيجزىء أن يمسح بعض الرأس فاحتج بحديث عبد الله بن زيد
أيجزىء يجوز فيه الوجان احدهما بفتح الياء من جزى أي كفى والهمزة فيه للاستفهام والثاني بضم الياء من الإجزاء وهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به وفي بعض النسخ ببعض رأسه وفي بعضها بعض الرأس والسائل عن مالك في مسح الرأس هو إسحاق بن عيسى ابن الطباع بينه ابن خزيمة في ( صحيحه ) من طريقه ولفظه سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزيه فقال حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال مسح رسول الله في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله وقال بعضهم موضع الدلالة من الحديث والآية ان لفظ الآية مجمل لأنه يحتمل أن يراد بها مسح الكل عن أن الباء زائدة أو مسح البعض على أنها تبعيضية فتبين بفعل النبي أن المراد الأول قلت لا إجمال في الآية وإنما الإجمال في المقدار دون المحل لأن الرأس وهو معلوم وفعله كان بيانا للإجمال الذي في المقدار وهذا القائل لو علم معنى الإجمال لما قال لفظ الآية مجمل قوله فاحتج اي مالك احتج بحديث عبد الله بن زيد الذي ساقه هنا على عدم الإجزاء في مسح بعض الرأس والمعنى أنه لما سئل عن مسح الرأس روى هذا الحديث واحتج به على أنه لا يجوز أن يقتصر ببعض الرأس
185 - حدثنا ( عبد الله بن يوسف ) قال أخبرنا ( مالك ) عن ( عمرو بن يحيى المازني ) عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضا فقال عبد الله بن زيد نعم فدع بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه
مطابقة الحديث للترجمة في قوله ثم مسح رأسه إلى آخره
بيان رجاله وهم ستة الأول عبد الله يوسف التنيسي الثاني مالك بن انس الثالث عمرو بن يحيى بن عمارة بضم العين المهملة وتخفيف الميم وقد تقدموا الرابع أبوه يحيى بن عمارة بن أبي حسن واسمه تميم بن عبد بن عمرو بن قيس وأبو حسن له صحبة وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر وقال أبو نعيم فيه نظر وقال الذهبي عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني له صحبة وقيل ابوه بدري وعقبي الخامس الرجل السائل هو عمر بن يحيى وإنما قال جد عمرو بن يحيى تجوزا لأنه عم أبيه وسماه جدا لكونه في منزلته وقيل إن المراد بقوله هو عبد الله بن زيد وهذا وهم لأنه ليس جدا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازا وذكر في ( الكمال ) في ترجمة عمرو بن يحيى أنه ابن بنت عبد الله بن زيد قالوا إنه غلط وقد ذكر محمد بن سعد أن أم عمرو بن يحيى هي حميدة بنت محمد بن إياس بن بكير وقال غيره هي أم النعمان بنت أبي حية والله اعلم وقد اختلف رواة ( الموطأ ) في تعيين هذا السائل فأبهمه أكثرهم قال معن بن عيسى في روايته عن عمرو عن ابيه يحيى إنه سمع أبا محمد بن حسن وهو جد عمرو بن يحيى قال لعبد الله بن زيد وكان من الصحابة فذكر الحديث وقال محمد بن الحسن الشيباني عن مالك حدثنا عمرو عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد وكذا ساقه سحنون في ( المدونة ) وقال الشافعي في ( الأم ) عن مالك عن عمرو عن أبيه فإن قلت هل يمكن أن يجمع هذا الاختلاف قلت يمكن أن يقال اجتمع عند عبد الله بن زيد بن ابي حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه عمارة بن أبي حسن فسألوه عن صفة وضوء النبي وتولى السؤال منهم له عمارة بن أبي حسن فحيث نسب إليه السؤال كان على الحقيقة ويؤيده رواية سليمان بن بلال عند البخاري في باب الوضوء من التور قال حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال كان عمي يعنى عمرو بن أبي حسن يكثر الوضوء فقال لعبد الله ابن زيد أخبرني فذكره وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه كان الأكبر وكان حاضرا وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة فعلى المجاز أيضا لكونه ناقل الحديث وقد حضر السؤال وكانوا كلهم متفقين على السؤال

(3/68)


غير أن السائل منهم كان عمرو بن أبي حسن ويوضح ذلك ما رواه أبو نعيم في ( المستخرج ) من حديث الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمه عمرو بن أبي حسن قال كنت كثير الوضوء فقلت لعبد الله بن زيد الحديث السادس من الرجال عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله تعالى عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والأخبار كذلك والعنعنة والقول ومنها أن رواته كلهم مذنيون إلا عبد الله بن يوسف وقد دخلها ومنها أن فيه رواية الابن عن الأب
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة في خمسة مواضع عن عبد الله بن يوسف هنا وعن موسى ابن إسماعيل وسليمان بن حرب كلاهما عن وهيب وعن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال وعن مسدد عن خالد بن عبد الله وعن أحمد ابن يونس عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون خمستهم عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه به وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن محمد بن الصباح وعن القاسم بن زكريا وعن إسحاق بن موسى وعن عبد الرحمن بن بشر وأخرجه الأربعة أيضا في الطهارة فأبو داود عن مسدد وعن القعنبي وعن الحسن بن علي والترمذي عن إسحاق بن موسى الأنصاري به مختصرا والنسائي عن عقبة بن عبد الله بن اليعمري وعن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين وعن محمد بن منصور وابن ماجه عن الربيع بن سليمان وحرملة بن عيسى كلاهما عن الشافعي عن مالك وعن أبي بكر بن أبي شيبة مختصرا وعن علي بن محمد مختصرا
بيان اللغات والمعاني قوله فأفرغ على يده أي فصب الماء على يده وفي بعض الروايات يديه قوله وفي رواية موسى عن وهيب فأكفأ بهمزتين وفي رواية سليمان بن حرب في باب مسح الرأس مرة عن وهيب فكفأ بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى يقال كفأ الإناء وأكفأه إذا أماله وقال الكسائي كفأت الإناء كببته وأكفأته أملته والمراد في الموضعين أفراغ الماء من الإناء على اليد قوله فغسل يده مرتين بإفراد اليد في رواية مالك وتثنية اليد في رواية وهيب وسليمان بن بلال عند البخاري وكذا الدراورذي عند ابي نعيم وفي رواية مالك فغسل يده مرتين بإفراد اليد يحمل على الجنس ثم إنه عند مالك مرتين وعند هؤلاء ثلاثا وكذا لخالد بن عبد الله عند مسلم فان قلت لم لا يحمل هذا على الوقعتين قلت المخرج واحد والأصل عدم التعدد قوله ثم تمضمض واستنثر وفي رواية الكشميهني مضمض واستنشق ومعنى استنثر استنشق الماء ثم استخراج ذلك بنفس الأنف والنثرة الخيشوم وما ولاه وتشق واستنشق الماء في أنفه صبه فيه ويقال نشر وانتشر واستنشر إذا حرك النشرة وهي طرف الأنف وقال بعضهم الاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس قلت لا نسلم ذلك فقال ابن الأعرابي وابن قتيبة الاستنشاق والاستنثار واحد قوله ثم غسل وجهه ثلاثا أي ثلاث مرات ولم تختلف الروايات في ذلك قوله ثم غسل يديه مرتين مرتين كذا بتكرار مرتين ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين مرتين وفي رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد انه رأى النبي عليه الصلاة و السلام توضأ وفيه يده اليمنى ثلاثا ثم الأخرى ثلاثا فيحمل عل أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متحد قوله إلى المرفقين كذا رواية الأكثرين وفي رواية المستملي والحموي إلى المرفق بالإفراد على إرادة الجنس قوله ثم مسح رأسه زاد ابن الطباع لفظه كله وكذا في رواية ابن خزيمة وفي رواية خالد بن عبد الله مسح برأسه بزيادة الباء قوله ثم غسل رجليه وفي رواية وهيب الآتية إلى الكعبين
بيان الإعراب قوله أتستطيع الهمزة فيه للاستفهام قوله أن تريني فكلمة أن مصدرية والجملة في محل النصب على أنها مفعول تستطيع والتقدير هل تستطيع الإراءة إياي كيف كان رسول الله يتوضأ قوله يتوضأ جملة في محل النصب على أنها خبر كان ويجوز أن تكون تامة ويكون قوله يتوضأ حالا قوله نعم مقول القول وهو يكون جملة والتقدير نعم أستطيع أن أريك قوله فدعا بماء الفاء للتعقيب وكذا الفاء في فافرغ وفي فغسل يديه وأما كلمة ثم في ستة مواضع في الحديث بمعنى الواو وليست على معناها الأصلي وهو الإمهال كذا قال ابن بطال قلت ثم

(3/69)


في هذه المواضع للترتيب لأن ثم تستعمل لثلاثة معان التشريك في الحكم والترتيب والمهلة مع أن في كل واحد خلافا والمراد من الترتيب هو الترتيب في الإخبار لا الترتيب في الحكم مثل ما يقال بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب أي ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب قوله بدأ بمقدم رأسه إلى قوله منه بيان لقوله فأقبل بهما وأدبر ولذلك لم تدخل الواو عليه قوله بدأ منه إلى آخره من الحديث وليس مدرجا من كلام مالك
بيان استنباط الاحكام الأول فيه غسل اليد قبل شروعه في الوضوء وذكر هنا مرتين وذكر في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرتين أو ثلاثا ثم إن هذا الغسل ليس من سنن الوضوء ولا من الفروض وذهب داود وابن جرير الطبري إلى إيجاب ذلك وأن الماء ينجس إن لم تكن اليد مغسولة وقال ابن القاسم غسلهما عبادة وقال مالك السنة أن يغسل يديه قبل الشروع في الوضوء مرتين كما هو في رواية هذا الحديث قلت فيه أقوال خمسة الأول إنه سنة وهو المشهور عندنا كذا في ( المحيط ) و ( المبسوط ) ويدل عليه أنه عليه الصلاة و السلام لم يتوضأ قط إلا غسل يديه وفي ( المنافع ) تقديم غسلهما إلى الرسغين سنة تنوب عن الفرض كالفاتحة تنوب عن الواجب وفرض القراءة الثاني إنه مستحب للشاك في طهارة يده كذا روي عن مالك الثالث إنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار قال أحمد الرابع إن من شك هل أصابت يده نجاسة أم لا يجب غسلهما في مشهور مذهب مالك الخامس إنه واجب على المنتبه من النوم مطلقا وبه قال داود وأصحابه وفي الحواشي تقديم غسل اليدين للمستيقظ يترك بالحديث وإلا فسببه شامل له ولغيره
الثاني فيه المضمضة والاستنشاق وهما سنتان في الوضوء فرضان في الغسل وبه قال الثوري وقال الشافعي سنتان فيهما وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري والزهري وقتادة والحكم وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والأوزاعي والليث وهو رواية عن عطاء وأحمد وعنه أنهما واجبتان فيهما وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد وإسحاق والمذهب الرابع أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وهو رواية عن أحمد
الثالث فيه أنه عليه الصلاة و السلام مضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات وبه قال الشافعي وفي ( الروضة ) في كيفيته وجهان أصحهما يتمضمض من غرفة ثلاثا ويستنشق من أخرى ثلاثا والثاني بست غرفات واستدل أصحابنا بحديث الترمذي رواه عن علي رضي الله تعالى عنه وفي مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وقال حديث حسن صحيح فإن قلت لم يحك فيه ان كل واحدة من المضامض والاستنشاقات بماء واحدة بل حكى انه تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا قلت مضمونه ظاهرا ما ذكرناه وهو أن يأخذ لكل واحد منهما ماء جديدا وكذا روى البويطي عن الشافعي أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق
الرابع فيه غسل الوجه ثلاث مرات وليس فيه خلاف
الخامس فيه غسل يديه مرتين وجاء في رواية مسلم ثلاثا فإن قلت هل هذا يغسل يديه ههنا من أول الأصابع أو يغسل ذراعيه قلت ذكر في الأصل غسل ذراعيه لا غير لتقدم غسل اليدين إلى الرسغ مرة وفي ( الذخيرة ) الأصح عندي أن يعيد غسل اليدين ظاهرهما وباطنهما لأن الأول كان سنة افتتاح الوضوء فلا ينوب عن فرض الوضوء
السادس فيه أن المرفقين هما يدخلان في غسل اليدين عند الجمهور خلافا لزفر ومالك في رواية و قد روى الدارقطني من حديث جابر كان رسول الله إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه وروى البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق وروى الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد العبدي عن أبيه مرفوعا ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه
السابع فيه مسح رأسه احتج به مالك وابن علية وأحمد في رواية علي أن مسح جميع الرأس فرض ولكن أصحاب مالك اختلفوا فقال أشهب يجوز مسح بعض الرأس وقال غيره الثلث فصاعدا وعندنا وعند الشافعي الفرض مسح بعض الرأس فقال أصحابنا ذلك البعض هو ربع الرأس واستدلوا بحديث المغيرة بن شعبة لأن الكتاب مجمل في حق المقدار فقط لأن الباء في ( وامسحو برؤوسكم ) للإلصاق باعتبار أصل الوضع فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل بها إلى محل المسح فيتناول جميعه كما تقول مسحت الحائط بيدي ومسحت رأس اليتيم بيدي فيتناول كله

(3/70)


وإذا قرنت بمحل المسح يتعدى الفعل بها إلى الآلة فلا يقتضي الاستيعاب وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل وذلك يستوعب الكل عادة بل أكثر الآلة ينزل منزلة الكل فيتأدى المسح بإلصاق ثلاثة أصابع بمحل المسح ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق لا بمعنى أن الباء للتبعيض كما قاله البعض وقد أنكر بعض أهل العربية كون الباء للتبعيض وقال ابن برهان من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفون وقد جعل الجرجاني معنى الإلصاق في الباء أصلا وإن كانت تجيء لمعان كثيرة وقال ابن هاشم أثبت مجيء الباء للتبعيض الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك قيل والكوفيون وجعلوا منه عينا يشرب بها عباد الله ( الإنسان 6 ) قيل ومنه وامسحوا برؤوسكم ( المائدة 6 ) فالظاهر
أن الباء فيهما للإلصاق وقيل هي في آية الوضوء للاستعانة وإن في الكلام حذفا وقلبا فإن مسح يتعدى إلى المزال عنه بنفسه وإلى المزيل بالباء فالأصل امسحوا رؤوسكم بالماء فان قلت أليس أن في التيمم حكم المسح ثبت بقوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ( النساء 43 ) ثم الإستيعاب فيه شرط قلت عرف الاستيعاب فيه إما بإشارة الكتاب وهو أن الله تعالى أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذره والاستيعاب فرض بالنص وكذا فيما قام مقامه أو عرف ذلك بالسنة وهو قوله عليه الصلاة و السلام لعثمان رضي الله تعالى عنه يكفيك ضربتان ضربة للوجه وضربه للذراعين وأما على رواية الحسن عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إنه لا يشترط الاستيعاب فلا يرد شيء فإن قلت المسح فرض والمفروض مقدار الناصية ومن حكم الفرض أن يكفر جاحده وجاحد المقدار لا يكفر فكيف يكون فرضا قلت بل جاحد أصل المسح كافر لأنه قطعي وجاحد المقدار لا يكفر لأنه في حق المقدار ظني فان قلت أيها الحنفي إنك استدللت بحديث المغيرة على أن المقدار في المسح هو قدر الناصية وتركت بقية الحديث وهو المسح على العمامة قلت لو عملنا بكل الحديث يلزم به الزيادة على النص لأن هذا خبر الواحد والزيادة به على الكتاب نسخ فلا يجوز وأما المسح على الرأس فقد ثبت بالكتاب فلا يلزم ذلك وأما مسحه عليه الصلاة و السلام على العمامة فأوله البعض بان المراد به ما تحته من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل وأوله البعض بأن الراوي كان بعيدا عن النبي عليه الصلاة و السلام فمسح على رأسه ولم يضع العمامة من رأسه فظن الراوي أنه مسح على العمامة وقال القاضي عياض وأحسن ما حمل عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة أنه عليه الصلاة و السلام لعله كان به مرض منعه كشف رأسه فصارت العمامة كالجبيرة التي يمسح عليها للضرورة وقال بعضهم فإن قيل فلعله اقتصر على مسح الناصية لعذر لأنه كان في سفر وهو مظنة العذر ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية كما هو ظاهر سياق مسلم من حديث المغيرة قلنا قد روي عنه مسح مقدم الرأس من غير مسح على العمامة وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء أن رسول الله توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه وهو مرسل لكنه اعتضد من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة قلت قول هذا القائل من أعجب العجائب لأنه يدعي أن المرسل غير حجة عند إمامه ثم يدعي أنه اعتضد بحديث موصول ضعيف باعترافه هو ثم يقول وحصلت القوة من الصورة المجموعة فكيف تحصل القوة من شيء ليس بحجة وشيء ضعيف فإذا كان المرسل غير حجة يكون في حكم العدم ولا يبقى إلا الحديث الضعيف وحده فكيف تكون الصورة المجموعة
الثامن فيه البداءة في مسح الرأس بمقدمه وروي في هذا الباب أحاديث كثيرة فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وادبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه وعند ابن أبي شيبة من حديث الربيع بدأ بمؤخره ثم مد يديه على ناصيته وعند الطبراني بدأ بمؤخر رأسه ثم جره إلى مؤخره وعند أبي داود يبدأ بمؤخره ثم بمقدمه وبإذنه كليهما وفي لفظ مسح الراس كله من قرن الشعر كل ناحيته لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته وفي لفظ مسح رأسه كله وما أقبل وما أدبر وصدغيه وعند البزار من حديث أبي بكرة يرفعه توضأ ثلاثا ثلاثا وفيه مسح برأسه يقبل بيده من مقدمه إلى مؤخره ومن مؤخره إلى مقدمه وعند ابن نافع من حديث أبي هريرة وضع يديه

(3/71)


على النصف من رأسه ثم جرهما إلى مقدم رأسه ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه وجرهما إلى صدغيه وعند أبي داود من حديث أنس أدخل يده من تحت العمامة فمسح بمقدم رأسه وفي كتاب ابن السكن فمسح باطن لحيته وقفاه وفي ( معجم ) البغوي وكتاب ابن ابي خيثمة مسح رأسه إلى سالفته وفي كتاب النسائي عن عائشة ووصفت وضوءه عليه السلام ووضعت يدها في مقدم رأسها ثم مسحت إلى مؤخره ثم مدت بيديها بأذنيها ثم مدت على الخدين فهذه أوجه كثيره يختار المتوضىء أيها شاء واختار بعض أصحابنا رواية عبد الله بن زيد وقال بعضهم في قوله بدأ بمقدم رأسه حجة على من قال السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس الى ان ينتهي الى مقدمه قلت لا يقال إن مثل هذا حجة عليه لأنه ورد فيه الأوجه التي ذكرناها الآن والذي قال السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس اختار الوجه الذي فيه البداء بمؤخر الرأس وله أيضا أن يقول هذا الوجه حجة عليك أيها المختار في البداءة بالمقدم
التاسع فيه غسل الرجلين إلى الكعبين والكلام فيه كالكلام في المرفقين
العاشر فيه جريان التلطف بين الشيخ وتلميذه في قوله أتستطيع أن تريني إلى آخره
الحادي عشر فيه جواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة
الثاني عشر فيه التعليم بالفعل
الثالث عشر فيه أن الاغتراف من الماء القليل لا يصير الماء مستعملا لأن في رواية وهيب وغيره ثم أدخل يده
الرابع عشر فيه استيعاب مسح الرأس ولكن سنة لا فرضا كما قررناه
الخامس عشر فيه الاقتصار في مسح الرأس على مرة واحدة
39 -
( باب غسل الرجلين إلى الكعبين )
أي هذا باب في بيان غسل الرجلين إلى الكعبين في الوضوء والمناسبة بين البابين ظاهرة
186 - حدثنا ( موسى بن إسماعيل ) قال حدثنا ( وهيب ) عن ( عمر ) عن أبيه شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي فاكفأ على يده من النور فغسل يديه ثلاثا ثم أدخل يده في النور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يده فمسح رأسه فاقبل بهما وأدبر مرة غسل رجليه إلى الكعبين
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة والمناسبة بين البابين ظاهرة والأبحاث المتعلقة به قد ذكرناها في الحديث السابق ونذكر ههنا التي لم نذكر هناك
فنقول موسى هو ابن إسماعيل التبوذكي مر في كتاب الوحي ووهيب هو ابن خالد الباهلي مر في باب من أجاب الفتيا وعمر وهو ابن يحيى بن عمارة شيخ مالك المتقدم ذكره في الحديث السابق وعمر وابن أبي حسن بفتح الحاء وقال الكرماني عمرو هذا جد عمرو بن يحيى فإن قلت تقدم أن السائل هو جده وهذا يدل على أنه أخو جده فما وجه الجمع بينهما قلت لا منافاة في كونه جدا له من جهة الأم عما لأبيه وقال بعضهم أغرب الكرماني فقال عمرو بن ابي حسن جد عمرو بن يحيى من قبل أمه وقدمنا أن أم عمرو بن يحيى ليست بنتا لعمرو بن أبي حسن فلم يستقم ما قاله بالاحتمال قلت لم يغرب الكرماني في ذلك ولا قاله بالاحتمال فإن صاحب ( الكمال ) قال ذلك وقد مر الكلام فيه في الباب الذي مضى
قوله بتور بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الواو وفي آخره راء هو الطشت وقال الجوهري إناء يشرب منه وقال الدراوردي قدح وقيل يشبه الطشت وقيل مثل القدر يكون من صفر أو حجارة وفي رواية عبد العزيز ابن أبي سلمة عند البخاري في باب الغسل في المخضب والصفر بضم الصاد المهملة وسكون الفاء صنف من جيد النحاس قيل إنه سمي بذلك لكونه يشبه الذهب ويسمى أيضا الشبه بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة قوله لهم أي لأجلهم وهم السائل وأصحابه قوله فأكفأ فعل ماض من الإكفاء وقد مر في الحديث السابق قوله واستنشق واستنثر قال الكرماني هذا دليل من قال إن الاستنشار هو غير الاستنشاق وهو الصواب قلت قد ذكرنا فيما مضى عن ابن الأعرابي وابن قتيبة أن الاستنشاق والاستنثار واحد فان قلت فعلى هذا يكون عطف الشيء على نفسه قلت لا نسم

(3/72)


ذلك لأن اختلاف اللفظين يجوز ذلك ويحتمل أن يكون عطف تفسير قوله ثلاثة غرفات قال الكرماني يحتمل أن يراد بها أنها كانت للمضمضة ثلاثا وللاستنشاق ثلاثا أو كانت الثلاث لهما ولهذا هو الظاهر قلت الظاهر هو الأول لا الثاني لأنه ثبت فيما رواه الترمذي وغيره أنه مضمض واستنشق ثلاثا فان قلت لا يعلم أن كل واحدة من الثلاث بغرفة قلت قد قلنا لك فيما مضى إن البويطي روى عن الشافعي أنه روى عنه أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق وكل ما روي من خلاف هذا فهو محمول على الجواز قوله ثم أدخل يده يدل على أنه اغترف بإحدى يديه هكذا هو في باقي الروايات وفي مسلم وغيره ولكن وقع في رواية ابن عساكر وأبي الوقت من طريق سليمان ابن بلال الآتية ثم أدخل يديه بالتثنية وليس كذلك في رواية أبي ذر ولا الأصيلي ولا في شيء من الروايات خارج الصحيح قاله النووي ثم غسل يديه مرتين المراد غسل كل يد مرتين كما تقدم من طريق مالك ثم غسل يديه مرتين مرتين وليس المراد توزيع المرتين على اليدين ليكون لكل يد مرة واحدة قوله إلى المرفقين المرفق بكسر الميم وبفتح الفاء هو العظم الناتىء في الذراع سمي بذلك لأنه يرتفق في الإتكاء ونحوه قوله إلى الكعبين الكعب هو العظم الناتيء عند ملتقى الساق والقدم قال بعضهم وحكي عن أبي حنيفة أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك قلت هذا مختلق على أبي حنيفة ولم يقل به أصلا بل نقل ذلك عن محمد بن الحسن وهو أيضا غلط لأن هذا التفسير فسره محمد في حق المحرم إذا لم يجد نعلين يلبس خفين يقطعهما أسفل من الكعبين بالتفسير الذي ذكره
40 -
( باب استعمال فضل وضوء الناس )
أي هذا باب في بيان استعمال فضل وضوء الناس في التطهر وغيره والوضوء بفتح الواو والمراد من فضل الوضوء يحتمل أن يكون ما يبقى في الظرف بعد الفراغ من الوضوء ويحتمل أن يراد به الماء الذي يتقاطر عن أعضاء المتوضىء وهو الماء الذي يقول له الفقهاء الماء المستعمل واختلف الفقهاء فيه فعن ابي حنيفة ثلاث روايات فروى عنه أبو يوسف أنه نجس مخفف وروى الحسن بن زياد أنه نجس مغلظ وروى محمد بن الحسن وزفر وعافية القاضي أنه طاهر غير طهور وهو اختيار المحققين من مشايخ ما وراء النهر وفي ( المحيط ) وهو الأشهر الأقيس وقال في ( المفيد ) وهو الصحيح وقال الأسبيجابي وعليه الفتوى وقال قاضيخان ورواية التغليظ رواية شاذة غير مأخوذ بها وبه يرد على ابن حزم قوله الصحيح عن ابي حنيفة نجاسته وقال عبد الحميد القاضي أرجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن ابي حنيفة وعند مالك طاهر وطهور وهو قول النخعي والحسن البصري والزهري والثوري وأبي ثور وعند الشافعي طاهر غير طهور وهو قوله الجديد وعند زفر إن كان مستعمله طاهرا فهو طاهر وطهور وإن محدثا فهو طاهر غير طهور وقوله استعمال فضل وضوء الناس أعم من أن يستعمل للشرب أو لإزالة الحدث أو الخبث أو للاختلاط بالماء المطلق فعلى قول النجاسة لا يجوز استعماله أصلا وعلى قول الطهورية يجوز استعماله في كل شيء وعلى قول الطاهرية فقط يجوز استعماله للشرب والعجين والطبخ وإزالة الخبث والفتوى عندنا على أنه طاهر غير طهور كما ذهب إليه محمد بن الحسن
والمناسبة بين البابين من حيث إن الباب السابق في صفة الوضوء وهذا الباب في بيان الماء الذي يفضل من الوضوء
وأمر جرير بن عبد الله أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه
هذا الأثر غير مطابق للترجمة أصلا فإن الترجمة في استعمال فضل الماء الذي يفضل من المتوضىء والأثر هو الوضوء بفضل السواك ثم فضل السواك إن كان ما ذكره ابن التين وغيره أنه هو الماء الذي ينتقع به السواك فلا مناسبة له للترجمة أصلا لأنه ليس بفضل الوضوء وإن كان المراد أنه الماء الذي يغمس فيه المتوضىء سواكه بعد الاستياك فكذلك لا يناسب الترجمة وقال بعضهم أراد البخاري أن هذا الصنيع لا يغير الماء فلا يمنع التطهر به قلت من له أدنى ذوق من الكلام لا يقول هذا الوجه في تطابق الأثر للترجمة وقال ابن المنير إن قيل ترجم على استعمال فضل الوضوء ثم ذكر

(3/73)


حديث السواك والمجة فما وجهه قلت مقصوده الرد على من زعم أن الماء المستعمل في الوضوء لا يتطهر به قلت هذا الكلام أبعد من كلام ذلك القائل فأي دليل دل على ان الماء في خبر السواك والمجة فضل الوضوء وليس فضل الوضوء إلا الماء الذي يفضل من وضوء المتوضي فإن كان لفظ فضل الوضوء عربيا فهذا معناه وإن كان غير عربي فلا تعلق له ههنا وقال الكرماني فضل السواك هو الماء الذي ينتقع فيه السواك ليترطب وسواكهم الأراك وهو لا يغير الماء قلت بينت لك أن هذا كلام واه وأن فضل السواك لا يقال له فضل الوضوء وهذا لا ينكره إلا معاند ويمكن أن يقال بالجر الثقيل إن المراد من فضل السواك هو الماء الذي في الظرف والمتوضىء يتوضأ منه وبعد فراغه من تسوكه عقيب فراغه من المضمضة يرمى السواك الملوث بالماء المستعمل فيه ثم أثر جرير المذكور وصله ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) والدارقطني في ( سننه ) وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عنه وفي بعض طرقه كان جرير يستاك ويغمس رأس سواكه في الماء ثم يقول لأهله توضأوا بفضله لا يرى به بأس
187 - حدثنا ( آدم ) قال حدثنا ( شعبة ) قال حدثنا ( الحكم ) قال سمعت ( أبا جحيفة ) يقول خرج علينا رسول الله بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به فصلى النبي الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة
هذا الحديث يطابق الترجمة إذا كان المراد من قوله يأخذون من فضل وضوئه ما سال من أعضاء النبي عليه الصلاة و السلام وإن كان المراد منه الماء الذي فضل عنه في الوعاء فلا مناسبة أصلا
بيان رجاله وهم أربعة الأول آدم بن أبي اياس تقدم الثاني شعبة بن الحجاج كذلك والثالث الحكم بفتح الحاء المهملة وفتح الكاف ابن عتيبة بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة تقدم في باب السمر بالعلم والرابع أبو جحيفة بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبالفاء واسمه وهب بن عبد الله الثقفي الكوفي تقدم في باب كتابة العلم رضي الله تعالى عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع ومنها أن رواته ما بين عسقلاني وكوفي وواسطي ومنها أنه من رباعيات البخاري ومنها أن الحكم بن عتيبة ليس له سماع من أحد من الصحابة إلا أبا جحيفة وقيل روى عن أبي أوفى أيضا
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن سليمان بن حرب وفي صفة النبي وعن الحسن بن منصور وأخرجه مسلم في الصلاة محمد بن المثني عن محمد بن بشار كلاهما عن غندر وعن زهير بن حرب وعن محمد بن حاتم كلاهما عن ابن مهدي خمستهم عن شعبة عنه به وأخرجه النسائي في الصلاة عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار به
بيان اللغات والإعراب قوله بالهاجرة قال ابن سيده الهجيرة والهجيرة والهجر والهاجر نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهيرة وقيل عند زوال إلى العصر وقيل في ذلك إنه شدة الحر وهجر القوم وأهجروا وتهجروا ساروا في الهجيرة وفي كتاب ( الأنواء الكبير ) لأبي حنيفة الهاجرة بالصيف قبل الظهيرة بقليل أو بعدها بقليل يقال أتيته بالهجر الأعلى وبالهاجرة العليا يريد في آخر الهاجرة والهو يجرة قبل العصر بقليل والهجر مثله وسميت الهاجرة لهرب كل شيء منها ولم أسمع بالهاجرة في غير الصيف إلا في قول العجاج في ثور وحش طرده الكلاب في صميم البر
( ولى كمصباح الدجى المزهورة
كان من آخر الهجيرة )
قوم هجان هم بالمقدورة
وفي ( الموعب ) أتيته بالهاجرة وعند الهاجرة وبالهجير وعند الهجير وفي ( المغيث ) الهاجرة بمعنى المهجورة لأن السير يهجر فيها كماء دافق بمعنى مدفوق قاله الهروي وأما قوله والمهجر كالمهدي بدنه فالمراد التبكير إلى كل صلاة وعن الخليل التهجير إلى الجمعة التبكير وهي لغة حجازية قوله فأتي بوضوء بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به قوله

(3/74)


فيتمسحون به من باب التفعل وهو يأتي لمعان ومعناه ههنا العمل ليدل على أن أصل الفعل حصل مرة بعد مرة نحو تجرعه أي شربه جرعة بعد جرعة والمعنى ههنا كذلك لأن كل واحد منهم يمسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى ويجوز أن يكون للتكلف لأن كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه كان يتعانى لتحصيله كتشجع وتصبر قوله عنزة بالتحريك أقصر من الرمح وأطول من العصار وفيه زج كزج الرمح
وأما الإعراب فقوله يقول في محل النصب على أنه مفعول ثان لسمعت على قول من يقول إن السماع يستدعي مفعولين والأظهر أنه حال قوله بالهاجر الباء فيه ظرفية بمعنى في الهاجرة قوله يأخذونه في محل النصب لأنه خبر جعل الذي هو من أفعال المقاربة قوله عنزة مرفوع بالابتداء وخبره مقدما قوله بين يديه والجملة حالية
بيان إستنباط الأحكام الأول فيه الدلالة الظاهرة على طهارة الماء المستعمل إذا كان المراد أنهم كانوا يأخذون ما سال من أعضائه وإن كان المراد أنهم كانوا يأخذون ما فضل من وضوئه في الإناء فيكون المراد منه التبرك بذلك والماء طاهر فازداد طهارة ببركة وضع النبي يده المباركة فيه الثاني فيه الدلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين الثالث فيه قصر الرباعة في السفر لأن الواقع كان في السفر وصرح في رواية أخرى أن خروجه وهذا كان من قبة حمراء من أدم بالأبطح بمكة الرابع فيه نصب العنزة ونحوها بين يدي المصلي إذا كان في الصحراء
وقال أبو موسى دعا النبي بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال لهما اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما
قال الإسماعيلي ليس هذا من الوضوء في شيء وإنما هو مثل من استشفى بالغسل له فغسل قلت أراد بهذا الكلام أنه لا مطابقة له للترجمة ولكن فيه مطابقة من حيث إنه عليه الصلاة و السلام لما غسل يديه ووجهه في القدح صار الماء مستعملا ولكنه طاهر إذ لو لم يكن طاهرا لما أمر بشربه وإفراغه على الوجه والنحر وهذا الماء طاهر وطهور أيضا بلا خلاف ولكنه إذا وقع مثل هذا من غير النبي عليه الصلاة و السلام يكون الماء على حاله طاهرا ولكن لا يكون مطهرا على ما عرف
بيان ما فيه من الأشياء الأول أن أبا موسى هو الأشعري واسمه عبد الله بن قيس تقدم في باب أي الإسلام أفضل
الثاني أن أن هذا تعليق وهو طرف من حديث مطول أخرجه البخاري في المغازي وأوله عن أبي موسى قال كنت عند النبي بالجعرانة ومعه بلال رضي الله عنه فأتاه أعرابي قال ألا تنجز لي ما وعدتني قال إبشر الحديث وفيه دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه الحديث وأخرج أيضا قطعة منه في باب الغسل والوضوء في المخضب وأخرجه مسلم أيضا في فضائل النبي عليه الصلاة و السلام
الثالث القدح بفتحين هو الذي يؤكل فيه قاله ابن الأثير قلت القدح في استعمال الناس اليوم الذي يشرب فيه قوله ومج فيه اي صب ما تناوله من الماء بفيه في الإناء وقال ابن الاثير مج لعابه إذا قذفه وقيل لا يكون مجا حتى تباعد به قوله قال لهما أي لأبي موسى وبلال رضي الله تعالى عنهما وكان بلال مع أبي موسى حاضرا عند النبي عليه الصلاة و السلام قوله وأفرغا من الإفراغ قوله ونحو ركما بالنون جمع نحر وهو الصدر
الرابع فيه الدلالة على طهارة الماء المستعمل على الوجه الذي ذكرناه وفيه جواز مج الريق في الماء قاله الكرماني قلت هذا في حق النبي لأن لعابه أطيب من المسك ومن غيره يستقذر ولهذا كره العلماء والنبي عليه الصلاة و السلام مقامه أعظم وكانوا يتدافعون على نخامته ويدلكون بها وجوههم لبركتها وطيبها وخلوفه ما كان يشابه خلوف غيره وذلك لمناجاته الملائكة فطيب الله نكهته وخلوف فمه وجميع رائحته وقال ابن بطال فيه دليل على أن لعاب البشر ليس بنجس ولا بقية شربه وذلك يدل على أن نهيه عليه الصلاة و السلام عن النفخ في الطعام والشراب ليس على سبيل أن ما تطاير فيه من اللعاب نجس وإنما هو خشية أن يتقذرة الآكل منه فأمر بالتأدب في ذلك وقال أيضا وحديث ابي موسى يحتمل أن يكون النبي أمر بالشرب من الذي مج فيه والإفراغ على الوجوه والنحور من أجل مرض أو شيء أصابهما قال الكرماني لم يكن ذلك من أجل ما ذكره بل كان لمجرد التيمن

(3/75)


والتبرك به وهذا هو الظاهر قلت فعلى هذا لا تطابق بينه وبين ترجمة الباب والعجب من ابن بطال حيث يقول بالاحتمال في الذي يدل على هذا الحديث على التبرك والتيمن ظاهرا ويقول بالجزم في الذي يحتمل غيره
189 - حدثنا ( علي بن عبد الله ) قال حدثنا ( يعقوب بن إبراهيم بن سعد ) قال حدثنا أبي عن ( صالح ) عن ( ابن شهاب ) قال أخبرني ( محمود بن الربيع ) قال وهو الذي مج رسول الله في وجهه وهو غلام من بئرهم
هذا الحديث لا يطابق الترجمة أصلا وإنما يدل على ممازحة الطفل بما قد يصعب عليه لأن مج الماء قد يصعب عليه وإن كان قد يستلذه
وقد أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب العلم في باب متى يصح سماع الصغير وقد مر الكلام فيه مستوفى من جمع الوجوه
وعلي بن عبد الله هو ابن المديني أحد الأعلام وصالح هو ابن كيسان وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري والربيع بفتح الراء
قوله من بئرهم يتعلق بقوله مج وقوله وهو غلام جملة إسمية وقعت حالا وقوله وهو الذي مج إلى لفظ بئرهم كلام لابن شهاب ذكره تعريفا أو تشريفا والضمير في بئرهم لمحمود وقومه بدلالة القرينة عليه والذي اخبر به محمود هو قوله عقلت من النبي مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو
وقال عروة عن المسور وغيره يصدق كل واحد منهما صاحبه وإذا وضأ النبي كادوا يقتتلون على وضوئه
عروة هو ابن الزبير بن العوام تقدم المسور بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو ابن مخرمة بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء الزهري ابن بنت عبد الرحمن بن عوف قبض رسول الله وهو ابن ثمان سنين وصح سماعه من رسول الله روي له اثنان وعشرون حديثا ذكر البخاري منها ستة فأصابه حجر من أحجار المنجنيق وهو يصلي في الحجر فمكث خمسة أيام ثم مات زمن محاصرة الحجاج مكة سنة أربع وستين والألف واللام فيه كالألف واللام في الحارث يجوز إثباتها ويجوز نزعها وهو في الحالتين علم
قوله يصدق كل واحد منهما صاحبه أي يصد كل من المسور ومروان صاحبه لأن المراد من قوله وغيره وهو مروان على ما يأتي وقد خبط الكرماني هنا خباطا فاحشا وسأبنيه عن قريب إن شاء الله تعالى قوله وغيره يريد به مروان بن الحكم لأن البخاري أخرج هذا التعليق في كتاب الشروط في باب الشروط في الجهاد موصولا فقال حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال اخبرني الزهري قال أخبرني عروة ابن الزبير عن المسور ابن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا خرج رسول الله زمن الحديبية الحديث وهو طويل جدا إلى أن قال ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي عليه الصلاة و السلام بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كانوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له إلى آخر الحديث والمراد من قوله ثم إن عروة وهو عروة بن مسعود أرسله كفار مكة إلى النبي عليه الصلاة و السلام زمن الحديبية قوله واذا توضأ الضمير فيه يرجع إلى النبي عليه الصلاة و السلام والحاكي هو عروة بن مسعود لأنه هو الذي شاهد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما كانوا يفعلون بين يدي النبي عليه الصلاة و السلام وهو أيضا أخبر بذلك لأهل مكة كما ستقف على الحديث بطوله قوله كانوا يقتتلون كذا هو في رواية أبي ذر وفي رواية الباقين كادوا يقتتلون قال بعضهم هو الصواب لأنه لم يقع بينهم قتال قلت كلاهما سواء والمراد به المبالغة في ازدحامهم على نخامة النبي وعلى وضوئه وأما الكرماني فإنه قال أولا فإن قلت هو رواية عن المجهول ولا اعتبار به قلت الغالب أن عروة لا يروى إلا عن العدل فحكمه حكم المعلوم وأيضا هو مذكور على سبيل التبعية ويحتمل في التابع ما لا يحتمل في غيره أقول

(3/76)


هذا السؤال غير وارد أصلا لأن هذا التعليق وهو قوله وقال عروة قد أخرجه البخاري موصولا وبين فيه أن المراد من قوله وغيره هو مروان كما ذكرناه فإذا سقط السؤال فلا يحتاج إلى الجواب وقال الكرماني ثانيا فإن قلت هذا تعليق من البخاري أم لا قلت هو عطف على مقول ابن شهاب اي قال ابن شهاب أخبرني محمود وقال عروة أقول نعم هذا تعليق وصله في كتابه كما ذكرنا وليس هو عطفا على مقول ابن شهاب وقال ثالثا قوله منهما أي من محمود والمسور أي محمود يصدق مسورا ومسور يصدق محمودا أقول ليس كذلك بل المعنى أن المسور يصدق مروان بن الحكم ومروان يصدق مسورا وقال رابعا ولفظ يصدق هو كلام ابن شهاب أيضا ومقول كل واحد منهما هو لفظ وإذا توضأ أقول لفظ وإذا توضأ ليس مقول كل واحد منهما بل مقول عروة بن مسعود لأنه هو القائل بذلك والحاكي به عند مشركي مكة وذكر أبو الفضل بن طاهر أن هذا الحديث معلول وذلك أن المسور ومروان لم يدركا هذه القصة التي كانت بالحديبية سنة ست لأن مولدهما كان بعد الهجرة بسنتين وعلى ذلك اتفق المؤرخون وأما ما في ( صحيح مسلم ) عن المسور قال سمعت النبي يخطب الناس على هذا المنبر وأنا يومئذ محتلم فيحتاج إلى تأويل لغوي أنه كان يعقل لا الاحتلام الشرعي أو أنه كان سمينا غير مهزول فيما ذكره القرطبي وقال صاحب ( الأفعال ) حلم حلما إذا عقل وقال غيره تحلم الغلام صار سمينا وهو معدود في صغار الصحابة مات سنة أربع وستين
190 - حدثنا ( عبد الرحمن بن يونس ) قال حدثنا ( حاتم بن إسماعيل ) عن ( الجعد ) قال سمعت ( السائب بن يزيد ) يقول ذهبت بي خالتي إلى النبي فقالت يا رسول الله إن ابن اختي وجع فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة إن كان المراد من قوله فشربت من وضوئه الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة وإن كان المراد من فضل وضوئه فلا مطابقة ووقع للمستملي على رأس هذا الحديث لفظه باب بلا ترجمة وعند الأكثرين وقع بلا فصل بينه وبين الذي قبله
بيان رجاله وهم اربعة الأول عبد الرحمن بن يونس أبو مسلم البغدادي المستملي احد الحفاظ استملى لسفيان بن عيينة وغيره مات فجأة سنة أربع وعشرين ومائتين الثاني حاتم بن إسماعيل الكوفي نزل المدينة ومات بها سنة ست وثمانين ومائة في خلافة هارون الثالث الجعد بفتح الجيم وسكون العين المهملة ابن عبد الرحمن بن أوس المدني الكندي والمشهور أنه يقال له الجعيد بالتصغير الرابع السائب اسم فاعل من السبب بالمهملة وبالياء آخر الحروف بعدها الباء الموحدة ابن يزيد من الزيادة الكندي قال حج بي أبي مع رسول الله حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين روي له خمسة أحاديث والبخاري أخرجها كلها توفي بالمدينة سنة إحدى وتسعين
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع ومنها أن رواته ما بين بغدادي وكوفي ومدني ومنها أن الرواية فيه من صغار الصحابة رضي الله عنهم
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في صفة النبي عن محمد بن عبيد الله وفي الطب عن إبراهيم بن حمزة وفي الدعوات عن قتيبة وهناد عن عبد الرحمن أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل وفي صفة النبي عن إسحاق بن إبراهيم عن الفضل بن موسى وأخرجه مسلم في صفة رسول الله عن قتيبة ومحمد بن عباد كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به وأخرجه الترمذي في المناقب عن قتيبة به وقال حسن غريب من هذا الوجه وأخرجه النسائي في الطب عن قتيبة به
بيان اللغات قوله ذهبت به والفرق بينه وبين أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به معه قوله وقع بفتح الواو وكسر القاف وبالتنوين وفي رواية الكشميهني وأبي ذر الهروي وقع بفتح القاف على لفظ الماضي وفي رواية كريمة وجع بفتح الواو وكسر الجيم وعليه الأكثرون ومعنى وقع بكسر القاف أصابه وجع في قدميه

(3/77)


وزعم ابن سيده أنه يقال وقع الرجل والفرس وقعا فهو وقع إذا حفي من الحجارة والشوط وقد وقعه الحجر وحافر وقيع وقعته الحجارة فقصت منه ثم استعير للمشتكي المريض يبينه قولها وجع والعرب تسمي كل مرض وجعا وفي ( الجامع ) وقع الرجل فوقع إذا حفي من مشيه على الحجارة وقيل هو أن يشتكي لحم رجليه من الحفا وقال ابن بطال وقع معناه أنه وقع في المرض وقال الجوهري وقع أي سقط والوقع أيضا الحفا قوله فشربت من وضوئه بفتح الواو قوله إلى خاتم النبوة بكسر التاء أي فاعل الختم وهو الإتمام والبلوغ إلى الآخر وبفتح التاء بمعنى الطابع ومعناه الشيء الذي هو دليل على أنه لا نبي بعده وقال القاضي البيضاوي خاتم النبوة أثر بين كتفيه نعت به في الكتب المتقدمة وكان علامة يعلم بها أنه النبي الموعود وصيانة لنبوته عن تطرق القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم قوله مثل زر الحجلة الزر بكسر الزاي وتشديد الراء والحجلة بفتح الحاء والجيم واحدة الحجال وهو بيوت تزين بالثياب والستور والإثرة لها على وأزرار وقال ابن الأثير الحجلة بالتحريك بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار ويجمع على حجال وقيل المراد بالحجلة الطير وهي التي تسمى القبحة وتسمى الأنثى الحجلة والذكر يعقوب وزرها بيضها ويؤيد هذا أن في حديث آخر مثل بيضة الحمامة وعن محمد بن عبد الله شيخ البخاري الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه وفي بعض نسخ المغاربة الحجلة بضم الحاء المهملة وسكون الجيم قال الكرماني وقد روي أيضا بتقديم الراء على الزاي ويكون المراد منه البيض يقال أرزت الجرادة بفتح الراء وتشديد الزاي إذا كبست ذنبها في الأرض فباضت
وجاءت فيه روايات كثيرة ففي رواية مسلم عن جابر بن سمرة ورأيت الخاتم عند كتفيه مثلي بيضة الحمامة يشبه جسده وفي رواية أحمد من حديث عبد الله بن سرجس ورأيت خاتم النبوة في نغض كتفه اليسرى كأنه جمع فيه خيلان سود كأنهما الثآليل وفي رواية أحمد أيضا من حديث ابي رمثة التيمي قال خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله فرأيت برأسه ردع حناء ورأيت على كتفه مثل التفاحة فقال ابي إني طبيب ألا أبطها لك قال طبيبها الذي خلقها وفي ( صحيح ) الحاكم شعر مجتمع وفي كتاب البيهقي مثل السلعة وفي ( الشمائل ) بضعة ناشزة وفي حديث عمرو بن أخطب كشيء يختم به وفي ( تاريخ ) ابن عساكر مثل البندقة وفي الترمذي كالتفاحة وفي ( الروض ) كاثم المحجم الغائص على اللحم وفي ( تاريخ ابن ابي خيثمة ) شامة خضراء محتفرة في اللحم وفيه أيضا شامة سوادء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكبات كأنها عرف الفرس وفي ( تاريخ القضاعي ) ثلاث مجتمعات وفي كتاب ( المولد ) لابن عابد كان نورا يتلألأ وفي ( سيرة ) ابن أبي عاصم عذرة كعذرة الحمامة قال أبو أيوب يعنى فرطمة الحمامة وفي ( تاريخ نيسابور ) مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم ( محمد رسول الله ) وعن عائشة رضي الله تعالى عنها كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة وكانت مما يلي القفا قالت فلمسته حين توفي فوجدته قد رفع وقيل كركبة العنز وأسده أبو عمر عن عباد بن عمرو وذكر الحافظ ابن دحية في كتابه ( التنوير ) كان الخاتم الذي بين كتفي رسول الله عليه الصلاة و السلام كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها ( الله وحده ) وفي ظاهرها ( توجه حيث شئت فإنك منصور ) ثم قال هذا حديث غريب استنكره قال وقيل كان من نور فإن قلت هل كان خاتم النبوة بعد ميلاده أو ولد هو معه قلت قيل ولد وهو معه وعن ابن عائد في ( مغازيه ) بسنده إلى شداد بن أوس فذكر حديث الرضاع وشق الصدر وفيه وأقبل الثالث يعين الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه ووجد برده زمانا وفي ( الدلائل ) لأبي نعيم أن النبي عليه الصلاة و السلام لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات ثم أخرج صرة من حرير أبيض فإذا فيها خاتم فضرب على كتفيه كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة فان قلت أين كان موضعه قلت قد روي أنه بين كتفيه وقيل كان على نغض كتفه اليسى لأنه يقال إنه الموضع الذي يدخل منه الشيطان إلى باطن الإنسان فكان هذا عصمة له عليه الصلاة و السلام من الشيطان وذكر أبو عمران ميمون بن مهران ذكر عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان منه فرأى جسده ممهى يرى داخله من خارجه ورأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه حداء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه

(3/78)


يوسوس إليه فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس ثم الحكمة في الخاتم على وجه الاعتبار أن قلبه عليه الصلاة و السلام لما ملىء حكمة وإيمانا كما في ( الصحيح ) ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا فلم يجد عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم لأن الشيء المختوم محروس وكذا تدبير الله عز و جل في هذه الدنيا إذا وجد الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الآدميين فلذلك ختم رب العلمين في قلبه ختما تطامن له القلب وبقي النور فيه ونفذت قوة القلب إلى الصلب فظهرت بين الكتفين كالبيضة ومن أجل ذلك برز بالصدق على أهل الموقف فصارت له الشفاعة من بين الرسل بالمقام المحمود لأن ثناء الصدق هو الذي خصه ربه بما لم يخص به أحدا غيره من الأنبياء وغيرهم يحققه قول الله العظيم وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ( يونس 2 ) قال ابو سعيد الخدري وقد صدق هو محمد عليه السلام شفيعكم يوم القيامة وكذا قال الحسن وقتادة وزيد بن أسلم وقول الرسول فيما ذكره مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه وأخرت الثالثة ليوم ترغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه الصلاة و السلام وقال القاضي عياض هذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه وقال النووي هذا باطل لأن شق الملكين إنما كان في صدره
مشكلات ما وقع في هذا الباب قوله في نغض كتفه اليسرى بضم النون وفتحها وكسر الغين المعجمة وفي آخره ضاد معجمة قال ابن الاثير النغض والنغض والناغض أعلى الكتف وقيل هو العظم الرقيق الذي على طرفه قوله كأه جمع بضم الجيم وسكون الميم معناه مثل جمع الكف وهو أن تجمع الأصابع وتضمها ومنه يقال ضربه بجمع كفه و الخيلان بكسر الخاء المعجمة وسكون الياء جمع خال قوله الثآليل جمع ثؤلول وهو الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فمادونها قوله ردع حناء بفتح الراء وسكون الدال وفي آخره عين مهملة أي لطخ حناء والحناء بالكسر والتشديد وبالمد معروف والحناءة أخص منه قوله ألا أبطها من البط وهو شق الدمل والخراج قوله بضعة ناشزة البضعة بفتح الباء الموحدة القطعة من اللحم و ناشزة بالنون والشين والزاي المعجمتين أي مرتفعة عن الجسم قوله محتفرة أي غائصة وأصله من حفر الأرض
بيان استنباط الأحكام الاول فيه بركة الاسترقاء الثاني فيه الدلالة على مسح رأس الصغير وكان مولد السائب الذي مسح رسول الله رأسه في السنة الثانية من الهجرة وشهد حجة الوداع وخرج مع الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقى النبي مقدمه من تبوك الثالث فيه الدلالة على طهارة الماء المستعمل وإن كان المراد من قول السائب بن يزيد فشربت من وضوئه وهو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة وقال بعضهم هذه الأحاديث يعني التي في هذا الباب ترد عليه أي على أبي حنيفة لأن النجس لا يتبرك به قلت قصد هذا القائل التشنيع على أبي حنيفة بهذا الرد البعيد لأن ليس في الأحاديث المذكورة ما يدل صريحا على أن المراد من فضل وضوئه هو الماء الذي تقاطر من أعضائه الشريفة وكذا في قوله كانوا يقتتلون على وضوئه وكذا في قول السائب فشربت من وضوئه ولئن سلمنا أن المراد هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة فأبو حنيفة ينكر هذا ويقول بنجاسة ذاك حاشاه منه وكيف يقول ذلك هو يقول بطهارة بوله وسائر فضلاته ومع هذا قد قلنا لم يصح عن أبي حنيفة تنجيس الماء المستعمل وفتوى الحنيفة عليه فانقطع شغب هذا المعاند وقال ابن المنذر وفي إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضىء وما قطر منه على ثيابه دليل قوي على طهارة الماء المستعمل قلت المثل
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
والماء الباقي على أعضاء المتوضيء لا خلاف لأحد في طهارته لأن من يقول بعدم طهرته إنما يقول بالانفصال عن العضو بل عند بضعهم بالانفصال والاستقرار في مكان وأما الماء الذي قطر منه على ثيابه فإنما سقط حكمه للضرورة لتعذر الاحتراز عنه
41 -
( باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة )
أي هذا باب في بيان حكم المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة كما فعله عبد الله بن زيد
والمناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما من تعلقات الوضوء فالأول في الوضوء بالفتح والثاني في الوضوء بالضم

(3/79)


191 - حدثنا ( مسدد ) قال ( حدثنى خالد بن عبد الله ) قال حدثنا ( عمرو بن يحيى ) عن أبيه عن ( عبد الله بن زيد ) أنه أفرغ من الاناء على يديه فغسلهما ثم غسل أو مضمض واستنشق من كفة واحدة ففعل ذلك ثلاثا فغسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر وغسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا وضوء رسول الله
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم خمسة الأول مسدد بفتح الدال المسددة وقد تقدم في أول كتاب الايمان الثاني خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي أبو الهيثم الطحان يحكى أنه تصدق بزنة بدنه فضة ثلاث مرات مات سنة تسع وستين ومائة الثالث عمرو بن يحيى رضي الله تعالى عنه ابن عمارة المازني الأنصاري تقدم قريبا الرابع أبوه يحيى تقدم أيضا الخامس عبد الله بن زيد الأنصاري
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة ومنها أن رواته ما بين بصري وواسطي ومدني ومنها أن فيه فعل الصحابي ثم إسناده إلى النبي
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره قد ذكرنا عن قريب أن البخاري قد أخرج حديث عبد الله بن زيد في خمسة مواضع وأخرجه مسلم عن محمد بن الصباح عن خالد بن عبد الله بسنده هذا من غير شك ولفظه ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق وأخرجه أيضا الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد كذلك
بيان لغاته ومعناه قوله أفرغ اي صب الماء في الإناء على يديه قوله ثم غسل أي فمه قوله أو مضمض شك من الراوي قال الكرماني الظاهر أن الشك من يحيى وقال بعضهم الظاهر أن الشك من مسدد شيخ البخاري ثم قال وأغرب الكرماني فقال الظاهر أن الشك فيه من التابعي قلت كل منهما محتمل وكونه من الظاهر من أين بلا قرينة قوله من كفة كذا في رواية أبي ذر وفي رواية الأكثر بن من كف بلا هاء وفي بعض النسخ من غرفة واحدة وقال ابن بطال من كفة أي من حفنة واحدة فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى ولا يعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في الكف وقال ابن التين اشتق بذلك من اسم الكف وسمي الشيء باسم ما كان فيه وقال صاحب ( المطالع ) هي بالضم والفتح مثل غرفة وغرفة أي ملأ كفه من ماء وقال بعضهم ومحصل ذلك أن المراد من قوله كفه فعلة في أنها تأنيث الكف قلت هذا محصل غير حاصل فكيف يكون كفة تأنيث كف والكف مؤنث والأقرب إلى الصواب ما ذكره ابن التين قوله فغسل يديه إلى المرفقين ولا يكون ذلك إلا بعد غسل الوجه ولم يذكر غسل الوجه وقال الكرماني فان قلت أين ذكر غسل الوجه قلت هو من باب اختصار الحديث وذكر ما هو المقصود وهو الذي ترجم له الباب مع زيادة بيان ما اختلف فيه من التثليث في المضمضة والاستنشاق وإدخال المرفق في اليد وتثنية غسل اليد ومسح ما أقبل وأدبر من الرأس وغسل الرجل منتهيا إلى الكعب وأما غسل الوجه فأمره ظاهر لا احتياج له إلى البنيان فالتشبيه في هكذا وضوء رسول الله ليس من جميع الوجوه بل في حكم المضمضة والاستنشاق قلت هذا جواب ليس فيه طائل وتصرف غير موجه لأن هذا في باب التعليم لغيره صفة الوضوء فيشهد بذلك قوله هكذا وضوء رسول الله ويؤيد ذلك ما جاء في حديث الآخر عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو حد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضأ الحديث وقد مر عن قريب وكل ما روي عن عبد الله بن زيد في هذا الباب حديث واحد وقد ذكر فيه غسل الوجه وكذا ثبت ذلك في رواية مسلم وغيره فإذا كان هذا في باب التعليم فكيف يجوز له ترك فرض من فروض الوضوء وذكر شيء من الزوائد والظاهر أنه سقط من الراوي كما أنه شك في قوله ثم غسل أو مضمض وقول الكرماني واما غسل الوجه فأمره ظاهر غير ظاهر وكونه ظاهرا عند عبد الله بن زيد لا يستلزم أن يكون ظاهرا عند السائل عنه ولو كان ظاهرا لما سأله وقوله

(3/80)


ذكر ما هو المقصود أي ذكر البخاري ما هو المقصود وهو الذي ترجم له الباب قلت كان ينبغي أن يقتصر على المضمضمة والاستنشاق فقط كما هو عادته في تقطيع الحديث لأجل التراجم فيترك اختصارا ذكر فرض من الفروض القطعية ويذكر زوائد لا تطابق الترجمة وقال الكرماني وقد يجاب أيضا بأن المفعول المحذوف الوجه أي ثم غسل وجهه وحذف لظهوره فأو بمعنى الواو في قوله أو مضمض ومن كفة واحدة يتعلق بمضمض واستنشق فقط قلت هذا أقرب إلى الصواب لأنه لا يقال في الفم في الوضوء إلا مضمض وإن كان يطلق عليه الغسل
بيان استنباط الأحكام قد تقدم وإنما مراد البخاري ههنا بيان أن المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة وهذا أحد الوجوه الخمسة المتقدمة وليس هذا حجة على من يرى خلاف هذا الوجه لأن الكل نقل عنه عليه السلام بيانا للجواز
42 -
( باب مسح الرأس مرة )
أي هذا باب في بيان مسح الرأس مرة واحدة والمناسبة بين البابين ظاهرة
192 - حدثنا ( سليمان بن حرب ) قال حدثنا ( وهيب ) قال حدثنا ( عمرو بن يحيى ) عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم ( فكفأه على يديه فغسلهما ثلاثا ثم أدخل يده في الاناء ) فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات من ماء ثم أدخل يده في الاناء فغسل وجهه ثلاثا ثم ادخل يده في الاناء فغسل يديه الى المرفقين مرتين ثم ادخل يده في الاناء فمسح برأسه فأقبل بيديه وادبر بهما ثم ادخل يده في الاناء فغسل رجليه
قوله باب مسح الرأس مرة هكذا هو في رواية الأكثرين وفي رواية الأصيلي باب مسح الرأس مسحة
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وهي في قوله فمسح برأسه أي مرة واحدة والدليل عليه شيئان أحدهما أنه نص على الثلاث وعلى مرتين في غيره والثاني أنه صرح بالمرة في حديث موسى عن وهيب كما يذكره الآن وقد تقدم الكلام فيه فيما مضى قوله وهيب هو ابن خالد قوله فدعا بتور من ماء كذا في رواية الأكثرين وفي رواية الكشميهني فدعا بماء لم يذكر التور قوله فكفأه أي أماله وفي رواية الأصيلي فاكفأه بزيادة همزة في أوله وهذه كلها مضت في باب غسل الرجلين إلى الكعبين والتفاوت بينهما أنه كرر لفظ مرتين ههنا وزاد الباء في مسح برأسه ولفظ ثم ادخل يده في الاناء ونقص لفظ مرة واحدة منه ولفظ إلى الكعبين وقال الكرماني فإن قلت هل فرق بين تكرار لفظ مرتين وعدمه غير التأكيد قلت هذا نص في غسل كل يد مرتين وذلك ظاهر فيه
وحدثنا موسى قال حدثنا وهيب قال مسح رأسه مرة
موسى هو ابن إسماعيل التبوذكي ووهب هو ابن خالد وتقدمت طريق موسى هذا في باب غسل الرجلين إلى الكعبين وذكر فيها أنه مسح الراس مرة واحدة وقال ابن بطال قال الشافعي المسنون ثلاث مسحات والحجة عليه أن المسنون يحتاج إلى شرع وحديث عثمان رضي الله عنه وإن كان فيه أنه مسح برأسه مرة وهو قول الشافعي وقال الكرماني الشرع الذي قال الشافعي في مسنونية الثلاث ما روى أبو داود في ( سننه ) أنه عليه الصلاة و السلام مسح ثلاثا والقياس على سائر الأعضاء قلت روى أبو داود حدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا اسرائيل عن عامر عن شقيق بن حمزة عن شقيق بن سلمة قال رأيت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه غسل ذراعيه ثلاثا ومسح رأسه ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله فعل هذا قلت المذكور من حديث الجماعة هو مسح الراس مرة واحدة ولهذا قال أبو داود في ( سننه ) أحاديث عثمان الصحاح تدل على أن مسح الرأس مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا

(3/81)


وقالوا فيها مسح رأسه ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره ووصف عبد الله بن زيد وضوء النبي وقال مسح براسه مرة واحدة متفق عليه وحديث علي رضي الله تعالى عنه وفيه مسح رأسه مرة واحدة وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وكذا وصف عبد الله بن أبي أوفى وابن عباس وسلمة بن الأكوع والربيع كلهم قالوا ومسح برأسه مرة واحدة ولم يصح في أحاديثهم شيء صريح في تكرار المسح وقال البيهقي قد روي من أوجه غريبة عن عثمان ذكر التكرار في مسح الرأس إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة وإن كان بعض أصحابنا يحتج بها فان قلت قد روى الدارقطني في ( سننه ) عن محمد بن محمود الواسطي عن شعيب بن أيوب عن أبي يحيى الجماني عن أبي حنيفة عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن عليه رضي الله تعالى عنه أنه توضأ الحديث وفيه ومسح برأسه ثلاثا ثم قال هكذا رواه أبو حنيفة عن علقمة بن خالد وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات عن خالد بن علقمة فقالوا فيه ومسح رأسه مرة واحدة ومع خلافة إياهم قال إن السنة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة قلت الزيادة عن الثقة مقبولة ولا سيما من مثل أبي حنيفة رضي الله عنه وأما قوله فقد خالف في حكم المسح غير صحيح لأن تكرار المسح مسنون عن أبي حنيفة أيضا صرح بذلك صاحب ( الهداية ) ولكن بماء واحد وقول الكرماني والقياس على سائر الأعضاء رد بأن المسح مبني على التخفيف بخلاف الغسل ولو شرع التكرار لصار صورة المغسول وقد اتفق على كراهة غسل الرأس بدل المسح وإن كان مجزيا وأجيب بأن الخفة تقتضي عدم الاستيعاب وهو مشروع بالاتفاق فليكن العدد كذلك ورد بالحديث المشهور الذي رواه ابن خزيمة وصححه وغيره أيضا من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة الوضوء حيث قال قال النبي عليه الصلاة و السلام بعد أن فرغ من زاد على هذا فقد أساء وظلم فإن في رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة ويحمل ما روي من الأحاديث في تثليث المسح إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس جمعا بين هذه الأدلة القائل بهذا الرد هو بعضهم ممن تصدى لشرح البخاري وفيه نظر لأنه الثلاث نص فيه والاستيعاب بالمسح لا يتوقف على العدد والصواب أن يقال الحديث الذي فيه المسح ثلاثا لا يقاوم الأحاديث التي فيها المسح مرة واحدة ولذلك قال الترمذي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله ومن بعدهم وقال ابو عمر ابن عبد البر كلهم يقول مسح الرأس مسحة واحدة فإن قلت هذا الذي ذكرته يرد على أبي حنيفه قلت لا يرد أصلا فإنه رأى التثليث سنة لكونه رواه ولكنه شرط أن يكون بماء واحد وهذا خلاف ما قاله الشافعي رحمه الله ومع هذا المذهب الإفراد لا التثليث لما ذكرنا
43 -
( باب وضوء الرجل مع إمرأته وفضل وضوء المرأة )
أي هذا باب في بيان حكم وضوء الرجل مع امرأته في إناء واحد والوضوء في الموضعين بضم الواو في الأول وفي الثاني بالفتح لأن المراد من الأول والفعل ومن الثاني الماء الذي يتوضأ به قوله وفضل بالجر عطفا على قوله وضوء الرجل وفي بعض النسخ باب وضوء الرجل مع المرأة وهو أعم من أن تكون امرأته أو غيرها
وتوضأ عمر بالحميم من بيت نصرانية
هذا الأثر المعلق ليس له مطابقة للترجمة أصلا وهذا ظاهر كما ترى وقال بعضهم ومناسبته للترجمة من جهة الغالب أن أهل الرجل تبع له فيما يفعل فأشار البخاري إلى الرد على من منع المرأة أن تتطهر بفضل الرجل لأن الظاهر أن امرأة عمر رضي الله عنه كانت تغتسل بفضله أو معه فناسب قوله وضوء الرجل مع امرأته من إناء واحد قلت من له ذوق أو إدراك يقول هذا الكلام البعيد فمراده من قوله إن اهل الرجل تبع له فيما يفعل في كل الأشياء أو في بضعهما فإن كان الأول فلا نسلم ذلك وإن كان الثاني فيجب التعيين وقوله لأن الظاهر إلى آخره أي ظاهر دل على هذا وهل هذا إلا حدس وتخمين وقال الكرماني فإن قلت ما وجه مناسبته للترجمة قلت غرض البخاري في هذا الكتاب ليس منحصرا

(3/82)


في ذكر متون الأحاديث بل يريد الإفادة أعم من ذلك ولهذا يذكر آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفتاوى السلف وأقوال العلماء ومعاني اللغات وغيرها فقصد ههنا بيان التوضيء بالماء الذي مسته النار وتسخن بها بلا كراهة دفعا لما قال مجاهد قلت هذا أعجب من الأول وأغرب وكيف يطابق هذا الكلام وقد وضع أبوابا مترجمة ولا بد من رعاية تطابق بين تلك الأبواب وبين الآثار التي يذكرها فيها وإلا يعد من التخابيط وكونه يذكر فتاوى السلف وأقوال العلماء ومعاني اللغات لا يدل على ترك المناسبات والمطابقات وهذه الأشياء أيضا إذا ذكرت بلا مناسبة يكون الترتيب مخبطا فلو ذكر شخص مسألة في الطلاق مثلا في كتاب الطهارة أو مسألة من كتاب الطهارة في كتاب العتاق مثلا نسب إليه التخبيط ثم هذا الأثر الأول وصله سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ إن عمر رضي الله عنه كان يتوضأ بالحميم ثم يغتسل منه ورواه ابي شيبة والدارقطني بلفظ كان يسخن له ماء في حميم ثم يغتسل منه قال الدارقطني إسناده صحيح
قوله بالحميم بفتح الحاء المهملة وهو الماء المسخن وقال ابن بطال قال الطبري هو الماء السخين فعيل بمعنى مفعول ومنه سمي الحمام حماما لإسخانه من دخله والمحموم محموما لسخونة جسده وقال ابن المنذر أجمع أهل الحجاز وأهل العراق جميعا على الوضوء بالماء السخن غير مجاهد فإنه كرهه رواه عنه ليث بن أبي سليم وذكر الرافعي في كتابه إن الصحابة تطهروا بالماء المسخن بين يدي رسول الله ولم ينكر عليهم هذا الخبر وقال المحب الطبري لم أره في غير الرافعي قلت قد وقع ذلك لبعض الصحابة فيما رواه الطبراني في ( الكبير ) والحسن بن سفيان في ( مسنده ) وأبو نعيم في ( المعرفة ) والمشهور من طريق الأسلع بن شريك قال كنت أرحل ناقة رسول الله فأصابتني جنابة في ليلة باردة وأراد رسول الله الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله وأنا جنب وخشيت أن اغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأمرت رجلا من الأنصار يرحلها ووضعت أحجارا فاسخنت بها ماء فاغتسلت ثم لحقت رسول الله فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى ( النساء 43 ) إلى غفورا ( النساء 43 ) وفي سنده الهيثم بن زريق الراوي له عن أبيه عن الأسلع مجهولان والعلاء بن الفضل راويه عن الهيثم وفيه ضعف وقد قيل إنه تفرد به وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ذكره البخاري ومنهم سلمة بن الأكوع أنه كان يسخن الماء يتوضأ به رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إنا نتوضأ بالحميم وقد أغلي على النار رواه ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) عن محمد بن بشر عن محمد بن عمرو حدثنا سملة قال قال ابن عباس ومنهم ابن عمر رضي الله تعالى عنهم رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ بالحميم
قوله ومن بيت نصرانية وهو الأثر الثاني وهو عطف على قوله بالحميم أي وتوضأ عمر من بيت نصرانية ووقع في رواية كريمة بحذف الواو من قوله ومن بيت وهذا غير صحيح لأنهما أثران مستقلان فالأول ذكرناه والثاني الذي علقه البخاري ووصله الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر توضأ من ماء نصرانية في جر نصرانية وهذا لفظ الشافعي وقال الحافظ أبو بكر الحازمي رواه خلاد بن أسلم عن سفيان بسنده فقال ماء نصراني بالتذكير والمحفوظ ما رواه الشافعي نصرانية بالتأنيث وفي ( الام ) للشافعي من جرة نصرانية بالهاء في آخرها وفي ( المهذب ) لأبي إسحاق جر نصراني وقال صحيح وذكر ابن فارس في ( حلية العلماء ) هذا سلاخة عرقوب البعير يجعل وعاء للماء فإن قلت ما وجه تطابق هذا الاثر للترجمة قلت قال الكرماني بناء على حذف واو العطف من قوله ومن بيت نصرانية ومعتقدا أنه أثر واحد لما كان هذا الاخير الذي هو مناسب لترجمة الباب من فعل عمر رضي الله عنه ذكر الأمر الأول أيضا وإن لم يكن مناسبا لها لاشتراكهما في كونهما من فعله تكثيرا للفائدة واختصارا في الكتاب ويحتمل أن يكون هذا قصة واحدة أي توضأ من بيت النصرانية بالماء الحميم ويكون المقصود ذكر استعمال سؤر المرأة النصرانية وذكر الحميم إنما هو لبيان الواقع فتكون مناسبته للترجمة ظاهرة قلت هذا منه لعدم إطلاعه في كتب القوم فظن أنه أثر واحد وقد عرفت أنهما أثران مستقلان ثم ادعى أن الأمر الأخير مناسب للترجمة فهيهات أن يكون مناسبا لأن الباب في وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة فأي واحد من هذين مناسب لهذا وأي واحد من هذين يدل على ذلك أما توضؤ عمر بالحميم فلا يدل على شيء من ذلك ظاهرا وأما توضؤ عمر

(3/83)


من بيت نصرانية فهل يدل على أن وضوءه كان من فضل هذه النصرانية فلا يدل ولا يستلزم ذلك فمن ادعى ذلك فعليه البيان بالبرهان
وقال بعضهم الثاني مناسب لقوله وفضل وضوء المرأة لأن عمر رضي الله عنه توضأ بمائها وفيه دليل على جواز التطهر بفضل وضوء المراة المسلمة لأنها لا تكون أسوأ حالا من النصرانية قلت الترجمة فضل وضوء المرأة والنصرانية هل لها فضل وضوء حتى يكون التطابق بينه وبين الترجمة فقوله من بيت نصرانية لا يدل على أن الماء كان من فضل استعمال النصرانية ولأن الماء كان لها فإن قلت في رواية الشافعي من ماء نصرانية في جر نصرانية قلت نعم ولكن لا يدل على أنه كان من فضل استعمالها والذي يدل عليه هذا الأثر جواز استعمال مياههم ولكن يكره استعمال أوانيهم وثيابهم سواء فيه أهل الكتاب وغيرهم وقال الشافعية وأوانيهم المستعملة في الماء أخف كراهة فإن تيقن طهارة أوانيهم أو ثيابهم فلا كراهة إذا في استعمالها قالوا ولا نعلم فيها خلافا وإذا تطهر من إناء كافر ولم يتيقن طهارته ولا نجاسته فإن كان من قوم لا يتدينون باستعمالها صحت طهارته قطعا وإن كان من قوم يتدينون باستعمالها فوجهان أصحهما الصحة والثاني المنع وممن كان لا يرى بأسا به الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وقال ابن المنذر ولا أعلم أحدا كرهه إلا أحمد وإسحاق قلت وتبعهما أهل الظاهر واختلف قول مالك في هذا ففي ( المدونة ) لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بماء أدخل يده فيه وفي ( العتبية ) أجازه مرة وكرهه أخرى وقال الشافعي في ( الام ) لا بأس بالوضوء من ماء المشرك وبفضل وضوئه ما لم يعلم فيه نجاسة وقال ابن المنذر انفرد إبراهيم النخعي بكراهة فضل المرأة إن كانت جنبا
193 - حدثنا ( عبد الله بن يوسف ) قال أخبرنا ( مالك ) عن ( نافع ) عن ( عبد الله بن عمر ) انه قال كان الرجال والنساء

(3/84)


يتوضؤن في زمان رسول الله جميعا
مطابقة الحديث للترجمة غير ظاهرة لأنه يدل على الترجمة صريحا لأن المذكور فيها شيئان والحديث ليس فيه إلا شيء واحد وقال الكرماني يدل على الأول صريحا وعلى الثاني التزاما فإن قلت هذا لا يدل على أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون من إناء واحد قلت قال الدارقطني وروى هذا الحديث محمد بن النعمان عن مالك بلفظ من الميضأة وفي رواية القعنبي وابن وهب عنه كانوا يتوضؤون زمن النبي عليه الصلاة و السلام في الإناء الواحد وأخرجه أبو داود أيضا من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر قال كنا نتوضأ نحن والنساء من إناء واحد على عهد رسول الله عليه الصلاة و السلام ندلي فيه أيدينا ولا شك أن الأحاديث يفسر بعضها بعضا
بيان رجاله وهم أربعة كلهم تقدموا وعبد الله هو التنيسي
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الجمع والعنعنة والقول ومنها أن رواته ما بين تنيسي ومدني ومنها أن هذا السند من سلسلة الذهب وعن البخاري أصح أسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر
بيان المعاني قال بعضهم ظاهر كان الرجال التعميم لكن اللام للجنس لا للاستغراق قلت أخذ هذا من كلام الكرماني حيث قال فإن قلت يقرر في علم الأصول أن الجمع المحلى بالألف واللام للاستغراق فما حكمه ههنا قلت قالوا بعمومه إلا إذا دل الدليل على الخصوص وههنا القرينة العادية مخصصة بالبغض قلت الجمع مثل الرجال والنساء وما في معناه من العام المتناول للمجموع إذا عرف باللام يكون مجازا عن الجنس مثلا إذا قلت فلان يركب الخيل ويلبس الثياب البيض يكون للجنس للقطع بأن ليس القصد إلى عهد أو استغراق فلو حلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد أو لا يكلم الناس يحنث بالواحد إلا أن ينوي العموم فلا يحنث قط لأنه نوى حقيقة كلامه ثم هذا الجنس بمنزلة النكرة يخص في الإثبات كما إذا حلف أن يركب الخيل يحصل البر بركوب واحد ثم قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان الرجال والنساء إثبات فيقع على الأقل بقرينة العادة وإن كان يحتمل الكل فإن قلت لا يصلح التمسك به لأن قوله جميعا ينافي وقوعه على الأقل قلت معناه مجتمعين فالاجتماع راجع إلى حالة كونهم يتوضؤون لا إلى كون الرجال والنساء مطلقا فافهم فإنه موضع دقيق ثم قال الكرماني فان قلت لا يصح التمسك به لأن فعل البغض ليس بحجة قلت التمسك ليس بالإجماع بل بتقرير الرسول عليه الصلاة و السلام أقول حاصل السؤال أنه لا يصح التمسك بما روي عن ابن عمر من قوله كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن النبي عليه الصلاة و السلام لأنك قد قلت إن المراد البعض لقيام القرينة عليه بذلك واجتماع الكل متعذر فلا يكون حجة لعدم الإجماع عليه وحاصل الجواب أن التمسك ليس بطريق الاجتماع بل بأن الرسول عليه الصلاة و السلام قررهم على ذلك ولم ينكر عليهم فيكون ذلك حجة للجواز وقد ذكر أهل الأصول أن قول الصحابي كان الناس يفعلون ونحو ذلك حجة في العمل لا سيما إذا قيد الصحابي ذلك بزمن النبي عليه الصلاة و السلام ثم قال الكرماني لم لا يكون من باب الإجماع السكوتي وهو حجة عند الأكثر قلت لا يتصور الإجماع إلا بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة و السلام
بيان استنباط الاحكام الأول فيه أن الصحابي إذا أسند الفعل إلى زمن رسول الله يكون حكمه الرفع عند الجمهور خلافا لقوم وقال بعضهمم يستفاد منه أن البخاري يرى ذلك قلت لا نسلم ذلك لأن البخاري وضع هذا المروي عن ابن عمر لبيان جواز وضوء الرجال والنساء جميعا من إناء واحد ومع هذا لا يطابق هذا ترجمة الباب بحسب الظاهر كما قررناه
الثاني فيه دليل على جواز توضيء الرجل والمرأة من إناء واحد وأما فضل المرأة فيجوز عند الشافعي الوضوء به أيضا للرجل سواء خلت به أو لا قال البغوي وغيره فلا كراهة فيه للأحاديث الصحيحة فيه وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء وقال أحمد وداود لا يجوز إذا خلت به وروي هذا عن عبد الله بن سرجس والحسن البصري وروي عن أحمد كمذهبنا وعن ابن المسيب والحسن كراهة فضلها مطلقا وحكى ابو عمر فيها خمسة مذاهب أحدها أنه لا بأس أن يغتسل الرجل بفضلها ما لم تكن جنبا أو حائضا والثاني يكره أن يتوضأ بفضلها وعكسه والثالث كراهة فضلها له والرخصة في عكسه والرابع لا بأس بشروعهما معا ولا ضير في فضلها وهو قول احمد والخامس لا بأس بفضل كل منهما شرعا جميعا أو خلا كل واحد منهم به وعليه فقهاء الأمصار
اما اغتسال الرجال والنساء من إناء واحد فقد نقل الطحاوي والقرطبي والنووي الاتفاق على جواز ذلك وقال بعضهم وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهي عنه وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم قلت في نظره نظر لأنهم قالوا بالاتفاق دون الإجماع فهذا القائل لم يعرف الفرق بين الاتفاق والاجماع على أنه روى جواز ذلك عن تسعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر وأنس وأبو هريرة وعائشة وأم سلمة وأم هانىء وميمونة فحديث علي رضي الله عنه عن أحمد قال كان رسول الله وأهله يغتسلون من إناء واحد وحديث ابن عباس عند الطبراني في ( الكبير ) من حديث عكرمة عنه أن رسول الله وعائشة اغتسلا من إناء واحد من جنابة وتوضآ جميعا للصلاة وحديث جابر رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة في ( مصنفه ) قال كان رسول الله وأزواجه يغتسلون من إناء واحد وحديث أنس عند البخاري عن أبي الوليد عن شعبة عن عبد الله بن جبير عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله يغتسل هو والمرأة من نسائه من الإناء الواحد وروى الطحاوي نحوه عن أبي بكرة القاضي وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار في ( مسنده ) قال كان رسول الله وأهله أو بعض أهله يغتسلون من إناء واحد وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند الطحاوي والبيهقي قال كنت اغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد فيبدأ قبلي وحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها عند ابن ماجه والطحاوي قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه الصلاة و السلام من إناء واحد وأخرجه البخاري بأتم منه وحديث أم هانىء رضي الله عنها عند النسائي أن النبي اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين وحديث ميمونة عند الترمذي بإسناده إلى ابن عباس قال حدثتني ميمونة قالت كنت اغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد من الجنابة وقال هذا حديث حسن صحيح فهذه الأحاديث كلها حجة على من يكره أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل وبقي الكلام في ابتداء أحدهما قبل الآخر وجاء حديث بعض أزواج النبي اغتسلت من جنابة فجاء النبي ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له يا رسول الله إني كنت جنبا فقال إن الماء لا يجنب وجاء أيضا حديث أم حبيبة الجهنية عند ابن ماجه والطحاوي قالت ربما اختلفت يدي ويد رسول الله في الوضوء من إناء واحد وهذا في حق الوضوء قال الطحاوي هذا يدل على أن أحدهما كان يأخذ من الماء بعد صاحبه
فإن قلت روي عن عبد الله بن سرجس قال نهى رسول الله أن يغتسل الرجل بفضل

(3/85)


المراة والمرأة بفضل الرجل ولكن يشرعان جميعا وأخرجه الطحاوي والدارقطني وروي أيضا من حديث الحكم الغفاري قال نهى رسول الله أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو بسؤر المرأة لا يدري أبو حاجب أيهما قال وأبو حاجب هو الذي روى عن الحكم واسم أبي حاجب سوادة بن عاصم العنزي وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والطحاوي وروي أيضا عن حميد بن عبد الرحمن قال كنت لقيت من صحب النبي كما صحبه أبو هريرة أربع سنين قال نهى رسول الله فذكر مثله أخرجه الطحاوي والبيهقي في المعرفة قلت نقل عن الإمام أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة قال لكن صح من الصحابة المنع فيما إذا دخلت به ولكن يعارض هذا ما روي بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة الذين ذكرناهم
وأشهر الأحاديث عند المانعين حديث عبد الله ابن سرجس وحديث حكم الغفاري وأما حديث عبد الله بن سرجس فإنه روي مرفوعا وموقوفا وقال البيهقي الموقوف أولى بالصواب وقد قال البخاري أخطأ من رفعه قلت الحكم للرافع لأنه زاد والراوي قد يفتي بالشيء ثم يرويه مرة أخرى ويجعل الموقوف فتوى فلا يعارض المرفوع وصححه ابن حزم مرفوعا من حديث عبد العزيز بن المختار الذي في مسنده والشيخان أخرجا له ووثقه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة فلا يضره وقف من وقفه وتوقف ابن القطان في تصحيحه لأنه لم يره إلا في كتاب الدارقطني وشيخ الدارقطني فيه لا يعرف حاله قلت شيخه فيه عبد الله بن محمد بن سعد المقبري ولو رآه عند ابن ماجه أو عند الطحاوي لما توقف لان ابن ماجه رواه عن محمد بن يحيى عن المعلي بن أسد والطحاوي رواه محمد بن خزيمة وهما مشهوران وأما حديث الحكم الغفاري فقالت جماعة من أهل الحديث إن هذا الحديث لا يصح وأشار الخطابي أيضا إلى عدم صحته وقال ابن منده لا يثبت من جهة السند قلت لما أخرجه الترمذي قال هذا حديث حسن ورجحه ابن ماجه على حديث عبد الله بن سرجس وصححه ابن حبان وأبو محمد الفارسي والقول قول من صححه لا من ضعفه لأنه مسند ظاهره السلامة من تضعف وانقطاع وقال ابن قدامة الحديث رواه أحمد واحتج به وتضعيف البخاري له بعد ذلك لا يقبل لاحتمال أن يكون وقع له من غير طريق صحيح ويرد بهذا أيضا قول النووي اتفق الحفاظ على تضعيفه
الثالث من الأحكام أن ظاهر الحديث يدل على جواز تناول الرجال والنساء الماء في حالة واحدة وحكى ابن التين عن قوم أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعا من إناء واحد هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة قلت الزيادة في الحديث وهو قوله من إناء واحد يرد عليهم وكأنهم استبعدوا إجتماع الرجال والنساء الأجنبيات وأجاب ابن التين عن ذلك بما حكاه عن سحنون أن معناه كان الرجال يتوضؤون ويذهبون ثم تأتي النساء فيتوضأن قلت هذا خلاف الذي يدل عليه جميعا ومع هذا جاء صريحا وحدة الإناء في ( صحيح ابن خزيمة ) في هذا الحديث من طريق معتمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه أبصر النبي وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهرون منه قيل ولنا أن نقول ما كان مانع من ذلك قبل نزول آية الحجاب وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم وفيه نظر والله تعالى أعلم
44 -
( باب صب النبي وضوءه على المغمى عليه )
أي هذا في بيان صب النبي عليه الصلاة و السلام وضوء بفتح الواو وهو الماء الذي توضأ به على من أغمي عليه يقال أغمي عليه بضم الهمزة فهو مغمى عليه وغمي بضم الغين وتخفيف الميم فهو مغمى عليه بصيغة المفعول لأن أصله مغموي على وزن مفعول اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت ياء ثم أدغمت الياء في الياء فصار مغمى بضم الميم الثانية وتشديد الياء ثم أبدلت من ضمة الميم كسرة لأجل الياء فصار مغمى والإغماء والغشي بمعنى واحد قاله الكرماني وليس كذلك فإن الغشي مرض يحصل من طول التعب وهو أخف من الإغماء والفرق بينه وبين الجنون والنوم أن العقل يكون في الإغماء مغلوبا وفي الجنون يكون مسلوبا وفي النوم يكون مستورا
والمناسبة بين البابين من حيث إن في كل واحد منهما نوعا من الوضوء

(3/86)


194 - حدثنا ( أبو الوليد ) قال حدثنا ( شعبة ) عن ( محمد بن المنكدر ) قال ( سميت جابرا ) يقول جاء رسول الله يعودني وانا مريض لا اعقل فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت فقلت يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم أربعة الأول أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك تقدم في كتاب الايمان الثاني شعبة بن الحجاج وقد تكرر ذكره الثالث محمد بن المنكدر التيمي القرشي التابعي المشهور الجامع بين العلم والزهد وكان المنكدر خال عائشة رضي الله تعالى عنها فشكى إليها الحاجة فقالت له أول شيء يأتيني أبعث به إليك فجاءها عشرة آلاف درهم فبعثت بها إليه فاشترى منها جارية فولدت له محمدا إماما متألها بكاء مات سنة إحدى وثلاثين ومائة الرابع جابر بن عبد الله الصحابي الكبير تقدم في كتاب الوحي
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني ومنها أنهم كلهم أئمة أجلاء
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن أبي الوليد وفي الطب عن محمد بن بشار عن غندر وفي الفرائض عن عبد الله بن عثمان عن عبد الله بن المبارك وأخرجه مسلم في الفرائض عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد عن إسحاق بن إبراهيم عن النضر بن شميل وأبي عامر العقدي وعن محمد بن المثنى عن وهب بن جرير وأخرجه النسائي فيه وفي الطهارة وفي التفسير وفي الطب عن محمد بن الأعلى عن خالد بن الحارث ثمانيتهم عنه به
بيان اللغات والمعنى والإعراب قوله يقول جملة وقعت حالا وكذا قوله يعودني وكذا قوله وأنا مريض لا أعقل اي لا أفهم وحذف مفعوله إما للتعميم أي لا أعقل شيئا أو لجعله كالفعل اللازم قوله من وضوئه بفتح الواو معناه من الماء الذي يتوضأ أو مما بقي منه وأخرج في الاعتصام عن علي بن عبد الله ثم صب وضوءه علي ولأبي داود فتوضأ وصبه علي قوله لمن الميراث الألف واللام فيه عوض عن ياء المتكلم أي لمن ميراثي ويؤيده ما أخرجه في الاعتصام أنه قال كيف اصنع في مالى وفي رواية ما تأمرني أن أصنع في مالي وفي أخرى كيف أقضي في مالي وفي أخرى إنما ترثني سبع أخوات وفي أخرى فنزلت يوصيكم الله في أولادكم ( النساء 11 ) قوله كلالة فيها أقوال أصحها ما عدا الوالد والولد وفيه حديث صحيح من طريق البراء بن عازب وقيل ما عدا الولد خاصة وقيل الأخوة للام وقيل بنو العم ومن أشبهم وقيل العصبات كلهم وإن بعدوا ثم قيل للورثة وقيل للميت وقيل لهما وقيل للمال الموروث وقال الجوهري الكل الذي لا ولد له ولا والد يقال كل الرجل يكل كلالة وقال الزمخشري تطلق الكلالة على ثلاثة على من لم يخلف ولدا ولا والدا وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد قوله فنزلت آية الفرائض وهي قوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ( النساء 176 ) إلى آخر السورة وقيل هي آية المواريث مطلقا والفرائض جمع فريضة والمراد ههنا الحصص المقدرة في كتاب الله للورثة
بيان استنباط الأحكام الأول قال ابن بطال فيه دليل على طهورية الماء الذي يتوضأ به لأنه لو لم يكن طاهرا لما صبه عليه قلت ليس فيه دليل لأنه يحتمل أنه صب من الباقي في الإناء الثاني فيه رقية الصالحين للماء ومباشرتهم إياه وذلك مما يرجى بركته الثالث فيه دليل على أن بركة يد رسول الله تزيل كل علة الرابع فيه أن ما يقرأ على الماء مما ينفع الخامس فيه فضيلة عيادة الضعفاء السادس فيه فضيلة عيادة الأكابر الأصاغر
45 -
( باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة )
أي هذا باب في بيان حكم الغسل والوضوء في المخضب بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة وفي آخره باء موحدة قال ابن سيده المخضب شبه الإجانة وقال صاحب ( المنتهى ) هو المركن وقال ابو هلال العسكري في كتاب ( التلخيص ) إناء يغسل فيه وفي ( مجمع الغرائب ) هو إجانة تغسل فيه الثياب ويقال له المركن قوله والقدح واحد الأقداح التي للشرب

(3/87)


وقال ابن الأثير القدح الذي يؤكل فيه وأكثر ما يكون من الخشب مع ضيف فيه قوله والخشب بفتح الخاء المعجمة جمع خشبة وكذلك الخشب بضمتين وبسكون الشين أيضا ومراده الإناء الخشب وكذلك الإناء الحجارة وذلك لأن الأواني تكون من الخشب والحجر وسائر جواهر الأرض كالحديد والصفر والنحاس والذهب والفضة فقوله والخشب يتناول سائر الأخشاب وقوله والحجارة يتناول سائر الأحجار من التي لها قيمة والتي لا قيمة لها والحجارة حمع حجر وهو جمع نادر كالجمالة جمع جمل وكذلك حجار بدون الهاء وهما جمع كثرة وجمع القلة أحجار فإن قلت ما وجه عطف الخشب والحجارة على الخضب والقدح قلت من باب عطف التفسير لأن المخضب والقدح قد يكونان من الخشب وقد يكونان من الحجارة وقد صرح في الحديث المذكور في هذا الباب بمخضب من حجارة كما يأتي عن قريب والدليل على صحة ذلك ما قد وقع في بعض النسخ الصحيحة في المخضب والقدح الخشب والحجارة بدون حرف العطف وقال بعضهم وعطف الخشب والحجارة على المخضب والقدح ليس من عطف العام على الخاص فقط بل بين هذين وهذين عموم وخصوص من وجه قلت قصارى فهم هذا القائل أنه ليس من عطف العام على الخاص ثم أضرب عنه إلى بيان العموم والخصوص من وجه بين هذه الأشياء ولم يبين وجه العطف ما هو وقد وقع في بعض النسخ بعد قوله والحجارة والتور بفتح التاء المثناة من فوق قال الجوهري هو إناء يشرب فيه زاد المطرزي صغير وفي ( المغيث ) لأبي موسى هو إناء يشبه إجانة من صفر أو حجارة يتوضأ فيه ويؤكل وقال ابن قر قول هو مثل قدح من الحجارة وقد مر الكلام فيه عن قريب
والمناسبة بين هذا الباب والأبواب التي قبله ظاهرة لأن الكل فيما يتعلق بالوضوء
195 - حدثنا ( عبد الله منير ) سمع ( عبد الله بن بكر ) حدثنا ( حميد ) عن ( أنس ) قال حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار إلى أهله وبقي قوم فاتي رسول الله بمخضب من حجارة فيه ماء فصغر المخضب ان يبسط فيه كفه فتوضأ القوم كلهم قلنا كم كنتم قال ثمانين وزيادة
مطابق الحديث للترجمة ظاهرة في قوله بمخضب من حجارة إلى آخره
بيان رجاله وهم أربعة الأول عبد الله بن منير بضم الميم وكسر النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره رواء ووقع في رواية الأصيلي ابن المنير بالألف واللام قلت يجوز كلاهما كما عرف في موضعه وقد يلتبس هذا بابن المنير الذي له كلام في تراجم البخاري وفي غيرها وهو بضم الميم وفتح النون وتشديد الياء آخر الحروف وهو متأخر عن ذلك بزهاء أربعمائة سنة وهو أبو العباس أحمد بن ابي المعالي محمد كان قاضي اسكندرية وخطيبها وعبد الله بن منير الحافظ الزاهد السهمي المروزي مات سنة إحدى وأربعين ومائتين الثاني عبد الل